سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459070 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها « رجس » وأنها نظير « الميسر » ، وأنها « عمل شيطاني » ، مناقض للفلاح ، وسبب « للعداوة » و « البغضاء » ، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها ، ولا غموض ، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف ، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة وهي أن النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع ، بيئته ومجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة ، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار ، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة ، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق ، فقد اخفقت كل خططه ، أمام هذا السمّ القاتل ، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام ١٩٣٣ ـ ١٩٣٥ أمر معروف للجميع ، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها(١) .

رواية مختلقة :

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : « ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا : « اعبد ما تعبدون » فانزل الله تعالى هذه الآية : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام عليعليه‌السلام مثل هذه

__________________

(١) راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص ٨٠ وغيره.

٢٢١

النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر(١) وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يتجنب الخمر ، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها ، هذا وعليعليه‌السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن علياعليه‌السلام شرب الخمر ، وهناك في الجاهلية ( وقبل الاسلام ) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل ، ويؤول بالمرء الى ما لا يحمد.

ففي السيرة الحلبية كان عبد الله بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد(٢) .

وورد عن الامام محمد الباقرعليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اني أشكر لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فقال : لو لا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك :

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

وما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٣ ، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ١٣٠.

٢٢٢

وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عاتقه وقال : « حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة »(١) .

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام عليعليه‌السلام من الخمر ، ولو في العهد الجاهلي ، وقبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع والدس أبت إلاّ أن تختلق رواية في المقام ، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا ومتنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ :

١ ـ حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت : لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

٢ ـ حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (٢) .

والروايتان ـ مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال ـ تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما ، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب ، وهو مطعون في وثاقته وديانته ، وفي حفظه وحديثه ، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال :

__________________

(١) الدرجات الرفيعة : ص ٧٠ نقلا عن الامالي لابن بابويه.

(٢) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري : ج ٥ ص ٦١.

٢٢٣

قال عنه الذهبي : عطاء بن السائب أحد علماء التابعين ، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

قال عنه أحمد : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين : لا يحتج به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم : محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

وقال ابن عليّة : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة ، فكنا نسأله ، فكان يتوهّم ، فنقول له : من؟ فيقول : اشياخنا ميسرة ، وزاذان ، وفلان.

وقال الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما ، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت ، فخلّط فيه ، فاتقيته واعتزلته.

واضاف الذهبي : « ومن مناكير عطاء »(١) .

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال ، انه سيئ الحفظ ، ضعيف مخلّط له مناكير ، يتوهّم ، تغيّر بأخرة ، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن علياعليه‌السلام كان مأموما في هذه القصة ( كما في الرواية الاولى ) وتارة يقول كانعليه‌السلام إماما للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره ، وأوهامه بلا ريب ، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره ، شرب الخمر ، والائتمام برجل دونه في الفضل ، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ج ٣ ص ٧٠ ـ ٧٣.

٢٢٤

فترة صباه في كنف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها : قالعليه‌السلام :

« قد علمتم موضعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به »(١) .

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام عليعليه‌السلام وغيره ، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال ، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم ، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل ، كما فعل سيد قطب في تفسيره « في ظلال القرآن »(٢) ، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله ، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوة ذات الرقاع :

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة ، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع ، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود ، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ١٩٢.

(٢) عند تفسير قوله تعالى : «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ».

٢٢٥

الخرق ، والرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع(١) .

وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات ، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال ، والانفجار ، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية ، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها ، فسار إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو(٢) .

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية ، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة ، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب ، واللجوء الى رءوس الجبال ، وقد خافوا ألاّ يبرح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف ، التي بيّن الله تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية ١٠٢.

وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته وقواه ، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف ، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

__________________

(١) السيرة النبوية ، الهوامش : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٨٨.

٢٢٦

مواقف خالدة في هذه الغزوة :

يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام(١) وأمين الاسلام الطبرسي(٢) قصصا عجيبة ، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أعدائه ، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر ، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحرّاس الصامدون :

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم ، واستراح في شعب في أثناء الطريق ، وبات ليلته هناك ، ثم كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان : « عباد » و « عمار » ، فقسم الرجلان الليل بينهما ، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش ، وكان الذي سهر أول الليل هو « عباد ».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين ، وكان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا ويعود الى محله.

وقام « عباد » يصلّي ، وأقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى « عباد » سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه : نعلم الله أنّ هذا لطليعة القوم ، وحرسهم ففوّق له سهما ورماه به فأصاب عبادا ولكن عبّادا نزع السهم ووضعه ، وثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر ، فأصابه فانتزعه وثبت قائما فرماه بثالث فنزعه ، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد ، ثم قال لصاحبه : اجلس فقد اصبت ، فجلس عمّار ، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٥ ـ ٢٠٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٠٣.

٢٢٧

به ، : فقال عمّار : أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال : كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف ، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها ، ولو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي(١) .

