سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459043 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

٥٨

وفد نجران في المدينة

تقع « نجران » بقراها السبعين التابعة لها ، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية ، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية(١) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران(٢) « أبو حارثة » يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم الله إله إبراهيم واسحاق(٣) ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فان أبيتم فالجزية ، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ».

واضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب(٤) والتي تدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار.

__________________

(١) ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان : ج ٥ ص ٢٦٦ ـ ٢٧٧ علل اعتناقهم للمسيحية.

(٢) الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٨٥.

(٤) المراد من تلك الآية هو قوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » ( آل عمران : ٦٤. الاقبال : ص ٤٩٤ ).

٦٠١

قدم سفير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجران وسلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران ، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية ، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية ، وكان أحد أعضاء هذه المجموعة « شرحبيل » الذي عرف بعقله ونبله ، وتدبيره وحكمته ، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه : قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة ، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودراسة دلائل نبوته ، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران وأعقلهم ، وكان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم :

١ ـ « أبو حارثة بن علقمة » اسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

٢ ـ « عبد المسيح » رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه ، وتدبيره.

٣ ـ « الأيهم » وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران(١)

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة ودخلوا المسجد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يلبسون أزياءهم الكنسيّة ويرتدون الديباج والحرير ، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في اعناقهم ، فأزعج منظرهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك ، فسألوا « عثمان بن عفان » و « عبد الرحمن بن عوف » وكانت بينهم صداقة قديمة ، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١١ و ٢١٢.

٦٠٢

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردعليهم‌السلام ، واحترمهم ، وقبل بعض هداياهم التي أهدوها إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم إن الوفد ـ قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : إن وقت صلاتهم قدحان واستأدنوه في أدائها ، فاراد الناس منعهم ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذن لهم وقال للمسلمين : دعوهم فاستقبلوا المشرق ، فصلّوا صلاتهم(١) .

وبذلك اعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين.

مفاوضات وفد نجران مع النبي :

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة ، والمحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ واكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين والمؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني(٢) . وكتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل(٣) ، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب ، ولهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١٢.

(٢) هو محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبيد الله بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام ٢٩٧ ه‍ والمتوفى عام ٣٨٧ ه‍.

(٣) من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص ٤٩٦ ـ ٥١٣.

٦٠٣

سيرته(١) .

عرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وفد نجران وتلا عليهم القرآن ، فامتنعوا وقالوا : قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبتم ، يمنعكم من الإسلام ثلاث : عبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير ، وزعمكم أنّ لله ولدا.

فقالوا : المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى ، وأخبر عن الغيوب ، وأبرأ من الأدواء كلها ، وخلق من الطين طيرا.

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم : المسيح ابن الله لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى :

إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب »(٢) .

فقال وفد نجران : إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تباينا ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك ، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة الله على الكاذبين(٣) .

فانزل الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ »(٤) .

فدعاهم إلى المباهلة ، فقبلوا ، واتفق الطرفان على ان يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٣٩.

(٢) آل عمران : ٥٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٢٠ ، ولكن آية المباهلة ، وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة « تعالوا ندع ابناءنا ».

(٤) آل عمران : ٦١.

٦٠٤

خروج النبي للمباهلة :

تعتبر قصة مباهلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة ، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرخين في رواية تفاصيلها ، وتحليلها ، إلاّ أنّ ثلة كبيرة ، من العلماء كالزمخشري في الكشاف(١) والإمام الفخر الرازي في تفسيره(٢) وابن الاثير في الكامل(٣) أعطوا حق الكلام في هذا المجال وها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال :

حان وقت المباهلة وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة ، في الصحراء فاختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم ، وهؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالبعليه‌السلام وفاطمة الزهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسن والحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا ، ولا أقوى وأعمق إيمانا.

طوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسافة بين منزله ، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة ، فقد غدا محتضنا الحسين(٤) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض ـ قبل أن يغدو

__________________

(١) ج ١ ص ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٢) مفاتيح الغيب : ج ٢ ص ٤٧١ و ٤٧٢.

