سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459137 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم انتزاعها منه وانقراض أمر بني المسيب من الموصل:

ولما قتل إبراهيم وملك تُتُش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش، فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه، واستقرت هي وأعمالها في ولايته، وسار تُتُش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه وتقاتلا فانهزم تُتُش، وقام بمكانه ابنه رضوان وملك حَلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حران فملكها، فكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه توران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقاً، وعاد إلى حصار الموصل، واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه منجداً له، وبعث كربوقا إليه عسكراً مع أخيه ألتوتناش، فرده مهزوماً إلى الجزيرة، فتمسك بطاعة كربوقا وجاء مدداً له على حصار الموصل، واشتد الحصار بعلي بن مسلم، فخرج من الموصل ولحق بصدقة بن مزيد بالحلَّة وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم والبقاء لله وحده.

ما جاء من أخبارهم بتاريخ أبي الفداء الجزء الثالث:

في هذه السنة (٣٨٠) استولى أبو الذوّاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلَّد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذوّاد بالموصل.

وفي سنة ٣٨٦ مات أبو ذَوّاد بن المسيب أمير الموصل وولي بعده أخوه المقلَّد بن المسيب.

وفي سنة ٣٩١ قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب بن رافع بن

٢٢١

المقلَّد بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يُزَيدْ (بالتصغير) بن عبد الله بن زيد من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلَّد المذكور أعور، وأخوه أبو الذوّاد محمد بن المسيب هو أول من استولى منهم على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة. واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه التُّرك بالأنبار وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلَّد بن المسيب. وفي هذه الصفحة في حوادث سنة ٣٩٢ جرى بين قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب انتصر فيها قرواش، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة.

وفي حوادث سنة ٤١١ في الموصل قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه فيما بعد وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إلى الموصل وخدم المقلَّد بن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه، ثم قتله وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:

ولـيل كـوجه البرقعيدي مظلم وبـرد أغـانيه وطـول قرونه

سـريت ونومي فيه نوم مشرد كـعقل سـليمان بن فهد ودينه

عـلى أولـق فـيه التفات كأنه أبـو جـابر في خطبه وجنونه

إلـى أن بدا نور الصباح كأنه سنى وجه قرواش وضوء جبينه

وكان من حديث هذه الأبيات أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية، وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر وكان حاجباً لقرواش. فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه فقال هذه الأبيات البديهية.

في حوادث سنة ٤٢٥ وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد صاحب نصيبين فقصد ولده قريش عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين واستقر قريش بها.

في حوادث سنة ٤٣٧ قتل عيسى بن موسى لهَمَذاني صاحب أربل،

٢٢٢

قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى. فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار وعاد قرواش إلى الموصل.

في حوادث سنة ٤٤٢ استولى أبو كامل بركة بن المقلَّد، على أخيه قرواش بن المقلَّد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبُه زعيم الدولة.

في حوادث سنة ٤٤٣ تُوفِّي بركة بن المقلَّد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلَّد وكان بدران بن المقلَّد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده. وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولّى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقله بها.

في حوادث سنة ٤٤٤ مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة، أو منيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي الذي كان صاحب الموصل، وكان محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وقيل: إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه. وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن منه:

لـلـه در الـنـائبات فـإنه صدأ القلوب وصيقل الأحرار

مـا كنت إلاَّ زبرة فطبعنني سيفاً وأطلق صرفهن غراري

وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم ذلك، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة. وقال مرة: ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.

في حوادث سنة ٤٥٠ سار إبراهيم نيال بعد انفصاله عن الموصل إلى هَمَذان وسار طغرلبك من بغداد في أثر أخيه أيضاً إلى هَمَذان، وتبعه من كان ببغداد من التُّرك، فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران

