سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459052 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ، ذاك أبو الحسن والحسين (ع).

والتفت مدير شرطة زياد الى صيفي منكرا عليه مقاله ليتقرب الى ابن سمية قائلا :

« يقول لك الأمير : هو ابو تراب ، وتقول أنت : لا؟!! »

فنهره صيفي ورد عليه وهو غير معتن به ولا بأميره قائلا :

« وإن كذب الأمير أتريد أن اكذب وأشهد له على باطل كما شهد! »

فثار ابن سمية وانتفخت اوداجه غضبا ، فقال له :

« وهذا أيضا مع ذنبك ».

والتفت الى شرطته وهو مغيظ فقال لهم : « علي بالعصا » فأتى بها فالتفت الى صيفي :

« ما قولك؟ ».

فقال له بكل شجاعة وايمان :

« أحسن قول أنا قائله فى عبد من عباد الله المؤمنين. »

وأمر زياد جلاوزته بضرب عاتقه حتى يلصق بالأرض ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى وصل عاتقه الى الأرض ، ثم أمرهم بالكف عنه والتفت إليه :

« إيه ما قولك فى علي؟ »

وأصر بطل العقيدة على ايمانه فقال :

ـ والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني.

ـ لتلعننه أو لأضربن عنقك!

ـ إذا تضربها والله قبل ذلك فان أبيت إلا أن تضربها. رضيت

٣٦١

بالله وشقيت أنت!

« ادفعوا في رقبته ».

ثم أمر به ثانيا أن يوقر في الحديد ويلقى فى ظلمات السجون(1) وأخيرا بعثه مع حجر فاستشهد معه في مرج عذراء.

ج ـ قبيصة بن ربيعة :

ومن جملة أصحاب حجر الذين أرهقهم زياد قبيصة بن ربيعة العبسي فقد بعث إليه مدير شرطته شداد بن الهيثم فهجم عليه خفية فلما أحس به قبيصة أخذ سيفه ووقف للدفاع عن نفسه ولحق به فريق من قومه فقال مدير الشرطة الى قبيصة مخادعا :

« أنت آمن على دمك ومالك ، فلم تقتل نفسك؟ »

ولما سمع بذلك اصحابه انخدعوا فلم يحاموا عنه ولم ينقذوه لأن خوفهم من سلطة زياد كان اشد وقعا في نفوسهم من خطر الموت ، فاندفعوا قائلين :

« قد امنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك؟ »

ولم يذعن لمقالة اصحابه وذلك لعلمه بغدر الأمويين وعدم وفائهم بالعهد والوعد فقال لهم :

« ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة ، والله لئن وقعت فى يده لا افلت ابدا أو يقتلني ».

ـ كلا.

ولما لم يجد بدا من ذلك وضع يده في ايديهم وأخذ اسيرا الى زياد فلما مثل عنده قال له :

« أما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الامراء »

__________________

(1) الطبري 4 / 198 ، الكامل 3 / 139.

٣٦٢

ـ إني لم آتك إلا على الأمان.

ـ انطلقوا به الى السجن(1) .

لقد نقض زياد الأمان وخاس بالميثاق ، ثم أمر به أن يحمل مع حجر وأصحابه الى مرج عذراء ، فحمل معهم ، فلما انتهت قافلتهم الى جبانة ( عرزم ) وكانت فيها داره ، نظر إليها وإذا بناته قد أشرفن من أعلا الدار ينظرن إليه ، وهن يخمشن الوجوه ، ويخلطن الدموع بالدعاء ، قد أخذتهن المائقة ، ومزق الأسى قلوبهن ، فلما نظر الى ذلك المنظر الرهيب طلب من الشرطة الموكلة بخفارته أن يسمحوا له بالدنو من بناته ليوصيهن بما أراد ، فسمحوا له بذلك ، فلما دنا منهن علا صراخهن فأمرهن بالسكوت والخلود الى الصبر ، وأرضاهن بوصيته التي مثلت الإيمان والرضا بقضاء الله قائلا :

« اتقين الله عز وجل ، واصبرن ، فاني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهي السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هو الله تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن ، وأن يحفظني فيكن ».

ثم ودعهن وانصرف ، ولما رأى من معه شجو بناته وما داخلهن من الفزع والمصاب رقّوا لهن ، ثم رفعوا أيديهم بالدعاء والابتهال الى الله تعالى طالبين منه العافية والسلامة الى قبيصة فانبرى إليهم قائلا :

« إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي حيث لا ينصرونني »(2) .

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 149.

(2) نفس المصدر.

٣٦٣

أراد بذلك عدم نصرة قومه وخذلانهم له ، وان ذلك أشد وقعا على نفسه من هلاكه ، وسار قبيصة مع حجر الى مرج عذراء فاستشهد معه ، وأما بقية اصحاب حجر الذين استشهدوا معه فلم نعثر على معلومات وافية عنهم ، ونشير الى أسمائهم وهم :

شريك بن شداد الحضرمي.

كدام بن حيان العنزي.

محرز بن شهاب التميمي.

وهؤلاء الحماة الذين قدموا نفوسهم ضحايا للعقيدة ، وقرابين للحق

كانوا من خيار المسلمين ومن صالحائهم ، قد ساقتهم السلطة الأموية الى ساحة الإعدام ، فاستباحت دماءهم ، لا لذنب اقترفوه ، سوى مودتهم للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها ومودتها.

صدى الفاجعة :

وذعر المسلمون لهذا الحادث الخطير ، وعم السخط جميع ارجاء البلاد لأن حجرا من أعلام الإسلام ، ومن خيار صحابة النبيّ (ص) ، وقد انتهكت في قتله حرمة الإسلام ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض ، وإنما رأى منكرا فناهضه ، وجورا فناجزه ، رأى زيادا يؤخر الصلاة فطالبه باقامتها ورآه يسب امير المؤمنين فطالبه بالكف عنه ، فقتل من اجل ذلك ، وقد اندفعت الشخصيات الرفيعة في العالم الإسلامى الى اعلان سخطها على معاوية والى الإنكار عليه ، ومن الخير ان نذكر بعضهم ونستمع الى نقدهم وهم :

أ ـ الإمام الحسين (ع).

ورفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية أنكر فيها

٣٦٤

اشد الإنكار على ما ارتكبه من قتل حجر واصحابه الأبرار وهذا نصها :

« الست القاتل حجرا اخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون فى الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت اعطيتهم الإيمان المغلظة ، والمواثيق المؤكدة أن لا تأخذهم بحدث ، كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم »(1) .

لقد انكر الإمام (ع) برسالته على معاوية استباحته لدم حجر واصحابه المثاليين الذين انكروا الظلم وناهضوا الجور ، واستعظموا البدع وقد قتلهم ظلما وعدوانا ، بعد ما أكد على نفسه واعطاهم المواثيق المؤكدة ان لا يأخذهم بحدث ولا بإحنة فيما مضى ، ولكن ابن هند قد خاس بذلك ولم يف به.

ب ـ عائشة :

ومن جملة المنكرين على معاوية عائشة ، فقد دخل عليها في بيتها بعد منصرفه من الحج فقالت له :

« أأمنت ان اخبأ لك من يقتلك؟ »

فقال لها مخادعا :

« بيت الأمن دخلت ».