(٣) ج ٢ ص ١١٢.

(٤) جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ ( بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٣٨ ).

٦٠٥

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة : انظروا محمّدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شيء. وهم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية ، وقوة ظاهرية ، تحف به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه ، وإذا أتى بولده وأبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية وتوجه إلى الله بهم وتضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته ، وأفلاذ كبده ، وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه.

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة ، كيف خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته الوحيدة ، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة ، فادركوا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واثق من نفسه ودعوته وثوقا عميقا ، اذ ان المتردد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه واعزته ويعرضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال اسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة(١) .

__________________

(١) يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » : أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار ، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعاراتهم من راياتهم واحسن شاراتهم وهيئتهم ولبث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على والحسن والحسين أمامه ، وفاطمةعليها‌السلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته ، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.

٦٠٦

انصراف وفد نجران عن المباهلة :

لما رأى وفد نجران هذا الأمر ( وهو خروج النبي باحبّته واعزته ) وسمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة ، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم ، فقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وتقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا ، ثم قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أما والّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران ، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله ».

عن عائشة : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ( أي يوم المباهلة ) وعليه مرط(١) مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله ، ثم فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »(٢) .

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساءعليهم‌السلام ، وفيه برهان على صحة نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

صورة العهد النبويّ لأهل نجران :

سأل وفد نجران النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب ، وأن

__________________

(١) كساء.

(٢) الاحزاب : ٣٣.

٦٠٧

يضمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمن نجران في ذلك الكتاب ، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول الله لنجران وحاشيتها ، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك لهم : ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب ، وعليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا ، وثلاثون فرسا ، وثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك ، وعلى أهل نجران مثواة رسلي ( واستضافتهم ) شهرا فدونه ، ولهم بذلك جوار الله وذمة محمّد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وارضهم واموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لا يعشّروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة »(١) .

اكبر فضيلة :

تعتبر واقعة المباهلة وما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة ومقام من باهل بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين ابناء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصدق عليها عنوان « نسائنا ». وقد عبّر عن عليّعليه‌السلام بانفسنا فكان عليعليه‌السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

__________________

(١) فتوح البلدان : ص ٧٦ ، امتاع الاسماع : ص ٥٠٢ واعلام الورى : ص ٧٨ و ٧٩.

٦٠٨

الناحية المعنوية ارتفاعا وتسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي(١) .

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة ، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه ويجادله فيها ، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث ، وللوقوف على هذا الامر يراجع كتاب « نور الثقلين »(٢) .

__________________

(١) وقد استند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الآية في قوله : « علي مني كنفسي ».

(٢) نور الثقلين : ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢ ، وراجع أيضا الكافي ج ٢ كتاب الدعاء باب المباهلة ، وقد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا ، ويعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

٦٠٩

٥٩

تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير ، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصّلة لمناسبة واخرى ، وتتلخص هذه القصة فيما يلي :

لقد كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوم راسل ملوك العالم وامراءه يدعوهم الى الاسلام ـ كتب كتابا الى اسقف نجران « ابو حارثة » دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور جماعة من اصحابه ، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة ، ليتفاوضوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثب.

وفعلا قدم الوفد المذكور المدينة ، والتقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك الوفد المباهلة بأمر الله سبحانه ، بأن يخرج الجميع ( الطرفان ) إلى الصحراء ، ويدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حالة معنوية ، وروحانية عظيمة ، حيث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته وأعزته ، وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية ( وهي مبلغ ضئيل ).

٦١٠

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها وإخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر ، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

عام المباهلة حسب المشهور :

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد : لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة ، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا ، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش(١) .

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة :

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة ، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر ، وروى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة(٢) .

واما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة ، وذكر بأن أصح تلك الأقوال والروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة ، وقد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد والعشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع والعشرون(٣) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٦٥ ، الدر المنثور : ج ٢ ص ٣٨.

