سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله7%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459018 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

« سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا وشنّ الغارة على أهل ابنى »(١) .

فاعطى « اسامة » اللواء الى « بريدة » وعسكر بالجرف(٢) ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا ، وليتحرك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر ، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار والمهاجرين ، ولقد أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله هذا أمرين :

أولا : أن يجبر ـ من خلال ذلك ـ ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده « زيد بن حارثة » الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم ، وليرفع من شخصيته.

ثانيا : أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف وتوزيع المناصب والمسئوليات ويجعل ذلك على اساس الكفاءة والشخصية القيادية ان المناصب والمسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات والموهّلات ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة ويحلموا أن المناصب والمهامّ ـ في النظام الاسلامي ـ ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة والمؤهلات القيادية ، لا العمر والسنّ.

ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية ، والمسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم الله تعالى واوامره تعاليمه ويقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال ، سواء أكانت له فيها نفع أم لا ، وسواء أكانت تضرّ به أم لا ، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

__________________

(١) « ابنى » من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين « عسقلان » و « الرملة ».

(٢) منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

٦٦١

ولقد بيّن الامام عليعليه‌السلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبرة اذ قال : « الاسلام هو التسليم »(١) .

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض ، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير والحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية ، والتسليم الواقعيّ والانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى « اسامة بن زيد » الذي لم يكن يتجاوز يومذاك ـ العشرين عاما(٢) شاهد صدق على ما نقول ، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض ، لأنهم اعترضوا على الاجراء ، وطعنوا في اسامة ، واطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى ( النبي ) ، واوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة(٣) .

ولكنهم غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الإجراء ، وكانوا يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة ، ويقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه ، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

__________________

(١) نهج البلاغة : قصار الحكم ١٢٥.

(٢) ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره وذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.

(٣) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

٦٦٢

من معسكر « الجرف » وتوجهه إلى النقطة المطلوبة ، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء لاسامة تمرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة وأصابه صداع شديد تركه طريح الفراش واستمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات الله عليه.

وقد علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة وأن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها ، وأن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك غضبا شديدا ، وخرج وهو يلتحف قطيفة ، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب ، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف ، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة وبعد أن حمد الله واثنى عليه قال :

« أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله كان للإمارة خليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وانّهما لمخيلان لكل خير ، واستوصوا به خيرا فانه من خياركم ».

ثم نزلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل بيته واشتدت به الحمى ، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه :

« أنفذوا بعث اسامة »(١) .

ولقد بلغ من إصرار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بعث جيش اسامة انه كان يقول وهو في فراش المرض :

« جهزوا جيش اسامة ، لعن الله من تخلّف عنه »(٢) .

وقد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

(٢) الملل والنحل : ج ١ المقدمة الرابعة ص ٢٣.

٦٦٣

عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتوديع والخروج عن المدينة تلقائيا والالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين ، فحضر اسامة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاثا اياه على المبادرة والمسارعة في الخروج :

« اغد على بركة الله »(١) .

فعاد اسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرك فورا ، ولكن الجيش لم يكن قد غادر « الجرف » بعد ، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتضر ، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة ، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير والحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعادوا إلى المدينة فورا ، وعاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين ـ جميعا ـ أوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج.

ولم يتحقق أحد آمال النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم واعيان الجيش.

الاعذار غير المقبولة :

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول الله

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

٦٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

ولقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق ووجوه مختلفة إلاّ أنهم عجزوا ـ رغم ذلك ـ أن يخرجوا عذرا مقبولا ودليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

وللاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع « المراجعات »(١) . و « النص والاجتهاد »(٢) .

الاستغفار لأهل البقيع :

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى والوجع ليستغفر لأهل البقيع(٣) .

ولكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحس بالوجع اخذ بيد « عليّ »عليه‌السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه :

« إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع ».

وعند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك وقال :

« السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها ».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّعليه‌السلام وقال : يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي والجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا

__________________

(١) المراجعة ٩٠ و ٩١.

(٢) ص ١٥ ـ ١٦.

(٣) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٠٤.

٦٦٥

أراه إلاّ لحضور أجلي »(١) .

انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت ويحصرون كل الوجود في أطار المادة وآثارها ، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر ، ويقولون : كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ وكيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟

ولكن الذين كسروا جدار المادية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط والاتصال بالارواح(٢) ، ويعتبرونه امرا ممكنا وواقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة ، يمكنه ـ على وجه القطع واليقين ـ أن يخبر عن حلول أجله بأمر الله واذنه وإخباره إياه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٦٦ و ٤٧٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح ، وأسلوبه المشروع.

٦٦٦

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

٦٤

الكتاب الذي لم يكتب

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة وحساسية ودقة.

لقد مرّ الاسلام والمسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة ، وحرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه عارفا بنواياهم على نحو الاجمال ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة ومغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم ، لكي يعطل بذلك خطتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج ومعاذير معينة ، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فعادوا إلى المدينة ـ بعد توقّف دام ١٦ يوما ـ على أثر تدهور صحة النبي واحتضاره ، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تفريغ المدينة منهم ، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

٦٦٧

يوم غدير خم ( نعنى الامام عليا ) من تسلم زمام الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيين.

إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم وتثبيت منصب الامام علي وخلافته لرسول الله بلا فصل ، فحاولوا منع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل ، والسبل.

فعمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة ، المشين ، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع ، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد :

« أيّها الناس سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي والله ما تمسّكون عليّ بشيء ، اني لم احلّ إلاّ ما أحلّ الله ، ولم احرّم إلاّ ما حرّم الله »(١) .

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مستقبل الاسلام بعد وفاته ، فما هو المقصود ـ ترى ـ من النار التي سعرت؟

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين ، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعالى لهيبها ، ولا يزال ذلك اللهيب مشتعلا ، وتلك النار مستعرة؟!

ايتوني بقلم وقرطاس :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٥٤ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢١٥ و ٢١٦.

٦٦٨

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم ، ولهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق ـ أن يدعم مكانة عليّ ويعزر امارته وخلافته وخلافة أهل بيته ، وذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شيء من التفكير وقد التفت إليهم :

« ايتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ».

فبادر عمر وقال : ان رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله(١) .

فناقش الحاضرون رأى الخليفة ، فخالفه قوم وقالوا : هاتوا بالدواة والصحيفة ليكتب النبي ما يريد ، وناصر آخرون عمر وحالوا دون الاتيان بما طلبه النبي ، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة ، وقال :

« قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع »

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله »(٢) .

إن هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة والسنة ومؤرخيهم وتعتبر روايتها ـ حسب قواعد فنّ الدراية والحديث ـ من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام « عمر » بالمعنى لا باللفظ ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

__________________

(١) الملل والنحل : ج ١ المقدمة الرابعة ص ٢٢. طبعا لم يكن الهدف من « اكتب » أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.

(٢) صحيح البخاري كتاب العلم : ج ١ ص ٢٢ وج ٢ ص ١٤ ، صحيح مسلم : ج ٢ ص ١٤ مسند أحمد : ج ١ ص ٣٢٥ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٤٤ ، الملل والنحل : ج ١ ص ٢٢.

٦٦٩

المجلس المقدس.

ولا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة ، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لا يسيء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب « السقيفة » في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا : وقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله(١) .

ولكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول : فقالوا : هجر رسول الله(٢) .

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لا ينطق إلاّ بالوحي.

إن اختلاف الصحابة لدى رسول الله الطاهر المعصومصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي محضره كان عملا سيئا ، ومشينا إلى درجة أن احدى أزواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعترضت على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب : ألا تسمعون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته.

فقال عمر : اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ. واذا صحّ أخذتنّ بعنقه(٣) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة الحديدي : ج ٢ ص ٢٠.

(٢) صحيح مسلم : ج ١ ص ١٤ ، مسند أحمد : ج ١ ص ٣٥٥.

(٣) كنز العمال : ج ٣ ص ١٣٨ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٤٤. وفي الطبقات : ان النبي قال ( في الرد على عمر ) هنّ خير منكم

٦٧٠

ان بعض المتعصبين وان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا(١) في الظاهر إلاّ انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه « حسبنا كتاب الله » ، واعتبروه كلاما غير صحيح ، وصرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية ، ولا يمكن أن يغني كتاب الله الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقواله.

ولكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور « هيكل » مؤلف كتاب « حياة محمّد »(٢) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول : ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيه أن قال الله في كتابه الكريم : « ما فرّطنا في الكتاب من شيء »(٣) .

فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير ، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع ، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني ، وصفحات الوجود ، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع ، وتشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة والوجود وإليك نص الآية :

«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ »(٤) .

وحيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب والطيور ، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها والذي لم يفرّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني ، وصفحة الخلق.

__________________

(١) رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة ٨٦ جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.

(٢) حياة محمّد : ص ٥٠١.

(٣) الانعام : ٣٨.

(٤) الانعام : ٣٨.

٦٧١

ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب ـ وبحكم تصريحه ـ يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول :

« وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم »(١) .

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول « لتقرأ » بل تقول بصراحة : « لتبيّن ».

وعلى هذا الاساس اذا كان كتاب الله كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجا شديدا(٢) .

ولو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة وعالمها الكبير ابن عباس يقول : يوم الخميس وما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ وقال : قال رسول الله ايتونى بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا فقالوا(٣) .

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس ، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول الله كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية ( أو الكتاب ) الذي كان النبي يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب واملائه فهل يمكن ان نحدس ـ في ضوء القرائن القطعية ـ ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية واجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته ولكنها أوضح من الاولى

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة ، فاطلبه في محله.

(٣) مسند احمد : ج ١ ص ٣٥٥. صحيح البخاري : كتاب الجزية ج ٤ ص ٦٥ و ٦٦.

٦٧٢

دلالة ومفادا ، وبعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه ، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكدة ومكررة لا تتشابه ولا تتحد في دلالتها ، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة وقد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من اصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل : ما ذا كان يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الاّ تعزيز الوصيّة ودعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وامرته والتأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة والشيعة ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته : انه يبتغي كتابة شيء لا يضلون بعده ابدا. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب والعترة اذ قال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(١) .

