سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459051 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

٣٨

سقوط آخر أوكار الفساد والمؤامرة

أقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الاولى من هجرته الى المدينة ، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها ، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف ، والتنازع ، والصراع الداخليّ.

وقد تعهّد الأوسيّون والخزرجيّون ، عامة واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها ، وقد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق(١) .

هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر وأذى برسول الله وأصحابه ، ولا تمدّ أعداءهم بالخيل والسلاح ، وأنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحق في أن يقتلهم ، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

إلاّ أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين والصور ، وتجاهلت بنوده ، ومواده!

فقد قتل « بنو قينقاع » مسلما ، وخطّطت « بنو النضير » لاغتيال رسول الله

__________________

(١) راجع صفحة ٢١ من هذا الجزء.

٢٨١

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الاسلامية.

وتعاونت « بنو قريظة » مع جيش المشركين لضرب المسلمين ، وطعنهم من الخلف ، والآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول الله بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة :

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود « الأحزاب » أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب والارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين ، ومع ذلك فقد أمر الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعالج قضيّة « بني قريظة » بصورة نهائية ، فأذّن مؤذّن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين صلاة الظهر ، ثم نادى منادي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ ببني قريظة!

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّم « عليّ بن أبي طالب » برايته(١) ، وخرج معه جنود الإسلام الشجعان ، فحاصروا حصون « بني قريظة » ، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين ، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون ، والتحصّن في داخلها ، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّعليه‌السلام بالمسلمين فالتقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطريق وقد كره أن يسمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذاهم وشتمهم وحاول أن يثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا : لا عليك أن تدنو

__________________

(١) زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ ، وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٤٣.

٢٨٢

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب ذلك قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حصونهم قال لهم :

« هل أخزاكم الله وأنزل عليكم نقمته »؟

وقد كانت ردة فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديدة غير متوقعة لليهود ، ومن هنا قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم(١) .

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث رجع من غير اختيار ، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهود يتشاورون حول الموقف :

تشاور يهود بنو قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف ، وقد شارك فيه « حيي بن أخطب » مثير معركة الأحزاب ، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب ـ في معركة الاحزاب ـ أوزارها وولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف :

١ ـ أن يؤمنوا برسول الله ، ويصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل ، وأنه الّذي يجدونه في كتابهم ، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

٢ ـ أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد وأصحابه يقاتلونهم ، فإذا هلكوا ، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه ، وإن انتصروا تزوجوا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٤ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٤٥ و ٢٤٦.

٢٨٣

من جديد ، ووجدوا أبناء.

٣ ـ ان الليلة هي ليلة السبت ، وانه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد منوهم فيها ، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت ، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، وقالوا : ان نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم ، وقالوا : لا نقاتل ليلة ليلة السبت ، محمّدا وأصحابه نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ(١) .

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة ( ونعي اليهود ) ، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة ، لجوجة ، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما قال زعيمهم ـ لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد والعتوّ ، واللجاج.

واما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد ـ بجلاء ـ على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية ، لا تعرف للرحمة والحنان معنى ، لان قتل الاطفال والنساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء ، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. ولم يقل أي واحد منهم : وما ذا جنى الاطفال والنساء حتى نقتلهم ونذبحهم ، ولو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تمكن منهم ـ لم يقتلهم ، فكيف نعمد نحن ( الآباء الرحماء ) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٦.

٢٨٤

من غير جرم ولا جناية؟

وأما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفنون القتال ، والدفاع وكانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه ، وخاصة في مواجهة أعداء خونة ، أخوان غدر ومكر ، أمثال اليهود الناقضين للعهود ، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة وتقييم معركة « الاحزاب » تثبت ندرة وجود الاذكياء والفطنين بين هذه الجماعة ، والاّ لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع ( الاسلام والشرك ).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل ، ويبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد ، وجيش المشركين ، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم ، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنهم خدعوا بتسويلات « حيي بن أخطب » ووسوساته وانحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة ، وهي أن يتخلوا ـ في النهاية ـ عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم ، والرضوخ لخطة « نعيم بن مسعود » ، وإخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم ، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر ، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش ، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار ، وعاد الى بلاده ، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فور قطع العلاقات مع قريش ـ عن ندامتهم على

٢٨٥

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر ـ في صورة انتصار المسلمين على الكفار ـ ولكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش ، ولم يلتحقوا بالمسلمين ، ولم يعتذروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

على أنه لم يكن في مقدور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك بني قريظة ـ بعد هزيمة جيش العرب ـ على حالهم ، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد ، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم ومنظم آخر لاجتياح المدينة ، ويتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون ـ في الحقيقة ـ العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل ، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة ، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

خيانة أبي لبابة :

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ، أن يبعث إليهم « أبا لبابة » الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف ، وقد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة ، فأرسله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال : نعم ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ يريد أنهم سوف يقتلهم ولن يحقن دماءهم ، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد ، إلاّ أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين ، ومصالح الاسلام العليا ، وأفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه ، ولهذا ندم على فعله ندما شديدا ، فخرج من حصن بني قريظة وهو

٢٨٦

يرتجف ويقول : إنّي خنت الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانطلق على وجهه ، ولم يأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين وهم ينتظرون رجوعه إليهم ـ وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته ، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ ما صنعت!!

ويقول المفسرون : فنزل في خيانة أبي لبابة قول الله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »(١) .

فلما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر أبي لبابة ، وكان قد استبطأه قال : أما أنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وبقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة ، وكانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة ، وتحلّ رباطه ، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي ـ على رسول الله وهو في بيت أمّ سلمة ، والآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى :

«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(٢) .

فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مستبشر يضحك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :

« لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه ».

