سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459136 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم انتزاعها منه وانقراض أمر بني المسيب من الموصل:

ولما قتل إبراهيم وملك تُتُش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش، فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه، واستقرت هي وأعمالها في ولايته، وسار تُتُش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه وتقاتلا فانهزم تُتُش، وقام بمكانه ابنه رضوان وملك حَلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حران فملكها، فكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه توران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقاً، وعاد إلى حصار الموصل، واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه منجداً له، وبعث كربوقا إليه عسكراً مع أخيه ألتوتناش، فرده مهزوماً إلى الجزيرة، فتمسك بطاعة كربوقا وجاء مدداً له على حصار الموصل، واشتد الحصار بعلي بن مسلم، فخرج من الموصل ولحق بصدقة بن مزيد بالحلَّة وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم والبقاء لله وحده.

ما جاء من أخبارهم بتاريخ أبي الفداء الجزء الثالث:

في هذه السنة (٣٨٠) استولى أبو الذوّاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلَّد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذوّاد بالموصل.

وفي سنة ٣٨٦ مات أبو ذَوّاد بن المسيب أمير الموصل وولي بعده أخوه المقلَّد بن المسيب.

وفي سنة ٣٩١ قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب بن رافع بن

٢٢١

المقلَّد بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يُزَيدْ (بالتصغير) بن عبد الله بن زيد من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلَّد المذكور أعور، وأخوه أبو الذوّاد محمد بن المسيب هو أول من استولى منهم على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة. واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه التُّرك بالأنبار وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلَّد بن المسيب. وفي هذه الصفحة في حوادث سنة ٣٩٢ جرى بين قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب انتصر فيها قرواش، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة.

وفي حوادث سنة ٤١١ في الموصل قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه فيما بعد وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إلى الموصل وخدم المقلَّد بن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه، ثم قتله وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:

ولـيل كـوجه البرقعيدي مظلم وبـرد أغـانيه وطـول قرونه

سـريت ونومي فيه نوم مشرد كـعقل سـليمان بن فهد ودينه

عـلى أولـق فـيه التفات كأنه أبـو جـابر في خطبه وجنونه

إلـى أن بدا نور الصباح كأنه سنى وجه قرواش وضوء جبينه

وكان من حديث هذه الأبيات أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية، وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر وكان حاجباً لقرواش. فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه فقال هذه الأبيات البديهية.

في حوادث سنة ٤٢٥ وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد صاحب نصيبين فقصد ولده قريش عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين واستقر قريش بها.

في حوادث سنة ٤٣٧ قتل عيسى بن موسى لهَمَذاني صاحب أربل،

٢٢٢

قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى. فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار وعاد قرواش إلى الموصل.

في حوادث سنة ٤٤٢ استولى أبو كامل بركة بن المقلَّد، على أخيه قرواش بن المقلَّد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبُه زعيم الدولة.

في حوادث سنة ٤٤٣ تُوفِّي بركة بن المقلَّد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلَّد وكان بدران بن المقلَّد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده. وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولّى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقله بها.

في حوادث سنة ٤٤٤ مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة، أو منيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي الذي كان صاحب الموصل، وكان محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وقيل: إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه. وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن منه:

لـلـه در الـنـائبات فـإنه صدأ القلوب وصيقل الأحرار

مـا كنت إلاَّ زبرة فطبعنني سيفاً وأطلق صرفهن غراري

وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم ذلك، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة. وقال مرة: ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.

في حوادث سنة ٤٥٠ سار إبراهيم نيال بعد انفصاله عن الموصل إلى هَمَذان وسار طغرلبك من بغداد في أثر أخيه أيضاً إلى هَمَذان، وتبعه من كان ببغداد من التُّرك، فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران

٢٢٣

العقيلي في مائتي فارس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا. وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذّن بحي على خير العمل ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأُخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع. وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي فركب الخليفة القائم لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة وسرى النهب إلى باب الفردوس من داره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء لقريش بن بدران: يا علم الدين أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية على نفسه وماله وأهل وأصحابه، فأعطى قريش بحضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحَلبة وسارا معه، فأرسل البساسيري إلى قريش، وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه، وكانا قد تعاهدا على المشاركة وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر. ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري؛ لأنه عدوه ويبقى الخليفة عند قريش. وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً، ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس. وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلـبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلّى بالجانب الشرقي وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة، فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها، وأجرى لها الجِراية، وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء، فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو، فقال له البساسيري: أنت قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي. وجرى على رئيس الرؤساء أمور من التشهير الممقوت ما ندع ذكره، ومات تعذيباً وصلباً وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر يعرِّفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب

