سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 458961 / تحميل: 9707
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

٥٥

وفد ثقيف في المدينة

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها ، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنود الاسلام المجاهدون الى المدينة بابدان متعبة من وعثاء السفر ، وبعد الطريق ، ولم يلق جنود الاسلام كيدا ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي اية مواجهة كما ولم يواجهوا عدوا طوال ذلك الطريق ، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملا لغوا وعبثا ، وذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة ، ولم يمض وقت كبير إلاّ واتضحت نتائجها ، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء وعنادا للاسلام ، وخضعت لسلطان المسلمين ، بايفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة ، وإظهار الطاعة والاسلام عن طريقها ، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها ، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم ـ عادة ـ بالنتائج المرئية الحاضرة ، فمثلا إذا واجه جنود الاسلام خلال الرحلة عدوّا ، وقاتلوه وقضوا عليه ، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة : لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة!!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط ، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحا باهرا.

٥٨١

ومن حسن الاتفاق أن غزوة تبوك خدمت هدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو اجتذاب الاقوام العربية الى الاسلام ـ خدمة كبرى ـ ، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين ( الذين غلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت وحكموا حتى اليمن وما حولها في آخر حروبهم ، واستعادوا منهم صليبهم واعادوه إلى بيت المقدس ) ارعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى ، وانصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفع هذا النبأ اشدّ القبائل عنادا ، والتي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام والخضوع له ، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة ، وتفكّر في التعاون والتعايش مع المسلمين ، ولكي تسلم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم ( إيران والروم ) انضوت تحت لواء الاسلام ، واعلنت عن انتمائها إليه. وإليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف :

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية ، ولقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا(١) .

هذا وكان « عروة بن مسعود الثقفي » وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك ، فقدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يدخل المدينة ، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف ، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مخاطر هذا العمل لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف أنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٩٢٢ ـ ٩٣٨.

٥٨٢

منهم.

وقال له : انهم قاتلوك.

فقال عروة : يا رسول الله أنا أحبّ إليهم من أبكارهم ، ( أو من أبصارهم ) ، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.

ولقد كان قوم عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعد ما أدركه عروة من عظمة الاسلام ، وكان فيهم نخوة وكبر يمنعانهم من الخضوع للحق.

ولهذا قررّت أن ترشق بالنبال والسهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام وهكذا رشقوا بالنبال « عروة » في الوقت الذي كان يدعوهم إلى الاسلام ، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : كرامة اكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إليّ(١) .

وفد ثقيف :

ندم رجال ثقيف ـ بعد مقتل عروة ـ على فعلهم هذا بشدة وعرفوا بأن الحياة لم تعد ممكنة وميسّرة لهم في قلب الحجاز الذي رفعت على جميع مناطقه ألوية التوحيد وخاصّة بعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحت رحمة المسلمين ، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوبا من قبلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمن شروط معيّنة ، واتفقوا على إيفاد « عبدياليل » إلى المدينة وابلاغ رسالتهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة وقال : لست فاعلا ذلك حتى ترسلوا معي رجالا ، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم ، وكان يخشى أن يصنعوا به ما صنعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعا بالقدوم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٧ و ٥٣٨.

٥٨٣

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتفاوض معه.

توجه هذا الوفد السداسيّ إلى المدينة ، ونزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولا لأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين ، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها ، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره المغيرة عن ركب ثقيف ، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بقدومهم عليه وأنهم جاءوا ليعتنقوا الاسلام بشروط ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باكرامهم ، وضرب لهم قبة في ناحية مسجده ، وكلّف خالد بن سعيد بالقيام بشئون ضيافتهم.

ثم حضر وفد ثقيف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أن المغيرة كان قد علّمهم كيف يحيّون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّرا منهم وغرورا ثم أخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأي ثقيف وأضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة ، سوف يعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدة أيّام ، وكان « خالد بن سعيد » هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المفاوضات.

