سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459003 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ولكن هل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم ، ومقترحاتهم ، أم لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة ورواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم ودراساتهم ، وللقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو : أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، ولقد كانت هذه السيرة مؤثرة جدا بحيث استخدم الخلفاء والأمراء من بعده من اسلوب التشاور والشورى ، وكانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام عليعليه‌السلام ونظرياته السامية في الامور العسكرية ، والمشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

المشاورات العسكرية :

لما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعا كبيرا من صناديد أصحابه ، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوت عال : « أشيروا عليّ »(١) .

وهو يطلب بذلك من اولئك الجنود والقادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو ، وطريقة الدفاع عن حوزة الاسلام وصرح التوحيد المهددة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك ، وأتباع الوثنية.

فقام « عبد الله بن ابي بن سلول » وكان من منافقي المدينة ، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة ، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها ، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه فترمي النساء العدوّ بالأحجار من السطوح ، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلا : يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية فيها ، ونجعل النساء

__________________

(١) راجع الخطبة ١٣٤ من نهج البلاغة.

١٤١

والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة ، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك ( أي الطرقات ).

يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط ، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلاّ أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس ، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين والأنصار ، إلاّ أن الفتيان من المسلمين وبخاصة من لم يشهد منهم بدرا وكانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة ، ورفضوه بقوة وطلبوا من رسول الله الخروج إلى العدو ، ورغبوا في الشهادة ، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا : إنّا نخشى يا رسول الله أن يظن عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا ، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك الله عليهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا الله به فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.

وقال « حمزة » بطل الاسلام العظيم : لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة(١) .

الاقتراع من أجل الشهادة!! :

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة ـ وهو شيخ يقظ البصيرة ـ وقال : ان قريشا مكثت حولا تجمع الجموع ، وتستجلب العرب في بواديها ، ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل ، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا ، وصياصينا ، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا ، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطرافنا ، ويضعوا العيون والارصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ،

__________________

(١) المغازي ج ١ ص ٢١١ وبحار الانوار ج ١٢٥ من المعلوم أن نظرية عبد الله بن أبي لم تخلو من الخطر ، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضا فتكون حينئذ الضربة القاضية للاسلام والمسلمين.

١٤٢

ويجترئ علينا العرب حولنا ، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم ، فنذبهم عن جوارنا ، وعسى الله أن يظفّرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الاخرى : الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر ، وقد كنت عليها حريصا ، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت(١) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة ، وقد كنت حريصا على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا.

وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ورقّ عظمي ، وأحببت لقاء ربّي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة!!!(٢) .

إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين ، ورزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اسس الايمان بالله واليوم الآخر قلما تنتج جنديا فدائيا مخلصا مثل خيثمة ، ومن شاكله.

إن روح الفداء والتفاني والايثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص ، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وإعزاز التوحيد باصرار وشوق لا توجد إلاّ في مدرسة الأنبياء والمرسلين ، ولا تحصل الاّ في ضوء تربيتهم.

واما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلاّ الحصول على وضع معيشي أفضل ، فانّه لا يهم الجنود فيها إلاّ الحفاظ على أرواحهم وحياتهم

__________________

(١) اي اجريت القرعة بيني وبين ولدي.

(٢) المغازي : ج ١ ص ٢١٢ و ٢١٣.

١٤٣

فذلك هو أكبر هدف لديهم ، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأما في مدرسة الأنبياء فان المعارك والحروب لا يهدف منها إلاّ ابتغاء رضا الله سبحانه ، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل ، وعرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

حصيلة الشورى :

لقد أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأى الاكثرية التي كانت ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ ، ورجح هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البقاء في المدينة وقتال العدو داخلها ، إذ لم يكن من الصالح ـ بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة ، وسعد بن عباده ونظرائهم ، وأصروا عليه ـ أن يأخذ برأي عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافا الى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة ، واشتراك النسوة في الأمور الدفاعية ، والجلوس في البيت ، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز ، والوهن ، وهو أمر لا يليق بالمسلمين ، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة « بدر » ، وهزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها ، وسكوت جنود الاسلام على ذلك من شأن أن يقتل الروح القتالية ، والفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون « عبد الله بن أبيّ بن سلول » قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه بهذا الاقتراح ( أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ ، ومواجهته بشجاعة ) كان يريد ـ في الحقيقة ـ أن يوجّه ضربة الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

النبيّ يلبس لامة الحرب :

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع ، دخل رسول الله صلّى الله عليه

١٤٤

وآله بيته ولبس لامته ، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم واعتم وتقلّد السيف ، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين وهزهم بشدة وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا ، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر ، فندموا على ذلك ، وقالوا معتذرين : يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك ( أو : ما كان لنا أن نستكرهك والأمر الى الله ثم إليك ).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل »(١) .

النبيّ يخرج من المدينة :

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصدا احد ، وذلك بعد أن قال لهم :

« انظروا إلى ما أمرتكم به فاتّبعوه امضوا على بركة الله فلكم النصر ما صبرتم »(٢) .

وقد أجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان راميا جيدا ، ورد اسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطّاب(٣) .

ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد الله بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين ، ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسمح بذلك لأسباب خاصة.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣ ، المغازي : ج ١ ص ٢١٤ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٣٨.

(٢) المغازي : ج ١ ص ٢١٤.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٦.

