سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459086 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

السابقة إلاّ ليالي قلائل حتى أغار « عيينة من حصن الفزاري » بمساعدة بني غطفان ، على إبل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة ( وهي موضع قرب المدينة من ناحية الشام ) كانت مرعى أهل المدينة ، وكان فيها آنذاك رجل من بني غفار ، وامرأة مسلمة له ، فقتلوا الرجل ، وأخذوا معهم المرأة والإبل.

وكان أول من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه وقوسه ونبله ، يريد الصيد ، حتى إذا علا « ثنية الوداع » نظر إلى بعض خيول المغيرين ، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثا ومستنجدا : وا صباحاه ،

ثم خرج يشتد في آثار القوم ( المغيرين ) فجعل يردّهم بالنبل ، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من سمع صراخ ابن الاكوع واستغاثاته ، فصرخصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مستغيثا : الفزع ، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم « سعد بن زيد الاشهليّ » وقال له :

« اخرج في طلب القوم ، حتى الحقك في الناس ».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم ، وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ورائهم ، حتى أدركوا القوم في ذي قرد ، فوقع بين المسلمين ، وبين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان ، ومن المعتدين ثلاثة ، واستنقذت المرأة ، وبعض الابل المسروقة ، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان ، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة يوما وليلة ، تخويفا للعدوّ ، ولم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم ، واستنقاذ بقية السرح ( الابل ).

٣٠١

ثم رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قافلا حتى قدم المدينة(١) وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة(٢) .

النذر غير المشروع

واقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرته بما جرى ثم قالت : يا رسول الله إني قد نذرت إن نجّاني الله على هذه الناقة ، أن أنحرها فآكل كبدها وسنامها.

فتبسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

« بئس ما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها ، انه لا نذر في معصية ، ولا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله »(٣) .

وبذلك بيّن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكما في مجال النذر ، وهو أن النذر لا يصح في مال الغير ، فلا نذر إلاّ في ملك.

والقصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولطفه بأصحابه واتباعه ، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف ، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٥٥ ، المغازي : ج ٢ ص ٥٣٧ و ٥٤٩.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٦٠ و ٢٦١.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨١ ـ ٢٨٩ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٣٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٦٣ قال صاحب الامتاع : وكانت الناقة هي القصواء ، والقصواء اسم ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٠٢

حوادث السنة السادسة من الهجرة

٤٠

تمرّد بني المصطلق

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر ، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية ، ومن دون خوف ، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي كان يتواجد فيها القبائل المشركة ، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

واذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم ، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم على شراء الاسلحة ، وبعث السرايا ، والمجموعات العسكرية ، ولكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية ، ومجموعات الارشاد والدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة ، والاذى ، بل والاغتيال من قبل العدو ، لذلك كان رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضطرا بحكم العقل والفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتلخص في إحدى الامور التالية :

١ ـ الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة ، مثل معركة « بدر » و « احد » و

٣٠٣

« الخندق ».

٢ ـ تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين ، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية ، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم ، وتتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث ( بني قينقاع ، بني النضير ، بني قريظة ) وبني لحيان.

٣ ـ افشال واحباط المؤامرات ، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال والاسلحة غزو المدينة ، واكتساح عاصمة الاسلام ، واستئصال المسلمين ، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المصطلق :

كان بنو المصطلق من قبائل « خزاعة » المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة ، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها ، فقرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو : « بريدة » إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم ، فذهب بريدة ، ودخل فيهم وتحادث ـ في هيئة متنكرة ـ مع رئيسهم وعرف بنيته ، ثم عاد إلى المدينة واخبر رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رآه وسمعه ، وأن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى « المريسيع » ، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين ، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

٣٠٤

لا يطول القتال بين المسلمين وبين « بني المصطلق » فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال ، كما وقتل رجل مسلم خطأ ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق(١) .

هذا وان النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حوادث هذه الغزوة ، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين والأنصار ، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهو سهم لو لا تدبير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته ، الرشيدة التي أنهت كل شيء ، وابقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم « جهجاه بن مسعود » وهو من المهاجرين و « سنان بن وبر الجهني » وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني ـ مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين ـ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، وكاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة ، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام ومركزه ، ويتعرض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار ، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك قال :

« دعوها فإنها منتنة »(٢) .

أي أن هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلاّ من دعوى

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٦٠ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٢٩٠ ( الهامش ).

