سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459031 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

قال الفخر الرازي : وفيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن لقضاء شهوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لبيان الشريعة بفعله ، انتهى.

ونحن نعتب عليه أيضا إذ جعله اشارة ولم يجعله صريحا وبما أن روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد فالحكاية التي أوردها المؤلف نقلها كثير من المفسرين غير مفكرين بما فيها من طعن في الدين لإفادتها أن الشريعة الاسلامية عبارة عن إتباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزهت عن ذلك كله ، ويرحم الله السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره : وحاصل العتاب : لم قلت « امسك عليك زوجك » ، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة ، لأنّ الله أعلم أنه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : « زوّجناكها » فلو كان الضمير محبتها وارادة طلاقها ، ونحو ذلك لأظهره جلّ وعلا ، وللقصّاص في هذه القصّة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيّز القبول ، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيفة التي تشبه ما أورده المؤلف ( أي ابن الأثير ) محذرا الناس منها ومن أمثالها التي لا تروج إلاّ على الحمقى والمغفلين انتهى. راجع هامش الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٢١. طبعة القاهرة ادارة الطباعة المنيرية عام ١٣٤٩ ه‍.

توضيح عبارتين :

هذا واستكمالا للبحث ، واتماما للفائدة ندرج نص الآية التي نزلت في هذا المجال ، والتي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكية ، ونعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما : وإليك نص الآية أولا :

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ».

٢٤١

وفيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان الى التوضيح :

« وتخفي في نفسك ما الله مبديه ».

فما ذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفي في نفسه وقد أظهره الله وأبداه بعد كل تلك النصيحة التي نصح بهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيدا؟

ربما يتصوّر أحد أنّ الأمر الذي كان يخفيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو رغبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تطليق زيد زوجته زينب أي أنه وان كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى زيدا في الظاهر عن تطليق زينب ، إلا أنه كان في سرّه يرضى بذلك بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوجها هو.

ولا شك أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقا لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان يبطن مثل هذا الأمر ، فلما ذا لم يبد الله سبحانه نيّته هذه بآيات اخرى ، في حين أنه سبحانه وعد في هذه الجملة بأن يظهر ما كان يخفيه رسول الله في نفسه إذ قال تعالى : «مَا اللهُ مُبْدِيهِ »؟!

ولهذا قال المفسرون : إن المقصود مما كان يخفيه هو الوحي الالهي الّذي أنزله الله عليه ، وتوضيح ذلك هو : أنّ الله تعالى أوحى إليه بأن زيدا سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ ، وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيتزوج بها من بعده لإبطال سنّة جاهلية مقيتة ( وهي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ ).

ومن هنا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نصيحته لزيد ونهيه عن تطليق زينب زوجته ملتفتا ومنتبها إلى هذا الوحي الالهيّ أيضا ، ولكنه أخفى هذا الوحي عن زيد وغيره ، ولكن الله تعالى أخبر النبيّ في نفس تلك الجملة بأنه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلبه ، وأن الامر لن يبقى خافيا على أحد بإخفائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له.

ويشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم اظهر الامر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال :

«فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

٢٤٢

فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً »(١) .

فمن هذا التعقيب يستفاد أن ما كان يخفيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الوحي الالهي ، بأنه عليه أن يتزوج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنة جاهلية خاطئة.

٢ ـ واما الجملة الثانية التي هي بحاجة الى التوضيح فهي قوله تعالى : «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ». غير أن هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقلّ إيهاما وغموضا من الجملة السابقة بدرجات ، لأن تجاهل سنّة عريقة متجذرة في بيئة منحرفة ( وهي الزواج بمطلّقة الدعيّ ) يقترن ـ بطبيعة الحال وحتما ـ بحرج نفسيّ يزول ويرتفع لدى الأنبياء بتوجههم إلى الأمر الالهي ..

واذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعاني من حرج نفسيّ شديد من هذه القضيّة فانما هو لأجل أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتصوّر أن جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلا ، لم يمر على انقطاعهم عن عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون : إن النبي ارتكب عملا سيّئا ، والحال أن الامر ليس كما يعتقدون.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد : قوله : « لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم لمّا قضوا منهن وطرا » تعليل للتزويج وبيان مصلحة للحكم. وقوله : و « كان أمر الله مفعولا » مشير الى تحقق الوقوع وتأكيد للحكم.

ومن ذلك يظهر أن الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها ، وحبه الشديد لها وهي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسرين ، واعتذروا بأنها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا : منع أن يكون بحيث يقوى عليه التربية الإلهية. وثانيا : أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس

__________________

(١) الاحزاب : ٣٧.

٢٤٣

والتشبّب بهن(١) .

ولما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكدها ويزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى : «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ ، وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً »(٢) .

ففي هذه الآيات اشارة إلى :

١ ـ أن ما قام به النبي من التزوج بزينب كان بأمر الله ، وكان على سبيل سنّ قانون وتشريع سنة ولكن بصورة عملية ، وإن ذلك القانون علم الله ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها.

٢ ـ أن زيدا ليس ابن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما هو متبنّاه ودعيّه بل هو ابن والده حارثة واقعا وحقيقة وليس ذلك إلاّ تقرير وتأكيد للحقيقة التي سبقت الاشارة إليها في قوله تعالى : «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ».

٣ ـ أن ما قام به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التزوج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الذي يشرّعه بأمر الله وإذنه تعالى لتسير عليه البشرية ، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض ، لا أنه أمر واقع بدافع شخصي.

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٣٤٣.

(٢) الاحزاب : ٣٨ ـ ٤٨.

٢٤٤

٤ ـ إن الله هو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية وما يصلحها وهو الذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس ازواج أدعيائهم اذا ما قضوا منهن وطرا وانتهت حاجتهم منهن واطلقوا سراحهن. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء ، ومعرفته بالاصلح والاوفق من النظم والشرائع.

٥ ـ إن ما سنّه الله للمسلمين وما اختاره تعالى للامة الاسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير والخروج من الظلمات إلى النور ، فعليهم ان يذكروه ويشكروه أبدا ودائما ، فانه سيكون لهم لو أطاعوه وسبّحوه وذكروه شأن في الملأ الاعلى فهو يصلي عليهم وملائكته ، ويذكرهم هناك بالخير ، وانما يفعل كل هذا من منطلق الرحمة والعناية بهم.

٦ ـ أن وظيفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسلمين هي ( الشهادة ) عليهم ، فليحسنوا العمل ، وهي ( التبشير ) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، و ( الانذار ) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب ونكال ، و ( الدعوة الى الله ) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية ، وذلك باذن الله فما هو بمبتدع ، ولا بقائل من عنده شيئا.

٧ ـ ان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبشّر المؤمنين المطيعين لاوامر الله بأن لهم فضلا كبيرا ، ولا يطيع الكافرين ، والمنافقين ، وألاّ يحفل أذاهم له وللمؤمنين ، وان يتوكل على الله وحده وهو بنصره كفيل ، وهو يوحي بأن المنافقين أرجفوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه القضية ، ارجافا عظيما.

وكل هذه الامور توحي بأن تغيير تلك السنة الجاهلية ( عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى ) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كل هذا التعقيب ، وبالتالي تثبيت الله للنفوس فيه ، كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم ، وهذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة والخطيرة.

٢٤٥

٣٧

غزوة الاحزاب(١)

لقد قاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات ، كما وبعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو التي كانت محتملة من جانب العدو.

وإليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة :

١ ـ غزوة دومة الجندل(٢) :

بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين والتجار ، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألف من المسلمين ، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذ بعنصر الاستتار والسرية على عادته.

ولما دنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دومة الجندل وعرف به تلك الجماعة تفرقوا من فورهم فلم يجدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها أحدا ، فأقام بها أيّاما وبثّ السرايا والدوريّات وفرّقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه ، ولم يصادفوا من

__________________

(١) ذكر ابن هشام في سيرته أن هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وحيث إن غزوة الأحزاب انتهت في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة ، وطالت محاصرة المدينة شهرا واحدا لذلك يجب أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريبا.