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدر الثانية :

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم « احد » نادى : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

ولهذا أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم وقد مر على وقعة « احد » عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول الله في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين ، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام « نعيم بن مسعود » الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة ، فجاءه أبو سفيان وقال له : إنّي وعدت محمّدا وأصحابه يوم « احد » أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول ، وقد جاء ذلك ، ولا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم : ما أقدمني إلاّ ما رأيت محمّدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، وقد تجلّب إليه حلفاء الأوس ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان ، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد ، ويخذّلهم.

وعاد « نعيم » إلى المدينة ، وراح يرعّب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٨ ، المغازي : ج ١ ص ٣٩٧.

٢٢٨

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلاّ أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه ، وقد خرجوا ببضائع لهم ، وتجارات حتى انتهوا الى « بدر » وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس ، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما ورائعا إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم ، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الى بدر ، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه ، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران ، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط ، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان وقال : قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترءوا علينا ، ورأوا انا

قد أخلفناهم ، وانما خلفنا الضعف عنهم(١) .

ولادة السبط الأصغر لرسول الله :

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة ( الرابعة من الهجرة ) ولد السبط الثاني لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامام الحسين بن عليّ(٢) ، كما توفيت « فاطمة بنت أسد » والدة الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وفي هذا العام بالذات أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود(٤) .

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٨٤ ـ ٣٩٠ ، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة.

وتسمى هذه الغزوة « بدر الموعد ».

(٢) و (٣) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٧.

(٤) إمتاع الاسماع : ص ١٨٧ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٤.

٢٢٩

حوادث السنة الخامسة من الهجرة(١)

٣٦

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

تعتبر معركة « الاحزاب » ، وقصة بني قريظة ، وزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث ـ كما عليه المؤرخون المسلمون ـ هو زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات ( ٤ ، ٦ ، ٣٦ ، الى ٤٠ ) من سورة « الاحزاب » ، ولا يبقى ـ حينئذ ـ مجال لأكاذيب المستشرقين ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر والينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث والتحريف ، والمسخ ، والتشويه ، ألا وهو القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون ومن لف لفهم ،

__________________

(١) يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منشغلا بغزوة « الاحزاب » ، و « بني قريظة » من ٢٤ شهر شوال من السنة الخامسة الى ١٩ من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا ، واذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين ، ولهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

٢٣٠

ونحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة ، وباعوه عبدا في سوق عكاظ ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، وقد أهدته خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسنة ، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبا شديدا ، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه ، وعلم بوجوده عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب منه أن يعتقه ، ويعيده إليه ، ليعيده بدوره إلى أمه ويلحقه بأقربائه ، فابى زيد إلاّ البقاء عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضّل ذلك على المضي مع أبيه ، والعودة إلى وطنه ، وعشيرته ، وقد خيّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أن ذلك الانجذاب والحب كان متبادلا بين زيد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكما أن زيدا كان يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحب أخلاقه وخصاله ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحب زيدا كذلك لنباهته وأدبه حتى أنه أعتقه وتبنّاه ، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة ، ولكي يتأكد ذلك وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وقال لقريش :

« يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني »(١) .

وقد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد ، وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤته ، فحزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

__________________

(١) اسد الغابة : ج ٢ ص ٢٣٥ وكذا الاستيعاب والإصابة مادة : زيد.

٢٣١

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ :

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته ، ويقارب بينها قدر الامكان ، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية والتقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب ، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة والاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال ، فقام بتزويج عتيقه « زيد بن حارثة » من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة ، ويعرفوا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله : « لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى » و « إنّ المؤمن كفؤ المؤمن ».

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول الله بنفسه إلى منزل زينب ، وخطبها لزيد ، فلم تبد زينب وأخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم ، ومن ناحية اخرى كان الرد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا صعبا ولهذا تذرّعا بعبودية « زيد » السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب وأخيها لطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

٢٣٢

مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً »(١) .

فتلاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم فورا فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها ورضا أخيها بهذا الزواج ، فتزوّجت ابنة شريف قوم « زينب » بعتيق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد وبذلك طبّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة ، وآدابه الانسانية الرفيعة ، وحطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية ، وأكثرها تخلفا واجحافا.

زيد يطلق زوجته :

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا ، فقد آل إلى الطلاق ، والافتراق ويعزى البعض ذلك إلى نفسيّة « زينب » وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه ، وعلوّ حسبها ، وبذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة وتسبب انزعاجه.

ولكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه ، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة ، وعدم الالفة ، فقد اتخذ أزواجا متعددة وطلقهنّ ( إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته ) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته ، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحادّ ، له ، فان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال : « أمسك عليك زوجك واتّق الله »(٢) .

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٦.

(٢) الاحزاب : ٣٧.

٢٣٣

ومهما يكن فقد طلق زيد زينبا وافترقا ، ثم تزوج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك.

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى :

ولكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

وبعبارة اخرى وأكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي ، وبين المتبنى.

وتوضيحا لهذا الأمر نقول :

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون ، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه ويدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه وتصير له حقوق البنوة وملحقاتها.

