سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله10%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 459067 / تحميل: 9709
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وبين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو وولده ، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك ، وبينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم وكان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام ، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال : أحد ، أحد.

فلما رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبد الرحمن على حمايته والذب عنه وهو يريد نجاته وولده ، صاح مستصرخا المسلمين : يا أنصار الله رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة وولده من كل جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما(١) .

وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش على المسلمين في مكة ، وكان لا يؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقيه رجل من المسلمين يدعى « المجذر » فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرى فيه رأيه ، ولكنّه نازل المجذّر ، وأبى إلاّ القتال ، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلاّ أن يقاتلني فقاتلته فقتلته(٢) .

خسائر بدر في الأرواح والاموال :

لقد قتل في معركة « بدر » من المسلمين أربعة عشر رجلا ، وقتل من المشركين سبعون واسر سبعون من أبرزهم : النضر بن الحارث ، وعقبة ابن أبي معيط ، وأبو

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٢٩ و ٦٣٠ وراجع الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٣.

٨١

غرة ، وسهيل بن عمرو والعباس ، وأبو العاص بن الربيع ( صهر النبيّ )(١) .

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة ، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

وبينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجه « أبي حذيفة » ابن عتبة فاذا هو كئيب ، قد تغيّر لونه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟!

فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في ابي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام ، فلمّا رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخير(٢) .

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم ، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

ما أنتم باسمع منهم :

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيرا.

ولما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب(٣) وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا ويقول :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٧٠٦ و ٧٠٨ ، المغازي : ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٧٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٠ و ٦٤١.

(٣) القليب : البئر.

٨٢

« يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا اميّة بن خلف ، ويا أبا جهل ( وهكذا عدّد من كان منهم في القليب ) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا ، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله أتنادي قوما موتى؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ».

وكتب ابن هشام يقول : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم هذه المقالة :

« يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، ( ثم قال : ) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟ »(١) .

الشعر يخلّد هذه القصة :

يعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلّمة في التاريخ الاسلاميّ ، فقد ذكره جميع المحدّثين والمؤرخين من الشيعة والسنة ، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة وبذلك يقوي من عزيمة المسلمين ويشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات ويكرم المواقف ويخلد الامجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعا أبديا ولهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات ، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية التي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان « حسان » لحسن الحظ ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام وامجاده من خلال قصائده ، وابياته المدرجة فيه.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٩ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٧٩ و ١٨٠ وغيرهما.

٨٣

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول :

يناديهم رسول الله لمّا

قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقّا

وأمر الله يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا

صدقت وكنت ذا رأي مصيب!

على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المقام حيث قال : « ما أنتم بأسمع منهم ».

وليس ثمة بيان أكثر إيضاحا وأشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواحد واحد من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة ، ويبادر قبل التحقيق ويقول : إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

وقد نقلنا هنا نص هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة ، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه(١) .

__________________

(١) إن تكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ والحديث ، وقد اشار الى هذا من بين المحدثين والمؤرخين : صحيح البخاري : ج ٥ في معركة بدر ص ٧٦ و ٧٧ ـ ٨٦ و ٨٧ ، صحيح مسلم : ج ٨ كتاب الجنة باب مقعد الميت ص ١٦٣ ، سنن النسائي ج ٤ باب أرواح المؤمنين ص ٨٩ و ٩٠ ، مسند الامام أحمد : ج ٢ ص ١٣١ ، السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٩ ، المغازي : ج ١ غزوة بدر ص ١١٢ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٣٤٦.

٨٤

بعد معركة بدر :

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ، هذا وقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم ، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها ، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر ، لأنهم كانوا يحرسون القائد ، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها ، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو ولا حقوه وطاردوه يقولون : والله لو لا نحن ما أصبتموه ، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم(١) .

ولا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته وأفراده ، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادية وبغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم وحملها ، والمحافظة عليها إلى « عبد الله بن كعب المازني » وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٩٨ و ٩٩.

٨٥

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم ، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة ، وكان لكل منهم دور ومسئولية فيها ، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنائم بينهم ـ في أثناء الطريق ـ على قدم المساواة ، وفرز لذوي الشهداء أسهما منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقسيم الغنائم ( وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي ) سخط « سعد بن أبي وقاص » فقال : يا رسول الله أيعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثكلتك أمّك ، وهل تنصرون إلاّ بضعفائكم »(١) .

وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلاّ لأجل الدفاع عن الضعفاء ، ورفع الحيف عنهم ، وانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبعث إلاّ لإزالة هذه الفوارق والامتيازات الظالمة ، وإلاّ لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس(٢) لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخمّس غنائم « بدر » بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد ، أو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتمتع باختيارات خاصة ، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه ، تكثيرا لأسهم المجاهدين ، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جدا وخاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ(٣) .