٢٢٤

من البساسيري. فبرَّد فعل البساسيري وخوف من عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بخلاف ما أمله. ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها. وأما طغرلبك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم نيال وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغرلبك انتصر على أخيه إبراهيم نيال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغرلبك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. وفي هذه السنة أعاد طغرلبك القائم إلى مقر ملكه وانتهى الأمر بقتل البساسيري.

في سنة ٤٥٢ تُوفِّي قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.

في سنة ٤٥٨ أقطع ألب ارسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار، وتكريت زيادة على الموصل.

في سنة ٤٧٧ سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك، وقيل: أكسب، والأول أصح جد الملوك لأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم وانحصر في آمد ونزل الأمير أرتق على آمد فحصره، فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكِّنه من الخروج من آمد، فأذن له أرتق وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به ثم سير السلطان عميد الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا اقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى السلطان. فقدم شرف الدولة إليه وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيج وكان قد ذهبت أمواله فاقترض شرف الدولة مسلم ما خدم به السلطان وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه الذي نجا عليه في المعركة، وكان اسم الفرس بشّار، وكان سابقاً وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب فرضي السلطان على مسلم وخلع عليه وأقرَّه على بلاده.

٢٢٥

في حوادث هذه السنة نفسها قال: لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك. وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية. ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقُتِل بين يدي أربعمائة غلام من أحداث حَلب. وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب أحول، واتسع ملكه، وزاد على ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج، وديار ربيعة ومضر عن الجزيرة وحَلب وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل وغيرها. وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة بالأمر والعدل. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملَّكوه، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.

وأما قلعة حَلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم، فحاصر تُتُش القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.

ولما قتل سليمان بن قطلومش مسلم بن قريش أرسل إلى ابن الْحُتَّيتي العباسي مقدم أهل حَلب يطلب منه تسليمها، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الْحُتَّيتي استدعى تُتُش إلى حَلب، وكان مع تُتُش أرتق بن أكسك؛ وقد فارق خدمة ملكشاه خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، وكان ابن الْحُتَّيتي قد كاتب السلطان ملكشاه في أمر حَلب فسار إليها من أصفهان في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حران وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها وملك قلعة جعبر، ثم ملك منبج وسار إلى حَلب فلما قاربها رحل أخوه تُتُش عنها على البرية وتوجَّه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حَلب وتسلمها وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي على أن يعوضه بقلعة جعبر

٢٢٦

فبقيت بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي.

سنة ٤٨٦ وفيها تحرك تُتُش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه اقسنقر صاحب حَلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية وبران صاحب الرها. وسار تُتُش ومعه اقسنقر فافتتح نصيبين عنوة ثم قصد الموصل، وكنا قد ذكرنا (أبو الفداء) في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب وغيرهما استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم. ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها. فلما قصد تُتُش في هذه السنة الموصل خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيّع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقُتلوا وملك تُتُش الموصل، واستثاب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه صفية عمة تُتُش، وأرسل تُتُش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها. ثم سار تُتُش واستولى على ديار بكر.

في سنة ٤٨٩ بعد مقتل تُتُش سنة ٤٨٨ قصد كربوغا نصيبين، وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه ثم غدر كربوغا بمحمد، وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تتش، فلما ضاق عليه الأمر هرب من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلَّة بعد حصار تسعة أشهر.

سنة ٥١٩ وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب قلعة جعبر، وملكها بعده ابنه مالك بن سالم.

الجزء الثالث ص١٨ سنة (٥٤١) سار عماد الدين زنكي، ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدين الكردي البشنوي.

٢٢٧

ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسَّان البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني،فقال صاحب قلعة جعبر لحسَّان: يخلصني منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق، وكان بلك محاصراً منبج، فجاءه سهم قتله فرجع حسَّان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر من هذه السنة بالليل وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق ودفن بالرقة.

