سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358123 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ودخل عدي بن حاتم بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام على معاوية ، فسأله معاوية عما أبقى الدهر من حب علي. قال عدي : كله. وإذا ذكر ازداد.

قال معاوية : ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.

فقال عدي : « قلوبنا ليست بيدك يامعاوية »(1) .

واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، والمغيرة ، وغيرهم ، فقالوا له : « إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدِّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ »(2) . والشواهد على ذلك كثيرة

وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر ، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس : إنه يتولى الأمر بعده ، فلا يسمع ذكراً لعليعليه‌السلام .

هـ : عقائد جاهلية وغريبة :

ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية ، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب ، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين ، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول

__________________

1 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار ، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.

٨١

ونذكر من هذه العقائد على سبيل المثال :

تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم ، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى ، حسب نص الإنجيل(1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال(2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم(3) .

ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر ، التي هي من بقايا عقائد المشركين ، وأهل الكتاب(4) . الأمر الذي يعني : أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي

__________________

1 ـ راجع رسالة بولس إلى أهل رومية ، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.

2 ـ راجع : سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث ، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها ، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56 ، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382 / 383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه : « صلوا خلف كل إمام ، وقاتلوا مع كل أمير » وراجع : المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.

3 ـ راجع كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.

4 ـ راجع : الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 زشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78 / 79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة ( المستدرك )

=

٨٢

ولا ينفع ، ما دام الإنسان مجبراً على كل حركة ، ومسيراً في كل موقف

ثم هناك عقيدة : أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر

قالوا : « الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية ، أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب ، وأعلن

__________________

=

ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان ( اليهودية ) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76 ، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر ، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297 : إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 3 ص 138 / 139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.

والمعتزلة ص 7 و 87 و 39 / 40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية : المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181 / 182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97 / 98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز

والتصريح بذلك في الكتب الكلامية ، وكتب فرق أهل السنة ، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع ، أسأل الله التوفيق لإتمامه.

٨٣

التثليث ، في دار الإسلام ، ومات على ذلك »(1) .

وهذه العقيدة ، وإن كانت هي عقيدة المرجئة ، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.

ومعنى هذا هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.

بل إنهم ليقولون : إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز ، فشهد له أربعون شيخاً : أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب(2) .

وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه ، قال له : « يا أمير المؤمنين ، الحلال ما حللت »(3) .

بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه ، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى(4) كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً(5)

و : قدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا كله فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفضيل الخليفة عليه بل وسلب معنى العصنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشر يرضى

__________________

1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.

2 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع : تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.

3 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.

4 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.

5 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.

٨٤

ويغضب(1)

بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء(2)

كما أن معاوية يتأسف ، لأنه يرى : أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم(3)

إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أراده فليراجعه.

ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات ، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام ، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة ، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل ، ثم التقليل من شأن مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة ، أو من ترى فيهم منافسين لها.

ز : تولية المفضول :

ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة : القول بجواز تولية المفضول مع

__________________

1 ـ راجع : سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104 / 105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم وغير ذلك كثير.

2 ـ الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا : الصحيح في سيرة النبي (ص).

3 ـ الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.

٨٥

وجود الفضل ، كما هو رأي أبي بكر(1) الذي صار أيضاً رأي المعتزلة فيما بعد وذلك عندما فشلت محاولاتهم التي ترمي لرفع شأن الخلفاء ، الذين ابتزوا علياً حقه في أن فشلت محاولاتهم في الحط من عليّ(2) ، ووضع الأحاديث الباطلة في ذمه والعمل على جعل الناس ينسون فضائله وكراماته حيث لم يجدهم كل ما وضعوه واختلقوه في هذا السبيل شيئاً ولا أفاد قتيلاً

ح : سياسة التجهيل :

وهناك سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة من قبل الحكام ، ولا سيما أهل الشام ويكفي أن نذكر : أن البعض « قال لرجل من أهل الشام ـ من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم ـ : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الأمام على المنبر؟! فقال : أراه لصاً من لصوص الفتن »(3) !!

وفي صفين يسأل هاشم المرقال بعض مقاتلي أهل الشام : عن السبب الذي دعاه للمشاركة في تلك الحرب ، فيعلل ذلك بأنهم أخبروه : أن علياًعليه‌السلام لايصلي(4) .

__________________

1 ـ الغدير ج 7 ص 131 عن السيرة الحلبية ج 3 ص 386. ونقل أيضاً عن الباقلاني في التمهيد ص 195 إشارة إلى ذلك..

2 ـ راجع على سبيل المثال : الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59.

3 ـ مروج الذهب ج 3 ص 38.

4 ـ تاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 313 والفتوح لابن اعثم ج 3 ص 196 وصفين ليصر بن مزاحم ص 354 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 36 والغدير ج 10 ص 122 و 290 عن أكثر من تقدم. وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 184 وترجمة الإمام عليعليه‌السلام لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 99 ونقله المحمودي عن ابن عساكر ج 38 حديث رقم 1139. وراجع : المعيار والموازنة ص 160.

٨٦

وبلغ معاوية : أن قوماً من أهل الشام يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : « إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قِبَلي ، ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة »(1) .

قال ابن الاسكافي : « فبلغ من عنايتهم في هذا الباب : أن أخذوا معلميهم بتعليم الصبيان في الكتاتيب، لينشئوا عليه صغيرهم ، ولا يخرج من قلب كبيرهم. وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم. ويكتب لهم مبتدأ الأئمة : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان. حتى ان أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب ولا نسبه ، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.

ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية يوم الجمل ، قال : حملت على رجل فلما غشيته برمحي قال : أنا على دين عمر بن أبي طالب وقال : فعلمت أنه يريد علياً فأمسكت عنه(2) .

وجاء حمصي إلى عثمان بنصيحة ، وهي : « لا تكل المؤمن إلى إيمانه ، حتىتعطيه من المال ما يصلحه. أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البرئ ليبرئه ، فإن الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم البرئ. قال : ما أردت إلا الخير ـ قال : فردهم ، وهم زيد بن صوحان ، وأصحابه »(3) .

وقدمنا : أنه قد حلف للسفاح جماعة من قواد أهل الشام ، وأهل الرياسة والنعم فيها : أنهم ما كانوا يعرفون أهل البيت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرثونه غير بني أمية

__________________

1 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 43 ، والغدير ج 9 ص 32. وليراجع البداية والنهاية ج 7 ص 165.

2 ـ المعيار والموازنة ص 19.

3 ـ المصنف ج 11ص 334.

٨٧

بل إن أهل الشام يقبلون من معاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء ، كما قيل(1) .

وفي وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل الشام ، وليكونوا بطانتك ، فإن رابك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم : فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بها تغيرت أخلاقهم »(2) .

وحينما وقف أبو ذر في وجه طغيان معاوية ، وأثرته ، وانحرافاته ، في الشام ، قال حبيب بن مسلمة لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة(3) .

وحسب نص آخر : « إن أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله : كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فكتب عثمان : أخرجه إلي. فلما صار إلى المدينة ، نفاه إلى الربذة »(4) .

وحينما جاء المصريون إلى المدينة يسألون عمر عن سبب عدم العمل ببعض الأحكام القرآنية ، أجابهم بقوله : « ثكلت عمر أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، وقد علم ربنا : أن سيكون لنا سيئات؟ ، وتلا :( إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً ) هل علم أهل المدينة فيما قدمتم؟! قالوا : لا. قال لو علموا لوعظت بكم ».

قال لهم هذا بعد أن أخذ منهم اعترافاً بأنهم لم يحصوا القرآن لا بالبصر ، ولا في اللفظ ، ولا في الأثر(5) .

وبعد كلام جرى بين معاوية ، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة ، قال لها

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 ص 32 والغدير ج 10 ص 196 عنه.

2 ـ الفخري في الآداب السلطانية ص 112 والعقد الفريد ج 3 ص 373 مع تفاوت يسير.

3 ـ الغدير ج 8 ص 304 عن ابن أبي الحديد.

4 ـ الأمالي للشيخ المفيد ص 122.

5 ـ حياة الصحابة ج 3 ص 260 عن كنز العمال ج 1 ص 228 عن ابن جرير.

٨٨

معاوية : « هيهات يا أهل العراق ، نبهكم علي بن أبي طالب ، فلن تطاقوا ، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم ، وإنصافها »(1) .