شروط وفد ثقيف :

قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا من شروط ثقيف حتى انه ضمن لاهل الطائف ـ ضمن ذلك العهد ـ أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيين من

٥٨٤

أراض ، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة ، ووقحة الى درجة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضب بسببها ، ولا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط :

قال وفد ثقيف : ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله ، وأن يعبدوا « اللات » وهو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلما رأوا غضب النبي واباءه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا ، فابى عليهم أن يدعها ولا يوما.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان نشر التوحيد ، وهدم بيوت الاصنام ، وتحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلبا مخجلا جدا ، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاما لا يضر بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية ، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عند ما عرف وفد ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادروا إلى التعلل والاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم ، حيث إنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام ، فاذا أبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم ذلك فليبعث معهم شخصا من غير قبيلتهم ليهدمها ، فوافق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الشرط ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد محو وازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصلاة.

فلقد كانوا يتصوّرون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمكنه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب ، حسب زعمهم ، حيث كانوا يكلّفون جماعة بهذه الاحكام ، بينما يعفون جماعة اخرى منها ، وذلك غفلة منهم عن

٥٨٥

أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبع الوحي الالهيّ ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترسّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعد ، وأنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ ، وإلاّ فلا داعي ولا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض ، فيقبلوا شيئا ويرفضوا شيئا آخر.

إن الاسلام ، والايمان بالله إن هو إلاّ نوع من التسليم الباطني الروحيّ ، والخضوع القلبي الذي يقبل المرء في ظلّه جميع التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة ، وفي مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقا إلى روح إنسان ومخيّلته.

ولأجل هذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوابهم :

« لا خير في دين لا صلاة فيه »(١) .

إن المسلم الذي لا يسجد ولا يركع لله تعالى في اليوم والليلة ولامرة واحدة ، ولا يذكر ربّه لا يكون مسلما بالمعنى الصحيح.

هذا وعند ما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتّفق عليها ، وقّع عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحينئذ أذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم ، واختار منهم أحدثهم سنا وهو « عثمان بن أبي العاص » الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام ، وتعلّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمّره عليهم ، وجعله نائبا دينيا ، وسياسيا عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه ـ فيما أوصاه ـ بأن يصلّي بالناس جماعة مراعيا أضعفهم قائلا له :

« يا عثمان تجاوز(٢) في الصلاة وأقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣١٧.

(٢) تجاوز : أي خفف الصلاة وأسرع بها.

٥٨٦

والصغير والضعيف وذا الحاجة ».

ثم كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أبا سفيان بن حرب » ، و « المغيرة بن شعبة » بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهدم الاصنام فيها ، أجل إن أبا سفيان الذي كان وحتى يوم أمس من حفظة الأصنام وهو الذي أراق في سبيلها أنهرا من الدّماء ، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها ، ويحوّلها الى تلّ من الحطب ، ويبيع ما يتعلق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضى بأموالها ديون « عروة » و « الأسود » حسب اوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٧ ـ ٥٤٣ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١٦ ـ ٢١٨ ، ولقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب « اسد الغابة » : ج ١ ص ٢١٦ وج ٣ ص ٤٠٦ أيضا.

٥٨٧

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

٥٦

إعلان البراءة من المشركين في منى

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدة آيات من سورة التوبة ( سورة البراءة ) ، وكلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبعث بها رجلا إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رفع الأمان في هذه الآيات عن المشركين ، والغيت جميع العهود ( إلاّ العهود والمواثيق التي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها ) ، وابلغ إلى رءوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد ـ وذلك خلال أربعة أشهر ، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نزعت منهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

عند ما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة وهذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفا لمبدإ الحريّة الاعتقادية ، ولكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز ، ودرسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء ، والتي ذكرت في هذه السورة ، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء ، ولصدّقوا واعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم ، أبدا وإليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد ( البراءة ).

١ ـ كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر

٥٨٨

الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير ويطوف بثوب آخر ، واذا لم يكن له ثوب آخر ، فان عليه أن يستعير ثوبا ويطوف به حتى لا يضطرّ إلى الطواف عريانا ، وإن لم يمكنه ان يستعير ثوبا طاف بالبيت المعظم عاريا ، بادي السوأة.

وقد دخلت امرأة ذات جمال كبير ، ذات يوم المسجد الحرام ، وحيث أنّها لم تك تملك ثوبا آخر ، لذلك اضطرّت تبعا لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظّم ، ومن الواضح أنّ مثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت ينطوى على نتائج سيّئة بالغة السوء.