ـ اما خشيت الله في قتل حجر واصحابه؟(2) .

وكانت دوما تتحدث عن مصاب حجر فقد حدثت عما سمعته من رسول الله (ص) فى فضله قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول :

__________________

(1) البحار 10 / 149.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٥

سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء »(1) وقالت منددة بأهل الكوفة : « أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرا وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام ، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس ، أما والله إن كانوا لجمجمة العرب عزا ومنعة وفقها ولله در لبيد حيث يقول :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يرجى خيرهم

ويعاب قائلهم وان لم يشغب(2)

ج ـ الربيع بن زياد :

ومن الناقمين على معاوية الربيع بن زياد البصري(3) عامله على خراسان فانه لما سمع بالنبإ المؤلم طاش لبّه وذهبت نفسه حسرات فقال والحزن باد عليه :

« لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ـ أي بعد مقتل حجر ـ ولو نفرت عند قتله لم يقتل واحد منهم صبرا. ولكنها أقرت فذلت!! »

إن أهل الكوفة لو منعوا السلطة الأموية من قتل حجر وأصحابه لما

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 55 ، الاصابة 1 / 314.

(2) الاستيعاب 1 / 357.

(3) الربيع بن زياد بن أنس الحارثي البصري كان عاملا لمعاوية على خراسان وكان كاتبه الحسن البصري ، روي عن أبي بن كعب ، وعن جماعة وروى عنه قوم ، توفي سنة 51 ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 3 / 43 ، وجاء في الاصابة 1 / 491 ، ان الربيع وفد على عمر بن الخطاب فقال له : يا أمير المؤمنين والله ما وليت هذه الأمّة إلا ببلية ابتليت بها ، ولو أن شاة ضلت بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فبكى عمر حينما سمع منه هذا الكلام.

٣٦٦

تمكن الأمويون من قتل أحرارهم وأخيارهم ، ولكنهم رضوا بالخمول والذل وكرهوا الموت في سبيل الله ، فهان أمرهم وذلوا ، وعمل فيهم الأمويون ما أرادوا من اخضاعهم للذل والهوان.

وبقي الربيع ذاهل النفس ، خائر القوى ، قد مزق الأسى قلبه ، فلما صار يوم الجمعة صلى بالناس صلاة الجمعة ، وبعد الفراغ منها خطب الناس فقال فى خطابه :

« أيها الناس ، إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا » ثم رفع يديه بالدعاء فقال :

« اللهم ، إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجل ».

فاستجاب الله دعاءه فما فارق المجالس حتى وافاه الأجل المحتوم(1) .

د ـ الحسن البصري :

وعدّ الحسن البصري قتل حجر إحدى الموبقات الأربعة التي ارتكبها معاوية ، فقال فيما يخص حجرا :

« ويل له من حجر وأصحاب حجر مرتين »(2) .

ه ـ عبد الله بن عمر :

لقد ذعر ابن عمر حينما علم بمقتل حجر ، فقد أخبر بقتله وهو بالسوق وكان محتبى فأطلق حبوته وولى وهو يبكي أشد البكاء وأمرّه(3) .

و ـ معاوية بن خديج :

__________________

(1) الكامل 3 / 195.

(2) ذكرنا حديثه بكامله مع ترجمته فى فصول هذا الكتاب.

(3) الاصابة 1 / 314.

٣٦٧

وانتهى الخبر المؤلم الى معاوية بن خديج(1) وكان في افريقية مع الجيش ، فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة :

« ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها ، وأنهم يثبون على بنى عمنا فيقتلونهم ».

لقد كان قتل حجر من الأحداث الكبار وكان صدعا في الاسلام وبلاء على عموم العرب ، وكان معاوية نفسه لا يشك فى ذلك فكان ينظر إليه شبحا مخيفا ويردد ذكره في خلواته ، وقد ذكره كثيرا في مرضه الذي هلك فيه فكان يقول : « ويلي منك يا حجر » وكان يقول : « يوم لي من ابن الأدبار ـ يعني حجرا ـ طويل » قال ذلك ثلاث مرات(2) .

نعم ، أن يومه لطويل من حجر وأمثاله من المؤمنين والصالحين الذين سفك دماءهم لا لذنب اقترفوه ، سوى حبهم لأهل البيت ، وهنا ينتهي بنا الحديث عن محنة حجر وأصحابه لنلتقي بزملاء له آخرين.

رشيد الهجري :

ورشيد الهجري يعد في طليعة رجال الإسلام ورعا وتقى وعلما وفضلا ، فقد تتلمذ فى مدرسة أمير المؤمنين ونال الكثير من علومه ومعارفه فكان (ع) يسميه ( رشيد البلايا ) وحدثت ابنته قنو قالت : سمعت أبي يقول :

__________________

(1) معاوية بن خديج بن جفنة السكوني ، وقيل الكندي : هو الذي قتل العبد الصالح الطيب محمد بن أبي بكر بأمر ابن العاص ، وقد غزا افريقية ثلاث مرات ، جاء ذلك في الاستيعاب 3 / 389.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٨

« قال لي أمير المؤمنين ، يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ »

ـ يا أمير المؤمنين آخر ذلك الى الجنة؟

ـ يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة.

وخرج رشيد مع أمير المؤمنين الى بستان فاستظلا تحت نخلة ، فقام صاحب البستان الى نخلة ، فأخذ منها رطبا وقدمه الى أمير المؤمنين فأكلعليه‌السلام منه ، فالتفت رشيد الى الإمام قائلا له :

« ما أطيب هذا الرطب!؟ »

ـ أما انك ستصلب على جذعها!!

فكان رشيد بعد حديث الإمام يتعاهد تلك النخلة التي أكل من رطبها فيسقيها ويتعبد تحتها واجتاز عليها يوما فرأى سعفها قد قطع فشعر بدنو أجله ، واجتاز عليها مرة أخرى فرأى نصفها قد جعل زرنوقا يستسقى عليه فتيقن بدنو الأجل المحتوم منه(1) ، وفي فترات تلك المدة الرهيبة بعث خلفه ابن سمية ، فلما حضر عنده قال له :

« ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ »

ـ تقطعون يديّ ورجليّ وتصلبونني.

ـ أما والله لأكذّبن حديثه ، خلّوا سبيله.

فخلت الجلاوزة سراحه ، فلما خرج قال زياد لجلاوزته : ردّوه ، فردوه إليه ، فالتفت له قائلا :

« لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك ، إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه » ، فامتثلت الجلاوزة أمره ، فقطعوا

__________________

(1) التعليقات على منهج المقال ص 140.

٣٦٩

يديه ورجليه وهو يتكلم ، فغاظ كلامه زيادا ، فقال لجلاوزته : اصلبوه خنقا ، فقال رشيد لهم : « قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه ـ أراد بذلك قطع لسانه ـ » فأمر ابن سمية بقطع لسانه ولما أرادوا قطع لسانه قال لهم : « نفسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة » ، فأعطوه ذلك ، فقال : « هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين (ع) أخبرني بقطع لساني » ، ثم قطع الجلاوزة لسانه(1) .