والعجيب في الأمر هنا : أننا نجد عمر بن الخطاب يصر على الهمدانيين ـ إصراراً عجيباً ـ أن لا يذهبوا إلى الشام ، وإنما إلى العراق(2) !!

ونظير ذلك أيضاً قد جرى لقبيلة بجيلة ، فراجع(3) .

وقال عبد الملك بن مروان لولده سليمان ، حينما أخبره : أنه أراد أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه ، ورأى ما للأنصارمن المقام المحمود في العقبتين ، قال له : « وما حاجتك أن تُقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟! » ، فأخبره بتخريقه ما كان نسخه فصوب رأيه(4) .

وحينما طلب البعض من معاوية : أن يكف عن لعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً »(5) .

وحينما أرسل عليعليه‌السلام إلى معاوية كتاباً فيه :

محمـد النبـي أخـي وصهـري

وحمـزة سيـد الشهـداء عمّـي

الأبيات

__________________

1 ـ العقد الفريد ج 2 ص 112 وبلاغات النساء ص 104 ط دار النهضة وليراجع صبح الأعشى أيضاً.

2 ـ المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 50.

3 ـ راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.

4 ـ أخبار الموفقيات ص 332 ـ 334 وليراجع الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59 في قضية أخرى.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 57 والإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص125 ، والنصائح الكافية ص 72.

٨٩

« قال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لا يقرأه أهل الشام : فيميلون إلى علي بن أبي طالب »(1) .

وليراجع كلام المدائني في هذا المجال ، فإنه مهم أيضاً(2) .

عليُّ عليه‌السلام يبثّ العلم والإيمان :

ولكن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد حاول بكل ما أوتي من قوة وحول : أن يبث المعارف الإسلامية في الناس ، وينقذهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، حتى لقد قال ـ كما سيأتي ـ : « وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على معالم الحلال والحرام ». هذاً فضلاً عن التوعية السياسية ، التي كان هو ووُلْدُه الأماجد يتمون في بثها وتركيزها.

ط : موقفهم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثم هناك التدبير الذكي والدقيق ، الذي كان من شأنه أن يحرم الأمة من الإطلاع على كثير من توجيهات ، وأقوال ، وقرارات ، ومواقف الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتمثلة في المنع عن رواية الحديث النبوي مطلقاً ، أو ببينة ، والضرب ، ثم الحبس ، بل والتهديد بالقتل على ذلك.

المنع عن كتابته والاحتفاظ به ،

ثم إحراق ما كتبه الصحابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

__________________

1 ـ البداية والنهاية ج 8 ص 8 و9.

2 ـ النصائح الكافية ص 72 / 73 /74.

3 ـ راجع في ذلك كله وحول كل ما يشير إلى التحديد والتقليل في رواية الحديث : المصادر التالية : جامع بيان العلم ج 1 ص 42 و 65 و 77 و ج 2 ص 173 و 174 و 135 و 203 و 147 و 159 و 141 و 148 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 و 262 و 325 و 377 و ج 10 ص 381 وهوامش الصفحات عن مصادر كثيرة ، والسنة

٩٠

..................................................................................

____________

=

قبل التدوين ص 97 / 98 و 91 و 103 و 113 و 92 و 104 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 و 7 و 6 و 8 و 3 / 4 وشرف أصحاب الحديث ص 88 و 89 و 91 و 92 و 87 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 وكنز العمال ج 5 ص 406 عن التيهقي و ج 10 ص 179 و 174 و 180 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وتأويل مختلف الحديث ص 48 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 248 و 427 حتى 432 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 2 و ج 4 قسم 1 ص 13 ـ 14 و ج 3 قسم 1 ص 306 و ج 5 ص 140 و 70 و 173 ، و ج 2 قسم 2 ص 274 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 61 وأضواء على السنة المحمدية ص 47 و54 و 55 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 64 و 61 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 2 ص 196 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 569 و 570 و ج 3 ص 257 و 258 و 259 و 272 و 273 و 252 و 630 عن مصادر عديدة ، والبداية والنهاية ج 8 ص 106 و 107 وتقييد العلم ص 50 و 51 و 52 و 53 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 102 و 110 وتاريخ الخلفاء ص 138 عن السلفي في الطيورات بسند صحيح ، ومسكل الآثار ج 1 ص 499 حتى 501 ومسند أحمد ص 157 و ج 4 ص 370 و 99 و ج 3 ص 19 والدر المنثور ج 4 ص 159 ووفاء الوفاء ج 1 ص 488 و 483 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 114 وحلية الأولياء ج 1 ص 160 ومآثر الإناقة. وراجع أيضاً : تاريخ الخلفاء ص 138 والمجروحون ج 1 ص 35 / 36.

ونقل أيضاً في الغدير ج 6 ص 294 حتى 302 و 265 و 263 و 158 و ج 10 ص 351 و 352 عن المصادر التالية : الكامل لابن الاثير ج 2 ص 227 وابن الشحنة بهامشه ج 7 ص 176 وفتوح البلدان ص 53 وصحيح البخاري ط الهند ج 3 ص 837 وسنن أبي داود ج 2 ص 340 وصحيح مسلم ج 2 ص 234 كتاب الأدب انتهى.

ونقله في النص والاجتهاد ص 151 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 5 ص 239 رقم 4845 و 4860 و 4865 و 4861 و 4862 والأم للشافعي ، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 120 والمعتصر من المختصر ج 1 ص 459 وابن كثير في مسند الصديق وصفين ص 248 والتاج المكلل ص 265 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 7 ص 127.

ونقل أيضاً عن المصادر التالية : قبول الأخبار للبلخي ص 29 ، والمحدث الفاصل ص 133 والبخاري بحاشية السندي ج 4 ص 88 وصحيح مسلم ج 3 ص 1311 و 1694 والموطأ ج 2 ص 964 ورسالة الشافعي ص 435 ومختصر جامع بيان العلم

٩١

ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات :

مع تشجيعهم للقصاصين ، ولرواية الإسرائيليات.

وقد وضعوا الأحاديث المؤيدة لذلك(1) .

ثم السماح بالرواية لأشخاص معينين ، دون من عداهم(2) حتى إن أبا

__________________

=

ص 32 و 33. وثمة مصادر أخرى لامجال لتتبعها..

1 ـ راجع فيما تقدم حول رواية الاسرائيليات وتشجيع القصاصين ، المصادر التالية : التراتيب الإدارية ج 2 ص 224 حتى 227 و 238 و 338 و 345 و 325 و 326 و 327 وأضواء على السنة المحمدية ص 124. حتى 126 و 145 حتى 192 وشرف أصحاب الحديث ص 14 و 15 و 16 و 17 وفجر الإسلام ص 158 حتى 162 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 34 حتى 37 والزهد والرقائق ص 17 و 508 وتقييد العلم ص 34 وفي هامشه عن حسن التنبيه ص 192 وعن مسند أحمد ج 3 ص 12 و 13 و 56. وراجع أيضاً : جامع بيان العلم ج 2 ص 50 و 53 ، ومجمع الزوائد ج 1 ص 150 و151 و 191 و 192 و 189 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 109 و 110 وهوامشه ومشكل الآثار ج 1 ص 40 و 41 والبداية والنهاية ج 1 ص 6 و ج 2 ص 132 و 134 وكشف الأستار ج 1 ص 120 و 122 و 108 و 109 وحياة الصحابة ج 3 ص 286.

2 ـ راجع : الصحيح من سيرة النبي ج 1 ص 26.

بل لم يسمحوا بالفتوى إلا للأمراء ، راجع : جامع بيان العلم ج 2 ص 175 203 وراجع ص 194 و 174 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 62 وسنن الدرامي ج 1 ص 61 والتراتيب اللإدارية ج 2 ص 367 و 368 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 179 ط ليدن و 258 ط صادر وكنز العمال ج 10 ص 185 عن غير واحد وعن الدينوري في المجالسة ، وعن ابن عساكر. والمصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 301 وفي هامشه عن أخبار القضاة لوكيع ج 1 ص 83.

بل إن عثمان يتوعد رجلاً بالقتل ، إن كان قد استفتى أحداً غيره ، راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 54 وحياة الصحابة ج 2 ص 390 / 391 عنه

٩٢

موسى ليمسك عن الحديث ، حتى يعلم ما أحدثه عمر(1) .

