سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459072 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

لا اكراه في الدين وأما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم الله منه الصدق لنجاه حتما.

ولقد كانت نظرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم ، وقد تجلت صوابيته وحقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد ، لانه لم يمض زمن طويل إلاّ وقريش ـ وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة ـ طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف ، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم وبقاعه ، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها ، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة ، وقالوا : ان الاسلام انتشر بالقوة ، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام ، ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف ، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين وغير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام وحقيقة تعاليمه السامية ، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة ، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة ـ مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق ، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة ـ وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح :

كانت مقدمات الميثاق المذكور ، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين ، فلو أن رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بامحاء كلمة « رسول الله » من اسمه ، وبدأ الميثاق بعبارة « باسمك اللهم » على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

٣٤١

الصلح ، واقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين ، ويعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش وتعنته ، ولو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يرضخ لهذا الشرط ( استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط ومعارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش ، وحفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين ) لتعطّلت عملية السلام ، ولما تحقق الصلح ، ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل الضغوط من جهة ، وتحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى ، ليصل الى المقصد الأعلى والهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة ، لكان « سهيل » يتسبب ـ بسبب تصلبه الارعن ـ في اشتعال نائرة الحرب.

والقصّة التالية تشهد بما نقول :

حينما انتهت مفاوضات السلام ، وبينما كان الامام عليعليه‌السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك ، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل ( المفاوض ) مدة طويلة.

ولم يكن لابي جندل من ذنب إلاّ أنه اختار التوحيد عقيدة ، والاسلام دينا ، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبا شديدا فحبسه أبوه.

٣٤٢

وكان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه ، فهرب من محبسه وانفلت الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب ، والوديان.

فلما رأى « سهيل » ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه ، ولجأ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام إليه فضرب وجهه ، واخذ بتلابيبه ثم قال : يا محمّد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

ولا شك أن كلام « سهيل » كان باطلا ، ولا مبرر لطلبه ، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق ، ولم يوقع عليه الطرفان ، ولم ينته ـ بالتالي ـ من مراحله النهائية والأخيرة بعد ، فكيف يمكن الاستناد إليه ، ولهذا أجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا :

« إنا لم نرض ( نقض ) بالكتاب بعد »(١)

فقال سهيل : إذا والله لا اصالحك على شيء أبدا ، حتى ترده إليّ ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز وحويطب من تصلب سهيل وتشدده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا : نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع ، والجدال ، ولكن إصرار سهيل على موقفه ، أبطل تدبيرهما اذ قال : يا محمّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل ان ياتيك هذا(٢) .

فاضطرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام ، ولهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده ، لإعادته الى مكة ، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٣٤.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١ لجّت : وجبت وتمت.

٣٤٣

« يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم ».

وانتهت جلسة المفاوضات ، وتمّ التوقيع على نسختي الميثاق ، وعاد سهيل ورفاقه إلى مكة ، ومعهم « أبو جندل » ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب ، ونحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان معه من الهدي(١) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا(٢) .

تقييم عاجل لصلح الحديبية :

بعد أن فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عقد صلح الحديبية بينه وبين رءوس الشرك ، وبعد أن توقف في أرض الحديبية مدة ١٩ يوما عاد هو وأصحابه الى المدينة ، وعاد المشركون إلى مكة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته ، بين أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام ، وقليل منهم كان يعدّه مضرا بمصلحة الاسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية وتجرد ، ونستعرض طرفا من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية ، ونتائجها.

ان الذي نراه هو : ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة ، وانه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا ،

__________________

(١) أي الابل التي ساقها معه.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٨١ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٣ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣١٨. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٩٤ و ٣٩٥.

٣٤٤

لا شك فيه ، وإليك أدلة هذا الرأي :

١ ـ إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين ، والتحريكات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها في حوادث « احد » و « الاحزاب » على نحو الاختصار ، لم تترك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرصة لنشر الاسلام بين القبائل ، وفي المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب ، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة ، فقد كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ألف وأربعمائة ولكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف ، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة ، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب ، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية ، وأعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل ، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الاسلام.

٢ ـ إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الاسلام ، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم ، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

ولقد أثار نظم المسلمين ، واخلاصهم ، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين ، في أوقات الصلاة خاصة ، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة ، وخطب رسول الله

٣٤٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرائعة ، واللذيذة ، وآيات القرآن الكريم البليغة ، والسهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة وشتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة ، والاتصال بذويهم وأقاربهم ، والتحدث معهم في أمر الاسلام وتعاليمه المقدسة المحبّبة ، وقوانينه وآدابه الرائعة ، وما جاء به من حلال وحرام.

وقد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين ، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة ، وأن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام ، والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكة ، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكة ، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين الله راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

٣ ـ إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن أخلاق النبي الرفيعة ، وحلمه وصبره أمام تعنت قادة المشركين وتصلبهم وعتوهم ، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام ، أثبت لهم بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة ، وناله منهم أذى كثير ، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف ، والحب والحنان على الناس.

٣٤٦

لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه ، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام ، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه ، ورغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواقفه وخلقه ، وأفكاره واثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام ، وداعية خير للبشرية ، وأنه حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية ، لما عامل أعداءه الاّ بالحسنى واللطف ، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول :

«وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً »(١) .