سنة ٥٦٤ في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كِلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوحة من بلد حَلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة.

ما جاء في كامل ابن الأثير من أوليتهم وأخبارهم

الجزء التاسع في سنة ٣٠٨ لما ملك أبو طاهر والحسين ابنا حمدان بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد، فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم، فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه. وراسلا أبا الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلداً غير ذلك. فأجاباه إلى ما طلب، وانتهى الأمر بانتصار الأميرين الحماديين بمناصرة أبي الذوّاد على باذ، فكانت هذه أول إمرة لبني عقيل في دولة بني حمدان.

في سنة ٣٨٠ لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان

٢٢٨

سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولّى الأمور. فسيَّر إليه قائداً من قواده وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء، ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذوَّاد.

في سنة (٣٨٢) كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه. فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة. فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب، فتراجع في أمره. وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذوّاد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذوّاد، فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قُبِض وقُتِل وكُفِي شره. ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك، فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته. وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذوّاد فأسره العرب ثم أطلقوه، فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.

سنة (٣٨٦) في هذه السنة ملك المقلَّد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذَّوّاد تُوفِّي في هذه السنة، فطمع المقلَّد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً؛ لأنه أكبر منه فشرع المقلَّد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال

٢٢٩

إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة، ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلَّد من الديلم، وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه ووعدهم يوماً يخرج إليهم فيه. ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه فلم ينالوا منه شيئاً ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلَّد البلد. واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدِّم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلَّد وجرى الأمر على ذلك مدة مديدة، ثم تشاجروا واختصموا وكان المقلَّد يتولّى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلَّد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها. وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره، وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عساكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلَّد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلَّد، فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلاً فاقتتلوا وعادوا إلى المقلَّد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلَّد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلَّد والقبض على أبي علي بن إسماعيل. فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجَّة، فلما وصل إليها أرسله المقلَّد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلَّد الخلع السلطانية،ويُلقَّب بحسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين. واستقر الأمر على ذلك، وجلس القادر بالله له ولم يف المقلَّد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره.

سنة (٣٨٧): في هذه السنة قبض المقلَّد على أخيه علي؛ وكان سبب ذلك ما تقدم ذكره من الاختلاف الواقع بين أصحابهما واشتغل المقلَّد بما

٢٣٠

سبق بيانه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد، وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلَّفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل عليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر. ففعلت ذلك وخلصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ من تكريت وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم. وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن إلى حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل وبقي بينهم، فنزل واحد ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه فبينما هم في ذلك قيل للمقلَّد: إنّ أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك، فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا وعاد إلى حلته وعاد المقلَّد إلى الموصل، وتجهَّز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي؛ لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلَّد بالأذى فسار إليه. ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلَّد فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلَّد وامتنعوا عليه فافتتحها، فسمع المقلَّد بذلك فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي، وقال له: إن الأعور يعني المقلَّد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل، وأمره بإفساد عسكر المقلَّد، فكتب إليهم فظفر المقلَّد بالكتب، فأخذها وسار مجدِّاً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً وتبعه الحسن وتردُّدت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك

٢٣١

إلى سنة تسع وثمانين ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلَّد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلَّد، فلم يدركه فعاد، ولما استقر أمر المقلَّد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي، فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذّب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلَّد. وأصلح الأمر معه، وسار المقلَّد إلى دقوقا فملكها ثم ملكها عليه جبريل بن محمد، ثم عادت إلى المقلَّد، ثم ملكها محمد بن عناز بعده، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب ثم إلى جبريل وموصك بن جكويه من أمراء الأكراد، ثم قصدها بدران بن المقلَّد وأخذها منهما.

سنة (٣٩١): في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك. وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم فاغتنم بعضهم غفلته وقتلوه بالأنبار. وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قُتِل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية فاستدعاه إليه، وقال له: أن أجعل بينك وبين قراوش عهداً وأُزوجه ابنتك، وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد، وأرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده، ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفُه منك حمله على ذلك، فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم بعضاً عادوا جميعاً على قراد فأخذوه. فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد، فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها. وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة

٢٣٢

عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج.