٢٢٣

العقيلي في مائتي فارس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا. وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذّن بحي على خير العمل ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأُخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع. وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي فركب الخليفة القائم لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة وسرى النهب إلى باب الفردوس من داره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء لقريش بن بدران: يا علم الدين أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية على نفسه وماله وأهل وأصحابه، فأعطى قريش بحضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحَلبة وسارا معه، فأرسل البساسيري إلى قريش، وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه، وكانا قد تعاهدا على المشاركة وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر. ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري؛ لأنه عدوه ويبقى الخليفة عند قريش. وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً، ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس. وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلـبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلّى بالجانب الشرقي وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة، فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها، وأجرى لها الجِراية، وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء، فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو، فقال له البساسيري: أنت قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي. وجرى على رئيس الرؤساء أمور من التشهير الممقوت ما ندع ذكره، ومات تعذيباً وصلباً وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر يعرِّفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب

٢٢٤

من البساسيري. فبرَّد فعل البساسيري وخوف من عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بخلاف ما أمله. ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها. وأما طغرلبك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم نيال وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغرلبك انتصر على أخيه إبراهيم نيال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغرلبك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. وفي هذه السنة أعاد طغرلبك القائم إلى مقر ملكه وانتهى الأمر بقتل البساسيري.

في سنة ٤٥٢ تُوفِّي قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.

في سنة ٤٥٨ أقطع ألب ارسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار، وتكريت زيادة على الموصل.

في سنة ٤٧٧ سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك، وقيل: أكسب، والأول أصح جد الملوك لأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم وانحصر في آمد ونزل الأمير أرتق على آمد فحصره، فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكِّنه من الخروج من آمد، فأذن له أرتق وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به ثم سير السلطان عميد الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا اقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى السلطان. فقدم شرف الدولة إليه وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيج وكان قد ذهبت أمواله فاقترض شرف الدولة مسلم ما خدم به السلطان وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه الذي نجا عليه في المعركة، وكان اسم الفرس بشّار، وكان سابقاً وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب فرضي السلطان على مسلم وخلع عليه وأقرَّه على بلاده.

٢٢٥

في حوادث هذه السنة نفسها قال: لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك. وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية. ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقُتِل بين يدي أربعمائة غلام من أحداث حَلب. وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب أحول، واتسع ملكه، وزاد على ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج، وديار ربيعة ومضر عن الجزيرة وحَلب وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل وغيرها. وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة بالأمر والعدل. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملَّكوه، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.

وأما قلعة حَلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم، فحاصر تُتُش القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.

ولما قتل سليمان بن قطلومش مسلم بن قريش أرسل إلى ابن الْحُتَّيتي العباسي مقدم أهل حَلب يطلب منه تسليمها، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الْحُتَّيتي استدعى تُتُش إلى حَلب، وكان مع تُتُش أرتق بن أكسك؛ وقد فارق خدمة ملكشاه خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، وكان ابن الْحُتَّيتي قد كاتب السلطان ملكشاه في أمر حَلب فسار إليها من أصفهان في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حران وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها وملك قلعة جعبر، ثم ملك منبج وسار إلى حَلب فلما قاربها رحل أخوه تُتُش عنها على البرية وتوجَّه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حَلب وتسلمها وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي على أن يعوضه بقلعة جعبر

٢٢٦

فبقيت بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي.

سنة ٤٨٦ وفيها تحرك تُتُش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه اقسنقر صاحب حَلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية وبران صاحب الرها. وسار تُتُش ومعه اقسنقر فافتتح نصيبين عنوة ثم قصد الموصل، وكنا قد ذكرنا (أبو الفداء) في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب وغيرهما استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم. ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها. فلما قصد تُتُش في هذه السنة الموصل خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيّع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقُتلوا وملك تُتُش الموصل، واستثاب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه صفية عمة تُتُش، وأرسل تُتُش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها. ثم سار تُتُش واستولى على ديار بكر.

في سنة ٤٨٩ بعد مقتل تُتُش سنة ٤٨٨ قصد كربوغا نصيبين، وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه ثم غدر كربوغا بمحمد، وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تتش، فلما ضاق عليه الأمر هرب من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلَّة بعد حصار تسعة أشهر.

سنة ٥١٩ وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب قلعة جعبر، وملكها بعده ابنه مالك بن سالم.

الجزء الثالث ص١٨ سنة (٥٤١) سار عماد الدين زنكي، ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدين الكردي البشنوي.

