سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 358072 / تحميل: 8965
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

ولم يكن قدمضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا وفطن زعماء قريش لسرها ، وخطرها عليهم فاخذوا يمنعون من اي تنقل وسفر يقوم به المسلمون ، وقرروا ان يعيدوا إلى مكة كلَ من وجدوه في اثناء الطريق ، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة وله زوجة قرشية ويمنعوها عنه ، ولكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل ، بل وكان يقتصر إذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعداهما.

ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ.

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم واخوانهم في يثرب حتّى انه لم يبق في مكة من المسلمين إلاّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليعليه‌السلام وعدد قليل من المسجونين ، أو المرضى من المسلمين.

وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش ، وضاعف من قلقها ، ولهذا اجتمع كلُ رؤساء القبائل المكية في « دارالندوة » اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك المجلس خطط متنوعة ، واقترحت اُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنها فشلت برمتها بتدبير رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته ، وسياسته الدقيقة.

وأخيرا هاجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من « مكة » إلى « المدينة » في شهر ربيع الأول سنة ١٤ من البعثة.

اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين وسيطرتهم واصبحوا حيرى لا يدرون ماذا يفعلون ، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتساع رقعته ، قد باءت بالفشل.

لقد أمر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق

٥٨١

بالانصار وقال لهم : « إنَّ اللّه قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها »(١) (٢) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٦.

٢ ـ لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة ، وقد حاولنا ذكر كل ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها ، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ كل تلك الحوادث اُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبة في الفصل ٢٤ من دون ادراج تواريخ لها في الاغلب ولكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

٥٨٢

حوادث السنة الاُولى من الهجرة

٢٥

قصّة الهجرة

كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في « دارالندوة » لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها ، ومن خلال تضافر الجهود على حلها ، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات الثانية عشرة ، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً ، فقد حصل المسلمون على مركز هام ، وقاعدة صلبة في يثرب ، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدفاع عنه ، وكلُ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير ، الّذي بات يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الاوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلاّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وأبوبكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين ، أو المرضى ، أو العجزة ، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة إلى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في « دار الندوة » حضرها رؤساء قريش

٥٨٣

وزعماؤها وبدأ متكلمهم(١) يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمت بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم اضاف قائلا :

يا معشر قريش إنه لم يكن أحدٌ من العرب أعَزَّ مِنّا ، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ، ويكرموننا ، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا « محمّد بن عبد اللّه » فكنّا نسمّيه ( الأمين ) لصلاحه ، وسكونه ، وصدق لهجته ، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه ، وأن أخبار السماء تاتيه ، فسفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرق جماعتنا ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ، وقد رأيت فيه رأياً ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فان طلبت بنو هاشم بدمه(٢) اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجلٌ مجهول حضر ذلك المجلس ووصف نفسه بانه نجدي : ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الّذي يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فانه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.

فقال أبو البختري : نلقيه في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى : وهذا رأيٌ أخبث من الآخر ، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء موسمٌ من مواسم العرب استغاثوا بهم ، واجتمعوا عليكم فاخرجوه.

فقال ثالث : نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافا ، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إرباً إرباً.

فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلا : أرايتم إن خلص به

__________________

١ ـ وروي انه كان المتكلم : أبوجهل.

٢ ـ وفي رواية : بديته.

٥٨٤

البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه ، فصبأ(١) القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ ، فليسيرنَّ حينئذ اليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت اياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس ، وفجأة قال أبو جهل ( وعلى رواية : قال ذلك الشيخ النجدي ) : ليس هناك من رأي إلاّ أن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قوياً ثم تسلّحوه حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إرباً إرباً فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي ، واتفقوا عليه ، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كل مكان(٢) .

الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية :

لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورن أن رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد ، والخطط والمؤامرات ، ولم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ ـ كغيره من الأنبياء ـ يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي ، وان اليد الّتي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح ، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة ، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسرون : بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي « جبرئيل » ، على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ

__________________

١ ـ صبأ فلان : اي خرج من دين إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام وتسمي المسلمين : الصباة وهو جمع الصابىء.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٧ و ٢٢٨ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٨٠ ـ ٤٨٢.