٣٠٥

الجاهلية ، وقد جعل الله المؤمنين إخوة وحزبا واحدا ، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ، وإلاّ كانت جاهلية ، لا قيمة لها في الإسلام(١) .

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها ، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف :

أجل لقد استطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فكيف الفريقان ( القبيلتان ) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلاّ أن « عبد الله بن ابي » رئيس حزب المنافقين بالمدينة ، والذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة ، أظهر ـ في هذه الحادثة ـ حقده ، وضغينته على الإسلام ، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم ، لقد نافرونا ( أي المهاجرين ) وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ويقصد بالأذل المهاجرين )!!!

فتركت كلمات « ابن ابي » أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية ، أثرها في نفوسهم ، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة ، والاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين ـ أنصارا ومهاجرين ـ بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

__________________

(١) راجع هوامش السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٠.

٣٠٦

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة رد على « ابن ابي » بكلمات قوية شجاعة اذ قال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، والله لا احبّك بعد هذا أبدا.

ثم نهض ومشى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره الخبر ، فرده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرات حفظا للظاهر ، قائلا : لعلّك وهمت يا غلام ، لعلّك غضبت عليه ، لعلّه سفّه عليك.

ولكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مقالة المنافق الخبيث « عبد الله بن ابي » ، وتحريكه للناس ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقتل « ابن ابي » قائلا : مر به عبّاد بن بشر فليقتله(١) .

ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاب عمر بقوله :

« فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه ، لا »(٢) .

ولقد مشى « عبد الله بن ابي » إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بلغه أنّ « زيد بن الارقم » قد بلّغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمع منه ، فحلف

__________________

(١) تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة وبسالة ، بل كان في صف المتقاعدين دائما. ولكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله ونذكر للمثال ما يلي :

أ ـ هذا المورد الذي طلب فيه من رسول الله أن يقتل ابن أبي.

ب ـ طلبه من النبي بأن يقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة.

جـ ـ طلبه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبيل فتح مكة ، وغير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٠٢.

٣٠٧

بالله : ما قلت ما قال ، وقال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الامر لم ينته إلى هذا ، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا ، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرتحل فيها عادة.

فجاءه « اسيد بن حضير » ، وقال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل »؟

فقال اسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل ، وأنت العزيز ، ارفق به يا رسول الله ، فو الله لقد جاء الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، وأنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرحيل فارتحل الناس ، وسار بهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومهم ذاك حتى أمسى ، وليلتهم تلك حتى أصبح ، من دون أن يسمح لهم بالنزول والاستراحة ، إلاّ للصلاة ، وسار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس وسلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة ، فنزل الناس ، ولم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب ، وقد نسوا كل شيء من تلك الذكريات المرّة ، وكان هذا هو ما يريده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

٣٠٨

« عبد الله بن ابي » المنافق المفتّن(١)

صراع بين الايمان والعاطفة :

كان عبد الله ابن « عبد الله بن ابي » من فتيان الإسلام الشجعان ، ومن فرسانه البواسل ، وكان ـ كما تقتضيه تعاليم الإسلام ـ يبر بأبيه المنافق أكثر من غيره ، ولكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظن أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيقتل أباه جاء الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله انه قد بلغني أنك تريد قتل « عبد الله بن ابي » ، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تامر به غيري ، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله ، فأقتل ( رجلا ) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

إن حديث هذا الفتى يعكس ـ في الحقيقة ـ أعظم تجليات الإيمان وآثاره في النفس ، والروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما هو بأمر الله تعالى ، ولكن ابن عبد الله كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة والابوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه ، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين « ابن أبي » ، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان ، ومقتضى العاطفة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٦١ و ٢٦٢ ، مجمع البيان : ج ١٠ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٥.

٣٠٩

ولقد اختار عبد الله بن عبد الله بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع ، يضمن مصالح الإسلام من جهة ، ويحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

وهذا العمل وان كان شاقا مؤلما إلاّ أن قوة الايمان بالله والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة والسكون.

ولكن النبي الرحيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ردا على سؤال واقتراح عبد الله بن عبد الله بن أبي :

« بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا »!!!

وهذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومبلغ رحمته ، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق « عبد الله بن أبي » ، ولحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل ، وهوان ما وراءه هوان ، واحتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به ، ويقيم له وزنا.

لقد علّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا ، وأظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية ، والرشيدة.

فقد تحطم « عبد الله بن أبي » رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة ، ولم يعد له أي دور ، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول الله ، وعفو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه ، واغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار ، وسقوط محله في القلوب :

« كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لارعدت له انف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ».

