سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459040 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

إليك بابني أرمى بن الاصحم » فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة ( قاصدين المدينة ) في سفينة في البحر ، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

ولكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي(١) .

كتاب رسول الله الى أمير الغساسنة ( بالشام ) :

الغساسنة فرع من قبيلة « الازد » القحطانيين الذين سكنوا « اليمن » مدة طويلة ، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب ، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن « اليمن » ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها ، وانتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم ، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم ، وانتهت حكومتهم ، بعد أن حكم منهم ، اثنان وثلاثون ملكا في مناطق « الجولان » ، و « اليرموك » ، و « دمشق »(٢) .

وقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « شجاع بن وهب » وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم ـ إلى أرض الغساسنة ، وقد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك « الحارث بن أبي شمر الغساني » ، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال « قيصر » الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما مر.

ولهذا لم يستطع « شجاع » من الوصول إلى الأمير الغساني إلاّ بعد انتظار دام

__________________

(١) اسد الغابة : ج ١ ص ٦٢ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) راجع معجم البلدان ، ومروج الذهب وغيرهما.

٣٨١

ثلاثة أيام ، فاستغلّ « شجاع » هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة ، فأثّرت كلمات « شجاع » تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ وغلبه البكاء وقال : إنّي قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه ، وأنا أومن به واصدّقه ، وأخاف من « الحارث » أن يقتلني اذا عرف باسلامي وكان يكرم سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحسن ضيافته طوال تلك المدة ، ويقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

ثم لما خرج « الحارث » ذات يوم وجلس على عرشه أذن لسفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدخول عليه ، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأه وكان نصّه كالتالي :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن به وصدّق ، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى ملكك ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانبا ، وقال : من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا وتخويفا له. ولاجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى « قيصر » يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

واتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى « قيصر » في الوقت الذي كان فيه « دحية الكلبي » سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر ، وكان « قيصر » يحاوره ، ويسأله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن صفته ودينه ، فانزعج « قيصر » من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة « ايليا ».

٣٨٢

فغيّر موقف « قيصر » الايجابي هذا موقف عميله : الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل « الناس على دين ملوكهم » فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنحه هدايا ثمينة ، ووجّهه نحو المدينة معززا مكرّما وقال له : « اقرأ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منّي السلام ».

ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال : باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات « الحارث » في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية(١) .

سادس السفراء في أرض اليمن :

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة ( وهي من نجد ) ، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى « هوذة بن علي » الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام ولما قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

« بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر ( أي يعمّ الشرق والغرب ) فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك ».

وحيث أن ملك اليمامة ( هوذة ) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سليطا وكان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد وفتنة قريش لهم ، وعرف بتقاليد النصارى ومنطقهم ، وكانت تعاليم الاسلام ، وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا وذكيا وقد استطاع بما اوتي

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٥٥ و ٢٥٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦١

٣٨٣

من قوة المنطق ، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عند ما قال له : يا هوذة أنه سوّدتك(١) أعظم حائلة ( أي بالية ) وارواح في النار ، وانما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به ، وإني آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شيء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة الله ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فان في عبادة الله الجنة ، وفي عبادة الشيطان النار ، فان قبلت نلت ما رجوت وآمنت ما خفت ، وان ابيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطّلع.

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك ، ولهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي ودعوته ، وكان من الملوك العقلاء.

وصادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم ، فتحدث معه « هوذة » في قضية النبي ، ودعوته ، وإليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف : جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف : لم لا تجيبه.

قال هوذة : ضننت بديني وأنا أملك قومي ، ولئن اتبعته لا أملك.

قال : بلى والله لئن اتبعته ليملّكنك ، وان الخير لك في اتباعه ، وأنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريمعليه‌السلام . وانه لمكتوب عندنا في الانجيل : محمّد رسول الله.

فتركت نصيحة الاسقف وكلماته أثرا عميقا وقويا في نفس ملك اليمامة « هوذة » فاستدعى سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتب إلى النبي صلّى الله

__________________

(١) يقصد أنّه سوده كسرى وهو في النار.