ومع ذلك أبدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسامحا كبيرا ، وأعلن عن عطفه ، وحنانه للمجتمع العربيّ ، وبذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه ، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال :

« وما كان قضية أعظم بركة منها »(٢) .

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات ، كما تنقل ردّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها ، ويمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

__________________

(١) الفتح : ٢٢.

(٢) الكافي : ج ٨ ص ٣٢٦.

٣٤٧

لابن هشام ، وامتاع الاسماع وغيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى : «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً »(١) .

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة :

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية ، وهي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثارت سخطهم ، وقبل بها رسول الله تحت إصرار من « سهيل » ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول : على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة ، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة ، إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد أثارت هذه المادة ـ المجحفة في الظاهر ـ سخط البعض واعتراضهم ، ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لابي جندل في وقته :

« إنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ».

ثم إن مسلما آخر يدعى « أبو بصير » كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل الى المدينة ، وقد وصلها سعيا على قدميه ، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما : « أزهر » و « الأخنس » كتابا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٦٣ نقلا عنن اعلام الورى ، وزاد المعاد في هدى خير العباد : ج ٢ ص ١٢٦.

٣٤٨

ويذكّر انه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه ، فدفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أبا بصير » إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا :

« يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ( أي من العهد ) ولا تصلح لنا في ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا »(١) .

فقال أبو بصير : يا رسول الله تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية :

« انطلق يا أبا بصير ، فان الله سيجعل لك مخرجا ».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة ( وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة ) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه ، ووضع زاده الذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصدّيق : ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري : ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أصارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير ، فجرّد أبو بصير السيف وقتل به العامريّ في اللحظة ، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا ، وسبق أبا بصير الى المدينة ، وأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما جرى لسيّده العامريّ ، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير ، فدخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد وقال : وفت ذمّتك ، وأدّى الله عنك ، وقد أسلمتني بيد العدوّ ، وقد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغادر المدينة ، ونزل ناحية على ساحل البحر ، على طريق قافلة قريش

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٦٢٥.

٣٤٩

إلى الشام ، تسمى « العيص ».

وعرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر ، ففرّ منهم سبعون رجلا ، وانضمّوا إلى أبي بصير وكانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب والعنت ، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها ، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش ، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبون منه إلغاء هذه المادة ( أي المادة الثانية ). بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها ، واعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إلغاء تلك المادة ، وطلب من المسلمين في منطقة « العيص » القدوم الى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين ، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن ، وحبسه في القيد ، وان تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه ، لأنه سيفرّ ذات يوم وهو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش :

بعد أن تم الاتفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت « أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط » في تلك المدة ، فخرج أخواها « عمارة » و « الوليد » ابنا عقبة حتى قدما على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهما :

« إن الله نقض العهد في النساء »(١) .

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٦٣١ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٢٣.

٣٥٠

وقد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا »(١) .

كانت هذه قصّة « الحديبية » ، وقد استطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظلّ الهدوء والأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه ، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم ، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.

٣٥١

حوادث السنة السابعة من الهجرة

٤٣

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ناحية الجنوب ( أي مكة ) ، وقد آمن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولبّى دعوته في ظل الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. ورجالها البارزين.

واغتنم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل ، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة ، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه ، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد ، وفي اطار التعاليم الاخلاقية والانسانية كل البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ١٩ عاما من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت ، ولكن الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام وكيان المسلمين.

٣٥٢

إن الرسائل التي وجّهها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الامراء والسلاطين ، وإلى رؤساء القبائل ، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ ، والارشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص ١٨٥(١) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم ، إلى الإسلام ، أو كتبه التي تشكّل معاهداته ومواثيقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة وقد جمعها ، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان ، لا على السيف والقهر وعلى الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمن جانب قريش وحلفائها ، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق ارسال الرسائل ، أو بعث المبلغين والدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

إن نصوص هذه الرسائل ، والاشارات الموجودة في خلالها ، ونصائحه التي كان يوجّههاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس ، والتسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات وإبرام المعاهدات مع الاجانب ، تشكّل برمتها شواهد قاطعة ، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

__________________

(١) لقد اجتهد علماء الاسلام في جمع واحصاء رسائل النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتبه قدر المستطاع ، وإن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما :

أ ـ الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمّد حميد الله حيدرآبادي ، الاستاذ بجامعة باريس.

ب ـ مكاتيب الرسول تأليف العلاّمة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدى.

والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية ، وتاريخيه وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

٣٥٣

المشرق ، بكيل الاتهامات الباطلة له ، والزعم بأن تقدّم الاسلام وانتشاره كان بفعل القهر ، وبقوة السيف ، وتحت عامل الفرض والاجبار واننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

الرسالة المحمّدية كانت عالمية :(١)

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك والترديد ، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء ، وفي مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو « السير ويليم موير » الذي يقول : إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد ، وأن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب ، ولم يكن « محمّد » يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز ، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد ـ بجلاء ـ بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال : انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

ونحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام ، وأن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية ، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

__________________

(١) هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما :

أ ـ عالميّة الرسالة المحمّدية.