فقال عمر : قد والله علمت لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم بركة

٣١٠

من أمري(١) .

الزواج المبارك :

كانت « جويرية » بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق ، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

« فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا »؟!

فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمن هو ووالده به ، وأسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه ، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى رسول الله ودفعت إليه ابنته « جويرية » فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبيها ، فزوّجه اياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا : أصهار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى وكانوا مائة عائلة ، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها ، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٢ و ٢٩٣ وفي السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢٩١ : لأرغدت له أنوف ، وتعني هذه القولة النبوية الشريفة : ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد الله بن أبي لدافع عنه اناس حمية وعصبية ، ولكنه اليوم وبعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

٣١١

المصطلق.

وهكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك ، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة ، وعادوا الى قبيلتهم(١) .

الفاسق يفتضح :

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة ورغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلاّ حسن المعاملة والإحسان والعفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل إليهم « وليد بن عقبة بن أبي معيط » لجباية زكاتهم ، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله ، وأنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم ، فطلب المسلمون غزوهم ، وفي الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق ، اذ يقول تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ »(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٥ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٩٨ و ١٩٩.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٦ و ٢٩٧.

٣١٢

٤١

قصة الإفك

بقي رئيس حزب النفاق عبد الله بن ابي يواصل تجارته بالجواري ، والإماء ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن ، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة ، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا ، فشكين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت إحداهن : إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء : «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا »(١) (٢) .

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا ، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي(٣) ، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين ، والمؤمنات ، وبغيا وحسدا.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) مجمع البيان : ج ٤ ص ١٤١ ، الدر المنثور : ج ٥ ص ٤٦.

(٣) اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا ، وستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض.

إن ما يستفاد من الآيات والروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالا أن امرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها ، وأما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك ما لا يمكن البت فيه ، على وجه القطع واليقين.

٣١٣

حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة ، فان العدوّ المشرك والكافر يعمد دائما إلى إشفاء غيظه واطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والاوقات.

ولكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان ، ويتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه ، فان عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار ، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبد الله بن ابي.

ولقد ظهرت ذلّة « عبد الله بن ابي » رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق ، وقد منعه ابنه من دخول المدينة ، ولم يسمح له بدخولها إلاّ بوساطة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه ، فيما كان يطلب هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكف عنه ولده.

إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله ويذهب غيظه ، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات ، وترويجها واشاعتها ليستطيع من خلال ذلك ، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع ، وكذا بلبلة الرأي العام ، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين ، وابعاد الناس عنهم.

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب :

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة « الإفك » أن المنافقين اتهموا شخصا

٣١٤

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا ، تحقيقا لمآربهم الدنيئة ، واضرارا بالمجتمع الاسلاميّ ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قل نظيرها ، وأبطل خطتهم.

فمن هو ـ ترى ـ ذلك البريء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين ، فالاكثرون على أنها « عائشة » زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويرى الآخرون أنها « مارية » القبطية أم إبراهيم وزوجة رسول الله أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. وها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو : « عائشة » وتوضيح ما يصح وما لا يصح في هذا المجال :

دراسة القول الأوّل :

يرى المحدّثون والمفسرون من أهل السنة أن نزول آيات « الإفك » يرتبط بعائشة ، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم نستعرض آيات الإفك ، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى « عائشة »(١) نفسها ، فهي تقول : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل

__________________

(١) راجع الدر المنثور : ج ٥ ص ٢٤ ـ ٣٤.

٣١٥

الناس وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي ، فيه جزع ظفار ، ( أي خرز يمني ) فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدّوه على البعير ولم يشكّوا أني فيه ، ثم اخذوا رأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو الله إني لمضطجعة اذ مرّ بي صفوان السلمي ( وهو من فرسان الاسلام ) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا متلففة في ثيابي. قال : ما خلّفك يرحمك الله. فما كلّمته ، ثم قرّب البعير فقال : اركبي ، واستأخر عنّي فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا يطلب الناس ، فو الله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ؛ وارتعج العسكر ( أي شكوا فيّ ) وو الله ما اعلم بشيء من ذلك. حتى نزلت آيات « الإفك » تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات « الإفك » ، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإليك الآيات التي نزلت في هذا المجال :

«إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

٣١٦

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »(١) .

أبرز النقاط في آيات « الإفك » :

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم ، وإليك هذه القرائن :

١ ـ يقال : إن المراد من قوله سبحانه : «وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ » هو « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين ، وكبيرهم.