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله

__________________

(١) الأنفال : ٢٧.

(٢) التوبة : ١٠٢.

٢٨٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه(١) .

ولا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة ، فقد سلبه بكاء رجالهم ونسائهم ، وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس ، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه ، ولكنّ قوة الايمان بالله والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كل شيء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب ، ويعمد ـ لجبران تلك الخيانة ـ الى ما فعل من الانابة ، والاستغفار ، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج « شأس بن قيس » اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نيابة عن بني قريظة ، فطلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني النضير ، فأبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « لا ، إلاّ أن تنزلوا على حكمي ».

فقال شأس : لك الاموال والسلاح وتحقن دماءنا ، فابى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفض هذا الاقتراح أيضا.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو : لما ذا رفض رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح ، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة ـ بعد

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٧ و ٢٣٨.

٢٨٨

خروجها من قبضة المسلمين ـ على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير ، وتعرّض المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا ، وتسبب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اقتراحات مندوب بني قريظة ، وعاد شأس إلى الحصن ، واخبر قومه بمقالة رسول الله عليه وآله ، ورفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي ـ وكان حليفا لهم ـ في حقهم.

ولهذا عمدوا الى فتح باب الحصن ، ودخل عليّعليه‌السلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن وجرّدوا بني قريظة من السلاح ، وحبسوهم في منازل « بني النجار » ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام ، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة « عبد الله بن ابي » ، وانصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إهراق دمهم فيما مضى ، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وذلك منافسة للخزرج ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاوم هذا الطلب ، وقال لهم :

« ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم »؟

قالوا : بلى.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذاك إلى « سعد بن معاذ » فهو يحكم فيهم.

والطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يروى ابن هشام(١) والشيخ

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤٠.

٢٨٩

المفيد(١) ـ : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى « رفيدة » من سهم أصابه في معركة الخندق ، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل الله ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود سعدا بين الحين والآخر ، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس ، وحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما طلع سعد على رسول الله والناس حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلوس ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« قوموا إلى سيّدكم ».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد ، وحيّاه كل واحد منهم ، حتى انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم : يهود بني قريظة ، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين : يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

ولكن سعدا حكم في ذلك المجلس ـ رغم كل ذلك الالحاح ، والضغط ـ بأن يقتل رجال اليهود ، وتقسّم أموالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم(٢) .

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه :

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله ، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال ، وانتهى الى تمزق المجتمع وسقوطه ،

__________________

(١) الارشاد : ص ٥٠ وأيضا راجع زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٤٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤٠ ، المغازي : ج ٢ ص ٥١٠ ، زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ و ٧٤.

٢٩٠

وانهيار كل شيء ، لارتباط كل شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع ، أو أضرت به أشدّ وأبلغ إضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن ، وأوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق وهم في الحبس ، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم والرأي في بني قريظة ، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية ( أي عامة المسلمين ) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة ، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، على الأقلّ ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلاّ أن منطق العقل ، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى ، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة ، وتصادر أموالهم ، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية :

١ ـ أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام ، والمسلمين ، وناصروا أعداء التوحيد ، واثاروا الفتن والقلاقل ، وألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم(١) .

وقد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

__________________

(١) ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

٢٩١

للعدالة ، ولم يرتكب ظلما.

٢ ـ إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة ، فترة من الزمن ، وهاجمت منازل المسلمين ، ولو لا مراقبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة ، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع ، ولو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم ، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق وأطفالهم.

٣ ـ من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة ، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود ، الجزائية في هذا المجال ، فإن التوراة تنص بما يلى : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، واما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك »(١) .

ولعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلاّ ما يقتضيه العدل والانصاف.

٤ ـ والذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن « سعد بن معاذ » رأى بام عينيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين ، واكتفى ـ من عقابهم ـ باخراجهم من المدينة ، واجلائهم

__________________

(١) التوراة : سفر التثنية الفصل العشرون ١٠ ـ ١٤.

٢٩٢

عنها ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام ، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة ، وأخذ يتباكى ـ دجلا وخداعا ـ على قتلى بدر ، ويذرف عليهم دموع التماسيح ، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام وأصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة ، وكانت واقعة « احد » التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الاسلام ، ورجاله.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة ، الذين عفا عنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة ، ولكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني ، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وكوّنوا اتحادا نظاميا بينها ، وألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام ( المدينة ) ، فكانت وقعة ( الاحزاب ) التي لو لا حنكة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى ، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات ، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه ، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع ، وسيثير ويؤلب قوى العرب ضد الاسلام ، ويعرّض مركز الاسلام ، ومحوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

وعلى هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة وأيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

ومن المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ ، فان رئيس أي قوم ، أو جماعة أحوج ما يكون

٢٩٣

إلى تأييد قومه وجماعته وكسب رضاهم ودعمهم ، ولا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم ، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم ، ولكن سعدا ( رئيس الأوس ) أدرك أن جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل ، والمنطق ، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الّذي يشهد بدقة نظر سعد ، وصواب رأيه ، وصحة تشخيصه وتقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل. أي لو لا خذلان الله لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال : يا أيّها الناس لا بأس بأمر الله ، ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.

ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين ، فقتلت قصاصا.

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه « الزبير بن باطا » شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس ، فلم يقتل ، واخلي سبيل زوجته وأولاده ، واعيدت إليه أمواله ، وأسلم أربعة من بني قريظة ، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، واخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

وقد اعطي للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وسلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أموال « الخمس » إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد ، والسلاح ، والخيل ، وغيرها من أدوات الحرب(١) .

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ج ٢ ص ٢٥٠ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤١ ، زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٤.

٢٩٤

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة ، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات ٢٦ ـ ٢٧ من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه :

«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ».