أضف إلى ذلك كله : حبسهم لكبار الصحابة بالمدينة ، وعدم توليتهم الأعمال الجليلة ، خوفاً من نشر الحديث ، ومن استقلالهم بالأمر(2) : وذلك بعد أن قرروا عدم السماح بالفتوى إلا للأمراء كما أوضحناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ك : لا خير في الإمارة لمؤمن :

وإذا كان الأمراء هم الذين ينفذون هذه السياسات ، وقد يتردد المؤمنون منهم في تنفيذها على النحو الأفضل والأكمل ، فقد اتجه العلم نحو الفجار ليكونوا هم أعوانه وأركانه.

وقد رووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن(3) .

__________________

1 ـ مسند أحمد ج 4 ص 393 وفي ص 372 يمتنع أنس عن الحديث.

2 ـ راجع : تاريخ الطبري حوادث سنة 35 ج 3 ص 426 ومروج الذهب ج 2 ص 321 و 322 وراجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 120 و ج 1 ص 110 وكنز العمال ج 10 ص 180 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 20 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 317 و 334 و 365 وراجع : التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص 208 و 209 والفتنة الكبرى ص 17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص 87 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 135 و ج 2 قسم 2 ص 100 و 112 وحياة الصحابة ج 2 ص 40 و 41 و ج 3 ص 272 و 273 عن الطبري ج 5 ص 134 وعن كنز العمال ج 7 ص 139 و ج 5 ص 239.

وفي هذا الأخير عن ابن عساكر : أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق ووبخهم على إفشائهم الحديث.

3 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 83 ومجمع الزوائد ج 5 ص 204 عن الطبراني. وحياة الصحابة ج 1 ص 198 / 199 عنهما وعن كنز العمال ج 7 ص 38 وعن البغوي وابن

=

٩٣

وقد قال حذيفة لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال : إني أستعمله لأستعين بقوته ، ثم أكون على قفائه.

وذكر أيضاً : أن عمر قال غلبني أهل الكوفة ، استعمل عليهم المؤمن فيضعف ، واستعمل الفاجر ، فيفجر(1) .

ل : أينعت الثمار واخضرّ الجناب :

وبعد ذلك كله فقد تهيأت الفرصة لمن سمح لهم بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن بني إسرائيل ، لأن يمدّوا الأمة بما يريدون ، ويتوافق مع أهدافهم ومراميهم ، من أفكار ومعارف ، وأقوال ومواقف ، حقيقية ، أو مزيفة

ثم تحريف ، بل وطمس الكثير من الحقائق التي رأوا أنها لا تتناسب مع أهدافهم ، ولا تخدم مصالحهم.

بل لقد طمست معظم معالم الدين ، ومحقت أحكام الشريعة ، كما أكدته نصوص كثيرة(2) .

بل يذكرون : أنه لم يصل إلى الأمة سوى خمس مئة حديث في أصول

__________________

= عساكر وغيرهما.

1 ـ الفائق للزمخشري ج 3 ص 215 و ج 2 ص 445 والنصائح الكافية ص 175 ولسان العرب ج 13 ص 346 و ج 11 ص 452. والاشتقاق ص 179.

2 ـ راجع الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج 1 ص 27 ـ 30 بالإضافة إلى : المصنف ج 2 ص 63و مسند أبي عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 429 و 432 و 441 و 444 والغدير ج 8 ص 166 ، وراجع أيضاً مروج الذهب 3 ص 85 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 62.

٩٤

لأحكام ومثلها من أصول السنن(1) الأمر ، الذي يلقي ضلالاً ثقيلة من الشك والريب في عشرات بل مئات الألوف ، بل في الملايين(2) من الأحاديث ، التي يذكرون : أنها كانت عند الحفاظ ، أو لاتزال محفوظة في بطون الكتب إلى الأن. ولأجل ذلك ، فإننا نجدهم يحكمون بالكذب والوضع على عشرات بل مئات الألوف منها(3) .

وقد بلغ الجهل بالناس : أننا نجد جيشاً بكامله ، لايدري : أن من لم يُحْدِث ، فلا وضوء عليه ، « فأمر ( أبو موسى ) مناديه : ألا ، لا وضوء إلا على من أحدث. قال : أوشك العلم أن يذهب ويظهر الجهل ، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل »(4) .

بل لقد رأينا : أنه : « قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص ، لما رأوا المصلحة في ذلك »(5) .

ويقول المعتزلي الشافعي عن عليعليه‌السلام : « وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين

__________________

1 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 419 وعن الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 243.

2 ـ راجع على سبيل المثال : الكنى والألقاب ج 1 ص 414 ، ولسان الميزان ج 3 ص 405 وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 641 و 430 و 434 و ج 1 ص 254 و 276.

وهذا الكتاب مملوء بهذه الأرقام العالية ، فمن أراد فليراجعه.

والتراتيب الإدارية ج 2 ص 202 حتى ص 208 و 407 و 408.

3 ـ راجع لسان الميزان ج 3 ص 405 و ج 5 ص 228 والفوائد المجموعة ص 246 و 427 وتاريخ الخلفاء ص 293 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 96 وميزان الاعتدال ج 1 ص 572 و 406 و 509 و 316 و 321 و 12 و 17 و 108 و 148 والكفاية للخطيب ص 36 و سائر الكتب التي تتحدث عن الموضوعات في الأخبار. وراجع : المجرمون لابن حبان ج 1 ص 156 و 185 و 155 و 142 و 96 و 63 و 62 و ص 65 حول وضع الحديث للملوك وراجع أيضاً ج 2 ص 189 و 163 و 138 و ج 3 ص 39 و 63.

4 ـ حياة الصحابة ج 1 ص 505 عن كنز العمال ج 5 ص 114 وعن معاني الآثار للطحاوي ج 1 ص 27.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 83.

٩٥

تحريمه. وقد قالعليه‌السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمنتع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب »(1) انتهى.

ولعل ما تقدم من موقف عمر من المصريين المعترضين يشير إلى ذلك أيضاً.

كما أن الفقهاء ، قد « رجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة »(2) .

كما أن أبا أيوب الأنصاري لا يجرؤ على العمل بسنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر ، لأن عمر كان يضرب من عمل بها(3) .

ويصرح مالك بن أنس ، بالنسبة لغير أهل المدينة من المسلمين بـ : « أن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك »(4) .

وسيأتي المزيد مما يدل على إصرار الخلفاء ، وغير الخلفاء منهم ، على مخالفة أحكام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى من أمثال مروان بن الحكم ، والحجاج بن يوسف.

ماذا بعد أن تمهد السبيل :

وبعد هذا فإن الحكام والأمراء الذين مُنِحُوا ـ دون غيرهم ـ حق

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 28.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 84.

3 ـ المصنف ج 2 ص 433.

4 ـ جامع بيان العلم ج 2 ص 194.

٩٦

الفتوى! ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد أصبح بإمكانهم أن يفتوا بغير علم. بل أن يفتوا بما يعلمون مخالفته لما ورد عن سيد الخلق أجمعين ، محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ما داموا قد أمنوا غائلة اعتراض من يعلمون الحق ، ولم يعد يخشى من انكشاف ذلك للملأ من غيرهم الأمر الذي ربما يؤدي ـ لو انكشف ـ إلى التقليل من شأنهم ، وإضعاف مراكزهم ، ويقلل ويحد من فعالية القرارات والأحكام التي يصدرونها.

كما أن ذلك قد هيأ الفرصة لكل أحد : أن يدعي ما يريد ، وضع له الحديث الذي يناسبه ، بأييداً ، أو نفياً وتفنيداً.

كما أنهم قد أمنوا غائلة ظهور كثير من الأقوال ، والأفعال ، والمواقف النبوية ، والوقائع الثابتة ، التي تم مركز وشخصية من يهتمون بالتنويه باسمه ، وإعلاء قدره وشأنه ، أو ترفع من شأن ومكانة الفريق الآخر : أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما سيدهم وعظيمهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وكل من يمت إليه وإليهم بأية صلة أو رابطة ، أو له فيهم هوى ، أو نظرة إيجابية وواقعية ، انطلاقاً مما يملكه من فكر واع ، ووجدان حي.

أضف إلى ذلك كله : أن سياستهم هذه تجاه الحديث ، وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنسجم مع رأي بعض الفرق اليهودية ، التي كان لأتباعها نفوذ كبير لدى الحكام آنئذ(1) .

ولسنا هنا في صدد شرح ذلك.