٢٢٧

ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسَّان البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني،فقال صاحب قلعة جعبر لحسَّان: يخلصني منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق، وكان بلك محاصراً منبج، فجاءه سهم قتله فرجع حسَّان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر من هذه السنة بالليل وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق ودفن بالرقة.

سنة ٥٦٤ في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كِلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوحة من بلد حَلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة.

ما جاء في كامل ابن الأثير من أوليتهم وأخبارهم

الجزء التاسع في سنة ٣٠٨ لما ملك أبو طاهر والحسين ابنا حمدان بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد، فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم، فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه. وراسلا أبا الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلداً غير ذلك. فأجاباه إلى ما طلب، وانتهى الأمر بانتصار الأميرين الحماديين بمناصرة أبي الذوّاد على باذ، فكانت هذه أول إمرة لبني عقيل في دولة بني حمدان.

في سنة ٣٨٠ لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان

٢٢٨

سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولّى الأمور. فسيَّر إليه قائداً من قواده وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء، ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذوَّاد.

في سنة (٣٨٢) كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه. فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة. فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب، فتراجع في أمره. وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذوّاد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذوّاد، فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قُبِض وقُتِل وكُفِي شره. ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك، فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته. وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذوّاد فأسره العرب ثم أطلقوه، فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.

سنة (٣٨٦) في هذه السنة ملك المقلَّد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذَّوّاد تُوفِّي في هذه السنة، فطمع المقلَّد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً؛ لأنه أكبر منه فشرع المقلَّد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال

٢٢٩

إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة، ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلَّد من الديلم، وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه ووعدهم يوماً يخرج إليهم فيه. ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه فلم ينالوا منه شيئاً ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلَّد البلد. واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدِّم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلَّد وجرى الأمر على ذلك مدة مديدة، ثم تشاجروا واختصموا وكان المقلَّد يتولّى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلَّد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها. وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره، وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عساكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلَّد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلَّد، فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلاً فاقتتلوا وعادوا إلى المقلَّد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلَّد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلَّد والقبض على أبي علي بن إسماعيل. فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجَّة، فلما وصل إليها أرسله المقلَّد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلَّد الخلع السلطانية،ويُلقَّب بحسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين. واستقر الأمر على ذلك، وجلس القادر بالله له ولم يف المقلَّد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره.

سنة (٣٨٧): في هذه السنة قبض المقلَّد على أخيه علي؛ وكان سبب ذلك ما تقدم ذكره من الاختلاف الواقع بين أصحابهما واشتغل المقلَّد بما

٢٣٠

سبق بيانه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد، وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلَّفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل عليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر. ففعلت ذلك وخلصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ من تكريت وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم. وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن إلى حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل وبقي بينهم، فنزل واحد ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه فبينما هم في ذلك قيل للمقلَّد: إنّ أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك، فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا وعاد إلى حلته وعاد المقلَّد إلى الموصل، وتجهَّز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي؛ لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلَّد بالأذى فسار إليه. ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلَّد فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلَّد وامتنعوا عليه فافتتحها، فسمع المقلَّد بذلك فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي، وقال له: إن الأعور يعني المقلَّد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل، وأمره بإفساد عسكر المقلَّد، فكتب إليهم فظفر المقلَّد بالكتب، فأخذها وسار مجدِّاً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً وتبعه الحسن وتردُّدت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك

٢٣١

إلى سنة تسع وثمانين ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلَّد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلَّد، فلم يدركه فعاد، ولما استقر أمر المقلَّد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي، فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذّب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلَّد. وأصلح الأمر معه، وسار المقلَّد إلى دقوقا فملكها ثم ملكها عليه جبريل بن محمد، ثم عادت إلى المقلَّد، ثم ملكها محمد بن عناز بعده، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب ثم إلى جبريل وموصك بن جكويه من أمراء الأكراد، ثم قصدها بدران بن المقلَّد وأخذها منهما.