١٤٥

وسار النبيّ وأصحابه حتى اذا كانوا بمنطقة بين المدينة واحد تسمى « الشوط » انعزل عنه « عبد الله بن أبي بن سلول » وعاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ برأي الفتية والشباب ، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهود ولا حزب النفاق.

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى « مربع بن قيظي » وكان ضريرا ، فامتنع من ذلك ، واساء بالقول الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصر »(١) .

جنديان فدائيان :

استعرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيشه في منطقة تدعى بالشيخين(٢) ، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف ، وتعكس إصرارا كبيرا على قتال الكفار ، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل احد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتا كبيرا.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

ولقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٥ ، المغازي : ج ٢ ص ٢١٨.

(٢) ولقد كان من عادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام ، وعدّهم ، وتسريح بعض العناصر الضعيفة احيانا.

١٤٦

ما كان ليتوفر إلاّ في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس ، ليس إلاّ.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن ، وشاب لم يمض من عرسه إلاّ ليلة واحدة!!

١ ـ كان « عمرو بن الجموح » رجلا شيخا أعرج شديد العرج وقد اصيب في رجله في حادثة. وكان له بنون أربعة مثل الاسود ، يشهدون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشاهد ، فلما كان يوم « احد » أراد ان يخرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة ، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول الله في تلك المعركة ، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسه وقالوا له : إنّ الله عزّ وجل قد عذرك ، ولم يقتنع بمقالتهم ، وأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فو الله إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له :

« أمّا أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك »(١) .

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبنيه وقومه :

« لا عليكم أن لا تمنعوه ، لعلّ الله يرزقه الشهادة ».

فخلّوا عنه ، وخرج وهو يقول : اللهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني الى أهلي.

وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة « احد » العظيمة ، ومن قصصها الرائعة ، فقد كان يحمل ـ وهو على ما هو عليه من العرج ـ على الاعداء ويقول : « أنا والله مشتاق إلى الجنّة » وابنه يعدو في أثره حتّى قتلا جميعا(٢) .

__________________

(١) لقول الله تعالى : «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ » ( الفتح : ١٧ ).

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٠ و ٩١ ، المغازي : ج ١ ص ٢٦٥.

١٤٧

(١) ٢ ـ « حنظلة » وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك. وهو ابن « أبي عامر » عدوّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي كان مصداقا لقول الله تعالى «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ».

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة « احد » إلى جانب قريش ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ممن يكيدون للاسلام وممن حرّض قريشا ضدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل.

وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد « ضرار » التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة والبنوة وما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه ، ما دام أبوه على باطل وهو ( أي حنظلة ) على الحق فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى « احد » لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته ، فقد تزوج بابنة « عبد الله بن ابيّ بن سلول » وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة التي خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى « احد » في صبيحتها المنصرمة.

ولكنه عند ما سمع مؤذن الجهاد ، ودوّى نداؤه في اذنه بحيّر في ما يجب أن يفعله ، فلم يجد مناصا من أن يستأذن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن ـ على رواية العلاّمة المجلسي ـ قوله تعالى :

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ »(١) .

__________________

(١) النور : ٦٢.

١٤٨

فأذن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها ، ولما اصبح خرج من فوره وتوجه إلى « احد » وهو جنب.

ولكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار ، واشهدت عليه أنه قد واقعها.

فقيل لها : لم فعلت ذلك؟

قالت : رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا اشهد عليه.

ولما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر ، فحمل عليه ، فضرب عرقوب فرسه ، فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض ، وصاح : يا معشر قريش أنا أبو سفيان ، وهذا حنظلة يريد قتلي ، وعدا أبو سفيان ، وجرى حنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله ، وسقط حنظلة الى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن حزام وجماعة من الأنصار ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بين السماء والارض بماء المزن في صحائف من ذهب »(٢) .

فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول : « ومنا حنظلة غسيل الملائكة ».

وكان أبو سفيان يقول : حنظلة بحنظلة ويقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٥٧.

(٢) و (٣) اسد الغابة : ج ٢ ص ٥٩ و ٦٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٥٧ وغيرهما.

١٤٩

إنه حقا عجيب أمر هذين العروسين ( الزوجين ) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما ، من اعداء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصومه الالداء.

فعبد الله بن أبيّ بن سلول ( والد العروس ) كان رأس المنافقين في المدينة ، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معاديا أشد العداء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد التحق بالمشركين في مكة ، كما حرّض « هرقل » لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة ، ثم اشترك في معركة احد ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقاتل المسلمين قتالا شديدا(١) .

العسكران يصطفّان :

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية ، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى احد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل احد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف ، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا عمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة ، وأمّر عليهم « عبد الله بن جبير » وقال :

انضح الخيل عنّا بالنبل ، واحموا لنا ظهورنا ، لا يأتونا من خلفنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ، إن كانت لنا أو علينا ، فلا تفارقوا مكانكم ».

ولقد أثبتت حوادث « احد » التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكريا ، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ واخلاء ذلك الموقع الإستراتيجي ، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة ، ويحمل عليهم ، ويوجه عليهم ضربة قوية!!

__________________

(١) أسد الغابة : ج ٢ ص ٥٩ و ٦٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٥٧ وغيرهما.

١٥٠

إنّ أمر النبيّ المؤكد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب ، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية ، وعدم التقيد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية التي قام بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد ، وتعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال : « وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم »(١) .