٢ ـ لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ : « عصبة » وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة ، التي يربطها هدف واحد وتحدوها غاية واحدة وتفيد أنهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلاّ المنافقون.

٣ ـ ان « عبد الله بن ابي » بسبب منعه من الدخول إلى المدينة ، بقي عند مدخل المدينة ، فلمّا شاهد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشفاء لغيظه ، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة والبهتان ، وقال إن زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتت مع اجنبى في تلك الليلة وو الله ما نجا منهما من الإثم أحد.

__________________

(١) النور : ١١ ـ ١٦.

٣١٧

٤ ـ إنه تعالى يقول في نفس الآية ( أي الحادية عشرة ) : «لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ».

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم ، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة ، مذكورة في محلها.

الزوائد في هذه القصة :

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم ، ولا يتنافى مع عصمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا ـ نقلها عنه الآخرون في الاغلب ـ تعاني من إشكالين أساسيين هما :

١ ـ منافاتها لمقام النبوة والعصمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها :

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ( أي مرضت ) ولا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلاّ أنّي قد أنكرت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض لطفه بي ، وكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل عليّ وعندي امّي تمرضني قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني ، فقال : لا عليك ، فانتقلت إلى امّي ، فقلت لامّي : يغفر الله لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ، فقالت : أي بنيّة هوّني

٣١٨

عليك الشأن فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلاّ كثّرن ، وكثر الناس عليها.(١)

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور « اسامة بن زيد » في الامر ، فأثنى عليّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول الله أهلك ولا نعلم منهم إلاّ خيرا ، وهذا الكذب والباطل!!

وشاور عليّا فقال : يا رسول الله إن النساء لكثير ، وانّك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فانّها ستصدّقك ( إي جارية عائشة ) فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة ليسألها ، فقالت : والله ما أعلم إلاّ خيرا ، وما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة ، وشاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية ، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم ، وحتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم ، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية ١٢ و ١٤ من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى :

«لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ »؟!

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٦ تفسير سورة النور ص ١٠٢ و ١٠٣ وكذا الجزء ٥ ص ١١٨ السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٩

٣١٩

«وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »؟!(١) .

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول : ان هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، والحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأن هذا الخطاب والتوبيخ موجّهين إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفض ما يتنافى معها.

٢ ـ سعد بن معاذ توفي قبل حادثة « الإفك » :

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها : بعد أن سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة عن أمري ، فقالت فيّ خيرا وصعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : « من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي ( أي من يؤدبه ) ويقولون لرجل ، والله ما علمت على ذلك الرجل إلاّ خيرا ، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلاّ معي ويقولون عليه غير الحق ».

فقام « سعد بن معاذ » وقال : أنا اعذرك منه يا رسول الله إن يك من الأوس آتك برأسه ، وإن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على « سعد بن عبادة » وغضب منه ، فقام وقال : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله(٢) .

__________________

(١) أي لما ذا ـ عند ما سمعتم بهذا الافتراء ـ لم تظنوا بأنفسكم خيرا وقلتم : هذا إفك ، ولما ذا ـ عند ما سمعتم بهذا الكلام ـ لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.

(٢) كان « سعد بن معاذ » رئيس الاوس و « سعد بن عبادة » رئيس الخزرج ، وكانت بين هاتين ـ

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٥١

غزوة الطائف

« الطائف » من مصايف الحجاز ومن المناطق الخصبة ، الكثيرة الزرع فيها ، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (١٢) فرسخا منها ، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف ، وبساتينها المثمرة ، ونخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا وموطنا لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة « حنين » ضدّ الاسلام والمسلمين ، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى « أوطاس » فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة ، واستطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو ويفرق جمعه(١) .

وأما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩١٥ و ٩١٦.

٥٢١

الطائف(١) ، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة « حنين » ورأس المؤامرة ، فهدمه وسوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن « مالك » لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى ، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا ، مرتفع الجدران ، قوي البنيان ، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها ، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها ، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

وهنا اقترح « سلمان الفارسي » الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب ، وكان ذا خبرة بفنون القتال ، اقترح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يرمي الحصن بالمنجنيق(٢) ، وكان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان ، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

ولكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٣.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤١٧.

٥٢٢

فزاد من رميه واستمر في ذلك ، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك(١) .

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق ، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة(٢) .