وعلي عليه‌السلام ماذا يقول :

هذا ولكننا نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشيعته ، والواعين من رجال هذه الأمة ، قد تصدوا لهذه الخطة بصلابة وحزم ، حتى لقد رفضعليه‌السلام في الشورى عرض الخلافة في مقابل اشتراط العمل بسنة الشيخين. وقد

__________________

1 ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 26 / 27 متناً وهامشاً.

٩٧

طردعليه‌السلام القصاصين من المساجد ، ورفع الحظر المفروض على رواية الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وقد رووا عنه : أنهعليه‌السلام قال : « قيدوا العلم ، قيدوا العلم » مرتين. ونحوه غيره(2) .

كما أنهعليه‌السلام يقول :

« من يشتري منا علماً بدرهم؟ قال الحارث الأعور : فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم ، ثم جئت بها ».

وفي بعض النصوص : « فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ، ثم جاء بها علياً ، فكتب له علماً كثيراً »(3) .

وعن عليعليه‌السلام قال تزاوروا ، وتذاكروا الحديث ، ولا تتركوه يدرس(4) .

وعنهعليه‌السلام : « إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده ، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر ، وإن يك باطلاً كان وزره عليه »(5) . ومثل ذلك كثير

__________________

1 ـ سرگذشت حديث ( فارسي ) هامش ص 28 وراجع كنز العمال ج 10 ص 171 و 172 و122.

2 ـ تقييد العلم ص 89 و 90 وبهامشه قال : « وفي حض عليّ على الكتابة انظر : معادن الجوهر للأمين العاملي 1 : 3 ».

3 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 259 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 116 ط ليدن و ص 68 ط صادر وتاريخ بغداد ج 8 ص 357 وكنز العمال ج 10 ص 156 وتقييد العلم ص 90 وفي هامشه عمن تقدم وعن كتاب العلم لابن أبي خيثمة 10 والمحدث الفاصل ج 4 ص 3.

4 ـ كنز العمال ج 10 ص 189.

5 ـ كنز العمال ج 10 ص 129 ورمز له بـ ( ك ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ).

٩٨

عنهعليه‌السلام (1) .

والإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً :

وفي مجال العمل على إفشال هذه الخطة تجاه العلم والحديث ، وكتابته ، وكسر الطوق المفروض ، نجد النص التاريخي يقول : « دعا الحسن بن علي بنيه ، وبني أخيه ، فقال : « يا بني ، وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، فليكتبه ، وليضعه في بيته »(2) .

ثم روى الخطيب ما يقرب من ذلك عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، ثم قال : « كذا قال : جمع الحسين بن علي. والصواب : الحسن ، كما ذكرناه أولاً ، والله أعلم »(3) .

ولسنا هنا في صدد تفصيل ذلك ، ونسأل الله أن يوفقنا للتوفر على دراسة هذه الناحية في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مشرعون جدد ، أو أنبياء صغار :

وطبيعي بعد ذلك كله وبعد أن كانت السياسة تقضي بتقليص نسبة

__________________

1 ـ راجع على سبيل المثال كنز العمال ج 10 كتاب العلم

2 ـ تقييد العلم ص 91 ونور الأبصار ص 122 وكنز العمال ج 10 ص 153 وسنن الدرامي ج 1 ص 130 وجامع بيان العلم ج1 ص 99 ، والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 412 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227 وفي هامش تقييد العلم عن بعض من تقدم ، وعن تاريخ بغداد ج 6 ص 399 ، ولم أجده ، وعن ربيع الأبرار 12 عن عليعليه‌السلام وراجع أيضاً التراتيب الإدارية ج 2 ص 246 / 247 عن ابن عساكر ، وعن البيهقي في المدخل.

3 ـ تقييد العلم ص 91.

٩٩

الاحترام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعمل على علو نجم قوم ، ورفعة شأنهم ، وأقول نجم آخرين ، والحط منهم وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية ، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة ، ولا سيما الخليفتين الأول ، والثاني ـ سنة كسنة النبي ، بل وفوق سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك ، وعلى خطط الحكام في هذا المجال ، نشير إلى قول البعض : « أنا زميل محمد » بالإضافة إلى ما يلي :

1 ـ « قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة : « كلهم في أحكامه ذو اجتهاد : أي صواب »(1) .

2 ـ وقال الشافعي : « لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل. والأصل كتاب ، أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الناس »(2) .

3 ـ وقال البعض عن الشافعية : « والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه ، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة : « وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ولو كان صحيحاً »(4) .

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً(5) .

__________________

1 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

2 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 367 ، وراجع ص 450.

3 ـ مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

4 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 251 / 255 ومالك ، لأبي زهرة ص 290.

5 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 254 / 255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

وآله من مكة إلى المدينة ، وتوفي المطعم في أوائل الهجرة في مكة ، ولما بلغ رسول اللّه نبأ موته تذكّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحسانه وجوارَه ، وانشأ حَسّان بن ثابت شاعر الإسلام شعراً يمدحُه فيه تقديراً لخدمته.

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتذكره كثيراً ، حتّى انه تذكره في واقعة « بدر » الّتي انهزمت فيها قريش وعادت منكسرة إلى مكة بعد أن خسرت كثيراً من رجالها واسر منها عدد كبير ، فتذكر مطعم بن عدي ثمة وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لو كان مطعم بن عَديّ حياً لو هبت له هؤلاء »(١) .

نقطة هامة :

إنَّ سفر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف يكشف عن اصراره في اداء رسالته واستقامته وصبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ان تذكُّره لإحسان مطعم في المواقع المناسبة يقودنا إلى خصاله الحميدة وسجاياه. الفاضلة ، وخلقه العظيم.

ولكن الاهمَّ من هذا وذاك هو أننا نستطيع من خلال هذا تقييم خدمات أبي طالب القيمة ، ومعرفة اهميتها الكبرى عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمقايستها مع ما فعله مطعم.

فان مطعم لم يفعل شيئاً إلاّ أن اجار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحماه يوماً أو بعض يوم.

بينما حدب أبو طالب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودافع عنه وخدمه عمراً كاملا ، ولقى في سبيله من المحن والمتاعب ما لم يلق مطعم منها ولا شيئاً ضئيلا.

فاذا كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلن عن استعداده للافراج عن جميع الاسرى في « بدر » تقديراً لما قام به مطعم من اجارة بسيطة قصيرة ، فماذا

__________________

١ ـ المغازي للواقدي : ج ١ ، ص ١١٠ ثم قال الواقدي : وكانت لمطعم بن عدي عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجارة حين رجع من الطائف ، طبقات ابن سعد : ج ١ ، ص ٢١٠ و ٢١٢ ، البداية والنهاية : ج ٣ ، ص ١٣٧.

٥٦١

عساهُ أن يقوم به تجاه ما اسداه إليه عمُّه وحاميه وكافله الاكبر والأوحد أبو طالب من خدمات طوال اكثر من اربعين عاماً أنه يجب ان يكون لمثل هذا الشخص العظيم الّذي كفل صاحب الرسالة وقام بشؤونه مدّة أربعين عاماً بايامها وليالها ودافع عنه في السنوات العشر الاخيرة وهي جلُّ عمر الرسالة الإسلامية في الفترة المكية إلى درجة ان عرَّض راحته وسلامته بل حياته وحياة أبنائه لخطر الموت دفاعاً عن حياض الرسالة ، وحمايةً لصرح النبوة ، مقاماً عظيماً ومنزلة كبرى عند قائد البشرية ، ومعلم الإنسانية ، وهاديها العظيم.

كيف لا ؛ والفرق بين هذين الشخصين كبير ، والبون شاسع ، فمطعم رجل وثني مشركٌ ، بينما يعتبر أبو طالب واحداً من كبار الشخصيات الإسلامية العظيمة بلا جدال.

الدعوة في أسواق العرب :

كانت العرب تجتمع ـ في مواسم الحج ـ في نقاط مختلفة مثل : « عكاظ » و « المجنة » و « ذي المجاز » ، وكان الشعراء والخطباء العرب البارعُون يقفون في هذه المناطق على أماكن مرتفعة ويلهون فريقاً من الناس بما يلقونه عليهم من خطب وقصائد تدور في الأغلب حول الحرب والقتال ، والتفاخر ، والعشق.

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأن كل الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه يستغلّ هذه الفرصة ـ كغيرها ـ لا بلاغ رسالة ربه إلى الناس ، ولم يكن لاحد منعه أوالكيد به لحرمة القتال والجدال في الاشهر الحرم.