أي ذنب اقترفه هذا العابد العظيم حتى يستحق هذا التنكيل ويمثل به بدلك التمثيل الفظيع ، ولكن ابن سمية ومعاوية قد راما بذلك تصفية الحساب مع شيعة أهل البيت والقضاء على روح التشيع.

عمرو بن الحمق الخزاعي :

وكان عمرو بن الحمق يحمل شعورا دينيا قويا حيا ، وكان من خيرة

الصحابة في ورعه وتقواه ، وهو الذي سقى النبي لبنا فدعا له (ص) بأن يمتعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاء نبيه فأخذ عمرو بعنق الثمانين عاما ولم تر في كريمته شعرة بيضاء(2) .

وكان من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن خلص أصحابه ، وقد دعاعليه‌السلام له فقال : « اللهم نوّر قلبه بالتقى ، واهده الى صراطك المستقيم »(3) ، وكان (ع) يكبره ويجله ويقدمه على غيره ، فقد قال

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522 ، وقال الحافظ الذهبي في التذكرة قتل زياد رشيدا الهجري لتشيعه ، فقطع لسانه وصلبه.

(2) الاصابة 2 / 526.

(3) سفينة البحار 2 / 360.

٣٧٠

له : « ليت في جندي مثلك مائة ». وقال لأمير المؤمنين معربا له عن ولائه واخلاصه :

« يا أمير المؤمنين ، والله ما أحببتك للدنيا ولا للمنزلة تكون لي بها ، وإنما أحببتك لخمس خصال ، إنك أول المؤمنين إيمانا ، وابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعظم المهاجرين والأنصار ، وزوج سيدة النساءعليها‌السلام ، وأبو ذريته الباقية من رسول الله (ص) ، فلو قطعت الجبال الرواسي ، وعبرت البحار الطوامي في توهين عدوك وتلقيح حجتك لرأيت ذلك قليلا من كثير ما يجب علي من حقك »(1) .

وقد دلّ حديثه على عقيدته وإيمانه وعظيم ولائه لأمير المؤمنين (ع) ولاء يلتمس منه وجه الله ويبغي فيه الدار الآخرة.

ولما ولى زياد الكوفة وتتبع زعماء الشيعة ووجوههم خاف الخزاعي من سلطته الغاشمة ففرّ الى المدائن ومعه رفاعة بن شداد فمكثا فيها برهة من الزمن ثم هربا الى الموصل وقبل أن يصلا إليها مكثا في جبل هناك ليستجما فيه ، وبلغ بلتعة بن أبي عبد الله عامل معاوية أن رجلين قد كمنا في جبل من جبال الموصل فاستنكر شأنهما فسار إليهما مع فريق من أصحابه ، فلما انتهوا الى الجبل خرج إليهما عمرو ورفاعة ، فأما عمرو فقد كان مريضا لأنه قد سقي سما وليس عنده قوى يستطيع بها على خلاص نفسه فوقف ولم يهرب ، وأما رفاعة فقد كان في شرخ الشباب فاعتلى فرسه ثم التفت الى عمرو فقال له : « أقاتل عنك؟ ».

فنهاه عن ذلك وقال له :

« وما ينفعني أن تقاتل انج بنفسك إن استطعت. »

__________________

(1) التعليقات ص 246.

٣٧١

ومضى رفاعة فهجم على القوم فأفرجوا له ، ثم خرجوا فى طلبه فلم يتمكنوا عليه لأنه كان راميا ، وأخذ عمرو أسيرا وطلبوا منه أن يعرفهم شخصيته فامتنع وقال لهم :

« أنا من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر لكم ».

وأصروا عليه أن يعرفهم نفسه ، فأبى ، فارتابوا من أمره ، فأرسلوه مخفورا الى عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي حاكم الموصل ، فلما رآه عرفه ورفع بالوقت رسالة الى معاوية عرفه بالأمر ، فأجابه :

« إنه زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشاقص(1) كانت معه ، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ».

فأخرجه عبد الرحمن وأمر بطعنه تسع طعنات فمات في الاولى أو الثانية منها(2) ثم احتز رأسه وبعثه الى معاوية فأمر أن يطاف به في الشام وغيره فكان أول رأس طيف به في الإسلام(3) ثم أمر به أن يبعث الى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فجيء به فوضع فى حجرها وهي غافلة لا تعلم من أمره شيئا ، فلما بصرت به اضطربت حتى كادت أن تموت ثم قالت ودموعها تتبلور على وجهها :

« وا حزناه لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نفيتموه عني طويلا ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية ».

__________________

(1) المشاقص : جمع مفرده ـ مشقص ـ النصل العريض ، أو سهم فيه نصل عريض.

(2) تاريخ الطبري.

(3) الاستيعاب 2 / 517.

٣٧٢

ثم التفتت الى الحرسي فقالت له :

« ارجع به أيها الرسول الى معاوية فقل له : ولا تطوه دونه ، أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك ».

ورجع الرسول الى معاوية فأخبره بمقالتها فغضب وغاظه كلامها فأمر باحضارها في مجلسه ، فجيء بها إليه فقال لها :

« أنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغنى؟ »

فانبرت إليه غير مكترثة ولا هيّابة لسلطانه قائلة :

« نعم ، غير نازعة عنه ، ولا معتذرة منه ، ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت فى الدعاء ان نفع الاجتهاد وإن الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئا من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك!! »

فالتفت إياس بن حسل الى معاوية متقربا إليه :

« أقتل هذه يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها ».

فقالت له : « تبا لك ، ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثم أنت تدعوه الى قتلي كما قتل زوجي بالأمس!!! إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ».

فضحك معاوية وقال متبهرا :

« لله درك اخرجي!! ثم لا أسمع بك في شيء من الشام ».

فقالت له : « وأبي لأخرجن ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا اعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحن فيها الى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة ».

وثقل كلامها على معاوية فأشار إليها ببنانه بالخروج ، فخرجت

٣٧٣

وهي تقول :

واعجبي لمعاوية يكف عنى لسانه ويشير الى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافد الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد ».

ثم خرجت من مجلسه(1) لقد كان قتل عمرو من الأحداث الجسام في الإسلام لأنه من صحابة النبي (ص) وقد عمد معاوية الى اراقة دمه فخالف بذلك ما أمر الله به من حرمة سفك دماء المسلمين إلا بالحق ، ولم يشف قتله غليل معاوية فقد أمر بأن يطاف برأسه في بلاد المسلمين وبعث به الى زوجته فروعها وكادت أن تموت من ألم المصاب ، وقد رفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية انكر فيها ارتكابه لهذا الحادث الخطير وهذا نصها :

« أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه ، واصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو اعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثم قتلته جرأة على ربك ، واستخفافا بذلك العهد »(2) .

لقد اشاد الإمام بفضل عمرو فذكر أنه صاحب رسول الله (ص) وانه قد أبلت العبادة جسمه ، كما ذكر ان معاوية قد ابرم عهدا خاصا فى شأنه يتضمن أمنه وعدم البغي عليه ولكنه قد خاس بعهده ولم يف به.

__________________

(1) أعلام النساء 1 / 4.

