سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358118 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

وآله من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن عدي ثمة وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت له هؤلاء »(١) .

نقطة هامة :

إنَّ سفر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم.

ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحماه يوماً أو بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلا.

فاذا كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا

__________________

١ ـ المغازي للواقدي : ج ١ ، ص ١١٠ ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجارة حين رجع من الطائف ، طبقات ابن سعد : ج ١ ، ص ٢١٠ و ٢١٢ ، البداية والنهاية : ج ٣ ، ص ١٣٧.

٥٦١

عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم.

كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب :

كانت العرب تجتمع ـ في مواسم الحج ـ في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ، والتفاخر ، والعشق.

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة ـ كغيرها ـ لا بلاغ رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا :

« قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة »(١) .

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢١٦.

٥٦٢

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج :

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ مرسل(١) .

وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب » فاذا فرغ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ».

فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه(٢) ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال :

__________________

١ ـ قال ابن هشام : كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.

٢ ـ أي نحميه.

٥٦٣

يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط(١) ، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم؟!(٢)

ان هذه القضية التاريخية تفيد ـ في ما تفيد ـ بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا.

__________________

١ ـ أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٤ و ٤٢٥.

٥٦٤

٢٤

بيعة العقبة

كان ( وادي القرى ) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب‍ : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن ( من القحطانيين ).

وكان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع » الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.

وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات.

وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ، وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة.

٥٦٥

على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب ـ لدى عودتهم ـ انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم والخطير.

ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

١ ـ كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.

وقد قدم مرة « سويد بن الصامت » فتصدى له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما الّذي معك.

قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى ونور.

ثم تلا عليه رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان قتله قبل يوم بعاث(١) (٢) .

__________________

١ ـ بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٥ ـ ٤٢٧.

٥٦٦

٢ ـ قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له؟

فقالوا له : وما ذاك؟

قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له.

فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمع(١) .

وقعة بُعاث :

كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج ، ففي هذه

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٧ و ٤٢٨.

٥٦٧

الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.

ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ » وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ، والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ، حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ، ولبُّوا دعوته.

تفصيل الحادث :

خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود؟ وهل لكم حلف معهم.

قالوا : نعم.

قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟

قالوا : بلى.

فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرضعليهم‌السلام وتلا عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم في بلادهم ،

٥٦٨

فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره.

فلما كلَّمَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه.

فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك(١) .

بيعة العقبة الاُولى :

لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلما كان العام المقبل ( أي السنة الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة ، وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.

وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة ـ بعد الاعتراف ـ بالاسلام والايمان باللّه ورسوله هو :

بايعنا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف.

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٧ و ٤٢٨ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥.

٥٦٩

فقال لهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر.

وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو(١) .

وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤمّهم ، ويصلي بهم(٢) .

بيعة العقبة الثانية :

لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.

وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه

__________________

١ ـ والّتي جاء ذكرها في الآية ١٢ من سورة الممتحنة.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٣٤ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥.

٥٧٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فواعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة للبيعة إذ قال : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ».

فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجة وهي الّتي واعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها باللقاء ، ونام الناس حضر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » قبل الجميع ، وخرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم ، ومضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم ، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ولما استقرّ المجلس بالجميع ، كان أوّل متكلم هو : العباس بن عبد المطلب فقال واصفاً منزلة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسَها ـ إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم ، وقد مَنَعاهُ من قومنا ، فهو في عزّ من قومه ، ومَنعة في بلده ، وإنّه قد ابى إلاّ الإنحياز اليكم ، واللُحوق بكم ، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوهُ فانه في عزّ ومَنعة من قومه وبلده.

فقال الحضور : قد سمعنا ما قلتَ فتكلّم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.

فتكلمَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال : اُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم.

فقام البراء بن معرور وأخذ بيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعمنَّك مما نمنع منه اُزُرنا(١) فبايعنا يا رسول الّه فنحن واللّه

__________________

١ ـ الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه ، ولهذا فان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار ورضاهم.

٥٧١

ابناء الحروب واهل الحلقة ( اي السلاح ) ورثناها كابراً عن كابر.

فدب في الحضور حماس وسرور عظيم وتعالت الاصوات والنداءات من الخزرجين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم ، وسرورهم لهذا الأمر ، فقال العباس وهو آخذ بيد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي هذه الاثناء نهض « البراء بن معرور » و « ابو الهيثم بن التيهان » و « أسعد بن زرارة » من مواضعهم وبايعوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم بايعه بقية القوم جميعاً.

وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا رسول اللّه إن بيننا وبين الرجال ( اي اليهود ) حبالا ( وعلاقات ) وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟

فتبسَّم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « بل الدَم الدَم ، والهَدم الهَدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم » يعني أنه سيبقى على العهد ، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف : دمي دمُك ، وهَدمي هَدمُك ، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.

ثم ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اخرجُوا إِليَّ منكم إثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم(١) .

فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاولئك النقباء : انتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيلٌ على قومي ( يعني المسلمين ) فاُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ».

فقالوا : نعم وبايعوه على ذلك.

وكان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعةً من الخرزج وثلاثةً من الأوس وقد ضُبِطَت أسماؤهم وخصوصياتهم في التاريخ.