سنة (٣٩١): في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك. وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم فاغتنم بعضهم غفلته وقتلوه بالأنبار. وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قُتِل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية فاستدعاه إليه، وقال له: أن أجعل بينك وبين قراوش عهداً وأُزوجه ابنتك، وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد، وأرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده، ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفُه منك حمله على ذلك، فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم بعضاً عادوا جميعاً على قراد فأخذوه. فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد، فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها. وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة

٢٣٢

عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج.

سنة (٣٩٢): في هذه السنة سيَّر قرواش بن المقلَّد جمعاً من عقيل إلى المدائن، فحصروها فسيَّر إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم. فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي (باكرم) في رمضان، فانهزمت الديلم والتُّرك وأُسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم، فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.

سنة (٣٩٧): في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي. وكان سببها أن قرواش جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مغلولاً، وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي الذي كان والياً للحاكم بأمر الله صاحب مصر على الرحبة، وملكها، وأقام فيها مدة ثم قصده بدران بن المقلَّد، فأخذها منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها، ثم انتهى أمر ملكها إلى صالح بن مرداس صاحب حَلب.

سنة (٤٠١): في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلَّد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدَّت بقدرته أركان النصب، وأطلع

٢٣٣

بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر وولاّه قضاء عمان والسواحل، وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش، فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمر بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشرة سنين، وكان بخيلاً شديد البخل وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد العقيلي؛ وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم. فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.

وفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد، وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل. وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش. وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع

٢٣٤

هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل. ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلاً، وذلك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلَّد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

الصفحة نفسها والسنة نفسها سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة في الجامعين وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها، فسار دُبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل جنود خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً ومعه غريب والأثير عنبر، ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع جنود خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية. وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دُبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل. فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش، وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسَّان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه، فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة، فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

سنة (٤١٩): في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلَّد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه، فهزمهم واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسيَّر نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم، فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان، ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له. فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مغلوبين، فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها، واقتتلوا مرة أُخرى وكانوا على السواء. ثم سمع بدران بأن

٢٣٥

أخاه قرواشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه؛ لأنهما كانا مختلفين.

في سنة (٤٢٠) يذكر دخول الغز ديار بكر ومقاومة قرواش لهم ويذكر ملكهم مدينة الموصل ومقاومة قرواش لهم وانكساره، ثم يذكر ظفر قرواش بهم ص ١٦٣ مما يجب أن يضم إلى أخبار بني المقلَّد مع ما ذكر في ص١٦٤.

في سنة (٤٢١) قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين، وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا، ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش، فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل، ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش، وأطمعه في الجزيرة، فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وتردُّدت الرسل بينهما في ذلك، فلم يستقر حال فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش، فحصرها معه فلم يُمْلَك واحِد من البلدين، وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.

وفي هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن؛ وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيَّق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وماله فيها وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

٢٣٦

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نُمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.

سنة (٤٣٣) يذكر الحلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل.

سنة (٤٤٠) ذكر الحلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية. وفيها كانت الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلَّد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلَّد إلى عمّه قرواش وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.

ظهور الخلاف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

سنة (٤٤١): في هذه السنة ظهر الخلاف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلثايا، فأخرجوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمُغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحُميدي وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده، فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين، وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار؛ لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون

٢٣٧

منهم وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون. فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه وقبل يده، وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك فيَّ وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك. فقال له قرواش: بل أنت الأخ والأمر لك مسلّم، وأنت أقوم به مني، وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعاً، وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

وفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوها وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلَّد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً وصبرا صبراً جميلاً وقُتل جماعة من الفريقين.