(2) التعليقات ص 246.

٣٧٤

أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن من المنددين بالسياسة الأموية ، ومن الناقدين لسلطتهم ، وكان يذيع مساوئهم بين أوساط الكوفيين فبلغ ذلك زيادا فبعث في طلبه فاختفى أوفى واستعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى فشك في أمره فقال لمن معه :

« من هذا؟ »

ـ أوفى بن حصن.

ـ عليّ به.

فجيء به إليه فقال متبهرا : « أتتك بخائن رجلاه تسعى ». ثم التفت إليه قائلا :

ـ ما رأيك في عثمان؟

ـ ختن رسول الله (ص) على ابنتيه.

ـ ما تقول في معاوية؟

ـ جواد حليم.

ـ ما تقول فيّ؟

ـ بلغني أنك قلت بالبصرة : « والله لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر »

ـ قد قلت ذلك.

ـ خبطتها خبط عشواء!!

ـ ليس النفاخ بشر الزمرة.

ثم أمر بقتله(1) ، إن نكران أوفى لسياسة زياد في ذلك الظرف

__________________

(1) الكامل 3 / 183.

٣٧٥

العصيب من اعظم الأعمال التي قام بها ، ومن أفضل الجهاد الذي عناه رسول الله (ص) بقوله : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم عند سلطان جائر ، فأمر به فقتل »(1) .

جويرية بن مسهر العبدي :

وكان جويرية من خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين ومن حملة حديثه ومن المقربين عنده فقد نظر إليه يوما فناداه : يا جويرية الحق بي فأني إذا رأيتك هويتك ، ثم حدثه ببعض أسرار الإمامة وقال له : « يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا فاذا أبغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما ابغضنا فاذا أحبنا فأحبه »(2) ، ودخل على أمير المؤمنين يوما وكان مضطجعا فقال له جويرية :

« أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ».

فتبسم أمير المؤمنين (ع) وانبرى إليه فأخبره بما يجري عليه من بعده من ولاة الجور قائلا :

« وأحدثك يا جويرية بأمرك ، أما والذي نفسي بيده لتعتلن(3) الى العتل الزنيم ، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر »(4) .

وما دارت الأيام حتى استدعى ابن سمية جويرية فأمر بقطع يده ورجله

__________________

(1) النصائح ص 60.

(2) ابن أبي الحديد وقريب منه جاء في التعليقات ص 366.

(3) لتعتلن : أي لتجذبن.

(4) الكافر : القصير.

٣٧٦

ثم صلبه على جذع قصير(1) ، وقد ألف هشام بن محمد السائب كتابا فى فاجعة جويرية ورشيد وميثم التمار(2) .

عبد الله بن يحيى الحضرمي :

وكان عبد الله الحضرمى من أولياء أمير المؤمنين ومن صفوة أصحابه وكان من شرطة الخميس(3) وقد قال (ع) له يوم الجمل :

« أبشر يا عبد الله فانك وأباك من شرطة الخميس حقا لقد أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس(4) .

ولما قتل أمير المؤمنين (ع) حزن عليه عبد الله حزنا مرهقا فترك الكوفة وبنى له صومعة يتعبد فيها هو وأصحابه المؤمنون ، ولما علم ابن هند بجزعهم وحزنهم على موت أمير المؤمنين (ع) أمر باحضارهم عنده ، فلما جيء بهم أمر بقتلهم صبرا فقتلوا(5) ففي ذمة الله هؤلاء الصلحاء الأخيار الذين سفكت دماؤهم ، وتقطعت أوصالهم ، ولم يرتكبوا ذنبا أو يحدثوا في الإسلام حدثا سوى ولائهم لأمير المؤمنين (ع) امتثالا لرسول الله صلى الله

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) التعليقات ص 366.

(3) الخميس : اسم من أسماء الجيش سمي به لأنه قد قسم الى خمسة أقسام المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة ، وقيل : إنما سمى به لأن الغنائم تخمّس فيه جاء ذلك فى نهاية ابن الأثير ، وذكرت بعض المصادر أن شرطة الخميس كانوا معروفين بالثقة والعدالة حتى كانت شهادة أحدهم تعدل شهادة رجلين.

(4) التعليقات ص 214.

(5) البحار 10 / 102.

٣٧٧

عليه وآله الذي فرض ودّه على جميع المسلمين.

ولم يقتصر معاوية في عدائه للشيعة على قتل زعمائهم ، فقد قام بأمور بالغة الخطورة وهي :

هدم دور الشيعة :

وبذل معاوية جميع جهوده في سبيل القضاء على شيعة أمير المؤمنين فأمر عماله أن يهدموا دورهم ، فقامت جلاوزته بهدمها(1) وقد تركهم بلا مأوى يأوون إليه كل ذلك لأجل القضاء على التشيع ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام .

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمل معاوية جميع ما يمكنه في اذلال الشيعة وفهرهم ، فقد كتب الى جميع عماله أن لا يجيزوا لأحد من شيعة أمير المؤمنين وأهل بيته شهادة(2) فامتثل العمال أمره ، فلم تقبل شهادة الشيعة وهم من ثقات المسلمين وعدولهم وأخيارهم.

اشاعة الارهاب والاعتقال :

وأذاع معاوية الرعب والإرهاب فى نفوس الشيعة فخلّد بعضهم في السجون حتى ماتوا ، وروّع جمعا آخرين حتى تركوا أوطانهم وفرّوا هائمين على وجه الأرض يطاردهم الخوف والرعب ، وقد قبضت شرطته

__________________

(1) اعيان الشيعة 4 / 46.

(2) شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 ، ذخيرة الدارين ص 19.

٣٧٨

على الكثيرين منهم فجيء بهم مخفورين إليه فقابلهم بالاستخفاف والاستهانة والتحقير ونحن نذكر أسماءهم مع ما جرى عليهم من العسف والظلم وهم :

1 ـ محمد بن أبي حذيفة :

محمد بن أبي حذيفة يعد في طليعة ثقات الإسلام ومن خيرة صالحاء المسلمين فقد كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وقد قال أمير المؤمنين (ع) في حقه : « ان المحامدة تأبى أن يعصى الله » ثم عده منهم ، وكان ملازما لأمير المؤمنين وفى خدمته ، ولما قتل (ع) وانتهى الأمر الى معاوية أراد قتله ثم بدا له أن يسجنه فسجنه أمدا غير قصير ، والتفت يوما الى أصحابه فقال لهم : « ألا نرسل الى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب عليا » فأجابوه الى ذلك ، ثم أمر باحضاره فلما مثل عنده التفت إليه قائلا :

« يا محمد ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب (ع) ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما وان عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه وان عليا هو الذي دس الناس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه ».

فأجابه محمد : « إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم بك ».

فقال له معاوية : أجل. واندفع محمد فقال له :

« فو الله الذي لا إله غيره ما اعلم أحدا شرك في دم عثمان والّب الناس عليه غيرك لما استعملك ، ومن كان مثلك فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ففعلوا به ما بلغك ، والله ما أحد شرك فى قتله بدئا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة فهم الذين شهدوا عليه بالعظمة وألّبوا عليه الناس وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعا ».