٣٥٤

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية :

١ ـ «وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً »(١) .

٢ ـ «وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ »(٢) .

٣ ـ «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا »(٣) .

٤ ـهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ »(٤) .

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي : كيف تقول ـ مع هذه الدعوة العالمية ـ أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر وتبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول الله ومبعوثيه الى المناطق النائية ، والبلاد البعيدة ، وإلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

والعجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا : ان محمّدا لم يكن

__________________

ب ـ خاتمية الرسالة المحمّدية.

وفي الاولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد ، وعدم عالميتها وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان مبعوثا لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر ، وللنّاس كافة ، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول البعض ان دينه كان عالميا إلاّ أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة اخرى.

من هنا لا بد من البحث ـ في النبوة الخاصة ـ حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة ، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.

(١) سبأ : ٢٨.

(٢) القلم : ٥٢.

(٣) يس : ٧٠.

(٤) التوبة : ٣٣.

٣٥٥

يعرف غير الحجاز ، في حين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين ، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا ( هو الاسكندر المقدوني ) كان يريد أن يسيطر على العالم ، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب والدهشة ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام ـ وبأمر الله ـ الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك وبوقاحة ، واعتبروه أمرا محالا.

رسل الاسلام الى المناطق النائية :

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال :

« أيها الناس ان الله قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم ».

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال :

« دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم واما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ».

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية ، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران ، والروم ، والحبشة ، ومصر واليمامة ، والبحرين ، والحيرة ، ( الاردن ) وسوف نقرأ معا

٣٥٦

مفصل ما احتوته رسائلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وعند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا رسول الله : إن الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما ، فاتخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ خاتما من فضة ، فصّه منه ، نقشه ثلاثة أسطر : محمّد رسول الله ، في الاعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف ، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية ، والحفاظ عليها من التزوير(٢) .

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية :

كانت الامبراطوريتان ( الرومية والفارسية ) تقتسمان آنذاك قيادة العالم ، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق ، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين ، واستمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني ، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي لأن « تئودوز الكبير » امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (٣٩٥) ميلادية بين ولديه ، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي وبرابرة شمال اوربا ، ولكن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦٤ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٨٢.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤٠ و ٢٤١.

٣٥٧

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك « القسطنطنية » وكانت تسيطر على الشام ومصر ، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (١٤٥٣) على يد السلطان محمّد الثاني « محمّد الفاتح » ، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية ، واضمحلّت نهائيا.

وقد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوتين العظيمتين ، ولكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة ، وكان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري والقفار ، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى ، فقد كانت النخوة والظلم ، والحروب التي اتسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب ـ كان بعيدا عن روح الحضارة والمدنية ـ من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم ، بفضل ما أوتوا من ايمان ، وإنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها بنور الإسلام المشرق ، ولو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر ، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم ، ويقلب كل شيء رأسا على عقب.

رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض الروم :

كان قيصر الرّوم قد عاهد الله إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس من عاصمته : « القسطنطنية » مشيا على القدم للزيارة ، شكرا لله ، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران ، وسار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف « دحية الكلبي » بإيصال كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى قيصر ، وكان دحية قد سافر مرارا الى الشام ، وكان عارفا بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة ، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة ، ولهذا كان جديرا بتحمل هذه

٣٥٨

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

وقد توجّه إلى « القسطنطنية » رأسا بعد أن كلّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بايصال كتابه إلى قيصر ، ولكنه ما أن وصل إلى بصرى ( من مدن الشام ) إلاّ وبلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس ولهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى(١) : « الحارث بن أبي شمر » واخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام ، وكتب معه كتابا ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، ( ولعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة ، وكون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير ).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذ بحمص ، وذلك بان استدعى عدي بن حاتم ووجهه مع سفير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليوصل كتابه إلى قيصر ، فذهب به إليه ، ولما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية : اذا رأيت الملك فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك.

فقال دحية : لا افعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير الله! ( أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها ، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى وأنه لا يحق السجود إلاّ لله وحده ، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟! )(٢) .

ولقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي ، وموقفه الصلب ، فقال له رجل منهم : أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ، ولا تسجد له ، ضع صحيفتك تجاه

__________________

(١) كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر ـ وبصورة عامة ـ جميع ملوك بني غسان ، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

(٢) الطبقات الكبرى ، ج ١ ص ٢٥٩.

٣٥٩

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل ، وأخذ بنصيحته ، وفعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه :

« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك الله اجرك مرّتين. فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين(١) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول الله ».

قيصر يحقّق حول النبي :

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو : « احمد الموعود » الذي بشرت به الانجيل والتوراة ، ولهذا قرّر أن يحقق حول شخصيته ، ويتعرف على خصوصيات حياته ، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد ، أو من يعرف شيئا عنه. حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش ، فأخذهم

__________________

(١) بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف ، فيقول ابن الاثير : قيل هم الخدم والخول وقال بعض : هم الاكّارون ( أي الفلاحون ) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين ، وهم اطوع الناس للحاكم.

ويؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ ( الكامل : ج ٢ ص ١٤٥ ) كلمة الأكارين بدل الاريسيين والاكار هو المزارع ، واحتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778