سنة (٣٩٢): في هذه السنة سيَّر قرواش بن المقلَّد جمعاً من عقيل إلى المدائن، فحصروها فسيَّر إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم. فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي (باكرم) في رمضان، فانهزمت الديلم والتُّرك وأُسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم، فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.

سنة (٣٩٧): في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي. وكان سببها أن قرواش جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مغلولاً، وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي الذي كان والياً للحاكم بأمر الله صاحب مصر على الرحبة، وملكها، وأقام فيها مدة ثم قصده بدران بن المقلَّد، فأخذها منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها، ثم انتهى أمر ملكها إلى صالح بن مرداس صاحب حَلب.

سنة (٤٠١): في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلَّد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدَّت بقدرته أركان النصب، وأطلع

٢٣٣

بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر وولاّه قضاء عمان والسواحل، وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش، فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمر بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشرة سنين، وكان بخيلاً شديد البخل وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد العقيلي؛ وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم. فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.

وفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد، وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل. وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش. وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع

٢٣٤

هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل. ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلاً، وذلك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلَّد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

الصفحة نفسها والسنة نفسها سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة في الجامعين وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها، فسار دُبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل جنود خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً ومعه غريب والأثير عنبر، ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع جنود خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية. وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دُبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل. فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش، وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسَّان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه، فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة، فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

سنة (٤١٩): في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلَّد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه، فهزمهم واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسيَّر نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم، فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان، ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له. فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مغلوبين، فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها، واقتتلوا مرة أُخرى وكانوا على السواء. ثم سمع بدران بأن

٢٣٥

أخاه قرواشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه؛ لأنهما كانا مختلفين.

في سنة (٤٢٠) يذكر دخول الغز ديار بكر ومقاومة قرواش لهم ويذكر ملكهم مدينة الموصل ومقاومة قرواش لهم وانكساره، ثم يذكر ظفر قرواش بهم ص ١٦٣ مما يجب أن يضم إلى أخبار بني المقلَّد مع ما ذكر في ص١٦٤.

في سنة (٤٢١) قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين، وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا، ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش، فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل، ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش، وأطمعه في الجزيرة، فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وتردُّدت الرسل بينهما في ذلك، فلم يستقر حال فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش، فحصرها معه فلم يُمْلَك واحِد من البلدين، وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.

وفي هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن؛ وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيَّق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وماله فيها وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

٢٣٦

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نُمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.

سنة (٤٣٣) يذكر الحلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل.

سنة (٤٤٠) ذكر الحلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية. وفيها كانت الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلَّد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلَّد إلى عمّه قرواش وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.

ظهور الخلاف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

سنة (٤٤١): في هذه السنة ظهر الخلاف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلثايا، فأخرجوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمُغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحُميدي وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده، فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين، وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار؛ لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون

٢٣٧

منهم وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون. فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه وقبل يده، وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك فيَّ وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك. فقال له قرواش: بل أنت الأخ والأمر لك مسلّم، وأنت أقوم به مني، وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعاً، وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

وفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوها وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلَّد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً وصبرا صبراً جميلاً وقُتل جماعة من الفريقين.

في هذه السنة في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه، وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار. فأجابهم إلى ذلك وسيّر معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري، وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه. وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

سنة (٤٤٢) وفي هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة

٢٣٨

أبو كامل بركة بن المقلَّد على أخيه قرواش، وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره؛ وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه. وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده، ثم أرسل إليه نفراً من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلّغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يُمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم. فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً فأمّنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

سنة (٤٤٣) وفي هذه السنة في شهر رمضان تُوفِّي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلَّد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد. فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتُوفِّي ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلَّد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه، واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتُقل بها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة جرى حِلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلَّد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلَّد منازعة أدت إلى الاختلاف، فسار المقلَّد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد ملتجئاً إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد

٢٣٩

إلى الموصل، واختلَّت أحواله واختلفت العرب عليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عُكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه تُوفِّي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق؛ ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيّب صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد، فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال، فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يطلب ببذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره؛ لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. وفي هذه الصفحة: وفي السنة نفسها مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلَّد العُقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحُمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن. وأورد له عن (دمية القصر) البيتين المنقولين عن تاريخ ابن خلدون وهذه الأبيات التي لم يوردها ابن خلدون:

