سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459057 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

قال : لا والله ما أحبّ أنّي رجعت عن الاسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا.

فقالوا : أمّا واللات والعزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك!

فقال : إن قتلي في الله لقليل ، فلمّا أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء ( أي نحو المدينة ) ، قال : أما صرفكم وجهي عن القبلة ، فان الله يقول : «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ » ثم قال : اللهم إني لا أرى إلاّ وجه عدوّ ، اللهم أنه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السلام عنّي فبلّغه أنت عنّي السلام.

ثم دعا على القوم وقال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا.

ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما ، فأعطوا كل غلام رمحا ، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم ، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة فانقلب ، فصار وجهه الى الكعبة ، فقال : الحمد لله الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين!!

فأثارت روحانيته الكبرى ، وطمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين ، وهو « عقبه بن الحارث » وتملكه غضب شديد من إخلاصه للاسلام فأخذ حربته وطعن بها خبيبا طعنة قاضية ، قتلته ، وهو يوحّد الله ويشهد أن محمّدا رسول الله.

ويروي ابن هشام أن خبيبا أنشد قبل مقتله أبياتا عظيمة نذكر هنا بعضها :

إلى الله أشكو غربتي ثمّ كربتي

وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبّرني على ما يراد بي

فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وذلك في ذات الاله وأن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزّع

وقد خيّروني الكفر والموت دونه

وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت أني لميّت

ولكن حذاري جحم نار ملفّع

فو الله ما أرجو إذا متّ مسلما

على أي جنب كان في الله مصرعي

فلست بمبد للعدوّ تخشعا

ولا جزعا إنّي إلى الله مرجعي

٢٠١

وقد أحزنت هذه الحادثة الاليمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا جميع المسلمين.

وأنشد فيهم « حسان بن ثابت » أبياتا ذكرها ابن هشام في سيرته ، كما أنه هجا هذيلا في أبيات اخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء(١) .

ولقد خشي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تتكرر مثل هذه الجريمة النكراء ، وبذلك يواجه رجال التبليغ والدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم ، ويتعرضوا لخسائر لا تجبر ، وعمليات غدر واغتيال اخرى.

وقد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن ، يحرسه جماعة من المشركين حتى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بانزاله من فوق الصليب ليلا ، ومن ثم دفنه بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

جريمة بئر معونة :

وفي شهر صفر من السنة الرابعة وقبل أن يصل نبا مصرع الدعاة المذكورين واستشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قدم أبو براء العامري المدينة فدعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الاسلام فلم يسلم ولكنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا محمّد إني ارى أمرك حسنا ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل « نجد » فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فان هم اتبعوك فما أعز أمرك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي اخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء : لا تخف ، أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعو الناس الى أمرك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين رجلا من خيار المسلمين من أصحابه ممن حفظوا القرآن وعرفوا احكام الاسلام ، وأمّر عليهم « المنذر بن

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٥٤ ـ ٣٦٢ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٦٩.

(٢) سفينة البحار : ج ١ ص ٣٧٢.

٢٠٢

عمرو » ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم وهم يحملون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء « نجد » ، وكلّف أحد المسلمين بايصال ذلك الكتاب إلى عامر ، فلما أتاه الكتاب لم ينظر فيه حتى عدا على الرجل ( حامل الكتاب ) فقتله ، ثم استصرخ بني عامر على المبلّغين ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن ننقض عهد أبي براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى نزلوا حيث نزل جماعة الدعاة ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم بعد أن أبدوا مقاومة كبرى ، وبسالة عظيمة ، ولم يكن يتوقع منهم غير ذلك.

فانّ مبعوثي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكونوا مجرد رجال فكر وعلم فقط ، بل كانوا رجال حروب ، وأبطال معارك ، ولذا رفضوا الاستسلام للمعتدين ، واعتبروا ذلك عارا لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ ، فقاتلوهم حتى استشهدوا جميعا ، إلاّ كعب بن زيد ، فانه جرح فعاد بجراحه الى المدينة ، وأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما جرى لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغدرة.

فحزن رسول الله والمسلمون جميعا لهاتين الحادثتين ، المفجعتين اشد الحزن بل ولم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم ، وبقي رسول الله يذكر شهداء بئر معونة ردحا من الزمان(١)

هذا ولقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعا من نتائج النكسة التي أصابت المسلمين في « احد » والتي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين ودعاتهم غدرا ومكرا.

كيد المستشرقين وجفاؤهم :

إن المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرض له مشرك على أيدي

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٨٣ ـ ١٨٧ امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٧٠ ـ ١٧٣.

٢٠٣

المسلمين فينالون من الاسلام والمسلمين أشدّ نيل ، ويصرّون على أن يؤكّدوا على أن الاسلام لم ينتشر إلاّ بالسيف والقهر ، التزموا صمتا عجيبا تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين ، ولم ينبسوا في هذا المقام ببنت شفة أبدا ، وكأن شيئا من هذا لم يقع ، وكأن ما وقع لا يستأهل اهتماما وحديثا.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم والجديد يجيز أن يقتل الدعاة والمبشرون ورجال العلم والفكر ، والتعليم والتثقيف.