من هنا كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حلّ الموسم وقف على مكان مرتفع وخاطب الناس قائلا :

« قُولُوا لا إله إلاّ اللّهُ تُفلِحُوا وتملكوا بها العَرَب وتَذِلُّ لكُمُ لعَجمُ ، وَإذا آمَنتُم كُنتُم مُلُوكاً فِي الجَنَّة »(١) .

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢١٦.

٥٦٢

دعوة رؤساء القبائل في مواسم الحج :

وكان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي في مواسم الحج في هذه النقاط برؤساء القبائل العربية واشرافها ، ويقف على منازلهم منزلا منزلا ، ويعرض دينه عليهم ، ويدعوهم إلى اللّه ويخبرهم أنه نبيُّ مرسل(١) .

وربما مشى خلفه عمُّه « أبو لهب » فاذا فرغ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله وما دعا به قال أبو لهب فوراً للناس : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

وقد قدمت جماعة من بني عامر إلى مكّة فدعاهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ، فقبلوا أن يعتنقوا الإسلام إلاّ أنهم اشترطوا عليه أن يكون إليهم خلافته من بعده إذ قالوا : أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهركَ اللّهُ على مَن خالفَك أيكونُ لنا الأمرُ من بعدك؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الأمرُ إلى اللّهِ يَضَعه حيثُ يشاءُ ».

فرفضوا اعتناق الإسلام والإيمان باللّه ورسوله.

ثم لما عادوا إلى أوطانهم رَجَعُوا إلى شيخ لهم طاعن في السنّ لم يقدر أن يحجَّ معهم وكان ذا بصيرة وفهم فحدّثوه بما جرى بينهم وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه(٢) ونقوم معه.

فوضع الشيخ يديه على رأسه ووبَّخَهُم على رفضهم لدعوة الرسول وقال :

__________________

١ ـ قال ابن هشام : كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلاّ تصدّى له فدعاه إلى اللّه وعرض عليه ما عنده.

٢ ـ أي نحميه.

٥٦٣

يا بني عامر والّذي نفسُ فلان بيده ما تَقَوَّلَها اسماعيليٌ قط(١) ، وإنّها لحقٌ ، فاين رأيكم كان عنكم؟!(٢)

ان هذه القضية التاريخية تفيد ـ في ما تفيد ـ بان مسألة الخلافة والامامة بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر تنصيصي ، تعييني ، لا انتخابي ، أي ان تعيين الخليفة بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود إلى اللّه ، ولا خيار للناس فيه ، وانما عليهم الطاعة والرضا.

__________________

١ ـ أي ما ادعى النبوة كاذباً احدٌ من بني اسماعيل.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٤ و ٤٢٥.

٥٦٤

٢٤

بيعة العقبة

كان ( وادي القرى ) في ما مضى من الزمن طريق التجارة من اليمن إلى الشام ، فكانت القوافل التجارية القادمة من اليمن تدخل وادياً طويلا يدعى بوادي القرى بعد العبور بالقرب من مكة ، وكانت المناطق الواقعة على طوال هذا الوادي مناطق خضراء ، ومن هذه المناطق مدينة قديمة كانت تدعى ب‍ : يثرب والّتي عرفت فيما بعد بمدينة الرسول.

وقد سكن في هذه المدينة منذ اوائل القرن الرابع الميلادي قبيلتا : « الاوس والخزرج » اللتان كانتا من مهاجري عرب اليمن ( من القحطانيين ).

وكان يعيش الى جانبهم الطوائف اليهودية الثلاث المعروفة : « بنو قريظة » و « بنو النضير » و « بنو قينقاع » الذين كانوا قد هاجروا اليها من شمال شبه الجزيرة العربية واستوطنوها.

وكان يقدم إلى مكة كل عام جماعة من عرب يثرب للاشتراك في مراسيم الحج ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتقي بهم في تلك المواسم ، ويجري معهم اتصالات.

وقد مهدّت بعض هذه اللقاءات للهجرة ، وصارت سبباً لتمركز قوى الإسلام المتفرقة ، في تلك النقطة.

٥٦٥

على ان كثيراً من تلك الاتصالات وان لم تثمر ولم تنطو على أية فائدة فعلية إلاّ أنها تسببت في أن يحمل حجاج يثرب ـ لدى عودتهم ـ انباء ظهور النبيّ الجديد وينشروه في اوساط المدينة كأهم نبأ من انباء الساعة ، ويلفتوا نظر الناس في تلك الديار إلى مثل هذا الامر المهم والخطير.

ولهذا نقلنا هنا بعض اللقاءات والاتصالات الّتي تمت بين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعات من اهل هذه المدينة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة للتتضح بدراسة هذه المطالب علة هجرة النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى يثرب ، وتمركز قوى المسلمين في تلك المنطقة.

١ ـ كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما سمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف تصدى له ، ودعاه إلى الإسلام وعرض عليه ما عنده.

وقد قدم مرة « سويد بن الصامت » فتصدى له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع به فدعاه إلى اللّه وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعلّ الّذي معك مثل الّذي معي.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما الّذي معك.

قال : مجلة لقمان يعني حكمة لقمان.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعرضها عليَّ فعرضها عليه. فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والّذي معي أفضل من هذا. قرآنٌ انزلهُ اللّهُ عليّ هو هدى ونور.

ثم تلا عليه رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فقال سويد إنّ هذا قولٌ حسن وآمَنَ برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقدم المدينة على قومه ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج فيما كان يتلفظ الشهادتين وكان قتله قبل يوم بعاث(١) (٢) .

__________________

١ ـ بعاث موضع كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٥ ـ ٤٢٧.

٥٦٦

٢ ـ قدم « انس بن رافع » مكّة ومعه فتيةٌ من بني عبد الاشهل فيهم « ياس بن معاذ » أيضاً ، يلتمسون الحلف والنصرة على قومهم من الخزرج ، فسمع بهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاهم وجلس اليهم وقال لهم : هل لكم في خير مما جئتم له؟

فقالوا له : وما ذاك؟

قال : « أنا رسول اللّه بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيئاً وانزل عليّ الكتاب » ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.

فقال أياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً شهماً : أي قوم هذا واللّه خير مما جئتم له.

فقد أدركَ جيّداً أنَ دينَ التوحيد يكفُلُ كلَّ حاجاتهم فهو دينٌ شاملٌ مباركٌ لأنه سيصهِرُ الجميعَ في بوتقة الاُخوَّة الواحدةِ فتزول عندئذ أسبابُ العداء والقتال ، وبذلك ينهي كل مظاهرِ الحرب والتنازع ، وكلَّ مظاهر الفساد والتخريب فهو افضل من طلبِ المساعدة العسكرية من قريش الّتي جاؤوا من أجلها إلى مكة ، فآمن برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون ان يكسب رضا رئيس قبيلته « انس بن رافع » واستئذانه ، ولهذا غضب أنس وأخذ حفنة من تراب البطحاء وضرب بها وجهَ إياس وقال : دعنا منك فعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمَتَ اياس وقام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ولم يلبث اياس ان هلك ، وقد سمعه قومٌ حضروا عند وفاته يهلّل اللّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أنه قد مات مسلماً ، ولقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمع(١) .

وقعة بُعاث :

كانت وقعة بُعاث من الحروب التاريخية بين الأوس والخزرج ، ففي هذه

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٧ و ٤٢٨.

٥٦٧

الوقعة انتصر الأوسيون على منافسيهم ، وأحرقوا نخيل الخزرجيين ، ثم وقعت بعد ذلك حروب ومصالحات بينهم.

ولم يشترك « عبد اللّه بن اُبيّ » وهو من أشراف الخزرج في هذه الوقعة من هنا كان موضع احترام من القبيلتين ، وكاد الطرفان يفقدان مقاومتهما بسبب تكرر الحروب ، وتحمّل الخسائر الثقيلة ، ولهذا رغب الطرفان في عقد صلح بينهما يضع حدّاً لجميع أشكال العمليات العسكرية ، والغزو والاقتتال ، والثأر والانتقام ، واصرّت القبيلتان على « عبد اللّه بن اُبي » بان يقبل بقيادة عمليّة المصالحة هذه ، بل وأعدوا له تاجاً يتوّجونه به ، حتّى يصبح أميراً في وقت معيَّن ، ولكن هذا المشروع تعرض للانهيار والسقوط وواجه الفشل على أثر اعتناق جماعة من الخزرج الإسلام ، ففي هذا الوقت بالذات التقى رسول اللّه بمكة بستة اشخاص من رجال الخرزج ودعاهم إلى الإسلام فآمنوا به ، ولبُّوا دعوته.