(٢) المغازي : ج ١ ص ٤٠٢ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٢١٣ ودومة الجندل منطقة بين دمشق والمدينة ( الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٤٤ ).

٢٤٦

تلك الجماعة أحدا.

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني ، من دون ان يقاتل(١) .

٢ ـ غزوة الخندق ( الأحزاب ) :

أجلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق ، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم ، واضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب الى « خيبر » وتسكن هناك ، أو تسير الى الشام.

وقد كان إجراء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا متطابقا مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه وبين يهود يثرب.

وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام ، فقدموا مكة ، وحرّضوا قريشا على حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك مفصل هذه الغزوة :

عبّأ المشركون العرب ، واليهود قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.

فقد شكّلوا اتّحادا نظاميا قويا وحاصروا المدينة مدة شهر واحد ، وبما أن أحزابا مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب ، وربما سمّيت بمعركة « الخندق » لأن المسلمين احتفروا خندقا حول المدينة عظيما ، دفاعا عنها ، ومنعا للكفار عن اجتياحها.

ولقد كان زعماء بنى النضير وبنى وائل ـ كما أسلفنا ـ هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب ، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٩٣ و ١٩٤.

٢٤٧

فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين ، والتي اضطرّوا على أثرها الى مغادرة المدينة ، فسكن بعضهم خيبر ، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية ودقيقة لاستئصال شأفة الاسلام ، والقضاء عليه. وانها لخطّة عجيبة حقا ، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعددة وأحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلا!!

كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب العديدة ، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة ، وهيّئوا كل ما يحتاجون إليه من حاجات ومعدات!!

وكانت الخطة كالتالي : قدم جماعة من سادة بني النضير مثل « سلام بن أبي الحقيق » و « حيي بن أخطب » في نفر من بني النضير على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فلقد جئنا لخالقكم على عداوة محمّد وقتاله.

وقال حيي بن أخطب : إن محمّدا قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلا بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض ، واجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم ، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد ويكونون معنا عليهم ، فتأتونه انتم من فوق وهم من أسفل.

فأثّرت كلمات اليهود وما قاله « حيي بن اخطب » في نفوس المشركين الحانقين على رسول الله ، واصحابه ، واستحسنوا خطتهم ، وابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتاله. ولكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين : يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم ، أخبرونا عما اصبحنا نحن فيه ومحمّد ، افديننا خير أم دين محمّد؟

ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة ( التي كانت ولا تزال تعد نفسها حامل لواء التوحيد ، الوحيد في العالم ) اولئك المشركين الجهلة الذين

٢٤٨

وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة ، وطلبوا منهم حل مشكلتهم؟! « أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظّمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فانتم أولى بالحق منه!!!(١) .

ولقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة وصمة عار اخرى الى سجلّهم الاسود ، وزادوا تاريخهم المشؤوم سوادا ، وسوء.

ولقد كانت هذه الغلطة فضيعة ، وقبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها ، في ما بعد.

فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه : ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) حول هذا الموقف المشين جدا قائلا : « كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش ، والا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولوأدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين ، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام انما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة »(٢) .

وفي الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح مقاصدهم ، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون ـ بكل جدّ ـ أن عليهم ـ لتحقيق أهدافهم ـ التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة ، وهذا هو مقولة « الغاية تبرر الوسيلة » التي طرحها ميكافيلي ، وبالتالي فان « الاخلاق » في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم ليس إلاّ.

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول :

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٧.

(٢) حياة محمّد : ص ٣٢٩.

٢٤٩

يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً »(١) .

ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء ، أثرا عجيبا في نفوس المشركين وعبدة الاوثان ، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية وهو تأليف جيش من قبائل متعددة لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعدا للتوجه الى المدينة ، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب ( اليهود ) من مكة بقلوب مملوءة سرورا ، وغبطة ، وساروا الى نجد ، ليتصلوا بقبيلة غطفان ـ وكانت من اعدى اعداء الاسلام ـ فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان : بني فزار ، وبني مرّة ، وبني اشجع ، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر ، لمدة سنة ، بعد الانتصار على المسلمين ، ولكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حلفاءها من بني سليم وراسلت غطفان حلفاءها من بني اسد ، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب ، فاستجابت لهم تلك القبائل ، وتحركت جميع هذه الفئات والاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة ، نحو المدينة في يوم معين وهي تبغي اجتياح مركز الاسلام ، واستئصال شأفته!!(٢) .