إذا كان الاسلام قد تقدّم بالسيف ـ كما يدّعي رجال الاستشراق ـ فلما ذا تخاطر جماعات التبليغ والدعوة هذه بأنفسها وتزهق أرواحها في سبيل نشر الاسلام ، والدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية ، وعبر مفيدة جدا ، فان قوة الايمان لدى تلك الجماعات ، وعمق تفانيها ، وتضحيتها ، وبسالتها تستحق إعجاب المسلمين ، واكبارهم. كما وتعتبر من أفضل الدروس وابلغها لهم.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين :

لقد أثارت حادثتا « الرجيع » و « بئر معونة » المفجعتان اللتان جرتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة والمبلّغين موجة من الحزن والأسى في المسلمين وتركت أثرا مؤلما في أوساطهم.

وهنا يتساءل القارئ : لما ذا أقدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين الى « نجد » مع أنه حصل على تجربة مرّة؟! ألم يقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين ».

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية لأن المجموعة الثانية قد بعثت في جوار من أبي براء ( عامر بن مالك بن جعفر ) والذي كان رئيسا لقبيلة بني عامر ، ولم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم ولم يشتركوا في تلك الجريمة وقد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيدا لجواره ، ريثما

٢٠٤

يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

لقد كانت خطة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطة مدروسة وصحيحة لأن جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء ، ومع أن ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء التي كانت قبيلته أيضا ، ضدّ جماعة المبلّغين إلاّ أن قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه ، ولم يستجب لندائه أحد منهم بل قالوا : لن يخفر جوار أبي براء. ولما أيس منهم استصرخ قبيلة اخرى لا تمتّ إلى قبيلة أبي براء بصلة ، فاقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين ومقاتلتهم.

ثم إن جماعة المبلّغين المذكورة كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة وتوجهها الى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما : عمرو بن أميّة و « حارث بن الصمة »(١) ليرعيا إبل الجماعة ويحافظا عليها ، وبينما كان الرجلان يقومان بواجبهما اذ أغار عليهما « عامر بن الطفيل ». فقتل حارث بن الصمة ، واطلق سراح عمرو بن اميّة.

فعاد عامر الى المدينة ، في اثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما وأمهلهما حتى اذا ناما وثب عليهما فقتلهما ، وهو يرى بأنه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر ، وقد أخطأ في تصوره هذا لأن بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء ولم تنقض أمانة كما أسلفنا ، ولم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلما قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره الخبر ، حزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك وقال لعمرو :

« بئس ما صنعت ، قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار ، لا دفعن ديتهما ».

ولكن الاجابة الاكثر وضوحا على هذا الاعتراض ( او السؤال ) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول : وجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر أهل بئر معونة ، وجاءه تلك الليلة أيضا مصاب خبيب بن عديّ ومرثد بن أبي مرثد(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٦٨ وصاحب السيرة يرى انه المنذر بن محمد.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٥٢ و ٥٣.

٢٠٥

٣٤

غزوة « بني النضير »

لقد فرح منافقو المدينة ويهودها بانتكاسة المسلمين في معركة « أحد » كما فرحوا أيضا بمصرع رجال التبليغ والدعوة ، فرحا بالغا وباتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل والفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنه لا توجد أية وحدة سياسيّة وانسجام اجتماعيّ في مركز الاسلام ، وعاصمة الحكومة الاسلامية ، وأن في مقدور الأعداء الخارجيين أن يجهزوا على حكومة الاسلام الفتية ، ويقضوا عليها بسهولة!!

ولكي يقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نوايا ودخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أن الهدف الظاهري المعلن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد « عمرو بن أميّة » كما أسلفنا ، وذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين اليهود وكذا بني عامر وغيرهم والقاضية بالتعاون معا في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

فلما وصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى حيث يسكن بنو النضير ، وكلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية ، رحبوا به ظاهرا ، ووعدوا بأن يلبّوا مطلبه ، ثم إنهم خاطبوه قائلين : يا أبا القاسم نعينك على ما احببت. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم ، ويقضي يومه فيها ، قائلين : قد آن لك أن تزورنا ، وأن تأتينا ، اجلس حتى نطعمك ، فلم يقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلبية مطلبهم ، بل

٢٠٦

جلس مستندا الى جدار بيت من بيوتهم واخذ يكلمهم(١) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احسّ بشرّ من ذلك الترحيب الحارّ الذي قابلته به رجال بني النضير ، والذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافا إلى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدهم وقد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون ويتهامسون الأمر الذي يدعو الى الشك ، ويورث سوء الظن!!

وقد كان سوء الظن هذا في محله ، فقد قرر سادة يهود ـ لمّا أتاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رهط قليل من أصحابه ـ أن يتخلصوا منه باغتياله والغدر به على حين غفلة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانتدبوا أحدهم وهو « عمرو بن جحاش » لتنفيذ هذه الجريمة ، وذلك بأن يعلو على البيت الذي استند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جداره فيلقى عليه صخرة تقتله.