__________________

(١) صحيح الترمذي : ج ٥ ص ٣٢٨ ح ٣٨٧٤ جامع الاصول : ج ١ ص ١٨٧ راجع المراجعات : المراجعة ٨.

٦٧٣

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدس ـ بصورة قطعية ـ بان ما كان يهدفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين ، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين وهو تعزيز ودعم ولاية الامام عليعليه‌السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين والعراقيين والمصريين والحجازيين وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول الله إلى ربّه ، وحصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعينه للخلافة خلافا لجميع القواعد والاصول ، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين والامارة والقيادة التي اثبتها لعلي واهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة وحالوا دون الاتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة ، وخالفوا كتابة شيء ، وإلاّ فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم وارتكبوا ما ارتكبوا.

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد ، فلما ذا لم يتصرف هكذا ، ولم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة : فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر ،

٦٧٤

ولعمد أنصارهم إلى اشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص ، وصنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحالة وتستمرّ ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي ـ ملافاة لما لحق به من الأذى ـ أبعد الذي قلتم؟ فقال :

« أبعد الذي قلتم؟ لا ولكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا »(١) .

ملافاة الأمر وتداركه :

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلاّ انه بلّغ مقصوده من طريق آخر ، فهو ـ بشهادة التاريخ ـ بينما كان يعاني المرض ، والوجع الشديدين ، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على « علي بن أبي طالب » و « ميمونة » مولاته فجلس على المسجد ثم قال :

« يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين ».

وسكت ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن ، قال :

« ما ذكرتهما إلاّ وأنا اريد أن أخبركم بهما ولكن ربوت فلم استطع ، سبب طرفه بيد الله ، وطرف بايديكم ، تعلمون فيه كذى ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتى ».

ثم قال :

« وأيم الله إني لأقول لكم هذا ورجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم ».

ثم قال :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٦٩ نقلا عن الارشاد واعلام الورى.

٦٧٥

« والله لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه الله نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلاّ احتجب الله عنه يوم القيامة »(١) .

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى ، ولا تنافي بين الصورتين ، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه :

« أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا ، فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب الله ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ».

ثم أخذ بيد علىعليه‌السلام فقال :

« هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع علي ، خليفتان نصيران ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما »(٢) .

فمع أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر حديث الثقلين(٣) قبل مرضه في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة ، ولفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين ، ولكنه لفت الأنظار مرة اخرى وهو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ نقلا عن مجالس المفيد.

(٢) الصواعق المحرقة : الباب ٩ من الفصل الثاني ص ٥٧ وكشف الغمة : ص ٤٣.

(٣) حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة باكثر من ٦٠ طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص ١٣٦ : وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته « العبقات » بذكر اسناده حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.

٦٧٦

تقسيم الدنانير :

دأب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا ، فاحضرتها عنده فاخذهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده وقال :

« ما ظنّ محمّد بالله لو لقي الله وهذه عنده؟ انفقيها ».

ثم أمر علياعليه‌السلام فتصدّق بها(١) .

غضب النبي من الدواء الذي سقي :

لما كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات « ميمونة » زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات والاعشاب المختلفة ، فلما اشتكى واغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء : « ذات الجنب » ، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار ، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء ، بصبّ شيء منه في فم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال :

« ما كان الله ليسلّط عليّ ذات الجنب »(٢) .

وداع النبي مع أهله :

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس ، ويذكّرهم امورا.

وذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٣٨ و ٢٣٩.

(٢) الطبقات : ج ٢ ص ٢٣٥.

٦٧٧

« علي »عليه‌السلام بيمنى يديه وعلى الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

« أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به ».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ان لي عندك عدة ، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انحلها يا فضل ثم نزل وعاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة ـ ثلاثة ايام قبل وفاته ـ صعد المنبر فخطب وقال فيما قال :

« أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة والاشهاد ».

فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال : انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلال : قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا(١) ولما أتى بالقضيب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اين الشيخ؟ قال سوادة : ها انا ذا يا رسول الله بابي أنت وأمي فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا ولهذا لم يكن له الحق إلاّ في اخذ الدية دون القصاص ، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

٦٧٨

« فاقتصّ منّي حتى ترضى ».

فقال سوادة : فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمهم وبكائهم تقدم سوادة إلى النبي وقال : أتأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له ، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله ، وقبّل بطن النبي وصدره الشريف. فدعا له رسول الله وقال :

اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد(١) .

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ج ١ ص ٢٣٥.

٦٧٩

٦٥

اللحظات الأخيرة

كان القلق والاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحته ، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه ، وتفاقم وجعه ، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته ، وتجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاّ سويعات قلائل ، وانه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة ، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك ، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلاّ أهل بيته خاصة.

ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام جالسة عند فراش ابيها ، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ ، فراحت تردد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزن ، ويملأ عيونها دموع الاسى والحزن ويكاد يخنقها الغصة :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للارامل

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت :

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي :

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778