وقد استشهد « سعد بن معاذ » الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه(١)

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٥٠ ـ ٢٥٤.

٢٩٥

حوادث السنة السادسة من الهجرة

٣٩

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة(١)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلاّ وقد انتهت فتنة « الاحزاب » و « بني قريظة » ، وقضي عليهما بالكامل ، وأصبحت المدينة وضواحيها برمتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم ، وازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا وثباتا ، وساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة ، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا ، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه ، وتحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى وامكانيات.

ولقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقمع بعض مشعلي فتنة « الاحزاب » الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل « الاحزاب ».

فلقد قتل « حيي بن أخطب » الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب ، في غزوة بني قريظة ، ولكن رفيقه « سلاّم بن أبي الحقيق » كان لا يزال يعيش في خيبر ، ولا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب « الأحزاب » مرّة اخرى ضدّ الاسلام ، وخاصة أن العرب الوثنيين كانوا

__________________

(١) يستفاد من السيرة النبوية : ج ٣ ص ٢٩١ ط ١٣٥٥ أن خطة اغتيال « سلاّم » كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة ، ولكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

٢٩٦

مستعدين لشن حرب على الاسلام ، وكان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب ، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر ، الجريء والحاقد ، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر ، فدخلوا خيبر ليلا ولم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد ، ثم تسللوا إلى غرفته وكانت في الطابق الاعلى ، فطرقوا باب حجرته ، فخرجت إليهم امرأته وقالت : من أنتم؟ قالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة ، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم ، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم ، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته ، ثم خرجوا ، وانحدروا من الدرج واختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله ، فصاحت زوجته ، واستغاثت بالجيران ، فأوقد اليهود النيران ، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة ، ولكن من دون جدوى ، وعند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول ، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق ، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق ، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ، وتحدثهم ، وتقصّ عليهم ما جرى ، ثم أقبلت عليه

__________________

(١) إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق « كعب بن الأشرف » اليهودى الخطر فأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

٢٩٧

تنظر في وجهه ثم قالت : فاظ ( أي مات ) وإله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ الله : « سلام بن أبي الحقيق » على أيديهم ، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما جرى(١) .

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة :

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام ، وانتشاره المطرد بشدة ، الى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا : الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فان ظهر « محمّد » على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد وإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلاّ خير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم « عمرو بن العاص » بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة ، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولهم على « النجاشي » ورود « عمرو بن اميّة الضمري » مبعوث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب ، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال « عمرو بن العاص » : لو دخلت على « النجاشيّ » بالهدايا وسألته عمرو بن اميّة فاعطانيه ، فضربت عنقه.

فدخل « عمرو بن العاصي » على « النجاشيّ » ، وسجد له ـ على النحو الذي كان متبعا ـ فسأله النجاشيّ عن حاله ، ثم قال : هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص : نعم أيها الملك ، قد أهديت إليك ادما كثيرا ، ثم قال : أيها

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٤ و ٢٧٥.

٢٩٨

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك ( ويقصد مبعوث رسول الله ) وهو رسول عدوّ لنا ، فاعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه ، ثم قال : أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله. ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فانه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، ثم قال : أفتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص : فقلت نعم ، فبسط يده فبايعته على الاسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي ، وقد حال رأيي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي(١) .

الوقاية من تكرار التجارب المرة :

تركت حادثة « الرجيع » المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل « عضل » و « القارة » من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا ومن دون رحمة ، بل وسلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول الله والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين ، وأحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم وأدت إلى توقف حركة الارشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل ـ بعد الأحزاب وبني قريظة ـ كل العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل ، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الاسلامي.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٦ و ٢٧٧.

٢٩٩

فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة « ابن أمّ مكتوم » في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يظهر لأحد ما يقصده ، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب « بني لحيان » على غفلة منهم ، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب وهي منازل بني لحيان ، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه ، وتمنعوا في رءوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا ، وجبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا ، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية ، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء الله القريب منهم والبعيد ولتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم ، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة وقد قال من قبل :

« لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة ».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ( وهو موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال ). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة(١) .

هذا وكان جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول حين رجوعه من هذه الغزوة :

« أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال »(٢) .

غزوة ذي قرد :

لم يقم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة بعد عودته من الغزوة

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٥٤ ، المغازي : ج ٢ ص ٥٣٥ ، إمتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٥٩ و ٢٦٠.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ، ذاك أبو الحسن والحسين (ع).

والتفت مدير شرطة زياد الى صيفي منكرا عليه مقاله ليتقرب الى ابن سمية قائلا :

« يقول لك الأمير : هو ابو تراب ، وتقول أنت : لا؟!! »

فنهره صيفي ورد عليه وهو غير معتن به ولا بأميره قائلا :

« وإن كذب الأمير أتريد أن اكذب وأشهد له على باطل كما شهد! »

فثار ابن سمية وانتفخت اوداجه غضبا ، فقال له :

« وهذا أيضا مع ذنبك ».

والتفت الى شرطته وهو مغيظ فقال لهم : « علي بالعصا » فأتى بها فالتفت الى صيفي :

« ما قولك؟ ».

فقال له بكل شجاعة وايمان :

« أحسن قول أنا قائله فى عبد من عباد الله المؤمنين. »

وأمر زياد جلاوزته بضرب عاتقه حتى يلصق بالأرض ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى وصل عاتقه الى الأرض ، ثم أمرهم بالكف عنه والتفت إليه :

« إيه ما قولك فى علي؟ »

وأصر بطل العقيدة على ايمانه فقال :

ـ والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني.

ـ لتلعننه أو لأضربن عنقك!

ـ إذا تضربها والله قبل ذلك فان أبيت إلا أن تضربها. رضيت

٣٦١

بالله وشقيت أنت!

