سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله0%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 778
المشاهدات: 407714
تحميل: 7340


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 407714 / تحميل: 7340
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء 2

مؤلف:
العربية

ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبي ، في الخليفة فلا تجب العصمة ، ولا العدالة ، ولا يجب العلم والاحاطة بالشريعة ولا يشترط فيه التعيين من جانب الله ، والارتباط بعالم الغيب ، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخص قادرا في ظلّ ذكائه ، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان الاسلاميّ ، وقادرا على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية ، كما ويتمكن من توسيع رقعة الأرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.

وعلينا الآن ان نعالج هذه المسألة ( أي هل الخلافة والامامة منصب تنصيصي أو انتخابي وهل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه ، أو يوكل الامر الى الامة لتختار من تريد ). وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنّ الأحوال والظروف الاجتماعية كانت توجب أن يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعيين خليفته في حياته ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده ، ولا يوكل الأمر إلى الأمة.

وإليك توضيح هذا القسم وبيانه :

اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة :

لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الامة الاسلامية من شئون النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الامة واكملهم.

إن في هذه المسألة وهي هل أن منصب القيادة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين :

فالشيعة يرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي ولا بد أن يتعيّن خليفة النبي من جانب الله سبحانه.

٦٤١

بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري ، أي أن على الامة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.

إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.

إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيّن من جانب الله تعالى ولا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الالهي ، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدّدا على الدوام من جانب الخطر الثلاثي ( الروم ـ إيران ـ المنافقون ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أن مصالح الامة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده ، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة الاسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مقدراتها.

وإليك بيان وتوضيح هذه المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي ويتهدده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام حتى إن التفكير في امر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت اولى مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم : « جعفر الطيار » ، و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن رواحة ».

٦٤٢

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورة إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة وتجدّد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعدّ قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين وأمّر عليهم « اسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أما الضلع الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران « خسرو ابرويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بان يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يقتله ان امتنع!!

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أن موضوع استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحا طويلا من الزمان ـ لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اولئك الملوك وتجبّرهم ، وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة الطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول الله ، في طريق العودة من تبوك إلى

٦٤٣

المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : ان الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحيله وبذلك يستريح الجميع(١) .

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكيدة مشئومة لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل ، وذلك عند ما أتى علياعليه‌السلام وعرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الامة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.

ولكن الامام علياعليه‌السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفا عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« والله ما أردت بهذه إلاّ الفتنة وانك والله طالما بغيت للإسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك »!!(٢) .

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والانفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والاحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحّ أن يترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امته الحديثة العهد بالاسلام ، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائدا دينيا سياسيا.

إن المحاسبات الاجتماعية تقول : انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام

__________________

(١) الطور : ٣٠.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٢٢٢ ، العقد الفريد : ج ٢ ص ٢٤٩.

٦٤٤

بتعيين قائد للامة ، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وان يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوى وسياج دفاعى متين حول تلك الامة.

إن تحصين الامة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة لم يكن ليتحقق إلاّ بتعيين قائد للامة ، وعدم ترك الامور للقدر.

إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول الله » ، ولعلّ لهذا الجهة ، ولجهات اخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الاسلامية وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضا.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

١ ـ النبوة والامامة توأمان :

بغضّ النظر من الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأى الأول بصورة قطيعة هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأى الذي ذهب إليه علماء الشيعة ، وتصدقه ، فقد نص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا وتكرارا ، واخرج موضوع الامامة من مجال الانتخاب الشعبى ، والرأى العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرات من الاشخاص ، وذلك يوم أمر من جانب الله العلي القدير أن ينذر عشيرته الاقربين من العذاب الالهي الاليم ، وأن يدعوهم

٦٤٥

إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيبا فقال :

« أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ».

فاحجم القوم ، وقام عليّعليه‌السلام ، واعلن مؤازرته وتأييده له ، فاخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برقبته والتفت الى الحاضرين وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم »(١) .

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين بـ : « حديث يوم الدار ، و « حديث بدء الدعوة ».

على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، إنما صرح في مناسبات شتى ، في السفر والحضر ، بخلافه عليعليه‌السلام من بعده ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

٢ ـ قصة الغدير :

لما انتهت مراسيم الحج ، وتعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قرّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحيل عن مكة ، والعودة الى المدينة ، فأصدر أمرا بذلك.

ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ »(٢) التي تبعد عن

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢١٦ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٦٢ و ٦٣ وقد مر مفصله في هذه الدراسة فراجع.

(٢) رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.