إلاّ أنّ هذه المؤامرة انكشفت ـ ولحسن الحظ ـ قبل تنفيذها ، إما من خلال حركات اولئك اليهود الخبثاء ، المشبوهة ، أو بخبر أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السماء ، كما يروي ابن هشام والواقدي في مؤلفيهما.

فنهض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريعا ، كأنه يريد حاجة ، وتوجه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه ، بقصده.

وبقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

وندمت يهود على ما صنعت ، واضطربت لذلك اضطرابا شديدا ، واصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علم بمؤامرتهم وتواطئهم ، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ ، ولتواطئهم القبيح ، ومكرهم السيئ.

ومن ناحية اخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم ، ولكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف ، وان ينتقم

__________________

(١) يقول صاحب المغازي : إن النبيّ جاء بني النضير في ناديهم ج ١ ص ٣٦٤.

٢٠٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ منهم قطعا ويقينا.

وفيما هم في هذه الحالة من الاضطراب والتحيّر قرر أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : رأيته داخلا المدينة ، فأقبلوا حتى انتهوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرفوا بمؤامرة اليهود إذ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم لما قالوا : يا رسول الله قمت ولم نشعر :

« همّت اليهود بالغدر بي ، فأخبرني الله بذلك فقمت »(١) .

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

والآن ما ذا يجب أن يقوم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة التي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الاسلامية من أمن وحرية ، ويحافظ جنود الاسلام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة التي كانت ترى كل آثار النبوة ودلائلها في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعماله ، وأقواله تماما على نحو ما قرأت عنه في كتبها وأسفارها ، ولكنها بدل أن تردّ الجميل بالجميل وتقابل الاحسان بالاحسان ، وبدل أن تحسن ضيافته وقد نزل عليهم ضيقا تتآمر لقتله غيلة وغدرا دون ما خجل ولا حياء!!

ما هو ترى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد وفي هذه الحال؟

وما ذا يجب أن يفعل المرء حتى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث ، ويستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

إن الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله.

فقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٥٧ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٧٨.

٢٠٨

ثم دعا محمد بن مسلمة وأمره بأن يذهب إلى بني النضير ، ويبلغ سادتهم ، من قبله رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي(١) الى بني النضير وقال لسادتهم : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلني إليكم يقول :

« قد نقضتم العهد الّذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي.

اخرجوا من بلادي فقد أجّلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه ».

فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللهجة والساخنة المضمون انكسارا عجيبا في يهود بني النضير ، وأخذوا يتلاومون ، وأخذ يحمّل كل واحد منهم الآخر مسئولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الاسلام ، ويؤمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. وعمتهم حالة يرثى لها من الحيرة ، والانقطاع ، فقالوا لمبعوث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجل من الاوس.

ويقصدون أنه كان بيننا وبين الأوس حلف فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة : تغيّرت القلوب.

وقد كان هذا الاجراء متطابقا مع ما جاء في ميثاق التعايش الذي عقده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع يهود يثرب ابان دخوله المدينة ، وقد وقع عليه عن اليهود بني النضير حيي بن أخطب ، وقد نقلنا في ما سبق النصّ الكامل لهذا الميثاق وها نحن ندرج هنا قسما منه ليتضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق ( العهد ) :

« ألاّ يعينوا ( أي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار والله بذلك عليهم شهيد ، فان فعلوا فرسول الله في حل

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٦٦.

٢٠٩

من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم »(١) .

المستشرقون ودموع التماسيح :

لقد أبدى المستشرقون حزنهم وأسفهم لما جرى في هذه القضية ، وذرفوا دموع تماسيح ، وأبدوا دقّة وشفقة أكثر مما تبديه والدة تجاه وليدها ، على اليهود الخونة الناقضين العهد ، الناكثين للايمان ، واعتبروا الإجراء الذي اتخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقهم بعيدا عن روح الانصاف وسنن العدل!!

والحق أن هذه الاعتراضات والانتقادات لا تنبع من منطلق السعي لمعرفة الحقيقة ، لأننا عند مراجعتنا لنص الميثاق الذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصورون ويصورون فاننا نعرف أن الجزاء الذي جازى به رسول الله يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إن هناك اليوم مئات الجرائم والمظالم التي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق والغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين الرحماء ، أدعياء الدفاع عن حقوق الانسان!!!

أما عند ما يقوم رسول الاسلام بتنفيذ عقوبة ـ هي في الحقيقة ـ اقل بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحق زمرة خائنة متآمرة ناقضة للعهد تتعالى أصوات حفنة من الكتاب المدفوعين بأغراض معينة ودوافع خاصة بالاعتراض ، والانتقاد.

دور حزب النفاق أيضا :

كان خطر المنافقين ـ وكما أسلفنا ـ أكبر من خطر اليهود لأن المنافق يطعن من الخلف وتحت غطاء من الصداقة ، ويتستر وراء قناع الصحبة والزمالة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١١.

٢١٠

وقد كان رأس هذا الحزب هو « عبد الله بن أبي » و « مالك بن أبي » و و ..

ولمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلوا إليهم من يقول لهم : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فان معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب ، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة فانه لن يخذلونكم ، ويمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!