٣٧٩

فارتاع معاوية وقال منكرا عليه :

« قد كان ذلك؟!! »

« أي والله ، وإني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد الإسلام فيك لا قليلا ولا كثيرا وإن علامة ذلك فيك لبينة تلومنى على حبي عليا ، خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وانصاري وخرج معك ابناء المنافقين والطلقاء والعنقاء خدعتهم عن دينهم ، وخدعوك عن دنياك ، والله يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ احلوا انفسهم بسخط الله في طاعتك ، والله لا ازال احب عليا لله ولرسوله ، وابغضك في الله ورسوله ابدا ما بقيت!! »

ففزع معاوية وقال : « إني اراك على ضلالك بعد ردوه الى السجن »

فردوه للسجن فمكث فيه مدة من الزمن حتى مات فيه(1) .

لقد لاقى محمد حتفه وهو مروع في ظلمات السجون لأنه لم يرتض اعمال معاوية ولم يقره على منكراته ومساوئه ، وهكذا كان مصير الأحرار والنبلاء المعارضين لحكومة معاوية يلاقون التعذيب والتنكيل والتخليد في السجون.

2 ـ عبد الله بن هاشم المرقال :

ومن زعماء الشيعة وعيونهم الذين روعهم معاوية الزعيم المثالي عبد الله ابن هاشم المرقال ، فقد كان معاوية يحمل فى نفسه كمدا وحقدا عليه وذلك لولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) ولموقف ابيه هاشم في يوم صفين ذلك الموقف الخالد الذي اخافه وارهبه حتى صمم على الهزيمة والفرار ، وللتشفي والانتقام منه فقد كتب الى عامله زياد رسالة يطلب فيها القبض على عبد الله

__________________

(1) رجال الكشي ص 47.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت الله المعظم.

تلك المقاطع التي يعالج كل واحد منها مرضا اجتماعيا خاصا من أمراض المجتمع في ذلك العصر وحتى في عصرنا الحاضر.

١ ـ التفاخر بالنسب :

كان التفاخر بالنسب والقبيلة والعشيرة من الامراض المستحكمة المتجذرة في البيئة العربية الجاهلية ، وكان من اكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة ، ويتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلا :

ولقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة.

« أيّها الناس إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها.

ألا إنّكم من آدم ، وآدم من طين.

ألا إنّ خير عباد الله عبد اتّقاه ».

لقد عمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطابه ـ لإفهام العالم البشري بأن ملاك الشخصية والتفوق انما هو ( التقوى ) والورع فقط ـ إلى تصنيف الناس الى صنفين لا ثالث لهما ، واعطى الفضيلة والمنزلة لأهل التقوى والورع خاصة.

وبهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية والملاكات والمقاييس المصطنعة إذ قال :

« إنما الناس رجلان :

مؤمن تقي كريم على الله.

وفاجر شقيّ هين على الله ».

٢ ـ التفاضل بالقومية العربية :

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم جيدا أن هذه الجماعة من

٥٠١

البشر تعتبر ( العربية ) والانتساب الى العرق العربي من المفاخر الكبرى ، وكانت النخوة العربية قد ترسخت في قلوب تلك الجماعة وعروقها كداء دفين ومرض مزمن ، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث وتحطيم هذا الصرح الموهوم :

« إن العربية ليست بأب والد ، ولكنه لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه ».

وهل نجد كلاما أعمق مغزى ، وأوضح مرادا ، وأقوى وقعا في النفوس من هذا الكلام؟!

٣ ـ لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض :

لقد قال داعية الحرية الحقيقية ، ورائد حقوق الانسان الواقعي بهدف تقوية ودعم مبدأ المساواة بين الافراد والجماعات البشرية :

« إنّ الناس من آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى ».

وقد ألغى رسول الانسانية الاعظم بهذا البيان الصريح كل انواع التمييز الظالمة ، وكل ألوان التشدد مع الآخرين ، وفعل وبيّن في ذلك العصر ما لم يفعله ولم يبينه ميثاق حقوق الانسان مع كل هذه الضجة الاعلامية التي نشهدها في عالمنا الحاضر.

٤ ـ الحروب الطويلة والاحقاد القديمة :

لقد نشأت الاقوام العربية ـ نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة والطويلة ـ على الحقد والضغينة.

فقد كانت نيران الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم وساق ومن دون انقطاع.

ولقد واجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة

٥٠٢

العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجب عليه ـ بغية إقرار الأمن والهدوء والحفاظ عليهما في البيئة الاسلامية ـ أن يبادر الى وضع نهاية لهذه المعضلة ، وأن يعالج هذا الداء المزمن فلم يجد دواء لهذا الداء إلاّ أن يطلب من الناس كافة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سفكت في العهد الجاهلي ، وأن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة ، ومنتهية ، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء التي تعرض المجتمع الاسلامي الناشئ للخطر ، وحتى ينتزع من أذهانهم ونفوسهم فكرة الاغارة والقتل العشوائي الذي كان يتم بحجة القصاص في حين كان من الممكن ان يتم بشكل القصاص الحقيقي العادل ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية.

ألا إن كلّ مال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدميّ هاتين ».

٥ ـ الاخوة الاسلامية :

ولقد ارتبط قسم من خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتحاد المسلمين ووحدة كلمتهم ، وحق المسلم على اخيه المسلم.

وقد كان مقصودهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين التي تعتبر من مميزات الدين الاسلامي الحنيف ، هو أن يرغّب غير المسلمين في الاسلام إذا هم سمعوا ورأوا مثل هذه الحقوق ، ومثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد :

« المسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة وهم يد واحدة على من سواهم ، نتكافؤ دماؤهم ، ليسعى بذمتهم أدناهم »(١) .

__________________

(١) لقد نقلنا هذه المختارات من : روضة الكافي : ص ٢٤٦ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٢ ، المغازي : ج ٢ ص ٨٣٦ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٠٥ ، شرح ابن أبي الحديد : ج ١٧ ، ص ٢٨١.

٥٠٣

معاقبة المجرمين :

ليس من شك في أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مظهرا كاملا للانسانية والرحمة ومثلا أعلى في العفو والصفح ، فهو رغم مشاعر بعض المتطرفين الملتهبة ، أصدر عفوه العام عن أهل مكة كافة.

بيد أنه كان هناك بين المكيين عدة أشخاص تجاوزوا الحد في معاداتهم للنبي ومعارضتهم للرسول ، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر ، فلم يكن من الصالح ـ مع كل ما تسبّبوه من فجائع وفضائع ـ أن يعيشوا بين المسلمين في أمان وراحة ، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم ، وتآمرهم ضدّ الاسلام مرة اخرى ويتسببوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يعرف مداها ، وتبعاتها.

وقد قتل بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات ، ولجأ اثنان منهم إلى بيت « أم هاني » بنت أبي طالب اخت الامام عليعليه‌السلام ، فلاحقهما « علي » وهو غارق في الحديد لا يعرف ، فدخل بيت أمّ هانئ يطلبهما(١) فواجهت أم هانئ فارسا لا يعرف فقالت : أنا امرأة مسلمة وقد أجرت هذين ، وجوار المسلمة محترم.