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر ، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال ، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة « دوس » في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة ، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته ، فقد قدم الطائف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين ، وقد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق :

كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي ، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام ، مضافا إلى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٤ ص ١٢٦ ، وابن هشام يرى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

٥٢٣

رمي الحصن بالمنجنيق ، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى ، لأن السهام والاحجار ، والنيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر ، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن ، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب وتغطى بجلود البقر ، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه ، ويقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن ، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة ، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها ، واضطرّ أفرادها الى الخروج منها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا ولم ينتج هذه التكتيك القتالي ، ولم يتحقق أي نجاح في هذا المجال ، فانصرف المسلمون عن استخدامه(١) .

ضغوط اقتصادية ونفسية :

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية ، بل للقائد الحكيم أن يستخدم ـ لاضعاف قوة العدو وكسر صموده ـ الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربة النفسية والاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية ، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة ، ونخيل وأعناب ، وكانت معروفة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٢٨.

٥٢٤

في الحجاز بخصبها ، وكثرة محاصيلها وخيراتها ، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها ، ويولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا ، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن ، والمعتصمين به ، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف ، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو النبي الذي عرف برحمته ورافته ـ يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت « ثقيف » أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدر أوامره بقطع الأعناب ، واتلاف المزارع وتحريقها ، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت « ثقيف » لذلك وضجّت ، واستغاثت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك ، فتركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين « ثقيف ».

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيرى معركة حنين والطائف ، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا ، فابدى وللمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال ، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهده من أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفّ عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

٥٢٥

آخر محاولة لفتح حصن الطائف :

كانت قبيلة « ثقيف » جماعة ثريّة ، وذات مال كثير ، وعبيد وإماء كثيرين ، ولكي يحصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن ، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة ، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي : وينادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ.

ونفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما ، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف ورقيقهم ، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام ، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا ، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي ، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيش الاسلام يعود الى المدينة :

استخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ ، وقد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي وامكاناته ـ يومذاك ـ لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب ، والانتظار والتوقف ، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك :

أولا : لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (١٣) مسلما سبعة منهم من قريش ، وأربعة من الانصار ، ورجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي « حنين » إثر هجوم العدوّ الغادر ، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي ، والذين لم يذكر التاريخ مع

٥٢٦

الأسف أسماءهم ، وخصوصياتهم ، ولهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

وثانيا : أن شهر شوال قد انتهى ، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة ، وأكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري ـ حفاظا على هذه السنّة ـ(١) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخالفة السنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج ، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين ، بعد أن كانت ـ قبل ذلك ـ تدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام ، وبيان حقيقة التوحيد ، وكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة ، في مجال الدعوة ، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

__________________

(١) ويدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدة الحصار عشرين يوما ، وصرفت بقيّة الايام ( وهي خمسة ) في المسير إلى حنين ، وفي المعركة.

وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوما يستند إلى رواية نقلها ابن هشام ، إلاّ أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوما ( الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٨ ).

٥٢٧

حوادث ما بعد الحرب :

انتهت حوادث معركة « حنين » و « الطائف » وعاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون تحقيق نتيجة قطعية الى « الجعرانه » لتقسيم غنائم معركة « حنين ».

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة « حنين » كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم قدم « الجعرّانة » كان هناك ستة آلاف أسير و (٢٤) ألف من الإبل واكثر من (٤٠) ألف رأس غنم و (٨٥٢) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم(١) وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « الجعرّانة » ثلاثة عشر يوما ، وفي هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى ، وتركهم لذوبهم ، وخطّط لاخضاع ( او بالاحرى إسلام ) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب ، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم ، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام ، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة ، وأنهى نقاشا حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة :

١ ـ لقد دأب رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على احترام حقوق الأفراد ، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت ، وعلى أن لا يبخس أحدا عمله ، فإذا أحسن

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٢.

٥٢٨

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد رضع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن ، وقد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى « حليمة السعدية » ، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين ، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا ، وقد ندمت على فعلها ندما شديدا.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشأ وترعرع فيهم ، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل ، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا « الجعرانة » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو « زهير بن صرد » والآخر عم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة ، فقالوا : يا رسول الله إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك وخالاتك ، وحواضنك ، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ورأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ، وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ الله عليك.