٦٤٦

« الجحفة »(١) بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنطقة تدعى « غدير خم » وخاطبه بالآية التالية : «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »(٢) .

إن لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن الله تعالى ألقى على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسئولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصب علياعليه‌السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالتوقّف ، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان الجو حارا الى درجة كبيرة جدا ، وكان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مظلة وكانت عبارة عن عباءة القيت على أغصان شجرة ، ( سمرة ) وصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد احاطوا به صعدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبر اعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعا صوته وهو يقول :

« الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد ان لا إله إلاّ هو وأن محمّدا عبده ورسوله.

أمّا بعد ، أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلاّ مثل نصف الذي قبله ، وإني أوشك أن ادعى فأجيب وأني مسئول وانتم مسئولون فما ذا انتم قائلون؟

__________________

(١) من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

(٢) المائدة : ٦٧.

٦٤٧

قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور »؟

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« اللهمّ اشهد ».

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدأ ».

فنادى مناد : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، وما الثقلان؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« كتاب الله سبب طرف بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به والآخر عترتي وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ »عليه‌السلام ورفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه الناس اجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟ ».

قالوا : الله ورسوله أعلم.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إن الله مولاى وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه(١) ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه وادر الحق معه حيث دار »(٢) .

__________________

(١) لقد كرر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.

(٢) راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الاميني.

٦٤٨

واقعة الغدير خالدة الى الأبد :

لقد تعلّقت المشيئة الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والافئدة ، ويكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر وزمان ويتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والعقائد ، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر ، ويعتبرونها من فضائل الإمام « علي » الذي لا يتطرق إليها أي شك أو ريب.

ولم يقتصر هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة ، وبالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشئوا أروع القصائد ، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل ، وخلّفوا لمن بعدهم وبلغات مختلفة آثارا أدبية ولائية خالدة.

ولهذا قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة وفي التاريخ الاسلامي والامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة ، والشعراء والأدباء ، والكتّاب والخطباء ، وارباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلها اعتنوا بها.

إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى ودوام هذا الحديث هو : نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها(١) ، فما دام القرآن الكريم باقيا مستمرا يتلى آناء الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان والنفوس ولا تمحو خاطرتها من العقول والقلوب.

__________________

(١) المائدة : ٦٧ و ٣.

٦٤٩

وحيث أن المجتمع الاسلاميّ في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيدا كبيرا من الأعياد الدينية ، وكانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية ( حادثة الغدير ) قد اتخذت طابع الابديّة والخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان والخواطر.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تخطى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلّكان يقول حول « المستعلي بن المستنصر » : فبويع في يوم غدير خمّ وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ٤٨٧(١) .

وقال في ترجمة المستنصر بالله العبيدي : وتوفي ليلة الخميس لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة وهو غدير خم(٢) .

وقد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه « الآثار الباقية » ممّا استعمله أهل الاسلام من الأعياد(٣) .

وليس ابن خلّكان وابو ريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الاعياد ، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين(٤) .

إن عهد هذا العيد الاسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المهاجرين والانصار بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك

__________________

(١) وفيات الأعيان : ج ١ ص ٦٠.

(٢) وفيات الأعيان : ج ١ ص ٦٠.

(٣) ترجمة الآثار الباقية : ص ٣٩٥ الغدير : ج ١ ص ٢٦٧.

(٤) ثمار القلوب : ص ٥١١.

٦٥٠

اليوم بالدخول على « عليّ »عليه‌السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن ارقم : كان أول من صافق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليا : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس(١) .

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير :

ويكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة صحابيّ ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة ومصنفاتهم.

صحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّعليه‌السلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس ولكن كثيرا منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز ولهذا لم يروعنهم هذا الحديث ، كما ان كثيرا من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكن التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم ، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصل إلينا.

ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ وهو عصر التابعين تسعة وثمانون تابعيا.

وقد بلغ عدد من روى حديث « الغدير » في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنة وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصا ، وصحّحه جمع كبير منهم واعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه

اثنان وتسعون عالما.

وفي القرن الرابع رواه

أربعة واربعون.

__________________

(١) راجع مصدره في الغدير : ج ١ ص ٢٧٠.

٦٥١

وفي القرن الخامس رواه

أربعة وعشرون.

وفي القرن السادس رواه

عشرون.

وفي القرن السابع رواه

واحد وعشرون.

وفي القرن الثامن رواه

ثمانية عشر.

وفي القرن التاسع رواه

ستة عشر.

وفي القرن العاشر رواه

أربعة عشر.

وفي القرن الحادي عشر رواه

اثنا عشر.