ولقد جرّات هذه الوعود بني النضير ، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأغلقوا أبواب حصونهم ، وأعدّوا عدة الحرب ، وعزموا على أن يقاوموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهما كلّف الثمن ، ولا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم وممتلكاتهم دون عوض.

فنصحهم أحد كبرائهم وهو « سلام بن مشكم » وشكك في وعود عبد الله بن أبي ، واعتبرها وعودا جوفاء ، وقال : ليس رأي ابن أبيّ بشيء ، فهو والله جلاؤنا من أرضنا ، وذهاب أموالنا ، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

إلاّ أن « حيي بن أخطب » أبي إلاّ محاربة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحث الناس على المقاومة والصمود ، وأرسل الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع!!

فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالة « عبد الله بن ابي » إلى بني النضير ، وو عوده لهم ، فاستخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة ، وسارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أصحابه مكبّرا لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم واستقر في الطريق بين « بني النضير » وبين « بني قريظة » ليقطع بذلك سبيل الاتصال بين هذين الفريقين ، وحاصر بني النضير ست ليال ـ حسب رواية ابن هشام ـ(١) أو خمسة عشر يوما حسب روايات آخرين ، ولكن اليهود تحصنوا منه في الحصون ، وأظهروا المقاومة ، والإصرار على الامتناع ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٩١ ، وهذا من التكتيكات العسكرية التي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.

٢١١

بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون ، وإلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة ما دامت بساتينهم أعدمت ، وافنيت.

فتعالت نداءات اليهود تقول : يا محمّد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟!

فردّ الله تعالى عليهم بقوله :

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ »(١) .

هذا من جهة ومن جهة اخرى خذلهم عبد الله بن أبيّ ، فلم يأتوهم ، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى :

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ »(٢) .

وقد كشفت الآيات الحاضرة ـ إلى جانب ما ذكر ـ عن نفسية اليهود الجبانة ، والتي انهارت أيضا بسبب معنويات المسلمين القوية حتى أنهم رغم اجتماعهم وعددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلاّ من وراء أسوار الحصون ، وجدران القلاع القوية خائفين مذعورين ، ومرعوبين ، وهم الى جانب كل ذلك يعانون من اضطراب وقلق وتفرق كلمة في الواقع.

وأخيرا رضخ اليهود لمطلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألوه أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الابل من أموالهم إلاّ السلاح

__________________

(١) الحشر : ٥.

(٢) الحشر : ١١ ـ ١٤.

٢١٢

والدروع ، فرضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدر ممكن ، حتى أن الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره ، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر ، وسارت جماعة اخرى منهم الى الشام.

وقد خرجت تلك الزمرة الذليلة المسكينة وهم يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ، وقد البسوا نساءهم الثياب الراقية ، وحليّ الذهب ، مظهرين بذلك تجلّدا ليغطوا على هزيمتهم ، ويروا المسلمين أنهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط :

إن ما يغنمه جنود الاسلام دون قتال وهو ما يسمى بالفيء يعود أمره الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الاسلام لقوله تعالى :

«ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ »(١) .

وقد رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن من الصالح أن يقسم المزارع والممتلكات التي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار ، لحرمانهم من ممتلكاتهم وثروتهم في مكة بسبب الهجرة منها الى المدينة ، وكانوا في الحقيقة ضيوفا على الأنصار طوال هذه المدة ، وقد أيّد « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » هذا الرأي ، ومن هنا قسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع تلك المزارع والممتلكات على المهاجرين خاصّة ، ولم يصب أحد من الأنصار منها شيئا الا رجلان كانا محتاجين هما : « سهل بن حنيف » ، و « أبو دجانة » ، الانصاريين وحصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامة ، وأعطى « سعد بن معاذ » سيف

__________________

(١) الحشر : ٧.

٢١٣

رجل من زعماء بني النضير وكان سيفا معروفا.

يقول المقريزي :

فلما غنم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الانصار كلّها ـ الاوس والخزرج ـ فحمد لله وأثنى عليه ، وذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وانزالهم اياهم في منازلهم ، وآثرتهم على أنفسهم ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ان أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وان أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم »؟

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : رضينا وسلّمنا يا رسول الله.

فقسّم رسول الله ما أفاء الله عليه ، على المهاجرين دون الانصار إلاّ رجلين كانا محتاجين الخ(١) .

وقد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأول في السنة الرابعة من الهجرة ونزلت سورة الحشر في هذا الشأن ، والتي جاء في مطلعها قوله تعالى :

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ »(٢) .

هذا ويعتقد أكثر المؤرخين المسلمين أنه لم يسفك في هذه الحادثة ، أي دم ، ولكن المرحوم الشيخ المفيد يكتب في ارشاده : انه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتال محدود قتل فيه عشرة من اليهود وكان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون(٣) .

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٨٢ و ١٨٣.

(٢) الحشر : ٢.

(٣) الارشاد : ص ٤٧ و ٤٨.

٢١٤

وقال المقريزي : وفقد عليرضي‌الله‌عنه في بعض الليالي فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه في بعض شأنكم ، فعن قليل جاء برأس « عزوك » وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين وكان شجاعا راميا فشدّ عليه عليرضي‌الله‌عنه ، فقتله وفرّ اليهود(١) .