مـن كان يحمد أو يذم موّرث لـلمال مـن آبـائه وجدوده

إنـي امـرؤ لـله أشكر وحده شـكراً كـثيراً جـالباً لمزيده

لـي أشقرٌ سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومـهند عـضب إذا جـردته خلت البروق تموج في تجريده

ومـثقف لـدنُ الـسنان كأنم أم الـمنايا رُكـبت في عوده

وبـذا حـويُت المال إلا أنني سـلّطت جود يدي على تبديده

وفي هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فدوَّخ كثيراً منها وأسرف في

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

إليك بابني أرمى بن الاصحم » فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة ( قاصدين المدينة ) في سفينة في البحر ، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

ولكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي(١) .

كتاب رسول الله الى أمير الغساسنة ( بالشام ) :

الغساسنة فرع من قبيلة « الازد » القحطانيين الذين سكنوا « اليمن » مدة طويلة ، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب ، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن « اليمن » ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها ، وانتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم ، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم ، وانتهت حكومتهم ، بعد أن حكم منهم ، اثنان وثلاثون ملكا في مناطق « الجولان » ، و « اليرموك » ، و « دمشق »(٢) .

وقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « شجاع بن وهب » وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم ـ إلى أرض الغساسنة ، وقد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك « الحارث بن أبي شمر الغساني » ، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال « قيصر » الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما مر.

ولهذا لم يستطع « شجاع » من الوصول إلى الأمير الغساني إلاّ بعد انتظار دام

__________________

(١) اسد الغابة : ج ١ ص ٦٢ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) راجع معجم البلدان ، ومروج الذهب وغيرهما.

٣٨١

ثلاثة أيام ، فاستغلّ « شجاع » هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة ، فأثّرت كلمات « شجاع » تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ وغلبه البكاء وقال : إنّي قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه ، وأنا أومن به واصدّقه ، وأخاف من « الحارث » أن يقتلني اذا عرف باسلامي وكان يكرم سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحسن ضيافته طوال تلك المدة ، ويقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

ثم لما خرج « الحارث » ذات يوم وجلس على عرشه أذن لسفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدخول عليه ، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأه وكان نصّه كالتالي :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن به وصدّق ، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى ملكك ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانبا ، وقال : من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا وتخويفا له. ولاجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى « قيصر » يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

واتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى « قيصر » في الوقت الذي كان فيه « دحية الكلبي » سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر ، وكان « قيصر » يحاوره ، ويسأله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن صفته ودينه ، فانزعج « قيصر » من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة « ايليا ».

٣٨٢

فغيّر موقف « قيصر » الايجابي هذا موقف عميله : الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل « الناس على دين ملوكهم » فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنحه هدايا ثمينة ، ووجّهه نحو المدينة معززا مكرّما وقال له : « اقرأ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منّي السلام ».

ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال : باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات « الحارث » في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية(١) .

سادس السفراء في أرض اليمن :

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة ( وهي من نجد ) ، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى « هوذة بن علي » الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام ولما قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

« بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر ( أي يعمّ الشرق والغرب ) فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك ».

وحيث أن ملك اليمامة ( هوذة ) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سليطا وكان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد وفتنة قريش لهم ، وعرف بتقاليد النصارى ومنطقهم ، وكانت تعاليم الاسلام ، وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا وذكيا وقد استطاع بما اوتي

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٥٥ و ٢٥٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦١

٣٨٣

من قوة المنطق ، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عند ما قال له : يا هوذة أنه سوّدتك(١) أعظم حائلة ( أي بالية ) وارواح في النار ، وانما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به ، وإني آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شيء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة الله ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فان في عبادة الله الجنة ، وفي عبادة الشيطان النار ، فان قبلت نلت ما رجوت وآمنت ما خفت ، وان ابيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطّلع.

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك ، ولهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي ودعوته ، وكان من الملوك العقلاء.

وصادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم ، فتحدث معه « هوذة » في قضية النبي ، ودعوته ، وإليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف : جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف : لم لا تجيبه.

قال هوذة : ضننت بديني وأنا أملك قومي ، ولئن اتبعته لا أملك.