٣٨٤

عليه وآله كتابا هذا نصه : « ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك ( أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده ).

ولم يكتف « هوذة » بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزعامة « مجاعة بن مرارة » ليبلّغ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالته ويقول لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا ولا كرامة ، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللهم اكفنيه »(١) .

رسائل اخرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا وان الرسائل والكتب التي بعثها رسول الله لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية اكثر من ما أدرجناه هنا ، وقد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة صورة ٢٩ رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار(٢) .

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٥٤ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٤٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦٢ وسيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.

(٢) راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي ، وغيره من المؤلفات في هذا المجال.

٣٨٥

٤٤

قلعة خيبر

أو بؤرة الخطر

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول الله ، والمسلمين اكثر من قريش ، وعملت بمختلف الطرق والحيل من اجل القضاء على الاسلام والإيقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيئة ، فقتل فريق منهم ، واجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أرض المدينة فسكنوا « خيبر » و « وادي القرى » أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بعد اثنين وثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إن التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا وصالحا للزراعة جدا ، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة وجمع الثروات ، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال ، وإعداد السلاح والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان(١) .

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٦ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٦.

٣٨٦

إن أكبر ذنب اقترفه يهود « خيبر » هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية والقضاء عليها ، واستطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود « خيبر » أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى واتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق وأن عرفت في قصة « معركة الأحزاب » ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق ، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران ، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إن خيانة ، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا ، وأن يجرّد سكانها جميعا من السلاح ، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث ـ ببذل الأموال الطائلة ـ إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. وخاصة أن تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية ، ولهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ ولا يدع يهودي واحد دينه ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تحطيم قدرة الخيبريين وشوكتهم ، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله ، أنه راسل الملوك والسلاطين ، ودعاهم جميعا وبشكل قوي الى الاسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغل « كسرى » و « قيصر » يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام والنهضة الاسلامية في مهدها ، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين ، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

٣٨٧

والفرس في تلك العصور ، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل ، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب ( أي قريش ) بعد صلح الحديبية ، وكان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم ، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وامدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل « غطفان » الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة « الأحزاب » نفذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال :

« لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ».

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف على المدينة « نميلة بن عبد الله الليثي » ، ودفع راية بيضاء الى « عليّ بن أبي طالب »عليه‌السلام وأمر بالتوجه إلى خيبر ، ولكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء ، فأخذ يرتجز قائلا :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة ، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا ، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لاطفائها ، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع ، وقال : « يرحمك الله » وقد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

٣٨٨

هذا وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية ، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره ومقصده حتى يفاجئ العدو ويباغته ، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء ، هذا مضافا إلى ناحية اخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم ويسير إليهم ، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم الى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصد منطقة الشمال ( شمال المدينة ) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب ، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

ولكنه عند ما وصل إلى منطقة « الرجيع » عرج بجيشه صوب « خيبر » وبهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر ، فمع ان حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء(١) .

ولقد خرج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل ، بينهم مائتا فارس(٢) .

وعند ما أشرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٠.

(٢) الامالى للطوسي : ص ١٦٤ ، يذهب ابن هشام في سيرته : ج ٢ ص ٣٢٨ إلى ان خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر كان في المحرّم ، وبينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٧٧ إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة ، وحيث ان ارسال الرسل الى الملوك والامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة ، وخاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيبر بعد وصول رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي بوساطة « عمرو بن أميّة » لان ذهاب رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان ، وحيث ان توجه الرسل والسفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

٣٨٩

اللهمّ ربّ السماوات وما اظللن

وربّ الارضين وما اقللن

وربّ الشياطين وما اضللن

وربّ الرياح وما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ».