« ادفعوا في رقبته ».

ثم أمر به ثانيا أن يوقر في الحديد ويلقى فى ظلمات السجون(1) وأخيرا بعثه مع حجر فاستشهد معه في مرج عذراء.

ج ـ قبيصة بن ربيعة :

ومن جملة أصحاب حجر الذين أرهقهم زياد قبيصة بن ربيعة العبسي فقد بعث إليه مدير شرطته شداد بن الهيثم فهجم عليه خفية فلما أحس به قبيصة أخذ سيفه ووقف للدفاع عن نفسه ولحق به فريق من قومه فقال مدير الشرطة الى قبيصة مخادعا :

« أنت آمن على دمك ومالك ، فلم تقتل نفسك؟ »

ولما سمع بذلك اصحابه انخدعوا فلم يحاموا عنه ولم ينقذوه لأن خوفهم من سلطة زياد كان اشد وقعا في نفوسهم من خطر الموت ، فاندفعوا قائلين :

« قد امنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك؟ »

ولم يذعن لمقالة اصحابه وذلك لعلمه بغدر الأمويين وعدم وفائهم بالعهد والوعد فقال لهم :

« ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة ، والله لئن وقعت فى يده لا افلت ابدا أو يقتلني ».

ـ كلا.

ولما لم يجد بدا من ذلك وضع يده في ايديهم وأخذ اسيرا الى زياد فلما مثل عنده قال له :

« أما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الامراء »

__________________

(1) الطبري 4 / 198 ، الكامل 3 / 139.

٣٦٢

ـ إني لم آتك إلا على الأمان.

ـ انطلقوا به الى السجن(1) .

لقد نقض زياد الأمان وخاس بالميثاق ، ثم أمر به أن يحمل مع حجر وأصحابه الى مرج عذراء ، فحمل معهم ، فلما انتهت قافلتهم الى جبانة ( عرزم ) وكانت فيها داره ، نظر إليها وإذا بناته قد أشرفن من أعلا الدار ينظرن إليه ، وهن يخمشن الوجوه ، ويخلطن الدموع بالدعاء ، قد أخذتهن المائقة ، ومزق الأسى قلوبهن ، فلما نظر الى ذلك المنظر الرهيب طلب من الشرطة الموكلة بخفارته أن يسمحوا له بالدنو من بناته ليوصيهن بما أراد ، فسمحوا له بذلك ، فلما دنا منهن علا صراخهن فأمرهن بالسكوت والخلود الى الصبر ، وأرضاهن بوصيته التي مثلت الإيمان والرضا بقضاء الله قائلا :

« اتقين الله عز وجل ، واصبرن ، فاني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهي السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هو الله تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن ، وأن يحفظني فيكن ».

ثم ودعهن وانصرف ، ولما رأى من معه شجو بناته وما داخلهن من الفزع والمصاب رقّوا لهن ، ثم رفعوا أيديهم بالدعاء والابتهال الى الله تعالى طالبين منه العافية والسلامة الى قبيصة فانبرى إليهم قائلا :

« إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي حيث لا ينصرونني »(2) .

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 149.

(2) نفس المصدر.

٣٦٣

أراد بذلك عدم نصرة قومه وخذلانهم له ، وان ذلك أشد وقعا على نفسه من هلاكه ، وسار قبيصة مع حجر الى مرج عذراء فاستشهد معه ، وأما بقية اصحاب حجر الذين استشهدوا معه فلم نعثر على معلومات وافية عنهم ، ونشير الى أسمائهم وهم :

شريك بن شداد الحضرمي.

كدام بن حيان العنزي.

محرز بن شهاب التميمي.

وهؤلاء الحماة الذين قدموا نفوسهم ضحايا للعقيدة ، وقرابين للحق

كانوا من خيار المسلمين ومن صالحائهم ، قد ساقتهم السلطة الأموية الى ساحة الإعدام ، فاستباحت دماءهم ، لا لذنب اقترفوه ، سوى مودتهم للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها ومودتها.

صدى الفاجعة :

وذعر المسلمون لهذا الحادث الخطير ، وعم السخط جميع ارجاء البلاد لأن حجرا من أعلام الإسلام ، ومن خيار صحابة النبيّ (ص) ، وقد انتهكت في قتله حرمة الإسلام ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض ، وإنما رأى منكرا فناهضه ، وجورا فناجزه ، رأى زيادا يؤخر الصلاة فطالبه باقامتها ورآه يسب امير المؤمنين فطالبه بالكف عنه ، فقتل من اجل ذلك ، وقد اندفعت الشخصيات الرفيعة في العالم الإسلامى الى اعلان سخطها على معاوية والى الإنكار عليه ، ومن الخير ان نذكر بعضهم ونستمع الى نقدهم وهم :

أ ـ الإمام الحسين (ع).

ورفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية أنكر فيها

٣٦٤

اشد الإنكار على ما ارتكبه من قتل حجر واصحابه الأبرار وهذا نصها :

« الست القاتل حجرا اخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون فى الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت اعطيتهم الإيمان المغلظة ، والمواثيق المؤكدة أن لا تأخذهم بحدث ، كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم »(1) .

لقد انكر الإمام (ع) برسالته على معاوية استباحته لدم حجر واصحابه المثاليين الذين انكروا الظلم وناهضوا الجور ، واستعظموا البدع وقد قتلهم ظلما وعدوانا ، بعد ما أكد على نفسه واعطاهم المواثيق المؤكدة ان لا يأخذهم بحدث ولا بإحنة فيما مضى ، ولكن ابن هند قد خاس بذلك ولم يف به.

ب ـ عائشة :

ومن جملة المنكرين على معاوية عائشة ، فقد دخل عليها في بيتها بعد منصرفه من الحج فقالت له :

« أأمنت ان اخبأ لك من يقتلك؟ »

فقال لها مخادعا :

« بيت الأمن دخلت ».