(٢) مصباح المتهجد : ص ٧٠٤.

(٣) الإقبال : ص ٧٤٣.

٦١١

ثم انهرحمه‌الله روى في آخر كتابه(١) قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر ، ونوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين :

١ ـ كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني(٢) .

٢ ـ كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس(٣) .

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الواحد العشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد ، وإليك ادلتنا على ذلك فيما يلي :

رأينا حول عام المباهلة :

١ ـ لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى اسقف نجران عبارة : « وإن أبيتم فالجزية » ، وقد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

__________________

(١) الاقبال : ص ٧٤٣.

(٢) لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة ، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي : محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن بهلول بن الهمام بن المطلب وعلى هذا الاساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. وينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد الله ـ حسب ما يرى النجاشي ـ فترتين من الحياة ، كان في إحداهما موثوقا به ، وفي الاخرى غير موثوق به وهذا يقول : اجتنب الرواية عنه الاّ عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته وصلاحه ( راجع فهرست النجاشي ص ٢٨١ ـ ٢٨٢ ).

(٣) جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الامامية وقد توفي عام ٤٦٠ ه‍ وقد نقل احاديث المباهلة ( راجع الذّريعة ج ١٥ ص ٣٤٤ ).

٦١٢

في سورة التوبة والظاهر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة ، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل ، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول الله قد كتب لأهل نجران كتابا ، بعثوا بجوابه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عام ونصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

٢ ـ اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عليّاعليه‌السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الاحكام الدينية ، وقد مكث عليعليه‌السلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه ، وعند ما علم بتوجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى مكة للحج ، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن ، فلقي النبيّ بمكة ، وقدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح(١) .

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة ، وذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل سنة ألفي حلة ( مخيّطة وغير مخيّطة ) ، الف حلة منها في شهر رجب ، والف حلة اخرى في شهر صفر(٢) .

فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح ، وتنفيذها بواسطة الامام

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠٢ و ٦٠٣ ، الارشاد : ص ٨٩.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٣٤٨ ، والارشاد : ص ٩٢.

٦١٣

عليعليه‌السلام قد تمّا معا في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح ، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة ، ولكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام علياعليه‌السلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية ( وهي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة في شهر ذي الحجّة ) وجب أن نختار احد القولين التاليين :

الف : إذا سلّمنا بان يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء : إذا ترددنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه ، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

زمن المباهلة يوما وشهرا :

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما ، إلاّ في صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الاحداث والوقائع التاريخية ، فنقول : إن الشهر واليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما ـ حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا ـ شهر ذي الحجة

٦١٤

واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون ، وعلى قول : الحادي والعشرون ، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا ، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر ( وهو يوم الغدير ) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة(١) بميلين(٢) ، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي ـ بشهادة التاريخ ـ أمر بعد نصب عليعليه‌السلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة ، وان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة ، ويهنئونه بالخلافة والإمرة وقد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة ، وقد هنّأت « امهات المؤمنين » علياعليه‌السلام في نهاية

__________________

(١) « الجحفة » على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة وسبعة منازل من المدينة وتبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا وتقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة راجع كتاب التحرير للنووى والتهذيب له أيضا ، هذا ويقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص ١٠٩ : ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة وهي ميقات أهل مصر والشام ، وتبعد عن البحر بستة أميال ، وعن غدير خم بميلين. وهي الآن تبعد عن مكة ـ حسب المقاييس الحديثة ـ بمائتين وعشرين كيلومترا ويقول المسعودي في كتابه « التنبيه والاشراف » ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ أيضا : أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة ، وولد عليرضي‌الله‌عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم.

(٢) الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع وقيل : ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع ، وعلى أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ ، وثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا ( راجع القاموس مادة : ميل ).

٦١٥

مراسيم التهنئة(١) .