__________________

١ ـ المحبر : ص ٢٦٨ ـ ٢٧٤.

٥٧٢

وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب ، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رجالهم(١) .

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة :

والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو : ما الّذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرابة القريبة؟!

وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة؟!

إن علة هذا التقدم يمكن اختصارها وحصرها في أمرين :

أوّلا : أن اليثربيّين جاوروا اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر ، ويأتي بدين جديد.

حتّى أن اليهود كانوا يقولون : للوثنيين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره ، ويمحي الوثنية ويقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في نفوس أهل يثرب ، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه ، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة إلى الايمان برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأوّل مرّة ، بادروا إلى

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥ و ٢٦ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٤١ ـ ٤٥٠ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢١ ـ ٢٢٣.

وفي رواية اُخرى في البحار : ج ١٩ ، ص ٤٧ ، كما اخذ موسى من بني اسرائيل اثني عشر نقيباً وقد كان هذا العمل النبوي حكيماً جداً لان عامة الناس لا يمكن التعويل والاتكال على التزاماتهم بل لابد من الاعتماد ـ ضمناً ـ على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوده القوم وسراتهم.

٥٧٣

الايمان به من غير إبطال ولا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض : واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

ومن هنا فان مما يأخذه القرآن على اليهود هو : أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ ، وتبشرون الناس بانه سيظهر ، وانهم قرأوا أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضوا الإيمان به لمّا جاءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى : «وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذيْنَ كَفَرُوا ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلى الكافِرين »(١) .

ثانياً : إنّ العامل الأخير الّذي يمكن اعتبارهُ دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين وسرعة إقبالهم على الإسلام وتقبّلهم لدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو التعب والارهاق الّذي كان اهل يثرب قد اُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي انهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رَمقهم ، وجعلتهم يملون الحياة ، ويفقدون كلّ أمَل في تحسّن الأحوال والاوضاع.

وإن مطالعة وقعة « بُعاث » وهي ـ حرب وقعت بين الأوس والخزرج ـ وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجهَ الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار.

ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على يد الخزرجيين ، فهربوا إلى « نجد » ، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك ، فَغضب « الحضير » سيد الأوس ، لذلك غضباً شديداً ، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه ، وترجّل عن فرسه وصاح بقومه قائلا : واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى اُقتل!! فأوقد صمود « الحضير » وثباته نار الحمية والغيرة واشعل روح الشهامة والبسالة في قومه ، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الامر ، فقاتلوا أعداءهم مستميتين ، والمستميت منتصر لا محالة ، فانتصر

__________________

١ ـ البقرة : ٨٩.

٥٧٤

الأوسويون المغلوبون ، هذه المرة ، وهزموا الخزرج هزيمة نكراء واحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!!(١) .

ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك ، وكانت القبيلتان تتحملان في كل مرة خسائر كبرى ، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما ، وكانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه ، من الحالة السيئة ، وتفتشان عن نافذة أمل ، ومخرج من تلك المشاكل.

ولهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم المنشودة عندما التقوا ـ ولاول مرّة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمعوا منه ما سمعوا ، فتمنّوا أن يضعوا به حداً لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له : عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك.

كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت اليثربيين إلى تقبّل الإسلام بشوق ورغبة وحماس.

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة :

كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت تتصور بانها قد حدّت من تقدم الإسلام في مكة وانه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه السقوط والاندحار ، وأنه لن ينقضي زمانٌ إلاّ وتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته ، وتنمحي آثاره.

وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات ، وأسقطت كل تصورات قريش الساذجة ، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيين عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يدافعوا عنه كما

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٤١٧ و ٤١٨.

٥٧٥

يدافعون عن أبنائهم وأهليهم.

فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، لانهم اخذوا يقولون مع أنفسهم : لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، وانه يُخشى أن يجمع المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم ، وبث عقيدتهم ، وحينئذ ، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطراً جدياً ، يهدّدُها في الصميم.

ولهذا بادرت قريش إلى الاتصال بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم : يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، إنه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم ، منكم.

فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش أنه ما كان من هذا شيء ، وما علموه ، وقد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمُّ خمسمائة شخص ، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء.

فأتت قريشٌ إلى « عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول » فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة ، فأنكر ذلك وقال : إنّ هذا الأمر جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا ( اي يعملوه من دون مشورتي ) وما علمته كان ، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث.

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس وبايعوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفشوّ أمرهم ، وانكشاف سرهم ، ولهذا قال بعضهم لبعض : مادمنا لم نُعرَف بعدُ فلنخرج من مكة فوراً قبل ان يظفر المشركون بنا ، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكة والتوجّه إلى المدينة ، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة ، وعرفوا بانه قد كان ، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين ، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك إلاّ بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة ، والمكيين ، ولم تظفر قريش إلاّ بسعد بن عبادة.

٥٧٦

غير أن ابن هشام يرى بأنهم ظفروا بنفرين هما : « سعد بن عبادة » و « المنذر بن عمر » ، وكان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

وأما « المنذر » فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

وأما « سعد » فقد أخذوه ، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله ، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجمّته(١) وكان ذا شعر كثير.