ولما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام وذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية ، فالوالد هو ـ في الحقيقة ـ المنشأ المادي لوجود ابنه ، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية ، وبذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية ، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء ، وتترتب أحكام خاصة في مجال الزواج والطلاق ، والتحليل والتحريم.

وبناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية ، لا يوجد أبدا باللفظ واللسان.

ولهذا قال الله سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة :

«وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ

٢٣٤

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً »(١) .

فلا يكون الابن المتبنى والولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا ، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث ، والزواج والطلاق وما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه ويشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

ومن المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب ، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم الصحيح.

وعلى هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا ومقبولا ، إلاّ أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي وحقوقه يعد أمرا بعيدا وغريبا جدا عن المحاسبات العلمية ، والاسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي ـ كما اسلفنا ـ يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق ، وقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جانب الله تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنة الخاطئة باجراء عملي صارخ وذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه « زيد » ، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول ، ووضع القانون ، في التأثير ، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوج بمطلّقة دعيّه(٢) لقبحه في نظر العرب لذلك دعا الله سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير ، إذ قال :

__________________

(١) الأحزاب : ٤ و ٥ ، راجع تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٩٠ و ٢٩١.

(٢) الدعيّ هو الابن المتبنى وجمعه أدعياء.

٢٣٥

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً »(١) .

إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة ( سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى ) واعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام ، لأن النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج بمطلّقة عتيقه وقد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين ، وأصحاب العقول الضيّقة ، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل الله تعالى في الرد على تلكم الافكار والاقوال الباطلة قوله :

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً »(٢) .

على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم الله بشجاعة كاملة بقوله :

«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً »(٣) .

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات الله ولا يخاف لوم اللائمين ، وكيد المنافقين ، وإرجاف المرجفين.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

(٣) الأحزاب : ٣٨ و ٣٩.

٢٣٦

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبناه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب :

إن زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب مطلّقة زيد بن حارثة ـ كما لاحظت ـ قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة ، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال ، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية ، والسلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم والتحقيق ، فقد سعى ـ ولم يزل ـ لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس وهذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري ، والثقافي.

وفي الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار ، بل وجيشه المتقنع بقناع العلم والمعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع ، ويتسلسل إلى اوساط المفكرين والمثقفين وينفث سمومه القاتلة ، ويحذر العقول ، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر ، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر ، والعصبيّة والتخلف ويتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية ، ولكنّ كتابات المستشرقين وإخفاءهم المتعمّد والكثير للحقائق ، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا والخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم وتحرّي المعرفة ، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام ، ولرسول

٢٣٧

الله والمسلمين(١) .

ويشهد على هذه النزعة ـ بجلاء ووضوح ـ موقفهم من زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية ، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيين وديدنهم ، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير(٢) ومن قبله الطبري(٣) وبعض المفسّرين ، وهي أنه : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد زيدا وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال ، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون والمفسرون ، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال ، وصنع الأوهام ، وانها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة ، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا : إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الاسلام ، وراجت في كتب المؤلفين المسلمين(٤) .

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة وبهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

__________________

(١) للتاكّد الأكثر من هذا الأمر ( راجع كتاب المستشرقون ).

(٢) و (٣) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٢١ ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج ٢٢ ص ١٠.

(٤) مفاتيح الغيب : ج ٢٥ ص ٢١٢ ، روح المعاني : ج ٢٢ ص ٢٣ و ٢٤.

٢٣٨

ابن الأثير ، والطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه المساوئ.

وعلى أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ ، ونعتقد أن القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جدا ، واغنى من ان ندافع عنها.

وإليك أدلّتنا :

أولا ـ ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل وهو ( القرآن الكريم ) لأنّ القرآن بشهادة الآية (٣٧) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة وهي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه ، خاصة وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك بأمر الله سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية ، والحب الشخصي ، ولم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون الى نقده وتفنيده ، ولأحدثوا ضجة بسبب ذلك ، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلويث سمعته.

ثانيا ـ أن « زينب بنت جحش » هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الزواج بها قبل أن يتزوج بها « زيد » ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ الزواج بها ـ وهو يعرفها طبعا ـ لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها ، فلما ذا لم يتزوج بها؟ ولما رفض طلبها؟.

أجل ، انه لم يتزوج بها ولم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

٢٣٩

وبعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال هذه الترّهات والنسب الرخيصة ونرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما ، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة « التاريخ الكامل » لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال :

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة ، واختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهل يعقل : انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وانما دسائس الزنادقة ، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون ، فافتكروا في رواية الخبر ، فاتخذوه أساسا ، وأعرضوا عن كتاب الله وعن قول الله تعالى من أنّ الله أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

والعجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  ، وقد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر ، ولو عرضت كل رواية على كتاب الله تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول الله فزوّجها من مولاه ، ثم تزوجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  « كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا » ، فاذن كان الزواج لأجل التشريع ، وكان عمليّا ، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778