تفصيل الحادث :

خرج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموسم الّذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الانصار وكانوا ستة انفار من الخزرج فقال لهم : أمِنْ موالي اليهود؟ وهل لكم حلف معهم.

قالوا : نعم.

قال : أفلا تجلسُون أكَلِّمُكُم؟

قالوا : بلى.

فجلسوا معه ، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرضعليهم‌السلام وتلا عليهم القرآن ، فاحدثت كلمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفوسهم أثراً عجيباً ، وممّا ساعد على ذلك أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهلَ شرك وأصحاب أوثان ، وكان اليهود قد غزوهم في بلادهم ،

٥٦٨

فكانوا إذا وقع بينهم نزاع وكان بينهم شيء قال اليهود لهم : إن نبياً مبعوث الآن ، قد اظلّ ( أو أطلّ ) زِمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عد وإرَم ، فكانت اليهود تخبر بخروج نبيّ من العرب ينشُر التوحيد ، وتنتهي على يديه حكومة الوثنية والشرك ، وقد قرب ظهوره.

فلما كلَّمَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُولئك النفر ، ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض يا قوم : تعلّموا واللّه إنه للنبيُّ الّذي توعدّكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه.

فاجابوه فيما دعاهم إليه بان صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّهُ بكَ ، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الّذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل اعز منك(١) .

بيعة العقبة الاُولى :

لقد اثّرت دعوة هؤلاء السنة ، الجادة في يثرب تأثيراً حسناً حيث سبّبت في إسلام فريق من اهل يثرب واعتناقهم عقيدة التوحيد.

فلما كان العام المقبل ( أي السنة الثانية عشرة من البعثة ) قدم مكة اثنا عشر رجلا من اهل يثرب ، فلقوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة ، وانعقدت هناك أوّل بيعة اسلامية.

وابرز هؤلاء الرجال هم : أسعد بن زرارة ، وعبادة بن الصامت ، وكان نص هذه البيعة ـ بعد الاعتراف ـ بالاسلام والايمان باللّه ورسوله هو :

بايعنا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا نشرك باللّه شيئاً ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وارجلنا ولا نعصيه في معروف.

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٢٧ و ٤٢٨ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥.

٥٦٩

فقال لهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن وفيتم فلكمُ الجنة ، وان غشّيتم من ذلك شيئاً فامركم إلى اللّه عزّوجل إن شاء عذَّبَ ، وان شاء غفر.

وهذه البيعة اصطلح على تسميتها المؤرخون وكتّابُ السيرة ببيعة النساء ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخذ البيعة من النساء في فتح مكة على هذا النحو(١) .

وعاد هؤلاء النفر إلى يثرب بقلوب مفعمة بالايمان ، مترعة بمحبة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعمدوا إلى نشرالإسلام وكتبوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآنَ ، فبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم « مصعب بن عمير » وأمره بان يقرِّأهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقّههم في الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

واستطاع هذا المبلّغُ القديرُ ، وهذا الداعية النشيط ان يجمع المسلمين بفضل عمله الدؤوب والحكيم وتبليغه الصحيح في غياب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤمّهم ، ويصلي بهم(٢) .

بيعة العقبة الثانية :

لقد أحدث تقدم الإسلام في يثرب هيجاناً كبيراً وشوقاً عجيباً في نفوس المسلمين من أهلها ، فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر حلول موسم الحجّ ، ليقدموا مكة ، ويلتقوا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثب ، ويُظهروا له عن استعدادهم لتقديم ما يطلبُ منهم من خدمة وعمل ، وليستطيعوا توسيع نطاق البيعة من حيث الكَمّ ومن حيث الكيف.

وأخيراً حلّ موسم الحجّ فخرجت قافلةٌ كبيرةٌ من أهل يثرب للحجّ تضمّ خمسمائة نفراً فيهم ثلاث وسبعون من المسلمين من بينهم امرأتان ، والباقي إما راغبون في الإسلام ، واما غير مكترث به ، حتّى قدموا مكّة ، والتقوا برسول اللّه

__________________

١ ـ والّتي جاء ذكرها في الآية ١٢ من سورة الممتحنة.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٣٤ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥.

٥٧٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فواعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة للبيعة إذ قال : « موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق ».

فلما كانت الليلة الثالثة عشرة من شهر ذي الحجة وهي الّتي واعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها باللقاء ، ونام الناس حضر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمّه « العباس بن عبد المطلب » قبل الجميع ، وخرج المسلمون من رحالهم يتسلّلون تسلل القطا مستخفين بعد أن ناموا مع قومهم في رحالهم ، ومضى ثلث الليل لكيلا يحسّوا بخروجهم ، حتّى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، ولما استقرّ المجلس بالجميع ، كان أوّل متكلم هو : العباس بن عبد المطلب فقال واصفاً منزلة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب تسمي هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسَها ـ إنَّ محمَّداً مِنّا حيث قد علمتم ، وقد مَنَعاهُ من قومنا ، فهو في عزّ من قومه ، ومَنعة في بلده ، وإنّه قد ابى إلاّ الإنحياز اليكم ، واللُحوق بكم ، فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترونَ أنكم مُسلِمُوهُ وخاذِلُوهُ بعدَ الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوهُ فانه في عزّ ومَنعة من قومه وبلده.

فقال الحضور : قد سمعنا ما قلتَ فتكلّم يا رسول اللّه ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.

فتكلمَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلا القرآن ودعا إلى اللّه ورغّب في الإسلام ثم قال : اُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم.

فقام البراء بن معرور وأخذ بيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : نعم والّذي بعثك بالحق نبياً لنمنعمنَّك مما نمنع منه اُزُرنا(١) فبايعنا يا رسول الّه فنحن واللّه

__________________

١ ـ الملاحظ في هذه البيعة انها كانت بيعة للدفاع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس بيعة للجهاد في سبيل اللّه ، ولهذا فان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على القتال في بدر إلا بعد ان كسب موافقة الانصار ورضاهم.

٥٧١

ابناء الحروب واهل الحلقة ( اي السلاح ) ورثناها كابراً عن كابر.

فدب في الحضور حماس وسرور عظيم وتعالت الاصوات والنداءات من الخزرجين والّتي كانت تعبيراً عن شدة حماسهم ، وسرورهم لهذا الأمر ، فقال العباس وهو آخذ بيد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي هذه الاثناء نهض « البراء بن معرور » و « ابو الهيثم بن التيهان » و « أسعد بن زرارة » من مواضعهم وبايعوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم بايعه بقية القوم جميعاً.

وقد قال ابن التيهان عند مبايعته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا رسول اللّه إن بيننا وبين الرجال ( اي اليهود ) حبالا ( وعلاقات ) وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللّه ، أن ترجعَ إلى قومك وتدعَنا؟

فتبسَّم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « بل الدَم الدَم ، والهَدم الهَدم احارب من حاربتم واسالم من سالمتم » يعني أنه سيبقى على العهد ، ولا يتركهم وكانت العرب تقول عند عقد الحلف : دمي دمُك ، وهَدمي هَدمُك ، وهي كناية عن البقاء على العهد واحترام الميثاق والحِلف.

ثم ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اخرجُوا إِليَّ منكم إثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم(١) .

فأخرَجوا منهم اثني عشر نقيباً فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاولئك النقباء : انتم على قومكم بما فيهم كُفَلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم وأنا كفيلٌ على قومي ( يعني المسلمين ) فاُبايعُكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ».

فقالوا : نعم وبايعوه على ذلك.

وكان النقباء الذين اختيروا لذلك تسعةً من الخرزج وثلاثةً من الأوس وقد ضُبِطَت أسماؤهم وخصوصياتهم في التاريخ.

__________________

١ ـ المحبر : ص ٢٦٨ ـ ٢٧٤.

٥٧٢

وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يهاجِرَ إليهم في الوقت المناسب ، ثم ارفض الجمع وعادَ القومُ إلى رجالهم(١) .

أوضاعُ المسلمين بعد بيعة العقبة :

والآن ينبغي أن نجيب بالتفصيل على السؤال الّذي يطرح نفسه هنا وهو : ما الّذي دعى أهل يثرب الذين كانوا بعيدين عن مركز ظهور الإسلام إلى أن يستجيبوا لنداء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذوا بتعاليمه اسرع من المكيين مع ما كان بين المكيين وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرابة القريبة؟!