٥٨٥

قرأ عليه قول اللّه تعالى : «وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ »(١) .

وعندئذ اُمِرَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة ، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع التحركات ، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكة والمدينة.

فاذا لم يكن رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل إلى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيرة في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلف « السيرة الحلبية » أن يُوفّق إلى درجة مّا ، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص ، ولكنه لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف فى بعض الموارد في هذا الصعيد.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ ، وخروجه من منزله ، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلاصه إلى عامل الاعجاز ، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة ، والمعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية ، والتحسبات ، والتدابير الحكيمة ، وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بان ينجّي نبيّه

____________

١ ـ الانفال : ٣٠. ليثبتوك أي ليسجنوك.

٥٨٦

الكريم ، عن طريق الأسباب العادية المألوفة ، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية ، والوسائل والأسباب العادية ( كمبيت شخص في فراش النبيّ ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره ) ، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وتخلصّ من أيدي اعدائه ، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه :

لقد اخبر ملك الوحي « جبرئيل » رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة ، وتقرر ـ بغية إفشال عملية الملاحقة ـ ان يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله ، ولم يخرج بعد ، وبالتالي يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت ، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة ، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اغتنام الفرصة والخروج من مكة ، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته ، ويبغون قتله.

والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدى النبيّ بنفسه ، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتما : إن الّذي سبق جميع المسلمين إلى الايمان برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه ، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل ، ويقي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحياته في هذه اللحظة الخطيرة ، وهذا المضحّي بحياته ونفسه ، هو « عليّ » ليس سواه احد ، انه تقدير صحيح ، وحدس مصيب.

فليس غير « علي » يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

٥٨٧

ولهذا قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام :

« يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي ، وإنّه اُوحيَ إليّ عن ربّي أن اهجرَ دار قومي ، فنُم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟

فقال عليعليه‌السلام أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال : نعم ، فتبسّم عليّعليه‌السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سلامته ، فلما رفع رأسه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك ، واقع فيه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلاّ باللّه.

ثم رقدَ عليّعليه‌السلام على فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر ، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش ـ وهم اربعون رجلا ـ بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جرّدوا سيوفَهم ، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مضجعه ، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهنا أراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل جانب ، ويراقبون كلّ شيء ، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ايدي تلك الزمرة المنحطة ، فقرأ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة ( يس ) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى : «فهم لا يبصرون »(١) وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله ، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر ان يختبيء

__________________

١ ـ يس : ٩.

٥٨٨

فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.

وأما كيف استطاع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته ، ويتجاوز رصدَ قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن ابراهيم في تفسيره : قول اللّه تعالى : «وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين كَفَرُوا » ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة(١) بان المحاصرين لمنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به.

إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته ، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً ، ولم يكن في الأمر اي اعجاز.

لقد كان يريدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باضجاع عليعليه‌السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل ، وذلك بمغادرة

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٨ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٠٠.

٥٨٩

بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون إدّعاء هذا الموضوع ( وهو خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت في الليل ) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر منزله قبل فرض الحصار عليه ، وقبل غروب الشمس(١) .

إقتحام الاعداء لبيت الوحي :

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إقتحامه ، والهجوم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال : لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإنَّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم ، ولا نأمن أن تقع يدٌ خاطئة ، فنحرسه الليلة ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً ، وانفجر الصبحُ ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ ، مع اقتراب ساعة الصفر ، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً ، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم ، إذا بهم يواجهون علياً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ٢ ، ص ٢٩.

٥٩٠

عليه‌السلام يثب في وجوهم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخضر ، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة : ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب : أين محمّد؟

فقالعليه‌السلام : اَجَعَلتموني عليه رقيبا؟!

فغضِبَ القوم غضَباً شديداً ، وكاد الغيظ يخنقهم ، فقد ندموا على إنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة ، فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة ، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وحيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة ، أو أنه لا يزال في طريق المدينة ، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.

النبيُّ في غار ثور :

ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة(١) .

وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا ، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة ، فقد رأى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر في الطريق ، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

__________________

١ ـ حيث ان الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة ، فاختبأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منطقة مقابلة أي في اسفل مكة ، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

٥٩١

وروى فريق آخرٌ أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر ، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور(١) .