قال : بلى والله لئن اتبعته ليملّكنك ، وان الخير لك في اتباعه ، وأنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريمعليه‌السلام . وانه لمكتوب عندنا في الانجيل : محمّد رسول الله.

فتركت نصيحة الاسقف وكلماته أثرا عميقا وقويا في نفس ملك اليمامة « هوذة » فاستدعى سفير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتب إلى النبي صلّى الله

__________________

(١) يقصد أنّه سوده كسرى وهو في النار.

٣٨٤

عليه وآله كتابا هذا نصه : « ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك ( أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده ).

ولم يكتف « هوذة » بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزعامة « مجاعة بن مرارة » ليبلّغ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالته ويقول لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا ولا كرامة ، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللهم اكفنيه »(١) .

رسائل اخرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا وان الرسائل والكتب التي بعثها رسول الله لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية اكثر من ما أدرجناه هنا ، وقد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة صورة ٢٩ رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار(٢) .

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٥٤ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٤٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦٢ وسيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.

(٢) راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي ، وغيره من المؤلفات في هذا المجال.

٣٨٥

٤٤

قلعة خيبر

أو بؤرة الخطر

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول الله ، والمسلمين اكثر من قريش ، وعملت بمختلف الطرق والحيل من اجل القضاء على الاسلام والإيقاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيئة ، فقتل فريق منهم ، واجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أرض المدينة فسكنوا « خيبر » و « وادي القرى » أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بعد اثنين وثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إن التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا وصالحا للزراعة جدا ، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة وجمع الثروات ، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال ، وإعداد السلاح والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان(١) .

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٦ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٦.

٣٨٦

إن أكبر ذنب اقترفه يهود « خيبر » هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية والقضاء عليها ، واستطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود « خيبر » أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى واتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق وأن عرفت في قصة « معركة الأحزاب » ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق ، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران ، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إن خيانة ، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا ، وأن يجرّد سكانها جميعا من السلاح ، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث ـ ببذل الأموال الطائلة ـ إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. وخاصة أن تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية ، ولهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ ولا يدع يهودي واحد دينه ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تحطيم قدرة الخيبريين وشوكتهم ، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله ، أنه راسل الملوك والسلاطين ، ودعاهم جميعا وبشكل قوي الى الاسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغل « كسرى » و « قيصر » يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام والنهضة الاسلامية في مهدها ، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين ، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

٣٨٧

والفرس في تلك العصور ، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل ، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب ( أي قريش ) بعد صلح الحديبية ، وكان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم ، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وامدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل « غطفان » الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة « الأحزاب » نفذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال :

« لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ».

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف على المدينة « نميلة بن عبد الله الليثي » ، ودفع راية بيضاء الى « عليّ بن أبي طالب »عليه‌السلام وأمر بالتوجه إلى خيبر ، ولكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء ، فأخذ يرتجز قائلا :

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة ، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا ، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لاطفائها ، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع ، وقال : « يرحمك الله » وقد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

٣٨٨

هذا وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية ، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره ومقصده حتى يفاجئ العدو ويباغته ، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء ، هذا مضافا إلى ناحية اخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم ويسير إليهم ، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم الى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصد منطقة الشمال ( شمال المدينة ) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب ، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

ولكنه عند ما وصل إلى منطقة « الرجيع » عرج بجيشه صوب « خيبر » وبهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر ، فمع ان حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء(١) .

ولقد خرج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل ، بينهم مائتا فارس(٢) .

وعند ما أشرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٠.

(٢) الامالى للطوسي : ص ١٦٤ ، يذهب ابن هشام في سيرته : ج ٢ ص ٣٢٨ إلى ان خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر كان في المحرّم ، وبينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٧٧ إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة ، وحيث ان ارسال الرسل الى الملوك والامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة ، وخاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيبر بعد وصول رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي بوساطة « عمرو بن أميّة » لان ذهاب رسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان ، وحيث ان توجه الرسل والسفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

٣٨٩

اللهمّ ربّ السماوات وما اظللن

وربّ الارضين وما اقللن

وربّ الشياطين وما اضللن

وربّ الرياح وما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ».