وفي القرن الثاني عشر رواه

ثلاثة عشر.

وفي القرن الثالث عشر رواه

اثنا عشر.

وفي القرن الرابع عشر رواه

عشرون عالما.

ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتبا مستقلة.

وقد ألّف المؤرخ الاسلامي الكبير « الطبري » كتابا في هذا المجال أسماه « الولاية في طرق حديث الغدير » روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سندا.

ولقد روى « ابن عقدة » في رسالة « الولاية » هذا الحديث بمائة وخمسين حديثا.

وروى أبو بكر محمّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين سندا.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء :

أحمد بن حنبل الشيباني

بـ ٤٠ سندا

ابن حجر العسقلاني

بـ ٢٥ سندا

الجزري الشافعي

بـ ٨٠ سندا

أبو سعيد السجستاني

بـ ١٢٠ سندا

٦٥٢

الأمير محمّد اليمني

بـ ٤٠

النسائي

بـ ٢٥٠ سندا

أبو العلاء الهمداني

بـ ١٠٠ سندا

أبو العرفان الحبان

بـ ٣٠ سندا

وبلغ عدد من ألّف رسالة خاصة أو كتابا مستقلا حول هذه الواقعة وخصوصياتها وتفاصيلها ٢٦ شخصا ولعلّ هناك غيرهم ممن ألّف كتابا أو رسالة مستقلّة حول هذه الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخ أسماءهم ، أو ضاعت مؤلفاتهم مع التطورات التي طرأت على الامة الإسلامية وضيّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الاغارة والنهب أو الهدم والإحراق ( ولقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير الجزء الاول ).

ولقد كتب علماء الشيعة كتبا قيمة حول هذه الواقعة أجمعها واشملها كتاب « الغدير » بقلم العلامة الجليل والكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية الله الشيخ الأمينيرحمه‌الله ، والذي يقع في أحد عشر مجلدا في ما يقرب من ستة آلاف صفحة ، وقد استفدنا كثيرا من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

ثم ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليا لإمرة المسلمين في تلك الواقعة :

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (١) .

فكبّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصوت عال ثم أضاف قائلا :

« الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدى ».

ثم نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك المنبر المصنوع من حدائج

__________________

(١) المائدة : ١ و ٣.

٦٥٣

الابل وأمر امير المؤمنين عليّاعليه‌السلام أن يجلس في خيمة وأمر أطباق الناس وكلّ من حضر المشهد من امته ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار كما أمر امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنينعليه‌السلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب الامامة والخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ففعل الناس ذلك وانكبّوا على « علي »عليه‌السلام بايديهم وكان أول من صافق وهنأ عليّا أبو بكر وعمر واصفين إياه بالولاية.

وهنا قام « حسان بن ثابت الأنصاري » شاعر الاسلام واستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن ينشد شعرا بهذه المناسبة ، فأذن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : قل على بركة الله.

فقام حسان وقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم وأسمع بالنبيّ مناديا

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه

بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما انزل الله ربهم

إليك ولا تخشى هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه

بكف عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم

امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية عليعليه‌السلام على جميع صحابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافة ، حتى أن أمير المؤمنين علياعليه‌السلام احتج به مرارا فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني ، وفي أيام خلافة عثمان وفي أيام

٦٥٤

خلافتهعليه‌السلام أيضا ، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجوا به على منكري حق عليّ وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائما وأبدا.

٦٥٥

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

٦٣

١ ـ المتنبئون كذبا(١) [ أدعياء النبوة ]

٢ ـ التفكير في أمر الروم

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في « غدير خم » انفصلت جموع الحجيج المشاركة في مراسم « حجة الوداع » من الوافدين من الشام ومصر ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من « حضرموت » و « اليمن » انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنّ العشرة آلاف الذين خرجوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عادوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، ووصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون فرحين جدا لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية ، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كل مناطق الحجاز ، وبالتالى لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام ، وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهت بعد يوم قدم نفران من « اليمامة » المدينة ، وسلّما كتابا من « مسيلمة » الذي عرف فيما بعد بـ « مسيلمة

__________________

(١) كانت مراسلة مسيلمة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نهايات السنة الهجرية العاشرة وكذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة ، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث والستين تقليلا لفصول هذا الكتاب.

٦٥٦

الكذّاب » إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ففتح أحد كتاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرسالة وقرأها عليه فكان مضمونها ان شخصا باليمامة يدعى « مسيلمة » يدّعي النبوة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة ، ويريد من خلال كتابه أن يبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ويعرّفه بنبوته.