وقال فريق ثالث : أن أبابكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج من قبل فأرشدهُ « عليّ » إلى مخبأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه ، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون عنها بكثير من الاسهاب والاطناب ، وبمزيد من الاكبار والاعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ :

لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها ، فقد بادرت إلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً ، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان ، وفي طريق مكة ـ المدينة خاصة.

ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن يأخذ نبي اللّه ، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة ، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة ، على حين أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد اختبأ ـ كما قلنا ـ في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال هذه قدم محمّد ، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال : ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان ، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض ، فان بباب هذا الغار ـ كما ترون عليه ـ نسجُ

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٠٠.

٥٩٢

العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار(١) ، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى ، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة.

التفاني في سبيل الحق :

ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به عليعليه‌السلام من تفان في سبيل الحق ، والحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية ، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحق ، واحيائه ، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق والحقيقة الصادقين.

انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم ، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة ، والعيش الموقت ، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّعليه‌السلام في فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق ، والعشق الصادق للحقيقة ، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ حبّ « عليّ » لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع ، ويضمن ازدهار الحياة ، لا غير.

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٩ تاريخ الخميس ، ج ١ ، ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨ وغيرها ، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا ، ولا ينبغي ـ نظراً لما ذكرناه في قصة الفيل وهلاك ابرهة وجنده بواسطة الابابيل ، تأويل مثل هذا الكرامات.

٥٩٣

إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم ، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه ، فان الآية التالية نزلت ـ حسب رواية اكثر المفسرين ـ في هذا المورد : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد »(١) .

ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام عليعليه‌السلام وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ اليها(٢) .

إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنينعليه‌السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب ، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الّذي ادرك عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم انضمّ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي ، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية باصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن

__________________

١ ـ البقرة : ٢٠٧.

٢ ـ مسند احمد : ج ١ ، ص ٨٧ ، وكنز العمال : ج ٦ ، ص ٤٠٧ ، وقد نقل كتاب الغدير : ج ٢ ، ص ٤٧ ـ ٤٩ طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن عليعليه‌السلام على نحو التفصيل ، فراجع.

٥٩٤

عليعليه‌السلام ، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ ( أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي ) ، ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ اربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية(١) .

وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً ان ( عبد الرحمان بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها وانصارها للحوادث ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم ، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة اُخرى ، واعترف اغلبُ المفسرين الأجلّة(٢) والمحدّثين الافاضل ـ في العصور والادوار المختلفة ، بأن الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل عليعليه‌السلام ومفاداته النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه(٣) .

__________________

١ ـ لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ٤ ، ص ٧٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة : ج ١٣ ، ص ٢٦٢ ، ولقد أعطى ابن ابي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

٣ ـ سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية ، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه ، بل أضاف إلى ذلك ـ حسب رواية ابن ابي الحديد ـ أمراً آخر أيضاً إذ قال : ونزل في شأن « عليّ » قول اللّه : «وَمِنَ الناس من يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو ألَدُّ الخِصام » ( البقرة : ٢٠٤ ).

ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف

٥٩٥

كلام من ابن تيمية :

احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام ٧٢٨ من علماء السنّة ، تعود إليه اكثر معتقدات الوهابيين ، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميرالمؤمنين ، وعامة أهل بيت النبوة ، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه « منهاج السنة ».

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثر من علماء عصره إلى تكفيره ، والتبرّي منه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ(١) .

ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج والجاهلين ، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال ، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة « المبيت ».

يقول : ان مبيت « عليّ » في فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تعدّ

__________________

ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم وعندما سأله معاوية : هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟

أجاب قائلا : لو قتلتُ اليهم مثلَهم ما خشيت!!

هذا ومخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام » ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

١ ـ راجع السيرة الحلبية : ج ٢ ، ص ٢٦٣ وسبعة الجاحظ في العثمانية.

٥٩٦

فضيلة لأن عليّاً عرف من طريقين بانه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة :

الأوّل : إخبار رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادق المصدِّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة : « نَمْ في فِراشي فإنه لا يَخْلُصُ إليكَ شيء تكرَهُهُ »!!.