في هذه السنة في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه، وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار. فأجابهم إلى ذلك وسيّر معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري، وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه. وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

سنة (٤٤٢) وفي هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة

٢٣٨

أبو كامل بركة بن المقلَّد على أخيه قرواش، وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره؛ وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه. وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده، ثم أرسل إليه نفراً من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلّغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يُمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم. فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً فأمّنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

سنة (٤٤٣) وفي هذه السنة في شهر رمضان تُوفِّي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلَّد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد. فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتُوفِّي ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلَّد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه، واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتُقل بها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة جرى حِلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلَّد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلَّد منازعة أدت إلى الاختلاف، فسار المقلَّد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد ملتجئاً إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد

٢٣٩

إلى الموصل، واختلَّت أحواله واختلفت العرب عليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عُكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه تُوفِّي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق؛ ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيّب صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد، فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال، فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يطلب ببذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره؛ لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. وفي هذه الصفحة: وفي السنة نفسها مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلَّد العُقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحُمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن. وأورد له عن (دمية القصر) البيتين المنقولين عن تاريخ ابن خلدون وهذه الأبيات التي لم يوردها ابن خلدون:

مـن كان يحمد أو يذم موّرث لـلمال مـن آبـائه وجدوده

إنـي امـرؤ لـله أشكر وحده شـكراً كـثيراً جـالباً لمزيده

لـي أشقرٌ سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومـهند عـضب إذا جـردته خلت البروق تموج في تجريده

ومـثقف لـدنُ الـسنان كأنم أم الـمنايا رُكـبت في عوده

وبـذا حـويُت المال إلا أنني سـلّطت جود يدي على تبديده

وفي هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فدوَّخ كثيراً منها وأسرف في

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

« سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا وشنّ الغارة على أهل ابنى »(١) .

فاعطى « اسامة » اللواء الى « بريدة » وعسكر بالجرف(٢) ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا ، وليتحرك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر ، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار والمهاجرين ، ولقد أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله هذا أمرين :

أولا : أن يجبر ـ من خلال ذلك ـ ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده « زيد بن حارثة » الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم ، وليرفع من شخصيته.

ثانيا : أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف وتوزيع المناصب والمسئوليات ويجعل ذلك على اساس الكفاءة والشخصية القيادية ان المناصب والمسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات والموهّلات ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة ويحلموا أن المناصب والمهامّ ـ في النظام الاسلامي ـ ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة والمؤهلات القيادية ، لا العمر والسنّ.

ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية ، والمسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم الله تعالى واوامره تعاليمه ويقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال ، سواء أكانت له فيها نفع أم لا ، وسواء أكانت تضرّ به أم لا ، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

__________________

(١) « ابنى » من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين « عسقلان » و « الرملة ».

(٢) منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

٦٦١

ولقد بيّن الامام عليعليه‌السلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبرة اذ قال : « الاسلام هو التسليم »(١) .

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض ، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير والحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية ، والتسليم الواقعيّ والانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى « اسامة بن زيد » الذي لم يكن يتجاوز يومذاك ـ العشرين عاما(٢) شاهد صدق على ما نقول ، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض ، لأنهم اعترضوا على الاجراء ، وطعنوا في اسامة ، واطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى ( النبي ) ، واوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة(٣) .

ولكنهم غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الإجراء ، وكانوا يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة ، ويقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه ، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

__________________

(١) نهج البلاغة : قصار الحكم ١٢٥.

(٢) ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره وذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.

(٣) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

٦٦٢

من معسكر « الجرف » وتوجهه إلى النقطة المطلوبة ، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء لاسامة تمرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة وأصابه صداع شديد تركه طريح الفراش واستمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات الله عليه.

وقد علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة وأن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها ، وأن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك غضبا شديدا ، وخرج وهو يلتحف قطيفة ، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب ، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف ، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة وبعد أن حمد الله واثنى عليه قال :

« أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله كان للإمارة خليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وانّهما لمخيلان لكل خير ، واستوصوا به خيرا فانه من خياركم ».

ثم نزلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل بيته واشتدت به الحمى ، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه :

« أنفذوا بعث اسامة »(١) .

ولقد بلغ من إصرار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بعث جيش اسامة انه كان يقول وهو في فراش المرض :

« جهزوا جيش اسامة ، لعن الله من تخلّف عنه »(٢) .

وقد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

(٢) الملل والنحل : ج ١ المقدمة الرابعة ص ٢٣.

٦٦٣

عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتوديع والخروج عن المدينة تلقائيا والالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين ، فحضر اسامة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاثا اياه على المبادرة والمسارعة في الخروج :

« اغد على بركة الله »(١) .