إن هذا الدعاء وما رافقها من حالة التضرع ، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل الله يكشف عن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين ، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح القلاع والحصون اليهودية ، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم ، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم ، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا :

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن : « ناعم » و « القموص » و « الكتيبة » و « النطاة » ، و « شقّ » و « سطح » ، و « سلالم » ، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده ، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة ، ولرصد كل التحركات خارج الحصن ، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

٣٩٠

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون ـ عن طريق المجانيق(١) وغيرها من آلات الرمي ـ إبعاد أي عدو ، وافشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن ، وذلك برميه بالاحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا ، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ، والذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا ، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل ، فكانت تعدّ هذه الحصون ـ في الحقيقة ـ متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح ، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية ، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط والطرق الحساسة ليلا.

وقد تم هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

ولما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتيلهم واذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال وقد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم ، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفا شديدا ، فأدبروا

__________________

(١) وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

٣٩١

هرابا وهم يقولون : محمّد والجيش معه. وبادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها ، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعند ما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مساحي اليهود ومكاتيلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلا :

« الله أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون ، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر ، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كل قلعة وحصن بالأحجار ، ويخرج الابطال الصناديد من كل حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام ، وقد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال ولهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى :

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة ، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو « محمّد بن مسلمة » وقال له :

يا رسول الله صلّى الله عليك ، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر ( الهي ) امرت به فلا نتكلم فيه ، وان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول الله دنوت من الحصن ، وإن أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول الله الى موضع بريء من النخل والبناء حتى لا ينالنا نبلهم.

٣٩٢

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة ( الشورى ) واحترام الآخرين : « بل هو الرأي ، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم ، بريئا من الوباء نأمن فيه بياتهم » ، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع ( وهو واد بقرب خيبر ) ثم رجع الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا فقال : وجدت لك منزلا ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة ، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام(١) .

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع والحصون حصنا تلو حصن ، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه ، ثم محاصرة حصن آخر.

ولقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي ، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا ، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها ، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة ، وتسفك فيها دماء أقلّ ، ويتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

وان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شيء كبير من الجهد ـ كما يذهب إليه جمع من المؤرخين ـ هو حصن « ناعم ». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين ، يدعى « محمود بن مسلمة » الانصارى ، وجرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام ، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره ، وقيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام ـ حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة(٢) ونقل الجرحى الخمسون إلى

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٩.

(٢) اسد الغابة : ج ٤ ص ٣٣٤.

٣٩٣

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد(١) ، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى « خيبر » لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر ، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا ، وتضحية عجيبة(٢) .

ولقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون ـ بعد فتح حصن « ناعم » إلى فتح حصن « القموص » الذي كان يرأسه أبناء « أبي الحقيق » ، ولقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام ، وأسرت منه « صفية بنت حيي بن أخطب » التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود ولكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم ، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الاّ أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة :

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين ، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم ، ورسول الله محاصر لبعض حصون خيبر فقال : يا رسول الله اعرض عليّ الاسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، وكان رسول الله لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام ويعرضه عليه ـ فلما أسلم قال : يا رسول الله اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول الله

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٤٠.

(٢) السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٤٢.

٣٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام عيون المئات من جنوده الجياع :

« أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات فإنّ الله عزّ وجلّ سيؤدّي عنك أمانتك ».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها ، وقد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد(١) .

أجل لم يكتسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقب « الامين » من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات والظروف وهو القائل :

« ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر والفاجر »(٢) ، وقد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار ولم يفكر ولا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الاكبر « محمّد » الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا ، واطلق البقية لتدخل الحصن بامان(٣) ، ولو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ولما رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا :

« اللهم انّك قد عرفت حالهم وان ليست بهم قوة ، وان ليس بيدي شيء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاما »(٤) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٤٤ و ٣٤٥. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) مجمع البيان : عند تفسير قول الله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ».

(٣) السيرة النبوية : ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٤) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٢٢.