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٩٩.

(٢) الانفال : ١.

(٣) وجاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك وذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج

٨٦

قتل أسيرين في اثناء الطريق :

ولما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « الصفراء »(١) وهي أحد المنازل على طريق بدر ـ المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الالداء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

وهنا ينطرح سؤال وهو : إن حكم الاسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين والمجاهدين ، يباعون ويشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي خاطب المسلمين في « بدر » في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيرا قائلا :

« استوصوا بالاسارى خيرا ».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

يقول أبو عزيز ، وكان صاحب لواء في جيش قريش : كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز ، وأكلوا التمر والخبز عندهم قليل والتمر زادهم ، وذلك لوصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاّ نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ ، وكانوا يحملوننا ويمشون(٢) !!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة ، لا أنه كان بدافع الانتقام ، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر ، ومن مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

__________________

إلى بدر او لقيامهم بمهمات ، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.

(١) المغازي : ج ١ ص ٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٥ ، المغازي : ج ١ ص ١١٩.

٨٧

والمسلمين ، وضدّ الرسالة والرسول ، وكانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام ، فلعله لو كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وعملا على تخطيط الخطط ، وتأليب القبائل ، فلم يكن بد من تصفيتهم والقضاء عليهم.

بشائر النبيّ الى المدينة :

كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عبد الله بن رواحة » ، و « زيد بن حارثة » بأن يسبقاه الى المدينة ، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين ، ويخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأميّة ، ونبيه ومنبه و و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا والمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان ، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد أرعب المشركون واليهود والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش ، وراحوا يحاولون تكذيبه ، وتفنيده حتى إذا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما ، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم :

كان « الحيسمان الخزاعي » أول من قدم مكة واخبر الناس باحداث « بدر » الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعلى فيما بعد : كنت غلاما للعباس ، وكان الاسلام قد دخلنا

٨٨

أهل البيت ، فأسلم العباس وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة.

وقد كنت رجلا ضعيفا وكنت أصنع السهام والنبال أنحتها في حجرة زمزم فو الله بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب(١) الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان فقال أبو لهب : هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيام عليه فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان : والله ما هو إلاّ أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، والله ما تبقي شيئا ولا يقوم لها شيء.

يقول أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت : تلك والله الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة(٢) .

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر :

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه ، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب ، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة ، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرته.

__________________

(١) الطنب : الطرف.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٦ و ٦٤٧.

٨٩

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه : كان العباس قد أسلم ولكنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم اسلامه ، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الاسلامية ذلك ، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحركاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة « احد » أيضا(١) . فقد كان أول من أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحرك قريش وخططهم واستعداداتهم.

وقد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكة ، وسلبهم البهجة والفرح ، والنشاط والحركة ، وتحولت مكة برمتها الى مأتم كبير ، وناحت قريش على قتلاها(٢) .

المنع من النوح والبكاء في مكة :

غير أنّ أبا سفيان عمد ـ لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق والغضب ـ الى منع النوح والبكاء على القتلى وحث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمّد وأصحابه فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ، ولا تنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر ، واظهروا الجلد والعزاء فانكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم ، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه ولعلكم تدركون ثأركم.

ولكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل ، قال : والدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

وكان « الأسود بن المطلب » اصيب له ثلاثة من ولده : زمعة وعقيل والحارث بن زمعة ، فكان يحب أن يبكي على قتلاه ، ولكنه ما كان يستطيع

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٢٢. قال : لم تبق دار بمكة إلاّ فيها نوح.

٩٠

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه ـ وقد ذهب بصره وعمي ـ : هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة ، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام ورجع إليه فقال : إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته ، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر(١) ولكن

على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص

ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكّي ان بكيت على عقيل

وبكيّ حارثا اسد الاسود(٢)

القرار الأخير حول مصير الاسارى :

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قرار تاريخي عظيم ورائع هو : أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال(٣) .

وان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله وان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة ودفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين ، واطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي اسيره.

وعند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ( أي أسنانه

__________________

(١) البكر : الفتى من الابل.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٨.

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٩٣.

٩١

الامامية ) ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبيا »(١) .

وتلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية.

ولما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمنت بناته ، ( ومنهن زينب ) كذلك وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش ، وأسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ( ليلة زفافها ).

فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجةعليها‌السلام وما اسدته الى الاسلام من خدمات وقدمته من تضحيات ، وبكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٩ ، والمغازي : ج ١ ص ١٠٧ يقول صاحب المغازي في صفحة ١٠٥ من نفس الجزء : كان عمر ( رض ) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

٩٢

ما لها فافعلوا.