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٨٠.

٢١٥

٣٥

تحريم الخمر

ذات الرقاع ، بدر الصغرى

١ ـ تحريم الخمر :

كانت الخمور ، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجر إليها أكبر الأخطار ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء ، ذلكم هو العقل ، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان وبين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره ، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة ، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء ، وكانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية(١) .

__________________

(١) عام ١٣٣٩ هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران ، وقد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي المسكرات.

وقد كان يحبّ أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ : ( آية الله السيد البروجردي ) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور والمسكرات ، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة « قم » ، وبعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد ، وقد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس وكنت أنا ووالدي حاضرين هناك كذلك.

فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو : لما ذا حرم الاسلام المسكرات؟

فقال الامام البروجردي : يكفي أن أشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة وهي أن الخمرة تحطّم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء ، ويتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

٢١٦

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية ومتجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل ، واسلوب مدروس ، ولم تكن الظروف والاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسول الاسلام عن تحريم الخمر دفعة واحدة ومن دون آية مقدمات ، وممهّدات لذلك ، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماما كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض ، وتجذر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمط واحد ، بل بدأت من مرحلة مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعن في هذه الآيات تكشف لنا عن كيفيّة الاسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد ، والدعوة والهداية ، وينبغي للخطباء ، والكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة ، ويكافحها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلا على أضرار ذلك السلوك ، ومفاسده ، وتذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع ـ بذلك ـ الاستعداد الروحي بل والدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد ، والخلق الذميم ، ويكون الناس هم الضمانة لا نجاح هذه المهمة. وذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف(١) .

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم :

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢ ص ٢٦٣.

٢١٧

اذا مت فادفني الى جنب كرمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها(١)

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور والاعناب ـ في مجتمع كان تعاطي الخمر جزء أساسيا من حياته ـ مخالفا للرزق الحسن ، وبذلك ايقظ العقول العافية ، إذ قال :

«وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً »(٢) .

إنّ القرآن أعلن ـ في المرحلة الاولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر ـ أن اتخاذ المسكر من التمر والعنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية : أعطت هزة ذكيّة للعقول وهيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشدد من نبرته ، ويعلن عن طريق آية اخرى أنّ النفع المادي القليل ، الذي تعود به الخمر ويأتي به القمار ، ليس بشيء بالقياس الى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة ، وقد تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما »(٣) .

ولا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع والضرر ، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كاف لايجاد النفور والاشمئزاز لدى العقلاء ، والداعين من الخمر وما شاكلها ، وشابهها.

إلاّ أن جماهير الناس وعامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهيا صريحا وقاطعا عنها.

فها هو عبد الرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمرا ، فأكلوا ، وشربوا الخمر ، ثم قاموا الى الصلاة ، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيّر من مراد الله تعالى في ما قرأ من

__________________

(١) أي ما يسكر.

(٢) النحل : ٦٧.

(٣) البقرة : ٢١٩.

٢١٨

الآية ، فقد تلا سورة « الكافرون » ، وبدل أن يقول : « لا أعبد ما تعبدون » قرأ : « أعبد ما تعبدون ». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر ، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمرا عظيما!!

وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة ، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر ، وقد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول الله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ »(١) .

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية ، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يطرد من حياة المسلم نهائيا.

ولكن البعض بقي يتعاطاها حتى أنّ رجلا من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر ـ رغم نزول الآية الحاضرة ـ فلما شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض ، وجرح بعضهم بعضا فشكوا أمرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقدا عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر.

ولا يخفى أن هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريما كاملا وقاطعا ، من هنا نزل قوله تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(٢) .

__________________

(١) النساء : ٤٣.

(٢) المائدة : ٩٠.

٢١٩

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطع أن يقلع عن الخمر نهائيا من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.

وقد جاء في كتب السنة والشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية : انتهينا يا ربّ(١) !!

وقفة عند « البيان الشافي » :

قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر ، بل بقي ينتظر بيانا شافيا يكشف عن التحريم القطعي ، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات ، وقد كان حكم الله تعالى في هذه الآية هو : أنّ الخمر « رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون » ولكن المتغربين ، وهواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر ، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر ، فيقولون لا بدّ أن يعلن عن هذا التحريم بلفظة : حرام أو حرّمت ، والاّ لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها ، الأسيرة لشهواتها الحرام ، لا تريد في الحقيقة إلاّ أن تظل عاكفة على الخمر أبدا ، ومن هنا تطرح مثل المعاذير وتتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء.

على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكل ما في شأن الخمر إذ قال : « وإثمهما أكبر من نفعهما »(٢) .

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اخرى إذ قال :

«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ »(٣) .

وبعبارة اخرى : لقد بين الله تعالى في آية اخرى الموضوع ، وهو أن الخمر ( التي تسمّى إثما أيضا ) قد حرّمت.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٤ ص ١٤٣ ، روح المعاني : ج ٧ ص ١٥.