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم :

لم يكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود ، وما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية ، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضا لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح ، خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين ، وذلك بعد ان نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب « الواقدي » المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي :

جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرماة خمسين رجلا على « عينين » عليهم « عبد الله بن جبير » ، وجعل « احدا » خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، ثم جعلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمشى على رجليه يسوّي تلك الصفوف ، ويبوّئ أصحابه

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٩٥ ، الكشاف : ج ١ ، ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

١٥١

للقتال يقول تقدّم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره ، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

ثم قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخطب الناس فقال :

« يا أيّها الناس ، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته ، والتناهي عن محارمه ، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر. لمن ذكر الذي عليه ، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجدّ والنشاط فانّ جهاد العدوّ شديد ، شديد كريه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم الله رشده ، فان الله مع من أطاعه ، وإنّ الشيطان مع من عصاه ، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذي أمركم به ، فانّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف ممّا لا يحبّ الله ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر.

وإنّه قد نفث في روعي الروح الأمين إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها ، ولا ينقص منه شيء وأن ابطأ عنها المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم »(١) .

العدوّ ينظّم صفوفه :

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام : الرماة ، وجعلهم في الوسط ، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد ، والميسرة ، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعا من بني عبد الدار : إنا إنما اتينا يوم بدر من اللواء ، وإنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم ، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه ، أو خلوا بيننا وبينه فانا قوم مستميتون موتورون ، نطلب ثارا حديث العهد.

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣.

١٥٢

فشقّ هذا الكلام على « طلحة بن أبي طلحة » وكان شجاعا ، وهو أوّل من حمل راية لقريش ، فاندفع من فوره الى ساحة القتال ، وطلب المبارزة ، متحديا بذلك أبا سفيان.

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس :

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيفا بيده وقال : ـ وهو يثير بذلك همم جنوده ـ.

« من يأخذ هذا السيف بحقّه »؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري ، فقال : وما حقّه يا رسول الله؟

قال : « أن تشرب به العدوّ حتى ينحني ».

قال : أنا آخذه يا رسول الله بحقّه.

فأعطاه إياه ، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا ، يختال عند الحرب اذا كانت ، وكان اذا أعلم ، أعلم بعصابة له حمراء ، فاعتصب بها علم أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه ، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموطن »(١) .

حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية ، وهذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعا عن الحق والقيم ، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة ، وحب الكمال.

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده ، بل كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهدف بذلك إثارة الآخرين ، وإفهامهم بأن عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة ، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول « الزبير بن العوّام » وهو كذلك رجل شجاع : وجدت في نفسي حين

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٦ و ٦٧.

١٥٣

سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة وقلت : أنا ابن صفيّة عمته ، ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه ، فاعطاه إياه وتركني! والله لانظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء ، فعصّب بها رأسه ، فقالت الانصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، وهكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها.

فخرج وهو يقول :

أنا الّذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النخيل

ألاّ أقوم الدهر في الكيّول(١)

أضرب بسيف الله والرّسول

فجعل لا يلقى أحدا إلاّ قتله ، وكان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلاّ ذفّف عليه ، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة ، فاتقاه بدرقته ، فعضت بسيفه ، وضربه أبو دجانة ، فقتله ، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق « هند بنت عتبه » ثم عدل السيف عنها ، فقلت : الله ورسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال : رأيت انسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أضرب به امرأة(٢) .

القتال يبدأ :

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعدا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أسلفنا ، وكان من الأوس ، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلا من الأوس بسبب معارضته للاسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم احد تركوا نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر.

__________________

(١) الكيّول : آخر الصفوف في الحرب.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٨ و ٦٩.

١٥٤

قالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فلما سمع ردّ الأوس تركهم ، واعتزل الحرب بعد قليل(١) .

ثم إن هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة احد معروفة بين المؤرخين ، أبرزها ، وأجدرها بالاجلال تضحيات عليعليه‌السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد : تلت بدرا غزاة احد وكانت راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد أمير المؤمنينعليه‌السلام فيها ومما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال : حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي ، قال : كانت راية قريش ولواؤها جميعا بيد قصى ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصارت راية قريش وغيرها الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام في غزاة ودان وهي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى في يوم احد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدفعه إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء(٢) .

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال : لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره ( هو ) أول عربي وعجمي صلّى مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الذي كان لواؤه معه في كل زخف(٣) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٧.

(٢) الارشاد : ص ٤٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٨٠.

(٣) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج ١ ص ١٤٢.

١٥٥

كما عن قتادة : ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول الله يوم بدر وفي كل مشهد(١) .

ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري ( وكان يدعى كبش الكتيبة ) فبرز ونادى : يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار ، ونجهزكم بأسيافنا الى الجنّة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه عليعليه‌السلام وهو يقول :

يا طلح إن كنتم كما تقول

لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر ايّنا المقتول

وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد المسئول

بصارم ليس به الفلول

ينصره القاهر والرسول

ثم تصاولا بعض الوقت قتل بعده طلحة بضربة عليعليه‌السلام القاضية.

فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال عليعليه‌السلام على التناوب فقتلا جميعا على يديهعليه‌السلام .

هذا ويستفاد من كلام لعليعليه‌السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

فقد قال الامامعليه‌السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة :

« نشدتكم بالله هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلّهم يأخذ اللواء ، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلاّ محمدا ، قد ازبد شدقاه ، واحمرّت عيناه ، فاتّقيتموه ، وحدتم عنه ، وخرجت إليه ، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين ، فقطعته بنصفين وبقيت عجزه وفخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه ».