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة :

منذ أن سكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة ، لتقصّي الأخبار ، ومراقبة الأوضاع ، وإخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولا بأول.

فقدم أحدهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بخروج تلك القوة

__________________

(١) النساء : ٥١ و ٥٢.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٤٤٣.

٢٥٠

الكبيرة ومسيرها إلى المدينة ، وبهدفها ، وتاريخ خروجها ، ووصولها إلى مشارف يثرب.

فرعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه فورا وأخبرهم خبر عدوّهم ، وشاورهم في الامر ، ليستفيدوا من تجارب « احد » ، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن ، والقيام بالدّفاع من داخل القلاع والحصون ، ولكن هذا العمل لم يكن كافيا لأن جيش العدوّ كان كثيفا وكبيرا جدا وكان من المحتمل بقوّة أن تقوم عناصره الكثيرة ، الكبيرة في عددها بهدم الحصون والقلاع ، والقضاء على المسلمين ، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلا.

فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفا بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة : يا رسول الله إنّا اذا كنّا بأرض فارس ، وتخوّفنا الخيل ، خندقنا حولنا ، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟(١)

وفي رواية اخرى أنه قال : يا رسول الله نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا ، فلا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه ، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة(٢) ، ( أي محدودة ).

فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعا ، وكان لهذا التكتيك أثر جوهري وبارز جدا في حفظ الاسلام وصيانة المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانيا ولكى يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من ناحية « احد » الى « راتج » وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدو منها ، وعلّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٤٤٥ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٣٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٨.

٢٥١

الأرض.

ولكي يتم هذا الامر بنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين والانصار يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وعليّعليه‌السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيي(١) وهو يقول :

« لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة ».

وقد كشف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام واسلوبه ، وفي ذلك تنشيط الامة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة واخلاق القائد ، وأفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ ، وعلى إمام الامة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبدا الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال ، ولهذا لما نظر الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحفر نشطوا واجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، ولما كان اليوم الثاني بكّروا في العمل ، وكان ذلك النشاط العظيم عاملا في أن يندفع يهود بني قريظة أيضا إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب(٢) .

وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية ، ومع ذلك كان أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدّونهم بالطعام وغيره(٣) .

وربما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها ، فأخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فأخذ معولا فكسرها وأزالها.

__________________

(١) وجاء في تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٨٩ انه (ص) كان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣١١.

(٣) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣١٢.

٢٥٢

أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها ـ وقد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور ، وكان كل عشرة يحفرون (٤٠) ذراعا ـ هو (١٢٠٠٠) ذراعا اي ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر ، وأما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم ، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار وعمقه خمسة أمتار أيضا.

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان :

عند ما قسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المهاجرين والانصار جماعات جماعات ، وأوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق ، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد كل أن يضمّه الى صفّه ، فقال المهاجرون : سلمان منا وقالت الأنصار : سلمان منا ونحن أحق به!!

فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك :

« سلمان منّا أهل البيت »(١) .

ثم إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقى الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق ، وربما كانوا يذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أما المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار ، واذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحيانا ، أو جدّ لهم عذر استأذنوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذن لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور في الآيات ٦٢ و ٦٣ اذ يقول تعالى :

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٤٤٦ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٢٢.

٢٥٣

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

مقاتلوا العرب واليهود يحاصرون المدينة :

وتتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة « احد » وعلى مقربة من الخندق الذي كان قد تمّ انجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومن لف لفّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل « احد » ، ولكنهم لم يلقوا أحدا منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى وصلوا الى الخندق ، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر ، فوجئوا به وقالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير الفارسي الذي معه.