وقال زهير بن صرد : يا رسول الله إنّما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

٥٢٩

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم :

« إن أحسن الحديث أصدقه ، وعندي من ترون من المسلمين ، فابناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم »؟

قالوا : يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فردّ علينا أبناءنا ونساءنا.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم واسأل لكم الناس وإذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا : إنا لنستشفع برسول الله الى المسلمين ، وبالمسلمين الى رسول الله فاني سأقول : لكم ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس ».

فلما صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنا نستشفع برسول الله الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.

وبهذا وهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون : أمّا ما كان لنا فهو لرسول الله.

وقال الانصار : ما كان لنا فهو لرسول الله.

وهكذا وهب الانصار والمهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتأخر عن ذلك إلاّ قليلون مثل « الاقرع بن حابس » و « عيينة بن حصن » فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما ، ويطلق سراح ما عندهم من السبايا ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء ، والأموال ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء ، فمن كانت عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل ،

٥٣٠

ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردّ عليهم ، فله بكل انسان ست فرائض ( أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا ) من أول ما يفيء الله به علينا(١) .

فكان لعمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع « عيينة » من ردّها إلى ذوبها.

وهكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته ـ قبل ستين عاما ـ في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية ، فاتت اكلها بعد مدة طويلة ، واطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى والسبايا من هوازن(٢) .

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا اخته من الرضاعة « الشيماء »(٣) وبسط لها رداءه ثم قال : اجلسي عليه ، ورحّب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن امّه وابيه من الرضاعة ، فاخبرته بموتهما في الزمان ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :

« إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة وإن أحببت أن امتّعك وترجعي الى قومك فعلت ».

فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي ، فمتّعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردّها الى قومها ، بعد أن أسلمت طوعا ورغبة ، وأعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أعبد وجارية(٤) .

وقد قوّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام ، فاسلموا من قلوبهم ، وهكذا فقدت

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٤٩ ـ ٩٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٣ و ١٥٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٠ ، والحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول الله تعالى : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ( النحل : ٩٧ ).

(٣) هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.

(٤) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٣٦٣ و ٣٦٤ ، الامتاع : ج ١ ص ٤١٣.

٥٣١

« الطائف » آخر حليف من حلفائها.

٢ ـ اسلام مالك بن عوف :

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرصة ليعالج مشكلته مع « مالك بن عوف النصري » مثير حرب حنين ، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام ، وعزله عن حليفه : « ثقيف ».

ولهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول الله هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل ».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمانه المشروط ، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام ، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه ، أن يخرج من الطائف ، ويلتحق بالمسلمين ، ولكنه كان يخشى أن تعرف « ثقيف » بنيته فتحبسه في الحصن ، ولهذا عمد الى خطة خاصة للفرار ، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف ، فركب فرسه وركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها ، فلحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فادركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وماله ، وأعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل ، واسلم فحسن إسلامه ، ثم استعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من أسلم من قومه وقبائل « ثمالة » و « سلمة » و « فهم ».

وقد انشد « مالك بن عوف » أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتدي

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

٥٣٢

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

بالسمهريّ وضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله

وسط الهباءة خادر في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام ، وبعد أن أدرك قبح موقف « ثقيف »(١) .

٣ ـ تقسيم الغنائم :

كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب ، ولكي يدلّل النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال :

« أيّها الناس والله مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاّ الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فادّوا الخياط والمخيط فإن الغلول ( أي الخيانة في بيت المال ) يكون على أهله عارا ، ونارا ، وشنارا يوم القيامة ».

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم أموال بيت المال بين المسلمين ، واما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم ، ويتألف بهم قومهم ، فأعطى من هذا المال لـ : أبي سفيان بن حرب ، وابنه معاوية ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن جارية وصفوان بن أميّة ، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك ورموز الكفر ، لكلّ واحد منهم مائة بعير(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩١ وعرّدت أي عوّجت.

(٢) راجع المحبّر : ص ٤٧٣ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٤٤ ـ ٩٤٨ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٤٩٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٣.

٥٣٣

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برحمته ، ولطفه ، وعنايته ، وكرمه ، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم : وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا(١) .

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شقّ على بعض المسلمين ، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها ، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا النوع من البذل والعطاء ( وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم ).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم ( وهو ذو الخويصرة التميمي ) قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل وقاحة : يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ، لم أرك عدلت!!

فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كلامه هذا وقال :

« ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون »؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأذن له بقتله ، فلم يأذن له النبي وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين ( أي يتتبّعون أقصاه ) حتى

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٣ ص ١٥٣.

٥٣٤

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة »(١) .