ـ اما خشيت الله في قتل حجر واصحابه؟(2) .

وكانت دوما تتحدث عن مصاب حجر فقد حدثت عما سمعته من رسول الله (ص) فى فضله قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول :

__________________

(1) البحار 10 / 149.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٥

سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء »(1) وقالت منددة بأهل الكوفة : « أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرا وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام ، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس ، أما والله إن كانوا لجمجمة العرب عزا ومنعة وفقها ولله در لبيد حيث يقول :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يرجى خيرهم

ويعاب قائلهم وان لم يشغب(2)

ج ـ الربيع بن زياد :

ومن الناقمين على معاوية الربيع بن زياد البصري(3) عامله على خراسان فانه لما سمع بالنبإ المؤلم طاش لبّه وذهبت نفسه حسرات فقال والحزن باد عليه :

« لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ـ أي بعد مقتل حجر ـ ولو نفرت عند قتله لم يقتل واحد منهم صبرا. ولكنها أقرت فذلت!! »

إن أهل الكوفة لو منعوا السلطة الأموية من قتل حجر وأصحابه لما

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 55 ، الاصابة 1 / 314.

(2) الاستيعاب 1 / 357.

(3) الربيع بن زياد بن أنس الحارثي البصري كان عاملا لمعاوية على خراسان وكان كاتبه الحسن البصري ، روي عن أبي بن كعب ، وعن جماعة وروى عنه قوم ، توفي سنة 51 ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 3 / 43 ، وجاء في الاصابة 1 / 491 ، ان الربيع وفد على عمر بن الخطاب فقال له : يا أمير المؤمنين والله ما وليت هذه الأمّة إلا ببلية ابتليت بها ، ولو أن شاة ضلت بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فبكى عمر حينما سمع منه هذا الكلام.

٣٦٦

تمكن الأمويون من قتل أحرارهم وأخيارهم ، ولكنهم رضوا بالخمول والذل وكرهوا الموت في سبيل الله ، فهان أمرهم وذلوا ، وعمل فيهم الأمويون ما أرادوا من اخضاعهم للذل والهوان.

وبقي الربيع ذاهل النفس ، خائر القوى ، قد مزق الأسى قلبه ، فلما صار يوم الجمعة صلى بالناس صلاة الجمعة ، وبعد الفراغ منها خطب الناس فقال فى خطابه :

« أيها الناس ، إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا » ثم رفع يديه بالدعاء فقال :

« اللهم ، إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجل ».

فاستجاب الله دعاءه فما فارق المجالس حتى وافاه الأجل المحتوم(1) .

د ـ الحسن البصري :

وعدّ الحسن البصري قتل حجر إحدى الموبقات الأربعة التي ارتكبها معاوية ، فقال فيما يخص حجرا :

« ويل له من حجر وأصحاب حجر مرتين »(2) .

ه ـ عبد الله بن عمر :

لقد ذعر ابن عمر حينما علم بمقتل حجر ، فقد أخبر بقتله وهو بالسوق وكان محتبى فأطلق حبوته وولى وهو يبكي أشد البكاء وأمرّه(3) .

و ـ معاوية بن خديج :

__________________

(1) الكامل 3 / 195.

(2) ذكرنا حديثه بكامله مع ترجمته فى فصول هذا الكتاب.

(3) الاصابة 1 / 314.

٣٦٧

وانتهى الخبر المؤلم الى معاوية بن خديج(1) وكان في افريقية مع الجيش ، فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة :

« ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها ، وأنهم يثبون على بنى عمنا فيقتلونهم ».

لقد كان قتل حجر من الأحداث الكبار وكان صدعا في الاسلام وبلاء على عموم العرب ، وكان معاوية نفسه لا يشك فى ذلك فكان ينظر إليه شبحا مخيفا ويردد ذكره في خلواته ، وقد ذكره كثيرا في مرضه الذي هلك فيه فكان يقول : « ويلي منك يا حجر » وكان يقول : « يوم لي من ابن الأدبار ـ يعني حجرا ـ طويل » قال ذلك ثلاث مرات(2) .

نعم ، أن يومه لطويل من حجر وأمثاله من المؤمنين والصالحين الذين سفك دماءهم لا لذنب اقترفوه ، سوى حبهم لأهل البيت ، وهنا ينتهي بنا الحديث عن محنة حجر وأصحابه لنلتقي بزملاء له آخرين.

رشيد الهجري :

ورشيد الهجري يعد في طليعة رجال الإسلام ورعا وتقى وعلما وفضلا ، فقد تتلمذ فى مدرسة أمير المؤمنين ونال الكثير من علومه ومعارفه فكان (ع) يسميه ( رشيد البلايا ) وحدثت ابنته قنو قالت : سمعت أبي يقول :

__________________

(1) معاوية بن خديج بن جفنة السكوني ، وقيل الكندي : هو الذي قتل العبد الصالح الطيب محمد بن أبي بكر بأمر ابن العاص ، وقد غزا افريقية ثلاث مرات ، جاء ذلك في الاستيعاب 3 / 389.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٨

« قال لي أمير المؤمنين ، يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ »

ـ يا أمير المؤمنين آخر ذلك الى الجنة؟

ـ يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة.

وخرج رشيد مع أمير المؤمنين الى بستان فاستظلا تحت نخلة ، فقام صاحب البستان الى نخلة ، فأخذ منها رطبا وقدمه الى أمير المؤمنين فأكلعليه‌السلام منه ، فالتفت رشيد الى الإمام قائلا له :

« ما أطيب هذا الرطب!؟ »

ـ أما انك ستصلب على جذعها!!