من هنا لا يمكن القول بان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر ، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وبناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض الغدير مدة أطول.

وحتى لو فرضنا ـ افتراضا ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر ، فهل يمكن ان نقول ـ في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين ، واخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟ ، كلا حتما ، لأن المسافة بين مكة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل ـ آنذاك ـ من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلاّ حديث سفر النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام(٢) .

__________________

(١) جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير : الجزء ١ ص ٢٤٥ ـ ٢٥٧.

(٢) غادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع ، ووصل إلى محلة « قبا » حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر ، وتدلّ القرائن على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له ( السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٩٩ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ١٣٥ ).

٦١٦

كما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما(١) .

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين ، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل ، ومن الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

ولنفترض أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر أرض « غدير خم » في اليوم التاسع عشر ، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة والمدينة ، وبالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

واذا اعتبرنا الثاني ( أي احد عشر يوما ) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة ( أي بين الجحفة والمدينة ) في سبعة ايام ونصف اليوم ، فيكون ـ حسب القاعدة ـ قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول ـ في ضوء هذه المحاسبة ـ بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين او السابع والعشرين.

إن بطلان هذا القول ، وخلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات ، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثيابا راقية من الديباج والحرير ، وفي أيديهم خواتيم من ذهب ، وعلى صدورهم صلبان من ذهب ، وتوجه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٩.

٦١٧

فور قدومهم ـ وعلى هذه الهيئة ـ إلى مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيء وتفرق أعضاء الوفد ، وهم في حيرة من موقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالتقى الوفد علياعليه‌السلام وسألوه عن سبب استياء النبي واعراضه عنهم ، فأخبرهم الامام عليعليه‌السلام بأن عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم ، ويدخلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ولكن بثياب عادية خالية عن الزينة والحليّ ، فاستقبلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببشاشة خاصة ، ورحّب بهم ترحيبا كبيرا ، ثم سألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤدوا صلاتهم في المسجد ، فاذن لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ثم دخلوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناظرات ومناقشات مفصّلة ، وبعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين والمؤرخين ومنهم ابن هشام في سيرته(١) اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة ، وحدّد يوم المباهلة.

ولما كان ذلك خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب ، وسبطيه الحسن والحسين ، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وما هم عليهم من البساطة والجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهل هذه الوقائع التي استغرقت ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٥ ، مجمع البيان : ج ١ ص ٤١٠.

٦١٨

إن المحاسبات تقضي وتفيد بأن مراسيم المباهلة ، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين ، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن « نجران » مدينة حدودية بين الحجاز واليمن ، ولا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة لاداء مناسك الحج ، ولهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة ، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا(١) .

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى ، وذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة ، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة ( التاسعة ) من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمهمة إبلاغ آيات البراءة ـ على

__________________

(١) جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير : في ج ٦ ص ٣١٨ ـ ٣٢١ هذا الرأى من اثنين وسبعين شخصا من علماء السنة ، وكأن قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه الستة ( التاسعة ) ، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة ، ولا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع وهي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت اربعة مجالس ( بتلخيص ).

٦١٩

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى ، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج وادارة امر الحجيج إلى المسلمين ، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

ونحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة ، ولا شك أن شخصية بارزة ومسئولة كالامام عليعليه‌السلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر ويتوجه الى المدينة وهو الذي كانت له أقرباء وانسباء كثيرون في مكة ، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فان عليّاعليه‌السلام مهما اسرع وجدّ في السير قافلا الى المدينة ، وقطع المسافة بين مكة والمدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين ، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم ، ويشهد المباهلة مع المتباهلين.

إن الشواهد والادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة ( يوما وشهرا وعاما ) لا تحظى بالاعتبار الكافي ، ولا بدّ ـ لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث ـ من مزيد التحقيق ، ومزيد الدراسة ، والتقصّى.

وهنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو : كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها.

والجواب هو : أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه ولكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

٦٢٠

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778