قالوا : اللهم لا(٢) .

__________________

(١) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج ٩ ص ١٤٢.

(٢) الخصال : ص ٥٦٠.

١٥٦

أجل ان قريشا كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار وقد قتلوا جميعا على يد الامام عليعليه‌السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضا(١) .

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات التي كانت تتغنّى بها « هند بنت عتبة » زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثهم على القتال واراقة الدماء والمقاومة ، ويضربن معها الدفوف والطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية ، والخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

ولا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات ، ويكون دافعها الى الحرب والقتال هو الجنس واللذة ، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف اختلافا بيّنا وكبيرا عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية ، ورفع مستوى الفكر ، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للاوثان.

ولا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلاّ ووضعت قريش أسلحتها على الارض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اصيبت باصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و مخلّفة وراءها غنائم

__________________

(١) وقد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار : ج ٢٠ ص ٨١ ـ ٨٢.

١٥٧

وأموالا كثيرة ، وأحرز المسلمون بذلك انتصارا عظيما على عدوهم القوي في تجهيزاته ، الكثير في افراده(١) .

الهزيمة بعد الانتصار :

قد يتساءل سائل : لما ذا انتصر المسلمون اولا؟

لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون ، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار إلاّ الرغبة في مرضاة الله ، ونشر عقيدة التوحيد ، وإزالة الموانع عن طريقها ، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

وقد يتساءل : ولما ذا انهزموا أخيرا؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار ، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركها قريش في أرض المعركة ، وفروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين ، ونسوا على أثره أوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعاليمه ، فغفلوا عن ظروف الحرب.

وإليك فيما يأتي تفصيل الحادث :

لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة احد أنه كان في « جبل احد » شعب ( ثغرة ) وقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسين رجلا من الرماة بمراقبة ذلك الشعب ، وحماية ظهر الجيش الاسلامي ، وأمّر عليهم « عبد الله بن جبير » ، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا ، غلبوا أو غلبوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين ، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّى هاربة ، حتى إذا ظفر النبيّ وأصحابه ، وانكشف المشركون منهزمين ، لا يلوون على شيء ، وقد تركوا على أرض المعركة

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٨ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ١٩٤.

١٥٨

غنائم وأموالا كثيرة ، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بذل النفس في سبيل الله ومضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد اغمدوا السيوف ، ونزلوا عن الخيول ظنا بأن الأمر قد انتهى.

فلما رأى الرماة المسئولون عن مراقبة الشعب ذلك قالوا لأنفسهم : ولم نقيم هنا من غير شيء وقد هزم الله العدوّ فلنذهب ونغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم ( عبد الله بن جبير ) : ألم تعلموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لكم : احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟

ولكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا : لم يرد رسول الله هذا ، وقد أذلّ الله المشركين وهزمهم.

ولهذا نزل أربعون رجلا من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال وقد تركوا موضعهم الإستراتيجي في الجبل ، ولم يبق مع عبد الله بن جبير إلاّ عشرة رجال!!

وهنا استغل « خالد بن الوليد » الذي كان مقاتلا شجاعا ، قلّة الرماة في ثغرة الجبل ، وكان قد حاول مرارا أن يتسلل منها ولكنه كان يقابل في كل مرة نبال الرماة ، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم ، وغافلين عما جرى فوق الجبل ، ووقعوا في المسلمين ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ، ورميا بالنبال ، ورضخا بالحجارة ، وهم يصيحون تقوية لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين ، وعادت فلول قريش تساعد خالدا وجماعته ، وأحاطوا جميعا بالمسلمين من الأمام والخلف ، وجعل المسلمون يقاتلون حتى قتل منهم سبعون رجلا.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الإستراتيجي عسكريا والذي اهتم به القائد الاعلىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكد بشدة على المحافظة عليه ، ودفع أيّ

١٥٩

هجوم من قبل العدوّ عليه. وبذلك فتحوا الطريق ـ من حيث لا يشعرون ـ للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد ، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي ، ووجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

ولقد ساعد خالدا في هذا « عكرمة بن أبي جهل » الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين ، وساد على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج والمرج ، وعمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة ، ولم ير المسلمون مناصا من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين ، ولكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع ، بل تحمّلوا ـ كما أسلفنا ـ خسائر كبرى في الأرواح ، وقتل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين ، ونفخت فيهم روحا جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل ، ودخلت ساحة المعركة ثانية ، وساعدت جماعة منهم خالدا وعكرمة وحاصروا المسلمين من كل ناحية وقتل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!

شائعة مقتل النبيّ :

وفي هذا الأثناء حمل « الليثي »(١) وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة وهو يظن أنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتى قتل « مصعب » بضربه قاضية من الليثي ، وكان المسلمون يومئذ ملثّمون ، ثم صاح : قتلت محمّدا ، أو قال ألا قد قتل محمد ، ألا قد قتل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسروا بذلك سرورا عظيما ، وارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي : ألا قد

__________________

(١) هو عبد الله بن قمئة الليثي.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.

غير أنّ التدبر في هذه الآية والآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي: أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.

وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.

وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلّا احتراماً، وتكريماً وليس عبادة.

وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء الله.

وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو ـ في الحقيقة ـ الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق، وهو قوله سبحانه :

( يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَىٰ اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) (١) .

فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي ( ملك الحبشة ) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.

__________________

(١) النساء: ١٧١.