العدد الدقيق لقوات الطرفين :

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف ، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع وهي تخطف بلمعانها الابصار!

وكان عدد المشاركين في هذه الجيش من قريش وحدها ـ على رواية المقريزي في الامتاع ـ ( ٤ آلاف ) مقاتل ، معهم (٣٠٠) فرس و (١٥٠٠) بعير.

وقد التحق بهم بنو سليم ـ وهم من حلفاء قريش ـ في (٧٠٠) رجل في مر الظهران وكان من قبيلة بني فزارة (١٠٠٠) مقاتل ومن قبائل اخرى. مثل اشجع وبني مرة كل واحد منهما (٤٠٠) مقاتل ، والباقي وهم ما يقارب (٣٥٠٠) مقاتل من بقية القبائل ، وعلى هذا الاساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة

٢٥٤

آلاف ، وقد استقروا جميعا في مكان آخر.

وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف ، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع مرتفع ، مشرف على الخندق وخارجه ، إشرافا كاملا بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات العدوّ ونشاطاته منه.

وقد وكل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور على الخندق ومراقبة تحركات العدوّ ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراسا قويا طبيعيا ، وغير طبيعي ، اذ أن سائر المدينة كان مشبكا بالبنيان ، والنخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفار « المدينة » ما يقرب من شهر واحد ، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين ، ولم يستطع أن يعبر منهم الخندق الاّ أفراد معدودون ، فمن كان يفكر في العبور رماه المسلمون بالحجارة ، فولّى هاربا!!

وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها(١) .

خطر البرد ، وتناقص الغذاء والعلف :

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد أصيبت في تلك السنة بقلة الغيث ، ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة ، ولم يكن أحد منهم يتصور أن عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد ، بل كان المشركون ـ جميعا ـ يرون ـ بادئ الامر ـ أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع ، على جنود الاسلام ، ويجتاحون المدينة ، ويستأصلون المسلمين!!

ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية ( اليهود ) هذه المشكلة بعد أيام ،

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٨.

٢٥٥

فقد عرفوا بأن مضىّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على مقاومة القرّ ، وقلة العلف وتناقص الطعام ، ومن هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة ، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة ، وبذلك يمهّدوا السبيل لجيش العرب لغزو المدنية ، واجتياحها من الخارج!!

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة :

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام وأمن ، وكانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، احتراما كاملا.

فرأى « حييّ بن أخطب » أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به. ليشعل بذلك حربا بين المسلمين ويهود بني قريظة ويشغل المسلمين بفتنة داخلية ، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

وانطلاقا من هذه الفكرة أتى « حييّ » الى حصن بني قريظة ودق عليهم الباب وعرّف نفسه ، فأمر رئيس بني قريظة « كعب بن الاسد » بان لا يفتحوا له الباب ولكنه أصر ، وقال : ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك ( أي خبزك ) الذي في التنور تخاف أن اشاركك فيها فافتح فانّك آمن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن ، ففتحوا له ، فدخل مثير الحرب المشؤوم « حييّ » وقال لكعب : يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر ، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها ، وهذه سليم وغيرهم ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا وقد تعاقدوا وتعاهدوا الاّ يرجعوا حتى يستأصلوا محمّدا ومن معه ، فانقض العهد بينك وبين محمّد ، ولا تردّ رأيي.

٢٥٦

فأجابه كعب قائلا : لقد جئتني ـ والله ـ بذلّ الدهر ، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه شيء ، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي ، والصبيان والنساء ، اني لم أر من محمّد إلاّ صدقا ووفاء فارجع عنّي ، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.

ولكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعبا ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل الجامع الذي يستصعب عليه ، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهيّا لذلك ، فقال : أنا أخشى أن لا يقتل محمّد وتنصرف قريش إلى بلادها ، فما ذا نفعل حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنه ليصيبه ما أصابه ان لم يقتل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال كعب : دعني اشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم ، وخبرهم الخبر ، وحيى حاضر ، وقال لهم كعب : ما ترون؟ فقالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، وصاحب عهدنا وعقدنا فان نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال « الزبير بن باطا » وكان شيخا كبيرا مجرّبا قد ذهب بصره : قد قرأت في التوراة التي أنزلها الله في سفرنا يبعث نبيّا في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكة ، ومهاجره في هذه البحيرة يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر فان كان هذا ( أي محمّد ) هو فلا يهولنّه هؤلاء ولا جمعهم ، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره : ليس هذا ذاك ، ذلك النبي من بني إسرائيل ، وهذا من العرب من ولد اسماعيل ، ولا يكونوا بنو اسرائيل أتباعا لولد اسماعيل أبدا ، لأنّ الله فضّلهم على الناس جميعا وجعل فيهم النبوة والملك ، وليس مع محمّد آية ، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم!!

ولم يزل يقنّع بهم ، ويقلّبهم عن رأيهم ، ويلحّ عليهم حتى أجابوه ، ورضوا بأن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد ، فأخرجوه ، فأخذه ومزقه ،

٢٥٧

وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال ، وبذلك جعلهم أمام الامر الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرّ منه!!(١)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد :

بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق جواسيسه الاذكياء نقض بني قريظة للعهد ، في مثل ذلك الظرف الحساس ، فغمه غما شديدا. فأمر من فوره « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » ـ وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين ، كما أنهما كانا رئيسي الأوس والخزرج ـ بأن يحصّلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث ، وأسبابه وملابساته ، وأنه اذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلا أن يخبّراه وحده فقط ولا يخبرا أحدا به ويقولا : عضل والقارة لكيلا لا يفتّ ذلك أعضاد المسلمين ولا يضعف من معنوياتهم ، وأما إذا لم تكن هناك خيانة ، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان ، واقتربا إلى حصن بني قريظة ، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن ، فشتم سعدا وشتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق فأجابه سعد ـ بالهام غيبي ـ : إنّما أنت ثعلب في جحر ، لتولّينّ قريش ، وليحاصرنّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولينزلنك على الصغار والذلّ وليضربنّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا له : عضل والقارة. فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا برفيع صوته : « الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح »(٢) .

وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٤٥٦ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٢٢ و ٢٢٣.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٤٥٩.

٢٥٨

وعمق سياسته ، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين ، ولا يتملكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد ، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية ، والاحساس بروح النصر.

تجاوزات بني قريظة الاولية :

كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدءوا عملهم الخياني بالاغارة على المدينة ، وإرعاب النساء والاطفال الموجودين في البيوت والمنازل ، وقد نفذت مراحل من هذه الخطة تدريجا!!

فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم ونساؤهم بصورة مشبوهة!!

تقول « صفية بنت عبد المطلب » عمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كنت في فارع ، حصن حسان بن ثابت وكان حسان بن ثابت معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، وقطعت ما بينها وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون في نحور عدوّهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت ، فقلت لحسان : إن هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن ، وإنّي والله ما آمنه أن يدل علينا من وراءه من يهود ، وقد شغل عنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، فلما قال لي ذلك احتجزت(١) ( أي شددت وسطي ) ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه ، إلاّ أنه رجل فقال حسان : ما لي بسلبه

__________________

(١) وفي رواية : اعتجرت.

٢٥٩

حاجة يا ابنة عبد المطلب!!(١) .

ولما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد وانهم طلبوا من قريش الف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود ، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق ، فعظم بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق ، بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تحفظا على الجواري من بني قريظة(٢) .

الإيمان في مواجهة الكفر :

لقد خاض المشركون حروبا عديدة ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل معركة الأحزاب ، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة ، ولم يكن من عموم الجزيرة العربية ، ومن عموم القبائل ، أي الاسلام لم يواجه في تلك الحروب والوقائع عدوانا شاملا من سكان الجزيرة.

وحيث إن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الاسلامية الفتيّة ، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض ، يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة ، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم ، من هنا عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين ، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحركوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. ولو لا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

ولهذا جلب أعداء الاسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب ، وأشهر

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣١٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778