فكان رشيد بعد حديث الإمام يتعاهد تلك النخلة التي أكل من رطبها فيسقيها ويتعبد تحتها واجتاز عليها يوما فرأى سعفها قد قطع فشعر بدنو أجله ، واجتاز عليها مرة أخرى فرأى نصفها قد جعل زرنوقا يستسقى عليه فتيقن بدنو الأجل المحتوم منه(1) ، وفي فترات تلك المدة الرهيبة بعث خلفه ابن سمية ، فلما حضر عنده قال له :

« ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ »

ـ تقطعون يديّ ورجليّ وتصلبونني.

ـ أما والله لأكذّبن حديثه ، خلّوا سبيله.

فخلت الجلاوزة سراحه ، فلما خرج قال زياد لجلاوزته : ردّوه ، فردوه إليه ، فالتفت له قائلا :

« لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك ، إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه » ، فامتثلت الجلاوزة أمره ، فقطعوا

__________________

(1) التعليقات على منهج المقال ص 140.

٣٦٩

يديه ورجليه وهو يتكلم ، فغاظ كلامه زيادا ، فقال لجلاوزته : اصلبوه خنقا ، فقال رشيد لهم : « قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه ـ أراد بذلك قطع لسانه ـ » فأمر ابن سمية بقطع لسانه ولما أرادوا قطع لسانه قال لهم : « نفسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة » ، فأعطوه ذلك ، فقال : « هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين (ع) أخبرني بقطع لساني » ، ثم قطع الجلاوزة لسانه(1) .

أي ذنب اقترفه هذا العابد العظيم حتى يستحق هذا التنكيل ويمثل به بدلك التمثيل الفظيع ، ولكن ابن سمية ومعاوية قد راما بذلك تصفية الحساب مع شيعة أهل البيت والقضاء على روح التشيع.

عمرو بن الحمق الخزاعي :

وكان عمرو بن الحمق يحمل شعورا دينيا قويا حيا ، وكان من خيرة

الصحابة في ورعه وتقواه ، وهو الذي سقى النبي لبنا فدعا له (ص) بأن يمتعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاء نبيه فأخذ عمرو بعنق الثمانين عاما ولم تر في كريمته شعرة بيضاء(2) .

وكان من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن خلص أصحابه ، وقد دعاعليه‌السلام له فقال : « اللهم نوّر قلبه بالتقى ، واهده الى صراطك المستقيم »(3) ، وكان (ع) يكبره ويجله ويقدمه على غيره ، فقد قال

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522 ، وقال الحافظ الذهبي في التذكرة قتل زياد رشيدا الهجري لتشيعه ، فقطع لسانه وصلبه.

(2) الاصابة 2 / 526.

(3) سفينة البحار 2 / 360.

٣٧٠

له : « ليت في جندي مثلك مائة ». وقال لأمير المؤمنين معربا له عن ولائه واخلاصه :

« يا أمير المؤمنين ، والله ما أحببتك للدنيا ولا للمنزلة تكون لي بها ، وإنما أحببتك لخمس خصال ، إنك أول المؤمنين إيمانا ، وابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعظم المهاجرين والأنصار ، وزوج سيدة النساءعليها‌السلام ، وأبو ذريته الباقية من رسول الله (ص) ، فلو قطعت الجبال الرواسي ، وعبرت البحار الطوامي في توهين عدوك وتلقيح حجتك لرأيت ذلك قليلا من كثير ما يجب علي من حقك »(1) .

وقد دلّ حديثه على عقيدته وإيمانه وعظيم ولائه لأمير المؤمنين (ع) ولاء يلتمس منه وجه الله ويبغي فيه الدار الآخرة.

ولما ولى زياد الكوفة وتتبع زعماء الشيعة ووجوههم خاف الخزاعي من سلطته الغاشمة ففرّ الى المدائن ومعه رفاعة بن شداد فمكثا فيها برهة من الزمن ثم هربا الى الموصل وقبل أن يصلا إليها مكثا في جبل هناك ليستجما فيه ، وبلغ بلتعة بن أبي عبد الله عامل معاوية أن رجلين قد كمنا في جبل من جبال الموصل فاستنكر شأنهما فسار إليهما مع فريق من أصحابه ، فلما انتهوا الى الجبل خرج إليهما عمرو ورفاعة ، فأما عمرو فقد كان مريضا لأنه قد سقي سما وليس عنده قوى يستطيع بها على خلاص نفسه فوقف ولم يهرب ، وأما رفاعة فقد كان في شرخ الشباب فاعتلى فرسه ثم التفت الى عمرو فقال له : « أقاتل عنك؟ ».

فنهاه عن ذلك وقال له :

« وما ينفعني أن تقاتل انج بنفسك إن استطعت. »

__________________

(1) التعليقات ص 246.

٣٧١

ومضى رفاعة فهجم على القوم فأفرجوا له ، ثم خرجوا فى طلبه فلم يتمكنوا عليه لأنه كان راميا ، وأخذ عمرو أسيرا وطلبوا منه أن يعرفهم شخصيته فامتنع وقال لهم :

« أنا من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر لكم ».

وأصروا عليه أن يعرفهم نفسه ، فأبى ، فارتابوا من أمره ، فأرسلوه مخفورا الى عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي حاكم الموصل ، فلما رآه عرفه ورفع بالوقت رسالة الى معاوية عرفه بالأمر ، فأجابه :

« إنه زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشاقص(1) كانت معه ، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ».

فأخرجه عبد الرحمن وأمر بطعنه تسع طعنات فمات في الاولى أو الثانية منها(2) ثم احتز رأسه وبعثه الى معاوية فأمر أن يطاف به في الشام وغيره فكان أول رأس طيف به في الإسلام(3) ثم أمر به أن يبعث الى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فجيء به فوضع فى حجرها وهي غافلة لا تعلم من أمره شيئا ، فلما بصرت به اضطربت حتى كادت أن تموت ثم قالت ودموعها تتبلور على وجهها :

« وا حزناه لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نفيتموه عني طويلا ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية ».