فعاد اسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرك فورا ، ولكن الجيش لم يكن قد غادر « الجرف » بعد ، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتضر ، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة ، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير والحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعادوا إلى المدينة فورا ، وعاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين ـ جميعا ـ أوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج.

ولم يتحقق أحد آمال النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم واعيان الجيش.

الاعذار غير المقبولة :

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول الله

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٩٠.

٦٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

ولقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق ووجوه مختلفة إلاّ أنهم عجزوا ـ رغم ذلك ـ أن يخرجوا عذرا مقبولا ودليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

وللاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع « المراجعات »(١) . و « النص والاجتهاد »(٢) .

الاستغفار لأهل البقيع :

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى والوجع ليستغفر لأهل البقيع(٣) .

ولكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحس بالوجع اخذ بيد « عليّ »عليه‌السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه :

« إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع ».

وعند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك وقال :

« السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها ».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّعليه‌السلام وقال : يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي والجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا

__________________

(١) المراجعة ٩٠ و ٩١.

(٢) ص ١٥ ـ ١٦.

(٣) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٠٤.

٦٦٥

أراه إلاّ لحضور أجلي »(١) .

انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت ويحصرون كل الوجود في أطار المادة وآثارها ، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر ، ويقولون : كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ وكيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟

ولكن الذين كسروا جدار المادية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط والاتصال بالارواح(٢) ، ويعتبرونه امرا ممكنا وواقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة ، يمكنه ـ على وجه القطع واليقين ـ أن يخبر عن حلول أجله بأمر الله واذنه وإخباره إياه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٦٦ و ٤٧٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح ، وأسلوبه المشروع.

٦٦٦

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

٦٤

الكتاب الذي لم يكتب

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة وحساسية ودقة.

لقد مرّ الاسلام والمسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة ، وحرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه عارفا بنواياهم على نحو الاجمال ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة ومغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم ، لكي يعطل بذلك خطتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج ومعاذير معينة ، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فعادوا إلى المدينة ـ بعد توقّف دام ١٦ يوما ـ على أثر تدهور صحة النبي واحتضاره ، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تفريغ المدينة منهم ، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

٦٦٧

يوم غدير خم ( نعنى الامام عليا ) من تسلم زمام الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيين.

إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم وتثبيت منصب الامام علي وخلافته لرسول الله بلا فصل ، فحاولوا منع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل ، والسبل.

فعمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة ، المشين ، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع ، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد :

« أيّها الناس سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي والله ما تمسّكون عليّ بشيء ، اني لم احلّ إلاّ ما أحلّ الله ، ولم احرّم إلاّ ما حرّم الله »(١) .

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مستقبل الاسلام بعد وفاته ، فما هو المقصود ـ ترى ـ من النار التي سعرت؟

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين ، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعالى لهيبها ، ولا يزال ذلك اللهيب مشتعلا ، وتلك النار مستعرة؟!

ايتوني بقلم وقرطاس :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٥٤ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢١٥ و ٢١٦.

٦٦٨

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم ، ولهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق ـ أن يدعم مكانة عليّ ويعزر امارته وخلافته وخلافة أهل بيته ، وذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شيء من التفكير وقد التفت إليهم :

« ايتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ».

فبادر عمر وقال : ان رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله(١) .

فناقش الحاضرون رأى الخليفة ، فخالفه قوم وقالوا : هاتوا بالدواة والصحيفة ليكتب النبي ما يريد ، وناصر آخرون عمر وحالوا دون الاتيان بما طلبه النبي ، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة ، وقال :

« قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع »

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله »(٢) .

إن هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة والسنة ومؤرخيهم وتعتبر روايتها ـ حسب قواعد فنّ الدراية والحديث ـ من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام « عمر » بالمعنى لا باللفظ ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

__________________

(١) الملل والنحل : ج ١ المقدمة الرابعة ص ٢٢. طبعا لم يكن الهدف من « اكتب » أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.

(٢) صحيح البخاري كتاب العلم : ج ١ ص ٢٢ وج ٢ ص ١٤ ، صحيح مسلم : ج ٢ ص ١٤ مسند أحمد : ج ١ ص ٣٢٥ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٤٤ ، الملل والنحل : ج ١ ص ٢٢.