(٢) البقرة : ٢١٩.

(٣) الاعراف : ٣٣.

٢٢٠

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها « رجس » وأنها نظير « الميسر » ، وأنها « عمل شيطاني » ، مناقض للفلاح ، وسبب « للعداوة » و « البغضاء » ، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها ، ولا غموض ، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف ، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة وهي أن النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع ، بيئته ومجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة ، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار ، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة ، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق ، فقد اخفقت كل خططه ، أمام هذا السمّ القاتل ، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام ١٩٣٣ ـ ١٩٣٥ أمر معروف للجميع ، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها(١) .

رواية مختلقة :

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : « ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا : « اعبد ما تعبدون » فانزل الله تعالى هذه الآية : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام عليعليه‌السلام مثل هذه

__________________

(١) راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص ٨٠ وغيره.

٢٢١

النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر(١) وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يتجنب الخمر ، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها ، هذا وعليعليه‌السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن علياعليه‌السلام شرب الخمر ، وهناك في الجاهلية ( وقبل الاسلام ) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل ، ويؤول بالمرء الى ما لا يحمد.

ففي السيرة الحلبية كان عبد الله بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد(٢) .

وورد عن الامام محمد الباقرعليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اني أشكر لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فقال : لو لا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك :

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

وما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٣ ، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ١٣٠.

٢٢٢

وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عاتقه وقال : « حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة »(١) .

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام عليعليه‌السلام من الخمر ، ولو في العهد الجاهلي ، وقبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع والدس أبت إلاّ أن تختلق رواية في المقام ، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا ومتنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ :

١ ـ حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت : لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

٢ ـ حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (٢) .

والروايتان ـ مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال ـ تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما ، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب ، وهو مطعون في وثاقته وديانته ، وفي حفظه وحديثه ، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال :

__________________

(١) الدرجات الرفيعة : ص ٧٠ نقلا عن الامالي لابن بابويه.

(٢) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري : ج ٥ ص ٦١.

٢٢٣

قال عنه الذهبي : عطاء بن السائب أحد علماء التابعين ، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

قال عنه أحمد : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين : لا يحتج به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم : محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

وقال ابن عليّة : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة ، فكنا نسأله ، فكان يتوهّم ، فنقول له : من؟ فيقول : اشياخنا ميسرة ، وزاذان ، وفلان.

وقال الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما ، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت ، فخلّط فيه ، فاتقيته واعتزلته.

واضاف الذهبي : « ومن مناكير عطاء »(١) .

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال ، انه سيئ الحفظ ، ضعيف مخلّط له مناكير ، يتوهّم ، تغيّر بأخرة ، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن علياعليه‌السلام كان مأموما في هذه القصة ( كما في الرواية الاولى ) وتارة يقول كانعليه‌السلام إماما للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره ، وأوهامه بلا ريب ، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره ، شرب الخمر ، والائتمام برجل دونه في الفضل ، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ج ٣ ص ٧٠ ـ ٧٣.

٢٢٤

فترة صباه في كنف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها : قالعليه‌السلام :

« قد علمتم موضعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به »(١) .

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام عليعليه‌السلام وغيره ، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال ، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم ، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل ، كما فعل سيد قطب في تفسيره « في ظلال القرآن »(٢) ، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله ، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوة ذات الرقاع :

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة ، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع ، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود ، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ١٩٢.

(٢) عند تفسير قوله تعالى : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ».

٢٢٥

الخرق ، والرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع(١) .

وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات ، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال ، والانفجار ، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية ، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها ، فسار إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو(٢) .

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية ، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة ، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب ، واللجوء الى رءوس الجبال ، وقد خافوا ألاّ يبرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف ، التي بيّن الله تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية ١٠٢.

وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته وقواه ، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف ، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

__________________

(١) السيرة النبوية ، الهوامش : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٨٨.

٢٢٦

مواقف خالدة في هذه الغزوة :

يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام(١) وأمين الاسلام الطبرسي(٢) قصصا عجيبة ، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أعدائه ، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر ، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحرّاس الصامدون :

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم ، واستراح في شعب في أثناء الطريق ، وبات ليلته هناك ، ثم كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان : « عباد » و « عمار » ، فقسم الرجلان الليل بينهما ، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش ، وكان الذي سهر أول الليل هو « عباد ».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين ، وكان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا ويعود الى محله.

وقام « عباد » يصلّي ، وأقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى « عباد » سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه : نعلم الله أنّ هذا لطليعة القوم ، وحرسهم ففوّق له سهما ورماه به فأصاب عبادا ولكن عبّادا نزع السهم ووضعه ، وثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر ، فأصابه فانتزعه وثبت قائما فرماه بثالث فنزعه ، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد ، ثم قال لصاحبه : اجلس فقد اصبت ، فجلس عمّار ، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٥ ـ ٢٠٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٠٣.

٢٢٧

به ، : فقال عمّار : أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال : كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف ، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها ، ولو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي(١) .