__________________

(1) المشاقص : جمع مفرده ـ مشقص ـ النصل العريض ، أو سهم فيه نصل عريض.

(2) تاريخ الطبري.

(3) الاستيعاب 2 / 517.

٣٧٢

ثم التفتت الى الحرسي فقالت له :

« ارجع به أيها الرسول الى معاوية فقل له : ولا تطوه دونه ، أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك ».

ورجع الرسول الى معاوية فأخبره بمقالتها فغضب وغاظه كلامها فأمر باحضارها في مجلسه ، فجيء بها إليه فقال لها :

« أنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغنى؟ »

فانبرت إليه غير مكترثة ولا هيّابة لسلطانه قائلة :

« نعم ، غير نازعة عنه ، ولا معتذرة منه ، ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت فى الدعاء ان نفع الاجتهاد وإن الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئا من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك!! »

فالتفت إياس بن حسل الى معاوية متقربا إليه :

« أقتل هذه يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها ».

فقالت له : « تبا لك ، ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثم أنت تدعوه الى قتلي كما قتل زوجي بالأمس!!! إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ».

فضحك معاوية وقال متبهرا :

« لله درك اخرجي!! ثم لا أسمع بك في شيء من الشام ».

فقالت له : « وأبي لأخرجن ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا اعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحن فيها الى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة ».

وثقل كلامها على معاوية فأشار إليها ببنانه بالخروج ، فخرجت

٣٧٣

وهي تقول :

واعجبي لمعاوية يكف عنى لسانه ويشير الى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافد الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد ».

ثم خرجت من مجلسه(1) لقد كان قتل عمرو من الأحداث الجسام في الإسلام لأنه من صحابة النبي (ص) وقد عمد معاوية الى اراقة دمه فخالف بذلك ما أمر الله به من حرمة سفك دماء المسلمين إلا بالحق ، ولم يشف قتله غليل معاوية فقد أمر بأن يطاف برأسه في بلاد المسلمين وبعث به الى زوجته فروعها وكادت أن تموت من ألم المصاب ، وقد رفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية انكر فيها ارتكابه لهذا الحادث الخطير وهذا نصها :

« أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه ، واصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو اعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثم قتلته جرأة على ربك ، واستخفافا بذلك العهد »(2) .

لقد اشاد الإمام بفضل عمرو فذكر أنه صاحب رسول الله (ص) وانه قد أبلت العبادة جسمه ، كما ذكر ان معاوية قد ابرم عهدا خاصا فى شأنه يتضمن أمنه وعدم البغي عليه ولكنه قد خاس بعهده ولم يف به.

__________________

(1) أعلام النساء 1 / 4.

(2) التعليقات ص 246.

٣٧٤

أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن من المنددين بالسياسة الأموية ، ومن الناقدين لسلطتهم ، وكان يذيع مساوئهم بين أوساط الكوفيين فبلغ ذلك زيادا فبعث في طلبه فاختفى أوفى واستعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى فشك في أمره فقال لمن معه :

« من هذا؟ »

ـ أوفى بن حصن.

ـ عليّ به.

فجيء به إليه فقال متبهرا : « أتتك بخائن رجلاه تسعى ». ثم التفت إليه قائلا :

ـ ما رأيك في عثمان؟

ـ ختن رسول الله (ص) على ابنتيه.

ـ ما تقول في معاوية؟

ـ جواد حليم.

ـ ما تقول فيّ؟

ـ بلغني أنك قلت بالبصرة : « والله لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر »

ـ قد قلت ذلك.

ـ خبطتها خبط عشواء!!

ـ ليس النفاخ بشر الزمرة.

ثم أمر بقتله(1) ، إن نكران أوفى لسياسة زياد في ذلك الظرف

__________________

(1) الكامل 3 / 183.

٣٧٥

العصيب من اعظم الأعمال التي قام بها ، ومن أفضل الجهاد الذي عناه رسول الله (ص) بقوله : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم عند سلطان جائر ، فأمر به فقتل »(1) .

جويرية بن مسهر العبدي :

وكان جويرية من خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين ومن حملة حديثه ومن المقربين عنده فقد نظر إليه يوما فناداه : يا جويرية الحق بي فأني إذا رأيتك هويتك ، ثم حدثه ببعض أسرار الإمامة وقال له : « يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا فاذا أبغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما ابغضنا فاذا أحبنا فأحبه »(2) ، ودخل على أمير المؤمنين يوما وكان مضطجعا فقال له جويرية :

« أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ».

فتبسم أمير المؤمنين (ع) وانبرى إليه فأخبره بما يجري عليه من بعده من ولاة الجور قائلا :

« وأحدثك يا جويرية بأمرك ، أما والذي نفسي بيده لتعتلن(3) الى العتل الزنيم ، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر »(4) .

وما دارت الأيام حتى استدعى ابن سمية جويرية فأمر بقطع يده ورجله

__________________

(1) النصائح ص 60.

(2) ابن أبي الحديد وقريب منه جاء في التعليقات ص 366.

(3) لتعتلن : أي لتجذبن.

(4) الكافر : القصير.

٣٧٦

ثم صلبه على جذع قصير(1) ، وقد ألف هشام بن محمد السائب كتابا فى فاجعة جويرية ورشيد وميثم التمار(2) .

عبد الله بن يحيى الحضرمي :

وكان عبد الله الحضرمى من أولياء أمير المؤمنين ومن صفوة أصحابه وكان من شرطة الخميس(3) وقد قال (ع) له يوم الجمل :

« أبشر يا عبد الله فانك وأباك من شرطة الخميس حقا لقد أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس(4) .