وكيف تركت تلك اللقاءاتُ المعدودةُ القصيرةُ بأهل يثرب آثاراً تفوق الآثار الّتي تركتها الدعوةُ المحمّدية خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة؟!

إن علة هذا التقدم يمكن اختصارها وحصرها في أمرين :

أوّلا : أن اليثربيّين جاوروا اليهودَ سنيناً عديدة وطويلة قبل الإسلام وكثيراً ما كانوا يتحدّثون في مجالسهم وأنديتهم عن النبيّ العربيّ الّذي يظهر ، ويأتي بدين جديد.

حتّى أن اليهود كانوا يقولون : للوثنيين إنَّ هذا النبيّ سيقيم دينَ اليهود وينشره ، ويمحي الوثنية ويقضي عليها بالمرة.

فتركت هذه الكلماتُ أثراً عجيباً في نفوس أهل يثرب ، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين الّذي كان يخبر عنه يهودُ وينتظرونه ، بحيث عند ما التقى الانفار الستة من اهل المدينة إلى الايمان برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأوّل مرّة ، بادروا إلى

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٥ و ٢٦ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٤١ ـ ٤٥٠ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢١ ـ ٢٢٣.

وفي رواية اُخرى في البحار : ج ١٩ ، ص ٤٧ ، كما اخذ موسى من بني اسرائيل اثني عشر نقيباً وقد كان هذا العمل النبوي حكيماً جداً لان عامة الناس لا يمكن التعويل والاتكال على التزاماتهم بل لابد من الاعتماد ـ ضمناً ـ على رموز المجتمع ومفاتيحه وهم وجوده القوم وسراتهم.

٥٧٣

الايمان به من غير إبطال ولا تأخير بعد أن قال بعضهم لبعض : واللّه إنَّه للنبيّ الّذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه.

ومن هنا فان مما يأخذه القرآن على اليهود هو : أنكم كنتم تهددون الوثنيين بالنبيّ العربيّ ، وتبشرون الناس بانه سيظهر ، وانهم قرأوا أوصافه وعلائمه في التوراة فلماذا رفضوا الإيمان به لمّا جاءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى : «وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الّذيْنَ كَفَرُوا ، فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلى الكافِرين »(١) .

ثانياً : إنّ العامل الأخير الّذي يمكن اعتبارهُ دخيلا في التأثير في نفوس اليثربيين وسرعة إقبالهم على الإسلام وتقبّلهم لدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو التعب والارهاق الّذي كان اهل يثرب قد اُصيبوا به من جرّاء الحروب الطويلة الدامية فيما بينهم والّتي استمرّت مائة وعشرين عاماً والّتي انهكتهم وكادت أن تذهب بما تبقّى من رَمقهم ، وجعلتهم يملون الحياة ، ويفقدون كلّ أمَل في تحسّن الأحوال والاوضاع.

وإن مطالعة وقعة « بُعاث » وهي ـ حرب وقعت بين الأوس والخزرج ـ وحدها كفيلة بأن تجسد لنا الوجهَ الواقعي الّذي كان عليه سكان تلك الديار.

ففي هذه الوقعة انهزم الاوسيّون على يد الخزرجيين ، فهربوا إلى « نجد » ، فعيّرهم الخزرجيّون بذلك ، فَغضب « الحضير » سيد الأوس ، لذلك غضباً شديداً ، فطعن فخذه برمحه لشدة انزعاجه وغضبه ، وترجّل عن فرسه وصاح بقومه قائلا : واللّه لا أقوم من مكاني هذا حتّى اُقتل!! فأوقد صمود « الحضير » وثباته نار الحمية والغيرة واشعل روح الشهامة والبسالة في قومه ، فقرروا الدفاع عن حقهم مهما كلفهم الامر ، فقاتلوا أعداءهم مستميتين ، والمستميت منتصر لا محالة ، فانتصر

__________________

١ ـ البقرة : ٨٩.

٥٧٤

الأوسويون المغلوبون ، هذه المرة ، وهزموا الخزرج هزيمة نكراء واحرقت مزارعهم ونزل بهم ما نزل على يد الاوسيين!!(١) .

ثم تتابعت الحروب والمصالحات بعد ذلك ، وكانت القبيلتان تتحملان في كل مرة خسائر كبرى ، جعلتهم يواجهون عشرات المشاكل الّتي حوّلت حياتهم إلى حياة مضنية متعبة جداً.

من هنا لم تكن كلتا القبيلتين راضيتين على أوضاعهما ، وكانتا تبحثان عن مخلص مما هما فيه ، من الحالة السيئة ، وتفتشان عن نافذة أمل ، ومخرج من تلك المشاكل.

ولهذا وجد الخزرجيون الستة ضالّتهم المنشودة عندما التقوا ـ ولاول مرّة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمعوا منه ما سمعوا ، فتمنّوا أن يضعوا به حداً لاوضاعهم المتردية إذ قالوا له : عسى أن يجمعهم اللّه بك فان جمعهم اللّه بك فلا رَجلَ أعزّ منك.

كانت هذه هي بعض الأسباب الّتي دعت اليثربيين إلى تقبّل الإسلام بشوق ورغبة وحماس.

ردود فعل قريش تجاه بيعة العقبة :

كانت قريش تغطّ في نوم عميق وكانت تتصور بانها قد حدّت من تقدم الإسلام في مكة وانه قد بدأ يتقهقر ويسير باتجاه السقوط والاندحار ، وأنه لن ينقضي زمانٌ إلاّ وتنطفئ جذوة الإسلام وتخمد شعلته ، وتنمحي آثاره.

وفجأة استيقظت على دويّ بيعة العقبة الثانية الّتي كانت بمثابة انفجار قلبت كل المعادلات ، وأسقطت كل تصورات قريش الساذجة ، وذلك عند ما عرف زعماء الوثنيين بأن ثلاثاً وسبعين شخصاً من اليثربيين عقدوا ليلة أمس وتحت جنح الظلام بيعة مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يدافعوا عنه كما

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٤١٧ و ٤١٨.

٥٧٥

يدافعون عن أبنائهم وأهليهم.

فأحدث هذا النبأ خوفاً عجيباً في قلوب قادة قريش وسادة مكة المشركين المتغطرسين ، لانهم اخذوا يقولون مع أنفسهم : لقد وجد المسلمون الآن قاعدة قوية في قلب الجزيرة العربية ، وانه يُخشى أن يجمع المسلمون كل طاقاتهم المبعثرة فيها. ويعملون معاً على نشر دينهم ، وبث عقيدتهم ، وحينئذ ، وحينئذ ستواجه الوثنية في مكة خطراً جدياً ، يهدّدُها في الصميم.

ولهذا بادرت قريش إلى الاتصال بالخزرجيين صبيحة تلك الليلة وقالوا لهم : يا معشر الخزرج انه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، إنه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحربُ بينا وبينهم ، منكم.

فحلفَ المشركون من أهل يثرب لقريش أنه ما كان من هذا شيء ، وما علموه ، وقد صدقوا لأنهم لم يعلموا بما جرى في العقبة. فان قافلة اليثربيين كانت تضمُّ خمسمائة شخص ، تسلَّلَ منهم ثلاث وسبعون فقط إلى العقبة وبقية الناس نيام لا يعلمون بشيء.

فأتت قريشٌ إلى « عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول » فسألوه عَمّا جرى في ليلة العقبة ، فأنكر ذلك وقال : إنّ هذا الأمر جسيم ، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا ( اي يعملوه من دون مشورتي ) وما علمته كان ، فنهض رجال قريش من عنده ليتابعوا تحقيقهم حول الحادث.

فعرف المسلمون الذين حضروا ذلك المجلس وبايعوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفشوّ أمرهم ، وانكشاف سرهم ، ولهذا قال بعضهم لبعض : مادمنا لم نُعرَف بعدُ فلنخرج من مكة فوراً قبل ان يظفر المشركون بنا ، ولهذا أسرعوا في الخروج من مكة والتوجّه إلى المدينة ، فزاد ذلك من سوء ظن قريش وعزّزت شكوكهم حولَ البيعة ، وعرفوا بانه قد كان ، فخرجوا في طلب جميع اليثربيين ، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك إلاّ بعد خروج قافلة اليثربيين من حدود مكة ، والمكيين ، ولم تظفر قريش إلاّ بسعد بن عبادة.

٥٧٦

غير أن ابن هشام يرى بأنهم ظفروا بنفرين هما : « سعد بن عبادة » و « المنذر بن عمر » ، وكان كلاهما من النقباء الاثني عشر.