فقالوا : نعم يا رسول الله ، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوه ، وردوا عليها الذي لها وبذلك احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال بل أنها والله أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية ، ( ان صح التعبير ) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب ويترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب ، ويبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به ، وبعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا وقدم المدينة ، وردّ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد(١)

رسول الاسلام ومكافحة الامية :

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة والقراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة والتثقيف ، والوعي والنوعية ، فان معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والنوعية.

ولا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها ـ كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية ـ أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة ( أي صبيانها ) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٥١ ـ ٦٥٩ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٣٤٨ و ٣٤٩.

٩٣

كلام لابن أبي الحديد في المقام :

يقول العلاّمة ابن أبي الحديد : قرأت على ( استاذي ) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر ، فصدّقه وقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريم والاحسان أن يطيّبا قلب فاطمةعليها‌السلام ، ويستوهب لها من المسلمين ( أي يستوهب فدكا من المسلمين ويردّه عليها )؟

أتقصر منزلتها عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من منزلة زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالارث؟

فقلت له : فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين ، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال : وفداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين ، وقد أخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فقلت : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الشريعة ، والحكم حكمه ، وليس أبو بكر كذلك.

فقال : ما قلت هلاّ أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمةعليها‌السلام وإنما قلت : هلاّ استنزل المسلمين عنه ، واستوهبه منهم لها ، كما استوهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال : هذه بنت نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حضرت لطلب هذه النخلات افتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له : قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك. قال : إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم ، وان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه وان كان يوافق موازين الدين ـ حسب تصور القاضي ـ ولكنه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانها من أبيها رسول الله صلّى الله عليه

٩٤

وآله(١) .

هذا وقد أمر الله نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين ، فينعموا بالاسلام فيعيد الله عليهم أفضل مما أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم ، إذ يقول تعالى :

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(٢)

وبذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى ، وكشف عن نزعته الانسانية ، وأيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية ، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا ، وعادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال :

« وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (٣) .

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة ، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر :

ولقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين ، ولا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر الله وتأييده الغيبي إذ قال :

«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣٣٤ ـ ٣٥٢ ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.

(٢) و (٣) الانفال : ٧٠ و ٧١.

٩٥

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ »(١) .

وقال تعالى :

«قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ »(٢) .

وقال تعالى أيضا :

«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (٣) .

وقوله تعالى :

«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ »(٤) .

وقال سبحانه أيضا :

«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

__________________

(١) الانفال : ٤٢ و ٤٤.

(٢) آل عمران : ١٣.

(٣) الانفال : ٩.

(٤) الانفال : ١١ ـ ١٢.

٩٦

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ »(١) .

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة والعدد ، وبأبرز الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين ، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم ، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الامدادات الغيبية هي :

١ ـ مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي والمسلمين في أسفل الوادي ، وكان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا ، ولكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

٢ ـ إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو ، ومع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية والقتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين ، ولكن شاء الله أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين ، مسبقا ، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع ، فيتحقق ما أراد الله من الانتصار على قريش. والى هذا اشار سبحانه بقوله :

«وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ».

٣ ـ تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين ، ولكي لا يهاب المسلمون الاعداء ويستعظموا عددهم ، وإليه يشير تعالى بقوله :

«إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ».

٤ ـ تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله :

__________________

(١) آل عمران : ١٢٣ ـ ١٢٧.

٩٧

  «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ».

٥ ـ الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

٦ ـ النعاس الذي ألقاه الله على المسلمين فجدد نشاطهم ، وضاعف من قوتهم.

٧ ـ نزول المطر عليهم والذي طهّرهم من الاقذار ومكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم من حدث ، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم ، وقد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية ١١ من سورة الانفال.

٨ ـ تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

٩ ـ القاء الرعب في قلوب الكفار والى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله : « فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب ».

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري وهو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه :

«وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ »(١) .

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول :

«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ »(٢) .

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة الله ورسوله إذ يقول :

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ »(٣) .

__________________

(١) الانفال : ٤٨.

(٢) الانفال : ٤٧.

(٣) الانفال : ١٣.

٩٨

وينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي ـ نوعا ما ـ لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحربية ، وإلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين وإلى جانب تنظيم صفوفهم ، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

٩٩

٣٠

زواج سيدة النساء

فاطمة بنت رسول الله(١)

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان ، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة ، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة ، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية والحياء العام ، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل والمرأة ـ تأكيدا لحكم الفطرة وتمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية ـ أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد ، والحديث في الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة بمختلف الصور ، وتحت مختلف العناوين :

فقد جاء في الكتاب العزيز :

«وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ »(٢) .

__________________

(١) كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر ، راجع بحار الأنوار : ج ٤٣ ص ٧٩ و ١١١.

(٢) النور : ٣٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778