ولما قتل أمير المؤمنين (ع) حزن عليه عبد الله حزنا مرهقا فترك الكوفة وبنى له صومعة يتعبد فيها هو وأصحابه المؤمنون ، ولما علم ابن هند بجزعهم وحزنهم على موت أمير المؤمنين (ع) أمر باحضارهم عنده ، فلما جيء بهم أمر بقتلهم صبرا فقتلوا(5) ففي ذمة الله هؤلاء الصلحاء الأخيار الذين سفكت دماؤهم ، وتقطعت أوصالهم ، ولم يرتكبوا ذنبا أو يحدثوا في الإسلام حدثا سوى ولائهم لأمير المؤمنين (ع) امتثالا لرسول الله صلى الله

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) التعليقات ص 366.

(3) الخميس : اسم من أسماء الجيش سمي به لأنه قد قسم الى خمسة أقسام المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة ، وقيل : إنما سمى به لأن الغنائم تخمّس فيه جاء ذلك فى نهاية ابن الأثير ، وذكرت بعض المصادر أن شرطة الخميس كانوا معروفين بالثقة والعدالة حتى كانت شهادة أحدهم تعدل شهادة رجلين.

(4) التعليقات ص 214.

(5) البحار 10 / 102.

٣٧٧

عليه وآله الذي فرض ودّه على جميع المسلمين.

ولم يقتصر معاوية في عدائه للشيعة على قتل زعمائهم ، فقد قام بأمور بالغة الخطورة وهي :

هدم دور الشيعة :

وبذل معاوية جميع جهوده في سبيل القضاء على شيعة أمير المؤمنين فأمر عماله أن يهدموا دورهم ، فقامت جلاوزته بهدمها(1) وقد تركهم بلا مأوى يأوون إليه كل ذلك لأجل القضاء على التشيع ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام .

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمل معاوية جميع ما يمكنه في اذلال الشيعة وفهرهم ، فقد كتب الى جميع عماله أن لا يجيزوا لأحد من شيعة أمير المؤمنين وأهل بيته شهادة(2) فامتثل العمال أمره ، فلم تقبل شهادة الشيعة وهم من ثقات المسلمين وعدولهم وأخيارهم.

اشاعة الارهاب والاعتقال :

وأذاع معاوية الرعب والإرهاب فى نفوس الشيعة فخلّد بعضهم في السجون حتى ماتوا ، وروّع جمعا آخرين حتى تركوا أوطانهم وفرّوا هائمين على وجه الأرض يطاردهم الخوف والرعب ، وقد قبضت شرطته

__________________

(1) اعيان الشيعة 4 / 46.

(2) شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 ، ذخيرة الدارين ص 19.

٣٧٨

على الكثيرين منهم فجيء بهم مخفورين إليه فقابلهم بالاستخفاف والاستهانة والتحقير ونحن نذكر أسماءهم مع ما جرى عليهم من العسف والظلم وهم :

1 ـ محمد بن أبي حذيفة :

محمد بن أبي حذيفة يعد في طليعة ثقات الإسلام ومن خيرة صالحاء المسلمين فقد كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وقد قال أمير المؤمنين (ع) في حقه : « ان المحامدة تأبى أن يعصى الله » ثم عده منهم ، وكان ملازما لأمير المؤمنين وفى خدمته ، ولما قتل (ع) وانتهى الأمر الى معاوية أراد قتله ثم بدا له أن يسجنه فسجنه أمدا غير قصير ، والتفت يوما الى أصحابه فقال لهم : « ألا نرسل الى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب عليا » فأجابوه الى ذلك ، ثم أمر باحضاره فلما مثل عنده التفت إليه قائلا :

« يا محمد ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب (ع) ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما وان عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه وان عليا هو الذي دس الناس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه ».

فأجابه محمد : « إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم بك ».

فقال له معاوية : أجل. واندفع محمد فقال له :

« فو الله الذي لا إله غيره ما اعلم أحدا شرك في دم عثمان والّب الناس عليه غيرك لما استعملك ، ومن كان مثلك فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ففعلوا به ما بلغك ، والله ما أحد شرك فى قتله بدئا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة فهم الذين شهدوا عليه بالعظمة وألّبوا عليه الناس وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعا ».

٣٧٩

فارتاع معاوية وقال منكرا عليه :

« قد كان ذلك؟!! »

« أي والله ، وإني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد الإسلام فيك لا قليلا ولا كثيرا وإن علامة ذلك فيك لبينة تلومنى على حبي عليا ، خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وانصاري وخرج معك ابناء المنافقين والطلقاء والعنقاء خدعتهم عن دينهم ، وخدعوك عن دنياك ، والله يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ احلوا انفسهم بسخط الله في طاعتك ، والله لا ازال احب عليا لله ولرسوله ، وابغضك في الله ورسوله ابدا ما بقيت!! »

ففزع معاوية وقال : « إني اراك على ضلالك بعد ردوه الى السجن »

فردوه للسجن فمكث فيه مدة من الزمن حتى مات فيه(1) .

لقد لاقى محمد حتفه وهو مروع في ظلمات السجون لأنه لم يرتض اعمال معاوية ولم يقره على منكراته ومساوئه ، وهكذا كان مصير الأحرار والنبلاء المعارضين لحكومة معاوية يلاقون التعذيب والتنكيل والتخليد في السجون.

2 ـ عبد الله بن هاشم المرقال :

ومن زعماء الشيعة وعيونهم الذين روعهم معاوية الزعيم المثالي عبد الله ابن هاشم المرقال ، فقد كان معاوية يحمل فى نفسه كمدا وحقدا عليه وذلك لولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) ولموقف ابيه هاشم في يوم صفين ذلك الموقف الخالد الذي اخافه وارهبه حتى صمم على الهزيمة والفرار ، وللتشفي والانتقام منه فقد كتب الى عامله زياد رسالة يطلب فيها القبض على عبد الله

__________________

(1) رجال الكشي ص 47.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778