٢ ـ لقد نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يصرّون على الشرك والوثنية لم يكن ذلك إلاّ عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد جان لأن يستخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف ، وأن يستعين بمنطق القوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة ، وأن يعتبرها نوعا من العدوان على الحقوق الالهية والإنسانية ، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئات العادات السيئة في المجتمع.

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفا لمبدإ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي وقاعدة المدنية الراهنة ، قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم ما دام لا يضرّ بسلامة الفرد والمجتمع ، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتما بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أورپا اليوم مثلا جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقا من افكار منحرفة فاسدة وقاموا ـ على أساس أن إخفاء بعض

٥٨٩

الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريزة ويسبب فساد الاخلاق ـ بتشكيل نوادي العري السرية ، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة ، ويقول : إن الاعتقاد أمر محترم ، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظا على سعادة تلك الجماعة نفسها ، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات والحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر ، فهم يحاربونها بلا هوادة ، وهذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة ، وقد بذل رسول الاسلام جهودا كبرى وكافية في سبيل هدايتهم ، وبعد أن انقضى اكثر من عشرين عاما من دعوته كان الوقت قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

٣ ـ ومن جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات والشعائر الاسلامية ولم تكن الصراعات والمواجهات التي وقعت بين الاسلام ورءوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسول الكريم المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيدا عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبي الكريم بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم ، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة ، ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك اذا خلّت منطقة الحرم الإلهي ونواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية ، والحجرية ، ويطهّرها من كل معالم الشرك والوثنية ، ويصبح الحرم الإلهي خالصا للموحدين والعباد الواقعيين.

٤ ـ إن جهاد النبي لم يك له أيّ ارتباط بحرية العقيدة ، فالعقيدة ليست شيئا يمكن أن يفرض على أحد ، ويوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان ونفسه

٥٩٠

هو مركز الاعتقاد ومقرّه ، وظرفه ومكانه ، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير ، وإن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات والأوليّات التي توجب حصول العقيدة ، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر ، ولا تقبل الفرض ، بل كان نضال النبي ينحصر في النضال ضدّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الاوثان.

من هنا هدم كل بيوت الاصنام ، وحطّم الأوثان بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع ـ لا محالة ـ مثل هذا التطور والتحول والانقلاب.

ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلا من المسلمين(١) الى مكة ، ويتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام باداء هذه المهمة ، وتوجه نحو مكة ، إلاّ أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالة من الله سبحانه وهي :

« إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولهذا استدعى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا وأخبره بالخبر ثم قال له : اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده ، وامض بها الى مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم ، أي اقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية :

__________________

(١) وقد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلاثمائة ( المغازي : ج ٣ ص ١٠٧٧ ).

٥٩١

١ ـ أن لا يدخل المسجد مشرك.

٢ ـ أن لا يطوف بالبيت عريان.

٣ ـ أن لا يحجّ بعد العام مشرك.

٤ ـ أنّ من كان له عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فهو له إلى مدته ، أي إنّه محترم ميثاقه وماله ونفسه إلى يوم انقضاء العهد ، ومن لم يكن له عهد ومدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك بدءا من هذا اليوم ( العاشر من شهر ذي الحجة ).

إي إن على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية ، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين ، وينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك ويحطموها ، وإما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين(١) .

فخرج عليعليه‌السلام على ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العضباء مع جماعة منهم « جابر بن عبد الله » الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى عليعليه‌السلام .

ويروي محدّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر : أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع عليعليه‌السلام الى مكة : بل أرجع إليه ، وعاد إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما دخل عليه قال : يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الاعناق إليّ فيه ، فلمّا توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل فيّ قرآن؟!

فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ولكنّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن الله عزّ وجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعليّ منّي ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ »(٢) .

__________________

(١) فروع الكافي : ج ١ ص ٣٢٦.

(٢) الارشاد : ص ٣٧.

٥٩٢

إلاّ أن بعض روايات أهل السنّة تفيد أنّ أبا بكر أنيط إليه امارة الحجيج في ذلك العام ، بينما كلّف عليعليه‌السلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى(١) .

دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام مكة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة ( البراءة ) وأذان رسول الله المتضمن للنقاط الاربعة ، رافعا صوته به ، بحيث يسمعه جميع من حضر ، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة ، وأخبر المشركين الذين لا عهد ولا مدة لهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ابتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان ، فاذا انقضت هذه المدة قتلوا اذا وجدوا على الشرك ، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية وإلاّ سلبت عنهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثر هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلاّ وأقبل المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجا افواجا ، وهكذا استأصلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث :

لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة ، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر الله تعالى يعدّ من ابرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار والشك ، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ والانحراف مع ذلك عند تحليل ودراسة هذه الحادثة.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٤٦ وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير : ج ٦ ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠.

٥٩٣

فهذا « الآلوسي البغدادي » يكتب في تفسيره عند دراسة وتحليل هذه الحادثة : النكتة في نصب الامير كرم الله تعالى وجهه مبلّغا نقض العهد في ذلك المحفل ان الصّديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء ولما كان علي كرم الله وجهه والذي هو أسد الله ومظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر(١) .

إن هذا التفسير النابع من منبع التعصّب لا ينسجم مع كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر : « إنّ هذه الآي لا يؤدّيها إلاّ أنا أو رجل منّي » أي لا يصلح لأدائها غير هذين الرجلين وليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافا إلى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يكلف حتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابلاغ هذه الآيات ، على حين أن الوحي قال : هذه الآيات لا يؤديها إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولقد برّر جماعة اخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا : لقد كان التقليد المتّبع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفس الموقّع على العهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه ، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حاله ، وحيث إن علي بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كلّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع ، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هو أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل عمّه العباس ، فلما ذا لم يكلّف بابلاغ آيات البراءة ، ونبذ العهد الى المشركين.

__________________

(١) روح المعاني : ج ١٠ ص ٤٥ تفسير سورة التوبة.

٥٩٤

ثم لما ذا لم يتبع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العادة من أول الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول : إن علة هذا العزل ، والنصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام ، والطموح الى السلطة ، ولا وشيجة القربى مع عليعليه‌السلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عمليا عن أهليّة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلّقة بالحكومة الاسلامية ، وليعلم الناس أنه عديل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجوانب الروحية ، وفي مجال الأهليّة ، والصلاحية.

وانه اذا ما غابت شمس الرسالة بعد حين وجب أن تسلّم مقاليد الحكم ، وازمّة التصرّف في المسائل والامور المتعلّقة بشئون الخلافة الى عليّعليه‌السلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه ، وانه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإشكال والتشتت ، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر ، لأنهم قد رأوا بام عينهم كيف نصب « علي » من جانب النبي بأمر الله تعالى لنبذ العهود مع المشركين ، الذي هو من صلاحيات واختيارات ، الحاكم الاسلامي وشئونه.

٥٩٥

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

٥٧

في رثاء الولد العزيز

« يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئا إنّا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولو لا أنّه وعد صادق وموعود جامع فانّ الآخر منّا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه »(١) .

هذه العبارات قالها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رثاء ولده العزيز « إبراهيم » في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم ، وبينما كان الوالد العظيم واضعا شفتيه على خدّ ابنه ، ويودّعه بروح ملؤها المشاعر والعواطف ، من جانب ، وراضية بالتقدير الإلهي.

إنّ حبّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجلّيات الروح الانسانية ، كما انه خير دليل على سلامة الروح ولطافتها.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول دائما : « اكرموا أولادكم »(٢) وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم أخلاقه ومحاسن سجاياه(٣) .

ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصيبة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣١١ بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٥٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٠٤ ص ٩٥ عن مكارم الاخلاق.

(٣) المحجة البيضاء : ج ٣ ص ٣٦٦.

٥٩٦

افتقاد ثلاثة من أولاده هم : « القاسم والطاهر ، والطيب »(١) وثلاث من بناته وهن : « زينب » و « رقيّة » و « أمّ كلثوم » ولقد حزن لفقدهم حزنا شديدا وكانت « فاطمة » هي البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

لقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الامراء والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام ، وإلى عقيدة التوحيد ، وهذا الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر ، ولم يقبل دعوته إلاّ أنه اجاب على كتاب النبي باجابة حسنة مضافا إلى أنه أرسل إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدايا منها جارية تدعى « مارية ».

ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها وولدت له ابنا سماه « إبراهيم » أحبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبّا شديدا.

ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة ، واشعلت في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيصا من الأمل ، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهرا ، وانطفأ.

لقد خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيته ذات يوم لعمل ، وعند ما عرف بتدهور خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد « إبراهيم » عاد من فوره الى منزله ، واخذ ابنه من حضن أمه ، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.

إن حزن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكاءه في موت ابنه « إبراهيم » دليل حيّ على عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب ، وإن إظهار تلك العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٦٦ ، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا : أولاده الذكور من خديجة اثنان فقط راجع ج ٢٢ ص ١٥١ من بحار الأنوار.

٥٩٧

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلّ تجنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التكلم بما يسخط الله في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير الالهيّ الذي لا مفرّ لأحد منه.

اعتراض غير وجيه :

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده « إبراهيم » ، فاعترض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو لم تكن نهيت عن البكاء ، وأنت تبكي؟

إن هذا المعترض لم يكن جاهلا بمبادئ الاسلام وقواعده الرفيعة فحسب ، بل كان غافلا حتى عن العواطف والمشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضا.

إن جميع الغرائز الانسانية خلقت في الكيان البشري لأهداف خاصة ويجب ان يتجلى كل واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم ، فالشخص الذي لا يحزن لفقد أحبّائه وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم ، ولا تدمع عيناه لذلك ، وبالتالي إذا لم يظهر من نفسه أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر ، ولا يستحق اسم الانسانية.

ولكن ثمة نقطة مهمة وجديرة بالانتباه ، وهي أنّ هذا الاعتراض وان كان اعتراضا غير موجّه ، إلاّ أنه يكشف عن وجود حرية كاملة ، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنّ شخصا عاديّا من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة ومن دون خوف أو وجل ، وسمع الجواب.

ومن هنا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله  :

« لا ، إنّما هذا رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم »(١) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٥١.

٥٩٨

او قال :

« لا ، ولكن نهيت عن خمش وجوه وشقّ جيوب ورنة شيطان »(١) .

ولقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(٢) بتجهيز « إبراهيم » وغسله وكفنه وتحنيطه ، ثم إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيّعه مع جماعة من أصحابه ، ومضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في قبر « إبراهيم » خللا فسوّاه بيده ثم قال :

« إذا عمل أحدكم عملا فليتقن »(٣) .

مكافحة الخرافات :

عند ما مات إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انكسفت الشمس فتصوّر البعض ممن جهل سنن الطبيعة وقوانين العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم.

ولا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل وان كان قضية خيالية ووهما سخيفا إلاّ أنه كان من شأنه أن ينفع النبي ، ويعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.

ولو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قائدا عاديا وماديّا لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.

ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عكس هذه التوقّع رقى المنبر ، وأطلع الناس على حقيقة الأمر وقال :

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣١٠ و ٣١١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٥٦ ، وروي في السيرة الحلبية ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّف الفضل بن العباس ( ابن عم النبي ) بتجهيز إبراهيم.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٥٧.

٥٩٩

« أيّها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته »(١) .

إن النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم ، واستخدامهم لمآربهم ، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس ونزعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة ، ولم يستفد من جهل الناس وغفلتهم لصالح نفسه.

ولو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه الفكرة الباطلة وهذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسه قائدا خالدا للبشرية ورسولا مختارا من جانب خالق الطبيعة ، والمؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ ، في العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة ، واتضحت فيه قوانين العالم الماديّ ونواميسه ، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من تفاعلات الطبيعة.

إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضع لحدود زمانية أو مكانية ، فلو أنه كان نبي الاقوام والاجيال الغابرة ، فهو كذلك نبيّ عصر الفضاء ، وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.

إن احاديث هذا النبي العظيم ، وكلماته من القوة ، والمتانة ومن الصحة ، والاتصاف بالواقعية بحيث لم يتطرق إليها أي إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي قلبت كثيرا من معارف البشر القديمة رأسا على عقب.

__________________

(١) المحاسن : ص ٣١٣ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣١٠ و ٣١١.

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778