٦٦٩

المجلس المقدس.

ولا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة ، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لا يسيء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب « السقيفة » في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا : وقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله(١) .

ولكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول : فقالوا : هجر رسول الله(٢) .

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لا ينطق إلاّ بالوحي.

إن اختلاف الصحابة لدى رسول الله الطاهر المعصومصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي محضره كان عملا سيئا ، ومشينا إلى درجة أن احدى أزواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعترضت على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب : ألا تسمعون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته.

فقال عمر : اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ. واذا صحّ أخذتنّ بعنقه(٣) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة الحديدي : ج ٢ ص ٢٠.

(٢) صحيح مسلم : ج ١ ص ١٤ ، مسند أحمد : ج ١ ص ٣٥٥.

(٣) كنز العمال : ج ٣ ص ١٣٨ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٤٤. وفي الطبقات : ان النبي قال ( في الرد على عمر ) هنّ خير منكم

٦٧٠

ان بعض المتعصبين وان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا(١) في الظاهر إلاّ انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه « حسبنا كتاب الله » ، واعتبروه كلاما غير صحيح ، وصرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية ، ولا يمكن أن يغني كتاب الله الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقواله.

ولكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور « هيكل » مؤلف كتاب « حياة محمّد »(٢) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول : ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيه أن قال الله في كتابه الكريم : « ما فرّطنا في الكتاب من شيء »(٣) .

فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير ، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع ، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني ، وصفحات الوجود ، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع ، وتشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة والوجود وإليك نص الآية :

«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ »(٤) .

وحيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب والطيور ، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها والذي لم يفرّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني ، وصفحة الخلق.

__________________

(١) رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة ٨٦ جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.

(٢) حياة محمّد : ص ٥٠١.

(٣) الانعام : ٣٨.

(٤) الانعام : ٣٨.

٦٧١

ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب ـ وبحكم تصريحه ـ يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول :

« وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم »(١) .

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول « لتقرأ » بل تقول بصراحة : « لتبيّن ».

وعلى هذا الاساس اذا كان كتاب الله كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجا شديدا(٢) .

ولو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة وعالمها الكبير ابن عباس يقول : يوم الخميس وما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ وقال : قال رسول الله ايتونى بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا فقالوا(٣) .

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس ، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول الله كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية ( أو الكتاب ) الذي كان النبي يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب واملائه فهل يمكن ان نحدس ـ في ضوء القرائن القطعية ـ ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية واجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته ولكنها أوضح من الاولى

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة ، فاطلبه في محله.

(٣) مسند احمد : ج ١ ص ٣٥٥. صحيح البخاري : كتاب الجزية ج ٤ ص ٦٥ و ٦٦.

٦٧٢

دلالة ومفادا ، وبعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه ، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكدة ومكررة لا تتشابه ولا تتحد في دلالتها ، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة وقد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من اصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل : ما ذا كان يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الاّ تعزيز الوصيّة ودعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وامرته والتأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة والشيعة ، لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته : انه يبتغي كتابة شيء لا يضلون بعده ابدا. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب والعترة اذ قال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(١) .

__________________

(١) صحيح الترمذي : ج ٥ ص ٣٢٨ ح ٣٨٧٤ جامع الاصول : ج ١ ص ١٨٧ راجع المراجعات : المراجعة ٨.

٦٧٣

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدس ـ بصورة قطعية ـ بان ما كان يهدفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين ، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين وهو تعزيز ودعم ولاية الامام عليعليه‌السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين والعراقيين والمصريين والحجازيين وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول الله إلى ربّه ، وحصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعينه للخلافة خلافا لجميع القواعد والاصول ، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين والامارة والقيادة التي اثبتها لعلي واهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة وحالوا دون الاتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة ، وخالفوا كتابة شيء ، وإلاّ فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم وارتكبوا ما ارتكبوا.