٣٩٥

ولم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام ومعاركه كانت للإغارة وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها وان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والامانة ، وذلك كيد منهم للاسلام ، ومحاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا ، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا ، وأمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم ، فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك ، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي ، بل أمره بردّها إلى صاحبه وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر :

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح ، وسلالم ، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها ، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته ـ ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام ، ولكنهم كانوا يعودون في كل يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر واعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر ، ولكنه رجع ولم يكن فتح وكل من الامير والجنود يلقي باللوم على الآخر ، ويتهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم آخر « عمر بن الخطاب » على

٣٩٦

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقق فتحا ، بل عاد ـ حسب ما يروي الطبري ـ(١) فزعا مرعوبا وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة ، فأغضب هذا العمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرسان الاسلام الابطال وقادة الجيش الاسلامي ، فجمع رسول الله صناديد جيشه وقال :

« لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يفتح على يديه ليس بفرّار » أو : « كرار غير فرار » حسب نقل الطبري والحلبي(٢) .

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم ، وان تصيب القرعة اسمه.

ولما بلغ علياعليه‌السلام مقالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه وهو في خيمته قال :

« اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت »(٣) .

غطّى ظلام الليل كل مكان ، وذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم ، وبينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل ، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣٠٠.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ص ١٢٠ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٧ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٣٤ أمتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٤ ولقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له :

وما أنس لا أنس اللّذين تقدّما

وفرّهما والفرّ قد علما حوب

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

ملابس ذلّ فوقها وجلابيب

يشلّهما من آل موسى شمر دل

طويل نجاد السيف أجيد يعبوب

( الغدير : ج ٧ ص ٢٠١ اقتباسا من القصائد العلويات ).

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٥.

٣٩٧

وتحركاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام ، وأضاءت السهل والجبل ، تجمّع قادة الجيش الاسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم ، وقد تطاول لها أبو بكر وعمر(١) .

ولم يطل هذا الانتظار ، فقد كسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدار الصمت هذا عند ما قال : « اين علي »؟!

فقيل يا رسول الله به رمد ، وهو راقد بناحية.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ائتوني بعليّ »(٢)

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب علياعليه‌السلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي ، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده الشريفة على عيني عليعليه‌السلام ودعا له بخير ، فعوفي من ساعته ، واستعادت عيناهعليه‌السلام سلامتها افضل ممّا كانت بحيث لم يرمدعليه‌السلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء إلى عليّعليه‌السلام ودعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام ، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية وأن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية ، ويعيشوا بحرية وأمان

__________________

(١) هذه هي عبارة الطبري : ج ٢ ص ٣٠٠ ، كنز العمال : ج ٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٨ و ٢٩ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٤٩.

٣٩٨

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية(١) .

واذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم ، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة :

« لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم »(٢) .

أجل إن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب ، وهذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر :

عند ما كلّف عليّعليه‌السلام من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح قلعتي سلالم والوطيح ( وهما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي ) ، ارتدى درعا قويا وحمل معه سيفه الخاص ذا الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين ، والجند خلفه ، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأرض تحت الحصن.

ولما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أول من خرج إليه أخو مرحب ويدعى « الحارث » فتقدم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع(٣) .

ولكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من عليعليه‌السلام .

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٥ ص ١٩٥ ، صحيح البخاري : ج ٥ ص ١٨.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٧.

(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٤ قال : فانكشف المسلمون وثبت علي.

٣٩٩

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح ، فقد لبس درعا يمانيا ، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة ، وتقدم الى عليّعليه‌السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب

والقرن عندي بالدما مخضّب(١)

فأجابه عليعليه‌السلام مرتجزا وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه :

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرة

ضرغام آجام وليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرة

كليث غابات كريه المنظرة

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح ، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين ، وفجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس « مرحب » بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين الى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع « مرحب » من أبطال اليهود وصناديدهم ففروا من فورهم ، ولجئوا إلى الحصن ، وبقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا ، ثم لاحق الفارين منهم حتى باب الحصن ، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناولعليه‌السلام بابا كان على الحصن وانتزعه من مكانه ، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ثم القاه من يده حين فرغ ، وقد حاول ثمانية من أبطال الاسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك(٢) .

__________________

(١) يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى : ج ٢ ص ٣٣٢.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٩٤ ، سيرة ابن هشام : ج ٢ ص ٣٤٩ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٤٧ ـ ٥٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778