الثاني : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات الّتي أودعها أهل مكة عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى أصحابها.

فعلم ـ من ذلك ـ أنهُ لن يُقتل والا لكلّفَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآخرين بها.

فعرف « عليٌ » من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الجواب :

وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا : إن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّعليه‌السلام لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً ، وإما أن كان إيماناً قوياً جدّاً ، وكانت جميع اقوال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباراته لديه ـ في ضوء ايمانه ـ كالنهار في وضوحه.

وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس ( ولا شك أن عليّاً ليس منهم حتماً ) يقينٌ من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر ، فانهم سيساورهم القلق ، ولا يفارقهم الاضطراب ، وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر ، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم إحتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره ، وسيتمثل أمامهم شبح الموت المرعب في كل لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لابد أن يقال : بأنَّ عليّاًعليه‌السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلاّ وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين ، لا أنه بات وهو يتيقن

٥٩٧

النجاة والسلامة.

وأما بناءً على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّعليه‌السلام فضيلة أعلى واعظم ، لأن ايمانَ الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروهٌ ، أن ينام في فراش النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلب واثِق بالسلامة ، ونفس مطمئنّة إلى النجاة ، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل إحتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله : ان عليّاً كانَ واثقاً من سلامته ، لأن الصادق المصدَّق أخبره بذلك هو : إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّعليه‌السلام فقد اثبت لهعليه‌السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة ، وأعلى منقبة ، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي واليك الجواب التفصيلي :

الجواب التفصيلي :

فنقول عن الدليل الأول : إن عبارة « لا يخلص اليك شيء تكرهه » لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد(١) .

نعم روى ابن الاثير المتوفى عام ٦٣٠(٢) ، والطبري المتوفى عام ٣١٠(٣) هذه العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته(٤) الّتي نقل فيها تلك العبارة

__________________

١ ـ مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٧ و ٢٢٨ المولود عام ١٦٨ والمتوفى عام ٢٣٠ ، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع ، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.

٢ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٧٢.

٣ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٩٩.

٤ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٨٣.

٥٩٨

بالصورة المتقدمة الذكر ، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين ( الطبري وابن الأثير ) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.

هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام ٤٦٠ في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا ودقة ، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط ، الاّ أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة ، فانهرحمه‌الله يصرّح بان عليّاًعليه‌السلام انطلق هو و « هندبن أبي هالة » ابن خديجة وربيب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ :

« إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ »(١) .

وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير ، ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالها لعليّعليه‌السلام مطمئِناً إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش ، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول :

فلقد عدّ عليّعليه‌السلام عمله هذا ( أي المبيت في فراش رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة الرهيبة ) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول :

وَقَيتُ بنفسي خيرَ مَن وَطأ الحصا

ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ

فَوقّاهُ ربّي ذُوالجلالِ مِن المَكرِ

وَبِتُ اُراعي منهم ما يسوءني

وَقَد وطّنَت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رَسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً

هناكَ وَفي حفظِ الاله وفي سَترِ(٢)

__________________

١ ـ الأمالي : ج ٢ ، ص ٨٤.

٢ ـ المصدر السابق وغيره ، هذا مضافاً إلى أنَّ الامامعليه‌السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الإسلام.

٥٩٩

ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنُ كثيرةٌ على خطأه ، ويُحتمل ، احتمالا قوياً ، بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق ، وحيث أنه ( ونعني ابن هشام ) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة ، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة ، في نظره ، وروى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!!

ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إلى جبرئيل وميكائيلعليهما‌السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه.

وكلاهما كره الموت ، فاوحى اللّه إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي « عليّ » آخيت بينه وبين « محمّد » نبيي فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه(١) .

واما الدليل الثاني الّذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بأداء الامانات والودائع إلى أهلها ، الّتي كانت تَكشف عن ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم بأنه لن يصلَ إليه مكروهٌ ، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إلى أصحابها.

ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلٍّ لهذه المشلكة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح وكامل.

واليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب وقضية المبيت :

وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبدالكريم الخطيب حول

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٣٩ نقلا عن احياء العلوم للغزالي.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694