٣٠١

أقول: جعل النجاشي يعمد ـ بعد سماعه الآية ـ إلى عود من الأرض، ويقول :

« ما عدا [ أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود »(١) .

إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :

١.( إِنَّما المَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح: المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو :

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ ) (٢) .

٢.( عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً، أو ابناً لله ؟

٣.( رَسُولُ اللهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.

٤.( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول: إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة لله وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة ( أعني: المسيح ) خلق دون توسط أسباب وعلل، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات الله الأُخرى.

٥.( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب الله.

__________________

(١) الكامل لابن الأثير: ٢ / ٥٥.

(٢) آل عمران: ٤٥.

٣٠٢

التثليث في نظر العقل

بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.

تحكي كلمات المسيحيين ـ في كتبهم الكلامية ـ عن أنّ الاعتقاد بالتثليث ـ عندهم ـ من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقته ـ حسب زعمهم ـ فوق القياسات المادية.

ثمّ يقولون: حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود، فإذا قال الله بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » !! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية !!!(١) .

فالأب مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.

والابن كذلك مالك ـ بانفراده ـ لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.

__________________

(١) انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

٣٠٣

وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده ـ لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.

ولهذا ينبغي ـ قبل أي شيء ـ أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.

وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.

ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير، بل لكل مقياسه الخاص، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة ( امتناع اجتماع النقيضين ).

إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.

وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه، ونذعن بأنّها ليست من كلام الله ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.

إذا عرفت هذا، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.

٣٠٤

هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد ؟

يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب‍ « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :

إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.

والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، والابن هو الفادي، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة، وعمل واحد(١) .

والأقنوم ـ لغة ـ يعني: الأصل، والشخص، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة، وعمل واحد وإرادة واحدة، بموجب هذا النقل.

ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة ؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :

١. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم، أصل مستقل، وشخصية خاصة، متميزة عما سواها.

غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس.

٣٠٥

صورة تعدد الآلهة، وقد تجلّى في النصرانية في صورة التثليث !

ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.

وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن، والعجيب ـ حقاً ـ أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون ـ بشدة ـ على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة، واحد، وفي كونه واحداً ثلاثة، وهل هذا إلّا تناقض فاضح ؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ ـ هم لما واجهوا ـ من جانب ـ أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية الله تعالى.

ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة ( أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها، والتملص من حبائلها، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد وألتثليث وقالوا: إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد !!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة ؟!

هناك تفسير آخر للتثليث وهو: أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.

٣٠٦

ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون الله « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته ( أي هذه الأقانيم الثلاثة ) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود الله.

وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :

ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير ( وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل ) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.

بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة لله سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.

ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب ( أعني: الكل ) إلى الأجزاء الممكنة، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود، وهو محض الشرك، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.

ج. انّ القول: بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون: إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.

وبتعبير آخر، إنّ بين هذين الكلامين، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة، تناقضاً صريحاً.

٣٠٧

د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً ( أي أحد الآلهة ) فلماذا كان يعبد الابن أباه ؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له، وأن يمد إليه يد الحاجة، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية ؟!

هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال: أؤمن بالتثليث لأنّه محال(١) .

__________________

(١) راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

٣٠٨

الفصل السادس

الله وبساطة ذاته تعالى

« وعينية صفاته لذاته »

٣٠٩

بساطة ذاته تعالى

١. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.

٢. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي.

٣. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.

٤. صفات الله عين ذاته.

٥. الدليل على وحدة الصفات والذات.

٦. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف ؟

٣١٠

بساطة ذاته تعالى

ويقع البحث في هذا الفصل في مقامين :

١. ذات الله منزّهة عن التركيب.

٢. صفات الله عين ذاته.

بعد ما عرفنا « التوحيد الذاتي » بمعنى نفي الشبيه والنظير والمثيل لله سبحانه ببراهينه، يتعين علينا الآن أن نستعرض « التوحيد الذاتي » من زاوية أُخرى، وهي بساطة الذات الإلهية، ونفي أي نوع من أنواع التركيب الخارجي والعقلي فيها.

ولما كانت لمسألة بساطة الذات عن التركيب الخارجي والعقلي، ومسألة التوحيد في الصفات ( بمعنى اتحاد الذات مع صفاتها وجوداً وخارجاً ) دلائل مشتركة جعلناهما في فصل واحد وهو الفصل الحاضر، مع الاعتراف بأنّ المسألتين من بابين مختلفين، فمسألة « بساطة الذات » من فروع التوحيد الذاتي، ومسألة اتحاد الذات والصفات من شعب التوحيد في الصفات، ونركز بحثنا أوّلاً على بساطة الذات.

التوحيد الذاتي وبساطة الذات

للتوحيد الذاتي معنيان :

٣١١

١. أنّ الله واحد لا يتصور له نظير ولا مثيل.

٢. أنّ ذاته تعالى بسيطة ومنزهة عن أي نوع من أنواع التركيب، والكثرة العقلية، والخارجية.

وقد اصطلح بعض العلماء على التوحيد الذاتي بالمعنى الأوّل بالواحدية، وبالمعنى الثاني بالأحدية، ولعل هذين الاصطلاحين مبتنيان على أنّ لفظة « واحد » تعني في لغة العرب ما يقابل الاثنين فإذا قلنا: « الله واحد »، يعني: لا ثاني له ولا نظير ولا مثيل ولا عديل، ولكن لفظة « أحد »، تعني الوحدة في مقابل التركيب، وإذا وجدنا القرآن يصف الله بلفظة الأحد ويقول:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فهو يقصد مقابلة « التثليث التركيبي » الذي كانت النصارى تدعيه فتزعم بأنّ المقام الالوهي « مركب » من ثلاثة أقانيم.