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد ، فلما ذا لم يتصرف هكذا ، ولم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة : فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر ،

٦٧٤

ولعمد أنصارهم إلى اشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص ، وصنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحالة وتستمرّ ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي ـ ملافاة لما لحق به من الأذى ـ أبعد الذي قلتم؟ فقال :

« أبعد الذي قلتم؟ لا ولكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا »(١) .

ملافاة الأمر وتداركه :

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلاّ انه بلّغ مقصوده من طريق آخر ، فهو ـ بشهادة التاريخ ـ بينما كان يعاني المرض ، والوجع الشديدين ، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على « علي بن أبي طالب » و « ميمونة » مولاته فجلس على المسجد ثم قال :

« يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين ».

وسكت ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن ، قال :

« ما ذكرتهما إلاّ وأنا اريد أن أخبركم بهما ولكن ربوت فلم استطع ، سبب طرفه بيد الله ، وطرف بايديكم ، تعلمون فيه كذى ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتى ».

ثم قال :

« وأيم الله إني لأقول لكم هذا ورجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم ».

ثم قال :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٦٩ نقلا عن الارشاد واعلام الورى.

٦٧٥

« والله لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه الله نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلاّ احتجب الله عنه يوم القيامة »(١) .

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى ، ولا تنافي بين الصورتين ، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه :

« أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا ، فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب الله ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ».

ثم أخذ بيد علىعليه‌السلام فقال :

« هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع علي ، خليفتان نصيران ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما »(٢) .

فمع أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر حديث الثقلين(٣) قبل مرضه في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة ، ولفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين ، ولكنه لفت الأنظار مرة اخرى وهو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ نقلا عن مجالس المفيد.

(٢) الصواعق المحرقة : الباب ٩ من الفصل الثاني ص ٥٧ وكشف الغمة : ص ٤٣.

(٣) حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة باكثر من ٦٠ طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص ١٣٦ : وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته « العبقات » بذكر اسناده حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.

٦٧٦

تقسيم الدنانير :

دأب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا ، فاحضرتها عنده فاخذهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده وقال :

« ما ظنّ محمّد بالله لو لقي الله وهذه عنده؟ انفقيها ».

ثم أمر علياعليه‌السلام فتصدّق بها(١) .

غضب النبي من الدواء الذي سقي :

لما كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات « ميمونة » زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات والاعشاب المختلفة ، فلما اشتكى واغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء : « ذات الجنب » ، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار ، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء ، بصبّ شيء منه في فم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال :

« ما كان الله ليسلّط عليّ ذات الجنب »(٢) .

وداع النبي مع أهله :

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس ، ويذكّرهم امورا.

وذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٣٨ و ٢٣٩.

(٢) الطبقات : ج ٢ ص ٢٣٥.

٦٧٧

« علي »عليه‌السلام بيمنى يديه وعلى الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال :

« أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به ».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ان لي عندك عدة ، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انحلها يا فضل ثم نزل وعاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة ـ ثلاثة ايام قبل وفاته ـ صعد المنبر فخطب وقال فيما قال :

« أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة والاشهاد ».

فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال : انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلال : قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا(١) ولما أتى بالقضيب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اين الشيخ؟ قال سوادة : ها انا ذا يا رسول الله بابي أنت وأمي فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا ولهذا لم يكن له الحق إلاّ في اخذ الدية دون القصاص ، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

٦٧٨

« فاقتصّ منّي حتى ترضى ».

فقال سوادة : فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمهم وبكائهم تقدم سوادة إلى النبي وقال : أتأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له ، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله ، وقبّل بطن النبي وصدره الشريف. فدعا له رسول الله وقال :

اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد(١) .

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ج ١ ص ٢٣٥.

٦٧٩

٦٥

اللحظات الأخيرة

كان القلق والاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحته ، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه ، وتفاقم وجعه ، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته ، وتجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاّ سويعات قلائل ، وانه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة ، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك ، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلاّ أهل بيته خاصة.

ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام جالسة عند فراش ابيها ، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ ، فراحت تردد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزن ، ويملأ عيونها دموع الاسى والحزن ويكاد يخنقها الغصة :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للارامل

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت :

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي :

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778