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدر الثانية :

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم « احد » نادى : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

ولهذا أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم وقد مر على وقعة « احد » عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول الله في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين ، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام « نعيم بن مسعود » الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة ، فجاءه أبو سفيان وقال له : إنّي وعدت محمّدا وأصحابه يوم « احد » أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول ، وقد جاء ذلك ، ولا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم : ما أقدمني إلاّ ما رأيت محمّدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، وقد تجلّب إليه حلفاء الأوس ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان ، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد ، ويخذّلهم.

وعاد « نعيم » إلى المدينة ، وراح يرعّب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٨ ، المغازي : ج ١ ص ٣٩٧.

٢٢٨

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلاّ أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه ، وقد خرجوا ببضائع لهم ، وتجارات حتى انتهوا الى « بدر » وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس ، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما ورائعا إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم ، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الى بدر ، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه ، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران ، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط ، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان وقال : قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترءوا علينا ، ورأوا انا

قد أخلفناهم ، وانما خلفنا الضعف عنهم(١) .

ولادة السبط الأصغر لرسول الله :

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة ( الرابعة من الهجرة ) ولد السبط الثاني لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامام الحسين بن عليّ(٢) ، كما توفيت « فاطمة بنت أسد » والدة الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وفي هذا العام بالذات أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود(٤) .

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٨٤ ـ ٣٩٠ ، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة.

وتسمى هذه الغزوة « بدر الموعد ».

(٢) و (٣) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٧.

(٤) إمتاع الاسماع : ص ١٨٧ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٤.

٢٢٩

حوادث السنة الخامسة من الهجرة(١)

٣٦

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

تعتبر معركة « الاحزاب » ، وقصة بني قريظة ، وزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث ـ كما عليه المؤرخون المسلمون ـ هو زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات ( ٤ ، ٦ ، ٣٦ ، الى ٤٠ ) من سورة « الاحزاب » ، ولا يبقى ـ حينئذ ـ مجال لأكاذيب المستشرقين ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر والينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث والتحريف ، والمسخ ، والتشويه ، ألا وهو القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون ومن لف لفهم ،

__________________

(١) يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منشغلا بغزوة « الاحزاب » ، و « بني قريظة » من ٢٤ شهر شوال من السنة الخامسة الى ١٩ من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا ، واذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين ، ولهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

٢٣٠

ونحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة ، وباعوه عبدا في سوق عكاظ ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، وقد أهدته خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسنة ، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبا شديدا ، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه ، وعلم بوجوده عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب منه أن يعتقه ، ويعيده إليه ، ليعيده بدوره إلى أمه ويلحقه بأقربائه ، فابى زيد إلاّ البقاء عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضّل ذلك على المضي مع أبيه ، والعودة إلى وطنه ، وعشيرته ، وقد خيّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أن ذلك الانجذاب والحب كان متبادلا بين زيد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكما أن زيدا كان يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحب أخلاقه وخصاله ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحب زيدا كذلك لنباهته وأدبه حتى أنه أعتقه وتبنّاه ، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة ، ولكي يتأكد ذلك وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وقال لقريش :

« يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني »(١) .

وقد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد ، وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤته ، فحزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

__________________

(١) اسد الغابة : ج ٢ ص ٢٣٥ وكذا الاستيعاب والإصابة مادة : زيد.

٢٣١

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ :

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته ، ويقارب بينها قدر الامكان ، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية والتقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب ، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة والاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال ، فقام بتزويج عتيقه « زيد بن حارثة » من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة ، ويعرفوا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله : « لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى » و « إنّ المؤمن كفؤ المؤمن ».

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول الله بنفسه إلى منزل زينب ، وخطبها لزيد ، فلم تبد زينب وأخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم ، ومن ناحية اخرى كان الرد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا صعبا ولهذا تذرّعا بعبودية « زيد » السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب وأخيها لطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

٢٣٢

مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً »(١) .

فتلاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم فورا فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها ورضا أخيها بهذا الزواج ، فتزوّجت ابنة شريف قوم « زينب » بعتيق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد وبذلك طبّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة ، وآدابه الانسانية الرفيعة ، وحطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية ، وأكثرها تخلفا واجحافا.

زيد يطلق زوجته :

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا ، فقد آل إلى الطلاق ، والافتراق ويعزى البعض ذلك إلى نفسيّة « زينب » وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه ، وعلوّ حسبها ، وبذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة وتسبب انزعاجه.

ولكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه ، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة ، وعدم الالفة ، فقد اتخذ أزواجا متعددة وطلقهنّ ( إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته ) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته ، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحادّ ، له ، فان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال : « أمسك عليك زوجك واتّق الله »(٢) .

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٦.

(٢) الاحزاب : ٣٧.

٢٣٣

ومهما يكن فقد طلق زيد زينبا وافترقا ، ثم تزوج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك.

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى :

ولكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

وبعبارة اخرى وأكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي ، وبين المتبنى.

وتوضيحا لهذا الأمر نقول :

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون ، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه ويدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه وتصير له حقوق البنوة وملحقاتها.