ويدل على ذلك أنّه لو كان المقصود من « أحد » في هذه الآية هو أنّ الله واحد، ولا نظير له لما كان ثمة داع لتكرار هذا المضمون في ذيل السورة إذ يقول:( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، ويتضح ما قلناه إذا وقفنا على أنّ هذه السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وعلى كل حال سواء أطابق هذا الاصطلاح المعنى اللغوي ل‍: « الواحد » أو « الأحد » أم لا(١) ، فإنّ مثل هذا الاصطلاح سبب للتفكيك بين نوعين من « التوحيد الذاتي ».

* * *

__________________

(١) سنثبت في البحث القرآني لهذا الفصل أنّ المعنى اللغوي للواحد والأحد هو الذي جاء في هذا الاصطلاح.

٣١٢

قد يتصور الإنسان ـ في النظرة البدائية ـ أنّه لا توجد في القرآن أية آية أو آيات ناظرة إلى هذا القسم من التوحيد ( أي بساطة الذات )، وكأنّ القرآن أو كل أمثال هذه البحوث إلى عقل البشر، ولكننا عندما نعيد النظر في القرآن بعد الاطلاع على التحقيقات الفلسفية التي من شأنها إعطاء الإنسان نظرة أعمق وأوسع نجد أنّ القرآن يصف الله سبحانه بطائفة من الصفات التي لا تنسجم مع أي نوع من أنواع التركيب في الذات أبداً، وهو يدل ضمنياً على نفي التركيب وإثبات البساطة لذاته تعالى، وقد ذكرنا في السابق أنّ القرآن ذو أبعاد متعددة من حيث الأهداف والمعاني وإنّه يمكن أن يدرك بعد من أبعاد الآية في النظرة الأُولى بينما ينكشف بعد آخر لنفس الآية في النظرة الثانية في حين يكون اكتشاف بعد ثالث ورابع لنفس الآية محتاجاً إلى مزيد تعمّق وإمعان.

ويؤيد هذا الأمر ما قاله الإمام السجاد حول آيات من سورة الحديد :

« إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله عز وجل( قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ما هنالك هلك(١) .

لهذا يجب أن لا نكتفي ـ في استخراج المعارف المتعلّقة بالمبدأ أو المعاد من الآيات القرآنية ـ بالنظرة الأُولى بل لابد من الغوص في بحار القرآن، معتمدين على النظر الأعمق، والجهد الفكري الأكثر، فحينئذ سنرى أيّة جواهر ثمينة سنصيب في هذا الغوص المبارك.

لهذا السبب ولكي نقوي من نظرتنا فإنّنا سنعالج مسألة « بساطة أو تركيب

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٨٣ ـ ٢٨٤ طبع الغفاري.

٣١٣

الذات » وكذا التوحيد في الصفات من نظر العقل أوّلاً، ثم نطرح بعد ذلك هذه المسألة على القرآن وصحاح الأحاديث.

١. ذات الله منزّهة عن التركيب الخارجي

والمراد من « التركيب الخارجي » هو أن يكون الشيء ذا أجزاء خارجية، كالمعادن والمحاليل الكيمياوية، التي تتألف من الأجزاء المختلفة.

ولكن مثل هذا « التركيب » يستحيل في شأن الله سبحانه، لأنّ الشيء المركب من مجموعة الأجزاء سيكون « محتاجاً » في وجوده إلى تلك الأجزاء لا محالة، والمحتاج إلى غيره معلول لذلك الغير ولا يصلح للإلوهية حينئذ.

هذا مضافاً إلى أنّ الأجزاء المؤلفة للذات الإلهية إمّا أن تكون « واجبة الوجود » فحينئذ سنقع في مشكلة « تعدد الآلهة » التي يعبر عنها في علم الكلام بتعدد القدماء.

وإمّا أن تكون « ممكنة الوجود » وفي هذه الصورة ستحتاج هذه الأجزاء إلى الغير ليوجدها، فيكون معنى هذا أنّ ما فرضناه « إلهاً » يكون معلولاً لأجزاء ذاته التي هي معلولة لموجود أعلى وبالتالي لا يكون إلهاً.

٢. ذاته منزّهة عن الأجزاء العقلية

ولتوضيح هذا النوع من البساطة نذكر الأُمور التالية :

أ. انّ الشيء، يعرف بجنسه وفصله أو ما يقوم مقامهما التي تسمّى بالماهية وليس للماهية أي دور، إلّا تحديد وجود الأشياء وبيان موقعها في عالم الوجود.

٣١٤

ب. انّ كل موجود ممكن مركب من شيئين: ماهية ووجود وليس المقصود تركبه من الجزءين الخارجيين كالعناصر المتركبة، بل المراد هو أنّ الذهن النقاد يرى الشيء الخارجي الواحد ـ في مختبر العقل ـ مكوناً من جزءين :

أحدهما يحكي عن مرتبته الوجودية وانّه يقع في أي مرتبة من مراتب الوجود، من الجماد والنبات والحيوان، وغيرها، والثاني يحكي عن عينيته الخارجية التي طرد بها العدم عن ساحة الماهية.