وفي اكثر المصادر أنها قالت : يا عبد الله أنا أم هاني ابنة عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري.

وهنا عمد الامام عليعليه‌السلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه ، فنزع المغفر عن رأسه ، واسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أم هاني على أخيها « علي » بعد فراق طال سنينا عديدة

__________________

(١) يقول ابن هشام إن الرجلين هما : « الحارث بن هشام » و « زهير بن أبي أميّة بن المغيرة ( السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١١ ).

٥٠٤

ومديدة إلا وانحدرت منهما دموع الشوق والفرحة ، واعتنقت أخاها ، ثم توجها معا الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعطي رأيه في أمانها ، وجوارها فامضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوار تلك المرأة المسلمة ، وأمانها قائلا :

« قد أجرنا من أجرت وأمّنّا من أمّنت فلا يقتلهما »(١) .

وقد كان عبد الله بن أبي سرح الذي أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام احد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم ، ولكنه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

قصّة عكرمة وصفوان :

ولقد فرّ « عكرمة بن أبي جهل » أحد كبار مثيري الحروب ومشعلي الفتن ضد الاسلام والمسلمين ، إلى اليمن ، إلا أنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته ، في قصة مفصلة.

وأمّا « صفوان بن اميّة » فانه مضافا إلى جرائمه الفادحة ، كان قد قتل مسلما انتقاما لأبيه « أميّة بن خلف » الذي قتل على أيدي المسلمين في بدر ، وذلك عند ما صلبه أمام حشد كبير من أهل مكة في وضح النهار ، ولهذا أهدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه ، فعزم ان يخرج من الحجاز عن طريق البحر فرارا من القتل ، وبخاصة عند ما علم بأنه من جملة العشرة الذين أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتلهم وأهدر دمهم.

فطلب « عمير بن وهب » من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عنه ، فقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفاعته ، وأعطاه عمامته ليدخل بها مكة كعلامة أمان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصطحب معه إلى مكة « صفوان بن أميّة » ، فذهب عمير إلى جدّة ، وأخبر صفوان بذلك ، وقدم به مكة

__________________

(١) الارشاد : ص ٧٢ إعلام الورى بأعلام الورى : ص ١١٠ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١١ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٤٤ و ١٤٥.

٥٠٥

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما وقعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كبير المجرمين بل اكبرهم يومئذ قال له ردّا عليه لما سأله قائلا : أن عمير يزعم أنك قد أمنتني؟

« صدقت ، انزل أبا وهب ».

ثم دعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الاسلام فقال : اجعلنى بالخيار شهرين ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أنت بالخيار فيه أربعة أشهر »(١) .

وبهذا أمهله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الاسلام ، ودعوة النبي.

إن دراسة اجمالية وسريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في الاسلام وفي تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها وإخفاءها ، وهو أن رءوس الشرك كانوا أحرارا في اختيار العقيدة الاسلامية واعتناقها.

فهم اختاروها واعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار ، ولا إرعاب أو تخويف ، بل كانت القيادة الاسلامية تسعى دائما إلى أن يتم اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبر والتفكير الصحيح ، لاعن طريق الارعاب والتخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكة واكثرها عبرة ، وبقي أن نتعرض لذكر حادثتين جديرتين بالاطلاع والتأمل استكمالا لهذه الدراسة.

وتانك الحادثتان هما :

١ ـ مبايعة النبي نساء مكة :

بعد بيعة « العقبة » كانت هذه هي المرة الاولى التي اخذ رسول الله صلّى

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤١٨ المغازي : ج ٢ ص ٨٥٤.

٥٠٦

الله عليه وآله البيعة من النساء بشكل ظاهريّ ورسميّ ، ولقد بايعنه على الامور التالية :

١ ـ أن لا يشركن بالله شيئا.

٢ ـ ولا يسرقن.

٣ ـ ولا يزنين.

٤ ـ ولا يقتلن أولادهن.

٥ ـ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهنّ.

٦ ـ ولا يعصين النبي في معروف.

ولقد تمت هذه البيعة بالكيفية التالية وهي : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئا من الطيب والعطر ثم ادخل يده فيه وتلا الآية(١) التي وردت فيه الامور المذكورة ثم نهض من مكانه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنساء :

« من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح فاني لا اصافح النساء »(٢) .

وكانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة ـ الخاصة في موادها وبنودها ـ من نساء مكة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن ، فلو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقدم على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عملهنّ القبيح حتى في السرّ.

وكانت « هند » زوجة أبي سفيان بن حرب ، وأمّ معاوية ذات السوابق السوداء والفاضحة من بين تلك النسوة.

وقد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها وخشونة ، في سلوكها ، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان ، ولطالما فرضت عليه آراءها ، حتى أنها يوم قرّر أبو سفيان الاستسلام للأمر الواقع ، ورغّب أهل مكة في السلام حرّضت الناس على القتال

__________________

(١) الممتحنة : ١٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١١٣.

٥٠٧

وسفك الدماء ومواجهة جنود الاسلام.

إن تحريضات هذه المرأة بالذات هي التي أشعلت نيران الحرب في « احد » ، تلك النيران التي كلّفت ، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعين شهيدا كان أبرزهم « حمزة » الذي بقرت تلك المرأة الفاسدة الفاجرة الحاقدة وبمنتهى القسوة والفضاضة بطنه ، وشقّت صدره ، واستخرجت كبده ، وقطعته بأسنانها نصفين.

لم يكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة وأمثالها في مرأى ومسمع من الناس.

وقد تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن ، فلما بلغ إلى قوله : « ولا يسرقن » نهضت هند ـ وكانت آنذاك متنقبة متنكرة ـ وقالت : إنّ أبا سفيان رجل ممسك والله إني كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟

فنهض أبو سفيان وقال : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال.

فعرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال هذا الحوار بين هند وأبي سفيان أن المتكلمة هي « هند » بنت عتبة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها سائلا : « وانك لهند بنت عتبة »؟!

قالت : نعم ، فاعف عما سلف عفا الله عنك!

ولما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قوله تعالى : « ولا يزنين » نهضت هند مرة اخرى وذكرت وهى تبرّئ نفسها من هذه الوصمة ، وذكرت جملة كشفت عن خبيئة نفسها من دون شعور.

فلقد قالت : يا رسول الله أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدّ ـ من منظار علم النفس ـ نوعا من كشف القناع عما في السريرة والافصاح عما في الضمير. وحيث إن هندا كانت تعرف أنها كانت فيما مضى تفعل مثل هذا ، وكانت واثقة من ان الناس عند سماع هذه

٥٠٨

العبارة سيلتفتون بانظارهم إليها لذلك لهذا سارعت فورا ـ ويهدف صرف الأنظار عن نفسها ـ إلى القول : وهل تزني إلاّ الأمة دون الحرة.

ومن الصدف انه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجب من إنكارها ، فضحك حتى استغرق في الضحك ، وتسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها(١) .

هدم بيوت الاصنام بمكة وما حولها :

كانت في مكة وضواحيها بيوت عديدة وكثيرة للاصنام التي كانت تقدّسها ، وتحترمها القبائل المختلفة القاطنة في تلك المناطق ، وحتى يقضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جذور الوثنية في أرض مكة قام بارسال فرق عسكرية متعددة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد ، والبيوت ، وإزالة الاصنام والاوثان.