وأما « المنذر » فاستطاع أن يخلّص نفسه منهم.

وأما « سعد » فقد أخذوه ، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رَحله ، ثم أقبلوا به حتّى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجمّته(١) وكان ذا شعر كثير.

يقول سعد :

فواللّه إنّي لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء أبيض ، طويل القامة ، فقلت في نفسي : إن يكُ عندَ أحد من القوم خير فعند هذا.

قال : فلما دنى منّي رفع يده فلكمني لكمةً شديدةً.

فقلتُ في نفسي : لا واللّه ، ما عندهم بعد هذا من خير.

قال : فواللّه إنّي لفي أيديهم يسحبونني إذ رقّ عليَّ رجلٌ كان معهم : فقال : ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوارٌ ولا عهدٌ؟

قلت : بلى كنتُ اُجير لجير بن مُطعِم بن عدي تجارةً ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

فذهب ذلك الرجلُ إلى مُطعِم وأخبره بما فيه سعد بن عبادة من الحال ، وأنه أخبره بأنه كان يجير لمطعم تجارة فقال مُطعِم : صدق واللّه إنه كان ليجير لنا تجارة ، ويمنعهم أن يُظلموا ببلدة ثم أسرع إلى سعد وخلّصه من أيديهم.

وكان رفقاء سعد من المسلمين قد علموا بوقوعه في أيدي قريش في أثناء الطريق إلى المدينة ، فعزموا على أن يعودوا إلى مكة ويخلّصوه من أيدي المشركين ، وبينما هم كذلك إذ بدى لهم « سعد » من بعيد ، وأخبرهم بما جرى عليه(٢) .

تأثير الإسلام ونفوذه المعنوي :

يصرُ المستشرقون على أن انتشار الإسلام ونفوذه في المجتمعات ثمّ بواسطة

__________________

١ ـ مجتمع شعر الرأس.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٤٩ و ٤٥٠.

٥٧٧

السيف وفي ظلّ استخدام القوّة.

اما بطلان هذا الكلام فسيثبت من خلال الحوادث القادمة.

ونحن نذكر هنا للمثال حادثةً وقعت قبل الهجرة ، ونلفت اليها نظر القارئ الكريم ، فان دراستها والتعمق فيها يثبت بجلاء ان انتشار الإسلام ونفوذه في أوساط الناس كان في بداية الأمر نابعاً من جاذبيته الّتي كانت تجذب كل انسان بمجرد اعطاء شرح مختصر عنه وعن تعاليمه المحببة إليه.

واليك الحادثة بنصها :

قرر مصعب بن عُمير المبلّغ والداعية الاسلامي المعروف الّذي بعثه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة بطلب من اسعد بن زرارة ، ذات يوم أن يدعو هو واسعد أشراف المدينة وساداتها إلى الإسلام بالمنطق والدليل فدخلا حائطاً(١) من حوائط المدينة فجلسا هناك واجتمع اليهما رجال ممن اسلم ، وكان سعد بن معاذ واسيد بن حضيرو هما من سادات بني الاشهل موجودين هناك أيضاً.

فقال سعد لا سيد : جرّد حربتك وقل لهذين ( يعني مصعبا واسعد ) ماذا جاء بهما إلى ديارنا يسفهان ضعفاءنا ، ولو لا أن سعد بن زرارة ابن خالتي ، لكفيتُك ذلك.

ففعل اُسيد ذلك وقال لمصعب ما جاء بكما الينا تسفّهان ضعفاءنا وراح يشتمهما فقال له مصعب داعية الإسلام الحكيم ، والمتكلم البليغ الّذي تعلّم اسلوب الدعوة المؤثر من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو تجلس فتسمع ، فان رضيت أمراً قبلته ، وان كرهته كفَّ عنك ما تكره؟

قال : أنصفتَ ثم ركّزَ حربته وجلس إليهما يستمع لقولهما فكلّمه مصعبٌ بالاسلام ، وقرأ عليه شيئاً من القرآن فأثّرت آياتُ القرآن وما قاله مصعب من المواعظ البليغة في نفسه حتّى عُرِفَ ذلك في إشراق وجهه ، وانفراج اساريره ، وشوقه فقال : ما احسن هذا الكلام واجمله؟! كيف تصنعون إذا اردتم أن تدخلُوا

__________________

١ ـ بستاناً.

٥٧٨

في هذا الدين؟ فقال مصعب وسعد له : تغتسل فتطهر وتغسل ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.

فقام اسيد بن حضير الّذي حضر لقتل مصعب وسعد من عندهما مبتهجاً مسروراً فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين.

ثم قال لهما : ان ورائي رجلا إن اَتبعَكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وساُرسله إليكما الآن ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ الّذي كان ينتظر عودته على احر من الجمر فلما نظرإليه سعد وقومه وهم جالسون في ناديهم قال : أحلفُ باللّه لقد جاءكم اسيد بن حضير بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم فلما وقف على النادي قال له سعد ما فعلت؟

قال : كلّمت الرجلين ، فواللّهِ ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتُهما ، فقالا : نفعل ما احببتَ ، فغضب سعدٌ لذلك غضباً شديداً ، وأخذ الحربة من اسيد ، ثم خرج إلى مصعب واسعد ليقتلهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين وقف عليهما متشتماً مهدداً اياهما ، ولكن مصعباً وزميله قابلا به بمثل ما قابلايه سابقه اسيد ، وجرى له ما جرى له ، فقد فعلت كلمات مصعب في نفسه فعلتها ، وخضع لمنطقه القوي ، وبيانه الساحِر ، وندم على ما قصد فعله ، وقال لمصعب نفس ما قاله اسيد واعتنق الإسلام واغتسل وتطهر وصلى ثم رجع إلى قومه وقال لهم : يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وافضلنا راياً وايمننا نقيبةً.

قال : فان كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرامٌ حتّى تؤمنوا باللّه وبرسوله فالحمد للّه الّذي اكرمنا بذلك.

فلم يُمسِ في دار بني عبد الاشهل رجلٌ ولا إمرأة إلاّ مسلماً أو مسلمة ، وهكذا أسلم كلُّ قبيلة بني الأشهل قبل أن يروا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصبحوا من الدعاة إلى الإسلام والمدافعين عن عقيدة التوحيد ، لا بمنطق القوة انما بقوة المنطق(١) .

__________________

١ ـ إعلام الورى : ص ٥٩ ، بحار الانوار : ج ١٩ ، ص ١٠ و ١١ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٣٦ و ٤٣٧.

٥٧٩

ان في التاريخ الاسلامي نماذجَ كثيرة من هذا القبيل تدل على بطلان وتفاهة ما قاله أو روّجه المستشرقون حول أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره ، فان العامل المعتمدَ في جميع هذه الموارد لم يكن المال والتطميع ، ولا السلاح والتهديد ، كما ادعى المستشرقون ، وان الذين اسلموا في هذه الحوادث والوقائع لاهم رأوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أنهم التقوا أو اتصلوا به بنحو من الانحاء ، انما كان السبب الوحيد هو : منطق الداعية الاسلامي القويّ وبيانه الساحر الجذاب ، فهُو الّذي كان يفعل في النفوس فعله العجيب ، خلال دقائق معدودة ، لا في نفس شخص واحد فحسب ، بل ربما في نفوس قبيلة بكاملها.

اجل انه المنطقُ القوي والكلام المبرهن والحجة البالغة لاسواها.

مخاوف قريش المتزايدة :

لقد ايقظت حماية اليثربين للمسلمين قريشاً من غفلتها ونومها العميق مرة اُخرى ، وكانت بيعة العقبة الثانية بمثابة ناقوس خطر لها فبدأت أذاها وإظطهادها ومضايقتها لهم من جديد ، وتهيأت للعمل على الحيلولة دون انتشار الإسلام ونفوذه وتقدمه في الجزيرة العربية ، وبلغ ذلك الاذى مبلغاً عظيماً.

فشكى أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ما يلقونه على أيدي المشركين من ضغوط واذى ، واستأذنوه في الهجرة إلى مكان فاستمهلهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال :

« لقد اُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن اراد الخروج فليخرج إليها »(١) .

وبعد الاذن بالهجرة من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ المسلمون يخرجون من مكة ، ويتوجهون إلى المدينة شيئاً فشيئاً وبحجج مختلفة لكي لا تمنعهم قريش من الهجرة.

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٦.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694