يقول سعد :

فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض ، طويل القامة ، فقلت في نفسي : إن يكُ عندَ أحد من القوم خير فعند هذا.

قال : فلما دنى منّي رفع يده فلكمني لكمةً شديدةً.

فقلتُ في نفسي : لا واللّه ، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال : فواللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ كان معهم : فقال : ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوارٌ ولا عهدٌ؟

قلت : بلى كنتُ اُجير لجير بن مُطعِم بن عدي تجارةً ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

فذهب ذلك الرجلُ إلى مُطعِم وأخبره بما فيه سعد بن عبادة من الحال ، وأنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال مُطعِم : صدق واللّه إنه كان ليجير لنا تجارة ، ويمنعهم أن يُظلموا ببلدة ثم أسرع إلى سعد وخلّصه من أيديهم.

وكان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة ، فعزموا على أن يعودوا إلى مكة ويخلّصوه من أيدي المشركين ، وبينما هم كذلك إذ بدى لهم « سعد » من بعيد ، وأخبرهم بما جرى عليه(٢) .

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي :

يصرُ المستشرقون على أن انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات ثمّ بواسطة

__________________

١ ـ مجتمع شعر الرأس.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٤٩ و ٤٥٠.

٥٧٧

السيف وفي ظلّ استخدام القوّة.

اما بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت قبل الهجرة ، ونلفت اليها نظر القارئ الكريم ، فان دراستها والتعمق فيها يثبت بجلاء ان انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من جاذبيته الّتي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه المحببة إليه.

واليك الحادثة بنصها :

قرر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية الاسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة ، ذات يوم أن يدعو هو واسعد أشراف المدينة وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل فدخلا حائطاً(١) من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع اليهما رجال ممن اسلم ، وكان سعد بن معاذ واسيد بن حضيرو هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضاً.

فقال سعد لا سيد : جرّد حربتك وقل لهذين ( يعني مصعبا واسعد ) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان ضعفاءنا ، ولو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي ، لكفيتُك ذلك.

ففعل اُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء بكما الينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم ، والمتكلم البليغ الّذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو تجلس فتسمع ، فان رضيت أمراً قبلته ، وان كرهته كفَّ عنك ما تكره؟

قال : أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالاسلام ، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في إشراق وجهه ، وانفراج اساريره ، وشوقه فقال : ما احسن هذا الكلام واجمله؟! كيف تصنعون إذا اردتم أن تدخلُوا

__________________

١ ـ بستاناً.

٥٧٨

في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له : تغتسل فتطهر وتغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.

فقام اسيد بن حضير الّذي حضر لقتل مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما : ان ورائي رجلا إن اَتبعَكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وساُرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظرإليه سعد وقومه وهم جالسون في ناديهم قال : أحلفُ باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟

قال : كلّمت الرجلين ، فواللّهِ ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتُهما ، فقالا : نفعل ما احببتَ ، فغضب سعدٌ لذلك غضباً شديداً ، وأخذ الحربة من اسيد ، ثم خرج إلى مصعب واسعد ليقتلهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدداً اياهما ، ولكن مصعباً وزميله قابلا به بمثل ما قابلايه سابقه اسيد ، وجرى له ما جرى له ، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها ، وخضع لمنطقه القوي ، وبيانه الساحِر ، وندم على ما قصد فعله ، وقال لمصعب نفس ما قاله اسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهر وصلى ثم رجع إلى قومه وقال لهم : يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وافضلنا راياً وايمننا نقيبةً.

قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله فالحمد للّه الّذي اكرمنا بذلك.

فلم يُمسِ في دار بني عبد الاشهل رجلٌ ولا إمرأة إلاّ مسلماً أو مسلمة ، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد ، لا بمنطق القوة انما بقوة المنطق(١) .

__________________

١ ـ إعلام الورى : ص ٥٩ ، بحار الانوار : ج ١٩ ، ص ١٠ و ١١ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٣٦ و ٤٣٧.

٥٧٩

ان في التاريخ الاسلامي نماذجَ كثيرة من هذا القبيل تدل على بطلان وتفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره ، فان العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال والتطميع ، ولا السلاح والتهديد ، كما ادعى المستشرقون ، وان الذين اسلموا في هذه الحوادث والوقائع لاهم رأوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء ، انما كان السبب الوحيد هو : منطق الداعية الاسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذاب ، فهُو الّذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب ، خلال دقائق معدودة ، لا في نفس شخص واحد فحسب ، بل ربما في نفوس قبيلة بكاملها.

اجل انه المنطقُ القوي والكلام المبرهن والحجة البالغة لاسواها.

مخاوف قريش المتزايدة :

لقد ايقظت حماية اليثربين للمسلمين قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة اُخرى ، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها وإظطهادها ومضايقتها لهم من جديد ، وتهيأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدمه في الجزيرة العربية ، وبلغ ذلك الاذى مبلغاً عظيماً.

فشكى أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط واذى ، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان فاستمهلهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال :

« لقد اُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن اراد الخروج فليخرج إليها »(١) .

وبعد الاذن بالهجرة من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ المسلمون يخرجون من مكة ، ويتوجهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٦.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694