إن هذا الدعاء وما رافقها من حالة التضرع ، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل الله يكشف عن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين ، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح القلاع والحصون اليهودية ، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم ، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم ، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا :

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن : « ناعم » و « القموص » و « الكتيبة » و « النطاة » ، و « شقّ » و « سطح » ، و « سلالم » ، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده ، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة ، ولرصد كل التحركات خارج الحصن ، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

٣٩٠

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون ـ عن طريق المجانيق(١) وغيرها من آلات الرمي ـ إبعاد أي عدو ، وافشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن ، وذلك برميه بالاحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا ، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ، والذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا ، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل ، فكانت تعدّ هذه الحصون ـ في الحقيقة ـ متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح ، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية ، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط والطرق الحساسة ليلا.

وقد تم هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

ولما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتيلهم واذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال وقد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم ، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفا شديدا ، فأدبروا

__________________

(١) وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

٣٩١

هرابا وهم يقولون : محمّد والجيش معه. وبادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها ، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعند ما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مساحي اليهود ومكاتيلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلا :

« الله أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون ، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر ، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كل قلعة وحصن بالأحجار ، ويخرج الابطال الصناديد من كل حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام ، وقد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال ولهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى :

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة ، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو « محمّد بن مسلمة » وقال له :

يا رسول الله صلّى الله عليك ، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر ( الهي ) امرت به فلا نتكلم فيه ، وان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول الله دنوت من الحصن ، وإن أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول الله الى موضع بريء من النخل والبناء حتى لا ينالنا نبلهم.

٣٩٢

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة ( الشورى ) واحترام الآخرين : « بل هو الرأي ، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم ، بريئا من الوباء نأمن فيه بياتهم » ، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع ( وهو واد بقرب خيبر ) ثم رجع الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا فقال : وجدت لك منزلا ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة ، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام(١) .

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع والحصون حصنا تلو حصن ، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه ، ثم محاصرة حصن آخر.

ولقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي ، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا ، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها ، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة ، وتسفك فيها دماء أقلّ ، ويتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

وان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شيء كبير من الجهد ـ كما يذهب إليه جمع من المؤرخين ـ هو حصن « ناعم ». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين ، يدعى « محمود بن مسلمة » الانصارى ، وجرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام ، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره ، وقيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام ـ حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة(٢) ونقل الجرحى الخمسون إلى

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٩.

(٢) اسد الغابة : ج ٤ ص ٣٣٤.

٣٩٣

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد(١) ، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى « خيبر » لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر ، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا ، وتضحية عجيبة(٢) .

ولقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون ـ بعد فتح حصن « ناعم » إلى فتح حصن « القموص » الذي كان يرأسه أبناء « أبي الحقيق » ، ولقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام ، وأسرت منه « صفية بنت حيي بن أخطب » التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود ولكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم ، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الاّ أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة :

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين ، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم ، ورسول الله محاصر لبعض حصون خيبر فقال : يا رسول الله اعرض عليّ الاسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، وكان رسول الله لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام ويعرضه عليه ـ فلما أسلم قال : يا رسول الله اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول الله

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٤٠.

(٢) السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٤٢.

٣٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام عيون المئات من جنوده الجياع :

« أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات فإنّ الله عزّ وجلّ سيؤدّي عنك أمانتك ».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها ، وقد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد(١) .

أجل لم يكتسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقب « الامين » من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات والظروف وهو القائل :

« ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر والفاجر »(٢) ، وقد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار ولم يفكر ولا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الاكبر « محمّد » الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا ، واطلق البقية لتدخل الحصن بامان(٣) ، ولو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ولما رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا :

« اللهم انّك قد عرفت حالهم وان ليست بهم قوة ، وان ليس بيدي شيء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاما »(٤) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٤٤ و ٣٤٥. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) مجمع البيان : عند تفسير قول الله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ».

(٣) السيرة النبوية : ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

(٤) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٢٢.