ولما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام وذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية ، فالوالد هو ـ في الحقيقة ـ المنشأ المادي لوجود ابنه ، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية ، وبذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية ، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء ، وتترتب أحكام خاصة في مجال الزواج والطلاق ، والتحليل والتحريم.

وبناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية ، لا يوجد أبدا باللفظ واللسان.

ولهذا قال الله سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة :

«وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ

٢٣٤

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً »(١) .

فلا يكون الابن المتبنى والولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا ، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث ، والزواج والطلاق وما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه ويشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

ومن المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب ، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم الصحيح.

وعلى هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا ومقبولا ، إلاّ أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي وحقوقه يعد أمرا بعيدا وغريبا جدا عن المحاسبات العلمية ، والاسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي ـ كما اسلفنا ـ يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق ، وقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانب الله تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنة الخاطئة باجراء عملي صارخ وذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه « زيد » ، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول ، ووضع القانون ، في التأثير ، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوج بمطلّقة دعيّه(٢) لقبحه في نظر العرب لذلك دعا الله سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير ، إذ قال :

__________________

(١) الأحزاب : ٤ و ٥ ، راجع تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٩٠ و ٢٩١.

(٢) الدعيّ هو الابن المتبنى وجمعه أدعياء.

٢٣٥

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً »(١) .

إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة ( سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى ) واعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام ، لأن النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج بمطلّقة عتيقه وقد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين ، وأصحاب العقول الضيّقة ، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل الله تعالى في الرد على تلكم الافكار والاقوال الباطلة قوله :

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً »(٢) .

على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم الله بشجاعة كاملة بقوله :

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً »(٣) .

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات الله ولا يخاف لوم اللائمين ، وكيد المنافقين ، وإرجاف المرجفين.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

(٣) الأحزاب : ٣٨ و ٣٩.

٢٣٦

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبناه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب :

إن زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب مطلّقة زيد بن حارثة ـ كما لاحظت ـ قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة ، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال ، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية ، والسلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم والتحقيق ، فقد سعى ـ ولم يزل ـ لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس وهذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري ، والثقافي.

وفي الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار ، بل وجيشه المتقنع بقناع العلم والمعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع ، ويتسلسل إلى اوساط المفكرين والمثقفين وينفث سمومه القاتلة ، ويحذر العقول ، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر ، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر ، والعصبيّة والتخلف ويتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية ، ولكنّ كتابات المستشرقين وإخفاءهم المتعمّد والكثير للحقائق ، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا والخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم وتحرّي المعرفة ، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام ، ولرسول

٢٣٧

الله والمسلمين(١) .

ويشهد على هذه النزعة ـ بجلاء ووضوح ـ موقفهم من زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية ، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيين وديدنهم ، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير(٢) ومن قبله الطبري(٣) وبعض المفسّرين ، وهي أنه : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد زيدا وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال ، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون والمفسرون ، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال ، وصنع الأوهام ، وانها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة ، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا : إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الاسلام ، وراجت في كتب المؤلفين المسلمين(٤) .

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة وبهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

__________________

(١) للتاكّد الأكثر من هذا الأمر ( راجع كتاب المستشرقون ).

(٢) و (٣) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٢١ ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج ٢٢ ص ١٠.

(٤) مفاتيح الغيب : ج ٢٥ ص ٢١٢ ، روح المعاني : ج ٢٢ ص ٢٣ و ٢٤.

٢٣٨

ابن الأثير ، والطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه المساوئ.

وعلى أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ ، ونعتقد أن القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جدا ، واغنى من ان ندافع عنها.

وإليك أدلّتنا :

أولا ـ ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل وهو ( القرآن الكريم ) لأنّ القرآن بشهادة الآية (٣٧) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة وهي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه ، خاصة وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك بأمر الله سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية ، والحب الشخصي ، ولم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون الى نقده وتفنيده ، ولأحدثوا ضجة بسبب ذلك ، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلويث سمعته.

ثانيا ـ أن « زينب بنت جحش » هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الزواج بها قبل أن يتزوج بها « زيد » ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ الزواج بها ـ وهو يعرفها طبعا ـ لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها ، فلما ذا لم يتزوج بها؟ ولما رفض طلبها؟.

أجل ، انه لم يتزوج بها ولم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

٢٣٩

وبعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال هذه الترّهات والنسب الرخيصة ونرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما ، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة « التاريخ الكامل » لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال :

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة ، واختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهل يعقل : انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وانما دسائس الزنادقة ، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون ، فافتكروا في رواية الخبر ، فاتخذوه أساسا ، وأعرضوا عن كتاب الله وعن قول الله تعالى من أنّ الله أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

والعجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  ، وقد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر ، ولو عرضت كل رواية على كتاب الله تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول الله فزوّجها من مولاه ، ثم تزوجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  « كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا » ، فاذن كان الزواج لأجل التشريع ، وكان عمليّا ، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778