كما أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلن في مكة نفسها أن من كان في بيته صنم فليكسره ، وفي هذا السياق أرسل « عمرو بن العاص » لتحطيم صنم « سواع » وسعد بن زيد لهدم صنم « منات ».

وتوجه « خالد بن الوليد » على رأس فرقة عسكرية الى « تهامة » لدعوة قبيلة « جذيمة بن عامر » إلى الاسلام ، وهدم صنم « عزى » ، وقد نهاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كلّفه بهذه المهمة عن القتال وإراقة الدماء وبعث معه « عبد الرحمن بن عوف » ليعينه على ذلك.

وكانت قبيلة بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد(٢) ووالد عبد الرحمن لدى رجوعهما من اليمن في ايام الجاهلية وصادرت أموالهما ، ولهذا كان « خالد »

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٥ ص ٢٧٦.

(٢) هو الفاكه بن المغيرة بين عبد الله بن عمر بن مخزوم راجع للوقوف على اصل هذه الواقعة السيرة النبوية : ج ٤ ص ٧٤ وتاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٦١.

٥٠٩

يحقد عليهم.

فلما التقى « خالد » بني جذيمة في أرضهم ، وجدهم قد أخذوا السلاح ، وتهيّأوا لقتاله فأمّنهم وقال لهم : ضعوا السلاح فان الناس قد أسلموا.

فرأى زعماء القوم ان يضع الناس السلاح ، ويسلّموا لجنود الاسلام ، ولكن رجلا من القوم أدرك بفطنته سوء نية خالد ، فقال لزعماء القبيلة : والله لا أضع سلاحي أبدا ، فما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار الاّ ضرب الاعناق!

ولكن بني جذيمة رفضت قوله ، وأخذت برأي أسيادها فوضعت السلاح ، وامّن الناس ، فأمر خالد جنوده فورا بان يكتّفوا رجال القبيلة ، وباتوا في وثاق.

فلما كان في السحر أمر بأن يقتل فريق منهم ، وأطلق سراح آخرين.

وعند ما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبأ هذه الجريمة النكراء غضبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خالد غضبا شديدا ، ودعا عليا من فوره ، وأعطاه مبلغا كبيرا من المال وأمره بالتوجه الى بني جذيمة ، وان يدفع دية من قتل أو جرح خالد من رجالهم ، وثمن كل ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقة وعناية كاملتين.

فودى عليعليه‌السلام لهم كل ما أصاب خالد ، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب ( وهي الاناء الذي يلغ فيه الكلب ) حتى اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلاّ ودّاه بقيت معه بقية من المال ، فدعا رؤساء تلك القبيلة المنكوبة وقال لهم : هل بقي لكم من دم أو مال لم يود لكم؟

فقالوا : لا.

فقالعليه‌السلام : فاني اعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يعلم ولا تعلمون.

ففعل ثم رجع الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره الخبر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٥١٠

« أصبت واحسنت ».

ثم قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ممّا تحت إبطيه وقال :

« اللهم إنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد ».

قالها ثلاث مرات(١) .

لقد تلافى عليعليه‌السلام جميع الخسائر المادية والروحية التي لحقت ببني جذيمة ، وقد أعطى شيئا من ذلك المال لمن ارتاع ، وفزع من صنع خالد وجنوده ، وطيّب خواطرهم وقال : وهذه لروعة القلوب.

وعند ما عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصنيع عليّعليه‌السلام وإجراءاته العادلة والانسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في حقه :

« والله ما يسرّني يا عليّ أنّ لي بما صنعت حمر النعم(٢) أرضيتني رضي الله عنك يا عليّ أنت هادي أمّتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبّك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقيّ كل الشقيّ من خالفك ورغب عن طريقتك إلى يوم القيامة »(٣) .

جرائم اخرى لخالد :

لم تقتصر جرائم خالد التي ارتكبها طيلة حياته الاسلامية في ظاهرها على ما ذكر بل لقد ارتكب جريمة اخرى في أيام حكومة « أبي بكر » اكبر وافضع ممّا مرت ، وإليك خلاصة هذه الواقعة :

لقد ارتدّت بعض القبائل ـ بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٢٠ ، الكامل لابن الاثير : ج ١ ص ١٧٣ و ١٧٤ امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٠٠.

(٢) الخصال : ص ٥٦٢.

(٣) مجالس ابن الشيخ : ص ٣١٨.

٥١١

بالاحرى وفي الحقيقة رفضت الاعتراف بخلافة أبي بكر ، وامتنعت عن أداء الزكاة إليه ، فبعث أبو بكر فرقا عسكرية مختلفة لقمع تلك الجماعات المتمردة.

وبعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية الى قبيلة « مالك بن نويرة » لمقاتلتها بحجة الارتداد ، وكان « مالك » وجميع أفراد قبيلته على استعداد للقتال ، وكانوا يقولون : نحن مسلمون ، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّنهم ، وطلب منهم إلقاء اسلحتهم ، فلما وضعوا أسلحتهم ، أمر بحبسهم ، ثم قتلهم وقتل زعيمهم المسلم الصالح « مالك بن نويرة » واعتدى على زوجته في نفس الليلة(١) .

فهل يصح أن يوصف هذا الرجل ـ على هذه السوابق السوداء ، ومع هذا الملفّ المخزي ـ بسيف الله ، وأن يعدّ من امراء الاسلام المجاهدين الصالحين؟!!(٢) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٣ ص ١٤٩ ، أسد الغابة : ج ٤ ص ٢٩٥ تاريخ ابن عساكر : ج ٥ ص ١٠٥ ، ١١٢ تاريخ ابن كثير : ج ٦ ص ٣٢١ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٢٣٣.

(٢) لقد ورد ذكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأولى من حكومة « أبي بكر » بصورة مفصلة وقد ذكرناها ملخصة.

وللوقوف على تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب النص والاجتهاد ص ٦١ ـ ٧٥.

٥١٢

٥٠

معركة حنين

كانت طريقة رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شئونها السياسية والدينية ما دام هو فيها ، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفرادا صالحين للقيام بتلك الأمور ، وشغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد ، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإن الاسلام دين متكامل ، ونظام سياسي ، اجتماعي ، أخلاقي ، ومعنوي يستمد قوانينه من منبع الوحي الطاهر ، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم ، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين ومدرّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين ، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام واصوله الصحيحة ، وتنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا عند فتح مكة ، فانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قرر مغادرة مكة والمسير إلى قبيلتي « هوازن » و « ثقيف » عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ، وأحكام الاسلام ، و « عتاب بن أسيد » الذي كان رجلا مؤهّلا ، لادارة الامور ، والصلاة بالناس جماعة ، ثم غادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوما متوجها إلى أرض هوازن(١) .

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٣٧ ، والمغازي : ج ٣ ص ٨٨٩.

٥١٣

جيش قليل النظير :

كان الجيش الذي ساربه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هوازن يبلغ (١٢) ألفا من الجنود المسلحين : عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة ، وشاركوا في فتح مكة ، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح ، وقد أوكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيادتهم إلى أبي سفيان(١) .