٣٩٥

ولم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام ومعاركه كانت للإغارة وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها وان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والامانة ، وذلك كيد منهم للاسلام ، ومحاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا ، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا ، وأمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم ، فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك ، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي ، بل أمره بردّها إلى صاحبه وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر :

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح ، وسلالم ، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها ، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته ـ ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام ، ولكنهم كانوا يعودون في كل يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر واعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر ، ولكنه رجع ولم يكن فتح وكل من الامير والجنود يلقي باللوم على الآخر ، ويتهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم آخر « عمر بن الخطاب » على

٣٩٦

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقق فتحا ، بل عاد ـ حسب ما يروي الطبري ـ(١) فزعا مرعوبا وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة ، فأغضب هذا العمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرسان الاسلام الابطال وقادة الجيش الاسلامي ، فجمع رسول الله صناديد جيشه وقال :

« لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يفتح على يديه ليس بفرّار » أو : « كرار غير فرار » حسب نقل الطبري والحلبي(٢) .

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم ، وان تصيب القرعة اسمه.

ولما بلغ علياعليه‌السلام مقالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه وهو في خيمته قال :

« اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت »(٣) .

غطّى ظلام الليل كل مكان ، وذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم ، وبينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل ، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣٠٠.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ص ١٢٠ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٧ ، السيرة النبوية : ج ٣ ص ٣٣٤ أمتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٤ ولقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له :

وما أنس لا أنس اللّذين تقدّما

وفرّهما والفرّ قد علما حوب

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

ملابس ذلّ فوقها وجلابيب

يشلّهما من آل موسى شمر دل

طويل نجاد السيف أجيد يعبوب

( الغدير : ج ٧ ص ٢٠١ اقتباسا من القصائد العلويات ).

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٥.

٣٩٧

وتحركاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام ، وأضاءت السهل والجبل ، تجمّع قادة الجيش الاسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم ، وقد تطاول لها أبو بكر وعمر(١) .

ولم يطل هذا الانتظار ، فقد كسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدار الصمت هذا عند ما قال : « اين علي »؟!

فقيل يا رسول الله به رمد ، وهو راقد بناحية.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ائتوني بعليّ »(٢)

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب علياعليه‌السلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي ، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده الشريفة على عيني عليعليه‌السلام ودعا له بخير ، فعوفي من ساعته ، واستعادت عيناهعليه‌السلام سلامتها افضل ممّا كانت بحيث لم يرمدعليه‌السلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء إلى عليّعليه‌السلام ودعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام ، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية وأن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية ، ويعيشوا بحرية وأمان

__________________

(١) هذه هي عبارة الطبري : ج ٢ ص ٣٠٠ ، كنز العمال : ج ٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٨ و ٢٩ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٤٩.

٣٩٨

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية(١) .

واذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم ، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة :

« لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم »(٢) .

أجل إن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب ، وهذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر :

عند ما كلّف عليّعليه‌السلام من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح قلعتي سلالم والوطيح ( وهما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي ) ، ارتدى درعا قويا وحمل معه سيفه الخاص ذا الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين ، والجند خلفه ، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأرض تحت الحصن.

ولما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أول من خرج إليه أخو مرحب ويدعى « الحارث » فتقدم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع(٣) .

ولكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من عليعليه‌السلام .

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ٥ ص ١٩٥ ، صحيح البخاري : ج ٥ ص ١٨.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٧.

(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣١٤ قال : فانكشف المسلمون وثبت علي.

٣٩٩

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح ، فقد لبس درعا يمانيا ، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة ، وتقدم الى عليّعليه‌السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب

والقرن عندي بالدما مخضّب(١)

فأجابه عليعليه‌السلام مرتجزا وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه :

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرة

ضرغام آجام وليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرة

كليث غابات كريه المنظرة

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح ، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين ، وفجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس « مرحب » بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين الى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع « مرحب » من أبطال اليهود وصناديدهم ففروا من فورهم ، ولجئوا إلى الحصن ، وبقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا ، ثم لاحق الفارين منهم حتى باب الحصن ، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناولعليه‌السلام بابا كان على الحصن وانتزعه من مكانه ، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ثم القاه من يده حين فرغ ، وقد حاول ثمانية من أبطال الاسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك(٢) .

__________________

(١) يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى : ج ٢ ص ٣٣٢.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٩٤ ، سيرة ابن هشام : ج ٢ ص ٣٤٩ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٤٧ ـ ٥٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778