وقد اثبتت كتب السير والتواريخ الاسلامية نصّ الكتاب المذكور.

ويوحي اسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان والتعبير ولكن محاولته باءت بالفشل فلم يستطع تقليده ، واتى بعبارات خاوية خالية من روح ، يفوقها الكلام العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب « مسيلمة » في كتابه هذا :(١) .

أما بعد ، فاني قد اشركت في الأمر معك ، وان لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الارض ، ولكنّ قريشا قوما يعتدون.

ولما وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مضمون الرسالة ، التفت إلى من حملها إليه وقال : « أما والله لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الاحمق وتركتما دينكما ».

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أملى على كاتبه كتابا إلى مسيلمة قصير المحتوى ، مفحم المفاد. وإليك نصّ رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« بسم الله الرحمن الرحيم.

من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فانّ الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين »(٢) .

__________________

(١) ومن شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم الله ، بل ولم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠٠ و ٦٠١ وتكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.

٦٥٧

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة :

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في من اسلم ، ولكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء ، وربما من المتعصبين من قومه. ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في « اليمامة » دليلا على شخصيته الواقعية ، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصبا وحمية مع أنهم علموا بكذبه ، وزيف دعوته إذ كانوا يقولون : « كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر » وقد قال هذه العبارة أحد اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة : من يأتيك؟ قال : رحمان ، قال : أفي نور أو في ظلمة؟ فقال : في ظلمة ، فقال أشهد أنّك كذاب وأن محمّدا صادق ولكن كذّاب ربيعة احبّ إلينا من صادق مضر(١) .

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة ، وتبعه على ذلك فريق من قومه ، ولكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن ، وما اثر عنه ـ في النصوص التاريخية ـ من عبارات وجمل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية واحاديثه الأخرى في غاية البلاغة والإتقان ، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

ولهذا يمكن القول بأن ما نقل عنه ـ على غرار ما نقل عن معاصره « الاسود بن كعب العنسي » الذي ادعى النبوة معه في اليمن ـ إنما هي امور نسبت إليه ، والصقت به الصاقا لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدّ لا يجرأ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته ، ويعلم كل عربيّ بحكم فطرته الالهية أنّ هذا الاسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسمّوها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية ، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٥٠٨ ويقصد بالاول مسيلمة وبالثاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦٥٨

ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهذا حوصرت منطقة « مسيلمة » من قبل جنود الاسلام ، وضيّق عليه الحصار شيئا فشيئا ، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب ، قال له بعض اتباعه السذج : أين ما كنت تعدنا ( من النصر الالهي ) فقال مسيلمة : أما الدين فلا ، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكن الدفاع عن الاحساب والكرامة لم يجد مسيلمة ولا اتباعه شيئا ، فقد قتل هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين ، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة(١) .

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن انه كان رجلا فصيحا وناطقا بليغا ، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نسبت إليه ـ في التاريخ والسيرة ـ في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الروم :

مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطرا على وحدة أهلها الدينية ، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك ـ كان يستأثر باهتمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرين على مواجهة المتنبئين ، ولهذا قضي على « الاسود العنسي » وهو رجل آخر ادّعى النبوة كذبا في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متيقنا وواثقا من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد ، والتي رأت كيف أن رسول

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٥١٤ ـ ٥١٦.

٦٥٩

الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز ، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية ، غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

لقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطرا جديّا لا يمكن التغاضي عنه واحتقاره ، ولهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشا كبيرا قوامه ثلاثة آلاف بقيادة « جعفر بن أبي طالب » و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن رواحة » إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم ، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة ، وقفل الجيش الاسلامي راجعا إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عند ما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز وهو آنذاك في المدينة خرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه على رأس جيشه قوامه ثلاثون ألفا إلى تبوك ، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جديا في نظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا فانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما عاد من « حجة الوداع » الى المدينة هيّأ جيشا من المهاجرين والانصار اشرك فيه اشخاصا معروفين بارزين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن الوقاص و. و. وأمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة(١) .

ثم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده(٢) لواء لأسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. وقال له :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٤٢ ، النص والاجتهاد : ص ١٢.

(٢) يذهب كتّاب السنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في ٢٦ صفر ، وحيث أن وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب روايتهم كانت في ١٢ ربيع الاول لهذا فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلا تدريجا في مدة ١٦ يوما ، ولكن حيث أن الشيعة يرون تبعا لما رواه عترة النبي أن وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في ٢٨ صفر لهذا يجب أن يكون عقد اللواء قد تمّ قبل ٢٦ صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.

٦٦٠