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير ، ونادر المثيل في تلك العصور ، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سببا في هزيمته في مبدأ الأمر ، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم ـ على خلاف ما مضى ـ فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة ، وغفلوا عن خطط العدو ونواياه فكان ذلك داعيا إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين : لو لقينا بني شيبان ما بالينا ، لن نغلب اليوم من قلة(٢) .

ولكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد وضخامة الجيش ، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى :

«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ »(٣) .

تحصيل المعلومات العسكرية :

بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن وثقيف ، وجرت اتصالات مكثفة بينها ، وكان حلقة الاتصال ، والمدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عرف

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٣٩ ، المغازي : ج ٣ ص ٨٨٩.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٥٠ ، المغازي : ج ٣ ص ٨٨٩.

(٣) التوبة : ٢٥.

٥١٤

بالفروسية والشجاعة يدعى « مالك بن عوف النصري ».

وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية ، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شابا متهورا في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا إليه عما قريب ، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والاطفال والاموال وراء ظهورهم وعند ما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال : اردت من جعل كل رجل أهله وماله وولده ونساءه خلفه حتى يقاتل عنهم(١) .

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع ، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم.

وقد خالف شيخ مجرب حنّكته الحروب منهم يدعى « دريد بن الصمة » هذه الخطة عند ما سمع رغاء البعير ، وثغاء الشاء ، وخوار البقر ، وبكاء الصغير ، وجادل فيها مالكا ، واعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس : يا قوم إن هذا فاضحكم في عورتكم ، وممكّن منكم عدوّكم ، وهل يرد المنهزم شيء؟

ولكن مالكا لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماما وقال : ـ وهو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة ـ : أنك قد كبرت ، وكبر علمك ، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك.

ولقد اثبت المستقبل صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنّك فان إشراك النساء والاطفال والانعام في الحرب ، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٨٩٧.

٥١٥

ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة ، فيما بعد.

ثم إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث « عبد الله بن حدرد الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم وخططهم ، ثم يأتيه بخبرهم ، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخبارهم.

وكان « مالك بن عوف » قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين ، ويأتوه بأخبارهم ، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائد العدوّ أن يجبر ضعف جنوده وقلتهم باستخدام الخدع العسكرية ، والتوسل باسلوب المباغتة ليفرق ـ بهجوم مفاجئ ـ صفوف المسلمين ، ويهدم نظامهم وانسجامهم ، ويصيبهم بالهرج والمرج ، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة ، فلا تتمكن من ضبط الامور ، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ولتحقيق هذا الهدف هبط « مالك بن عوف » بجيشه في واد ينحدر الى منطقة « حنين » ، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والاحجار ، وفي شغاف الجبال ، وكل ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز ، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجال هوازن وثقيف من مكامنهم ، وكمائنهم ، ورموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو ، بالحجارة والنبل ، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف!!

تجهيزات المسلمين :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارفا بقوة العدوّ وعناده فدعى « صفوان بن أميّة » قبل مغادرة مكة ، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة ، ولبس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه درعين كما لبس المغفر والبيضة ، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتى دنوا جميعا من

٥١٦

الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي ، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة « بني سليم » بقيادة « خالد بن الوليد » في وادى « حنين » ، وبينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجال هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد ، وأخذوا يرشقونهم بالاحجار والنبال ، فالقت أصوات الاحجار والنبال فزعا شديدا في قلوب المسلمين الذين مطروا بالسهام والنبال والاحجار من جانب ، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضربا وقتلا.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين ، فقد أوحشتها ، وأصابت المسلمين بالفوضى ، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار ، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الحادث ، وسروا به سرورا عظيما حتى قال أبو سفيان شامتا : لا ينتهي هزيمتهم دون البحر ، وقال آخر : الا بطل السحر اليوم ، وقال ثالث : لا يجتبرها محمّد وأصحابه ، وعزم رابع على اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدسة(١) .

استقامة النبي ومن ثبت من أصحابه :

لقد ازعج فرار المسلمين الذي كان نابعا ـ في الدرجة الاولى من الفزع والفوضى التي أصابتهم ، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدركصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيّر وجه التاريخ ولتبدّل مسار البشرية ، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ٩٠٩ ـ ٩١٠ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٤٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤١١ و ٤١٢.

٥١٧

من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته :

« يا أنصار الله وانصار رسوله أنا عبد الله ورسوله ».

قال هذا واندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله « مالك » وجنوده مسرحا لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم ، ومشى معه من لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالبعليه‌السلام والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأبي سفيان بن الحارث الذي لم يغفلوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ بدء القتال لحظة واحدة ، وامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم ، ولا يلوون على شيء :

« يا معشر الانصار ، يا معشر السمرة »(١) .

ويقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان ، فكان هذا النداء تذكيرا بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان ينصروه حتى الموت.

فبلغت صرخات العباس مسامع المسلمين فثارت حميتهم ، وأخذوا يثوبون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يقولون : لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءات العباس المتلاحقة التي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي نادمة على فرارها ندما شديدا ، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى ، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغسل ما لحق بهم من عار الفرار ، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار والرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول تشجيعا لهم ، وتقوية لمعنوياتهم :

__________________

(١) ولقد ذكر المغازي في ج ٣ ص ٩٠٢ جانبا من بطولات عليعليه‌السلام وتضحياته في هذه الموقعة.

٥١٨

« أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب ».

وقد تسبّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين ، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة ، تاركين وراءهم اموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتوبهم الى ساحة المعركة ، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك ـ كما أسلفنا ، وفروا بعد أن قتل منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة ، وقلاع الطائف.

غنائم الحرب :

لقد بلغت خسائر المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما وأن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير ، وأربعين ألف رأس غنم ، وأربعة آلاف اوقية(١) من الفضة.

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأن يؤخذ الاسرى والغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة ( وهي ماء بين الطائف ومكة ) وكلّف أشخاصا معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصة ، كما أمر بأن تحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان ، ريثما يرى فيها رأيه ، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس ونخلة والطائف(٢) .

لقطتان من الخلق النبوي العظيم :

وينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية ، وعمق

__________________

(١) الرطل ٢٥٦٤ غرام والاوقية ١٢ / ١ من الرطل فعلى هذا تكون الاوقية ٢١٣ غراما ، وأربعة آلاف أوقية تساوى ٨٥٢ كيلو غراما.

(٢) كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص ، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.

٥١٩

الرحمة الاسلامية :

١ ـ بعد أن أعاد النبي المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن وهزموهم هزيمة قبيحة ، قالت أمّ سليم بنت ملحان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك!! لا تعف عنهم اذا أمكنك الله منهم ، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سليم! قد كفى الله ، عافية الله أوسع(١) .

وهكذا نجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

٢ ـ حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذرية ، فلما بلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية.

فقال اسيد بن الحضير : يا رسول الله أليس إنما هم أولاد المشركين!

فقال : أو ليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها(٢) .

__________________

(١) و (٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٠٩.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778