وقد كان هذا الرجل ـ كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّعليه‌السلام ، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة ، غير أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع « سعد بن عبادة » شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد : اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة ، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه جلال النبوة ، وهيبة الرسالة ، فحمد الله واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال :

« يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله وعالة فاغناكم الله ، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم »؟

قالوا : بلى الله ورسوله أمنّ وافضل!

قال :

ألا تجيبوني يا معشر الانصار »؟

قالوا : وما ذا نجيبك يا رسول الله ولرسول الله المنّ والفضل؟

قال :

« أما والله لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ومخذولا فنصرناك

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٢٢ ، وفي المغازي : ج ٣ ص ٩٤٨ أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيه : « دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يخرجون على فرقة من المسلمين ». وراجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٢٥ وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

٥٣٥

وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك!(١) وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟

والذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ».

ثم ترحّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال :

« اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ».

وقد كانت كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار ، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم وابتلّت بالدموع وقالوا : رضينا يا رسول الله حظّا وقسما!!!

ثم انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفرّقوا(٢) .

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن حنكته السياسيّة البالغة ، وكيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول الله يعتمر :

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من الجعرانة معتمرا ، بعد ان قسم الغنائم ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة ، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة ، أو أوائل شهر ذي الحجة.

__________________

(١) إن هذا يفيد ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٩٨ و ٤٩٩ ، المغازي : ج ٣ ص ٩٥٧ و ٩٥٨.

٥٣٦

٥٢

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

« بانت سعاد »

فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف شهر ذي القعدة ، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، وكان موسم الحج على الأبواب ، وكانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب ، مسلمين ومشركين ، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالا ، وكان من الممكن ـ وبفضل قيادته الحكيمة ـ أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقوية وواسعة إلى الاسلام ، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر ، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتفي بعمرة ، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي ( نعني مكة ) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها ، وحتى تجري الامور على النسق الصحيح والمطلوب.

٥٣٧

من هنا استخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتّاب بن اسيد » على مكة ، وكان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر والجلد ، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة ، وقد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل ( أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر ، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة ، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ ) حطّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سدّا خياليا ، ومفهوما باطلا في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عتابا » على أهل مكة قالوا : إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة ، ونحن مشايخ ذو والاسنان فاجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله في كتاب كتبه لعتاب :

« لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه ، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر وهو الاكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به ومن خالفه فلا يبعد الله غيره »(١) .

وبهذا أثبتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة ، والكفاءة ، وأنّ صغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان « عتّابا » قام فخطب في الناس فقال : أيّها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درهما كل يوم ، فليست بي حاجة إلى أحد(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٢٢ و ١٢٣. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٣٢ و ٤٣٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠٠.

٥٣٨

وأحسن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاختيار أيضا عند ما عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين ، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه ، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعثه للقضاء ، الى اليمن سألهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بم تقضي إن عرض قضاء فقال : أقضى بما في كتاب الله.

قال : فان لم يكن في كتاب الله؟

قال : أقضي بما قضى به الرسول.

قال : فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال : أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدره ، وقال :

« الحمد الله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله »(١) .

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى :

كان « زهير بن أبي سلمى » من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي ، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم ، وكانت تفتخر بها العرب ، وتبدأ معلّقته تلك بقوله :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

وقد توفي « زهير » قبل عصر الرسالة ، وخلّف ولدين هما : « بجير » ، و « كعب » وكان الأول ممّن آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصره ، وأحبّه ، بينما عادى الثاني ( كعب ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدّة ، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية ، لهذا كان يهجو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصائده

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٣٤٧ و ٣٤٨ ، ويكتب الجزري في اسد الغابة : ( ج ٣ ص ٣٥٨ ) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

٥٣٩

وأشعاره ويؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان « بجير » قد شارك مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فتح مكة ، وحصار الطائف ، وقد شاهد عن كثب كيف هدّد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤلّبون الناس ضدّ الإسلام ، وأهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه ( كعب ) ونصحه في آخر كتابه قائلا : إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه ، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهيأ لصلاة الصبح ، فصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأوّل مرّة ثم جلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعرفه ، فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم.

قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير(١) .

ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي كان قد أنشأها من قبل ، وانشدها بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء وطعن في سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) روي أنه وثب على كعب ـ في تلك الحال ـ رجل من الانصار فقال : يا رسول الله دعني وعدوّ الله أن أضرب عنقه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا ( عما كان عليه ) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠١.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤٢.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778