ولكن هذا النوع من التركيب يستحيل في شأن الذات الإلهية، لأنّها إذا كانت مؤلفة من وجود وماهية، انطرح هذا السؤال :

إنّ الماهية كانت في حد ذاتها فاقدة للوجود والعينية، فبماذا طرد هذا العدم وأُقيم محله الوجود فإنّ هذا الطرد يحتاج ـ تبعاً لقانون العلية العام ـ إلى عامل خارجي عن ذات الشيء ؟ ومن المعلوم أنّ الشيء المحتاج إلى العلة الخارجة عن وجوده ممكن لا يستحق الالوهية ؟!

ولأجل هذا ذهب العلماء إلى بساطة ذاته وانّها منزّهة عن الماهية، وهو عين الوجود وصرفه.

٣. صفات الله عين ذاته

لا شك في أنّ لله سبحانه صفات، كالعلم والقدرة والحياة، غير أنّه يجب أن نقف على أنّها هل هي أزلية أم حادثة، وعلى الأوّل فهل هي « زائدة » على الذات، وبعبارة أُخرى هل الصفات « عين » الذات أو « غيرها » ؟

إنّ هناك فرقة واحدة أعني الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني ذهبت

٣١٥

إلى حدوث الصفات، وقالوا بخلو الذات الإلهية عنها ـ في البداية ـ ثم اتصفت بها فيما بعد(١) .

ولو تجاوزنا هذه الفرقة لوجدنا جميع الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين متفقين على « أزلية » هذه الصفات.

ومما لا يخفى أنّ الكرامية وغيرها مذاهب ابتدعتها السياسة العباسية آنذاك لإشغال المفكّرين الإسلاميين بالبحوث والمناقشات الجانبية، لكي تسهل لهم السيطرة على الأُمّة الإسلامية، ولأجل هذا لا نجد لهذه المذاهب المفتعلة بأيدي السياسات الزمنية المنحرفة أي أثر إلّا في طيات كتب الملل والنحل فقط.

ولو كانت « الذات الإلهية » فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك حتماً أن تكون الصفات « ممكنة » وحادثة، وحيث إنّ كل ممكن مرتبط بعلة، ومحتاج إلى محدث لزم أن نقف على محدثها.

فهل وجدت من قبل نفسها، أو من قبل الله سبحانه، أو من جانب علة أُخرى ؟ وكلّها باطلة.

أمّا الأوّل فلا يحتاج إلى مزيد بيان إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، وأمّا الثاني فكسابقه فإنّ فاقد الشيء لا يكون معطيه، إذ كيف يمكن أن يكون فاقد العلم معطياً له ؟ وأمّا الاحتمال الثالث فكسابقيه أيضاً، إذ ليس هناك عامل خارجي محدث أخذاً بحكم التوحيد في الذات، ولأجل ذلك اختار الجمهور من الإسلاميين، أزلية الصفات.

__________________

(١) الأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٦

فإذا ثبتت أزلية صفاته سبحانه كذاته يبقى بحث آخر وهو :

هل هذه الصفات القديمة الأزلية زائدة عليها لازمة لها، كما ذهب إلى ذلك فريق من المتكلمين الإسلاميين كالأشاعرة(١) ، أم هي « عين » الذات، وأنّه ليس للذات والصفات سوى مصداق واحد لا أكثر، وهنا يتعين علينا أن نتوقف قليلاً لنرى التفاوت بين القولين ثم بمعونة العقل نميز الصحيح عن غير الصحيح منها.

ولوضوح المطلب نقدم أُموراً لها صلة بالموضوع :

١. انّ قولنا: الله سبحانه عالم، مركب من كلمتين: الله وعالم، وكل واحدة تحكي عن أمر، فالمبتدأ يحكي عن الذات، والخبر يحكي عن صفته.

والقائل باتحاد صفاته مع ذاته لا يقول باتحاد مفاهيمها مع ذاته أي اتحاد مفهوم العالم وما وضع عليه ذلك اللفظ مع مفهوم لفظ الجلالة الذي وضع عليه ذلك اللفظ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته وانّ وجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج غير مصداق لفظ العالم.

ثم يبقى هنا سؤال وهو أنّ ذاك الاتحاد لا يختص بذاته سبحانه بل هو حال عامة الموجودات مع صفاتها، فلماذا اختص هذا البحث بالله سبحانه ؟ وهذا ما نرجع إليه في الكلام التالي.

٢. إذا قلنا أنّ زيداً عالم نرى أنّ علمه ليس بمنفصل عن ذاته ووجوده، بحيث لا يمكننا أن نشير إلى علمه على حدة وعلى ذاته إلى انفرادها، فنقول هذا

__________________

(١) كشف المراد: ١٨١، والأسفار الأربعة: ٦ / ١٢٣.

٣١٧

ذاته وهذا علمه، بل الذات والعلم متحدان على الصعيد الخارجي.

وعند ذلك يتوجه السؤال الآتي: ما هو مقصود القائلين باتحاد صفاته سبحانه مع ذاته ؟ فإنّ الاتحاد حسب ما أوضحناه ليس منحصراً به سبحانه بل جار في جميع الموجودات الممكنة، فإنّ كل موجود ممكن يختلف عن صفاته مفهوماً ويتحد معها خارجاً.

عندما نقول: الصدف أبيض، أو العسل حلو، فإنّ البياض متحد بالصدف، والحلاوة متحدة بالعسل بحيث لا يمكن الإشارة إلى الحلاوة بمعزل عن العسل، وهكذا بالنسبة إلى بياض الصدف، فما الفرق بين النوعين من الاتحاد ؟ ويجاب على ذلك، بأنّ المقصود من اتحاد الذات الإلهية مع صفاته تعالى ليس من قبيل اتحاد الصدف مع بياضه، وعلم زيد مع ذاته بل هو نوع خاص من الاتحاد والعينية لا يوجد في غير الله. وتوضيح ذلك هو ما تقرؤه في البيان التالي :

٣. انّ « الصفات والذات » في الممكنات وان كانت تتمتع بنوع من الاتحاد في كل الموارد ولكن كيفية الاتحاد في مورد « الصفات والذات الإلهية » تختلف عن الاتحاد في الممكنات.

فإنّ علم زيد وان كان متحداً مع ذاته بنوع من الاتحاد ولكن علمه لا يتحد مع ذاته في جميع مراحلها، بل يتحد معها في بعض مراحل الذات، بدليل أنّ زيداً كان في مجتمعه ـ ذات يوم ـ ولم يكن معه ذلك العلم ـ فكانت الذات متحققة ولم يكن العلم معها، وهذا يشعر بأنّ ذاته أي ما به يكون زيد، زيداً غير علمه، وهذا يشعر بأنّ ذاك الاتحاد ليس بمنزلة يجعل الصفات في مرتبة حقيقته وذاته.

وبعبارة أُخرى فإنّ ملاك إنسانية زيد والعناصر المكونة لذاته هي ما يوجد

٣١٨

في الآخرين سواء بسواء فإنّ ملاك الإنسانية، والعناصر المكونة لحقيقة الأفراد الآخرين هي « الحيوانية والناطقية » التي تتكون منهما ذات زيد، أما « علمه » فما هو إلّا « حلية » توجت إنسانيته، وزينتها، وفضلتها على الآخرين، ولتوضيح الحقيقة نفترض « بناء » قد تم وبقي طلاؤه الذي يطلى به ظواهر البناء وخارجه وأبوابه وجدرانه.

وفي هذه الصورة، فإنّ كل ما ينقش على جدران هذا البناء، يضيف إلى جمال البناء جمالاً إضافياً، لكن هذا الطلاء رغم أنّه ليس منفصلاً عن البناء وجدرانه وأبوابه، إلّا أنّه لا يشكل حقيقة البناء، لأنّ العناصر والمواد المنشئة لذلك البناء هي الحديد والاسمنت والجص والآجر، وليست الأصباغ والطلاء.

وعلى هذا فإنّ اتحاد الأبواب والجدران مع الطلاء ( عندما نقول الجدار أزرق ) لا يعني أنّ اللون جزء من واقعيته وذاته، بل غاية ما في الأمر أنّ الألوان قد اتحدت بظاهر الجدار لا أنّها اتحدت بذاته وحقيقته، وعلى هذا النمط يكون بياض الصدف وحمرة التفاح وصفرة الليمون، كما أنّ على غرار هذا يكون اتحاد علم زيد بذاته.

وخلاصة القول: إنّ الاتحاد في هذه الموارد ليس بمعنى أنّ « العارض » قد أصبح جزءاً من ذات « المعروض » بل اتحد مع بعض مراحله ومعنى هذا أنّ العارض والمعروض شيء واحد ولكن دون أن يكون العارض داخلاً في ذات المعروض وجزءاً من حقيقته، وعلى هذا فالمقصود من « وحدة صفات الله مع ذاته » ليس على هذا النمط من الاتحاد بل وحدة آكد وأشد بمعنى أنّ « صفات الله تؤلِّف ذاته » سبحانه فهي « عين » ذاته وليست عارضة عليها، وبالتالي ليس يعني، أنّ ذاته شيء وصفاته شيء آخر، بل صفاته هي ذاته وحقيقته، فعلم الإنسان بشيء

٣١٩

إنّما هو بعلم زائد على ذاته فهو بالعلم الزائد يطّلع على ما هو خارج عن ذاته فيدرك المرئيات والمسموعات عن طريق « الصور الذهنية » التي تدخل إلى الذهن بواسطة الحواس الخمس، وإذا أخذت منه هذه « الصور الذهنية » لم يعد قادراً على درك ما هو خارج عن ذاته ولكنه يحتفظ بذاته مع فقد علمه، وبما أنّ ذات الله عين علمه، وليس العلم بزائد على ذاته، فهو تعالى يدرك جميع المبصرات والمسموعات بنفس ذاته بحيث يكون فرض سلب العلم والقدرة عنه تعالى مساوياً لفرض نفي ذاته.

وعلى هذا فالمقصود من « اتحاد صفات الله مع ذاته » هو عينية الصفات للذات في عامة مراحلها، وكون العلم الإلهي عين الذات الإلهية، وكذا القدرة والحياة، وغيرها من صفات الذات فهي عين ذاته سبحانه، لا أنّ الذات شيء وحقيقة مستقلة، والصفات حقائق طارئة على الذات وعارضة لها.

نظرية الأشاعرة في الصفات

إنّ القول بزيادة الصفات على الذات لا يخلو من مفاسد عقلية أظهرها أنّه يستلزم وجود قدماء ثمانية حسب تعدد صفاته تعالى، وليس هذا إلّا الفرار من خرافة التثليث المسيحي، والوقوع في ورطة القول بالقدماء الثمانية بدل الثلاثة في حين أنّ براهين « التوحيد الذاتي » قاضية بانحصار القديم في الله سبحانه وعدم وجود « واجب آخر سواه ».

الدليل على وحدة الصفات والذات

١. انّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته وعينية أحدهما للآخر يوجب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778