• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21305 / تحميل: 9299
الحجم الحجم الحجم
الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

مؤلف:
العربية

الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

المؤلف: الدكتور نوري جعفر

١

٢

تصدير

الدكتور حامد حفني داود

استاذ الأدب العربي بكلية الألسن ـ القاهرة

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

في هذا الكتاب يقدم لنا المؤلف الدكتور نوري جعفر عن عقيدة أخلصها وصفاها لمبادئ الإسلام العديد من مساوئ بني أمية التي كانت ثلمة لا ترأب في صرح الإسلام المجيد. وهي لا تزال إلى اليوم.

وصمة في تاريخهم منذ أمسكوا بزمام الحكم حتى سقطت دولتهم على يد العباسيين سنة ١٣٢ هـ.

وقيمة هذا الكتاب تتجلى في أن مؤلفه أضاف شيئاً جديداً على الكاتبين ، هذا الموضوع ، ذلك أنه وثق كل ما جاء من مواقف بني أمية ضد مبادئ الإسلام السمحاء بالعديد من الروايات المبثوثة في المصادر والمراجع.

كما أتحف هوامش الكتاب بالكثير من تراجم الأعلام الذين ورد ذكرهم في تنايا كتابه.

لقد كتب أبو عثمان بن عمرو بن بحر الجاحظ ـ شيخ كتاب القرن الثالث الهجري ـ كما كتب غيره الكثير عن أخبار بني أمية وعن مساوئهم ومناوأتهم للبيت الهاشمي ولكن الذي كتبه الجاحظ وغيره لا يعدو أن يكون من الرسائل المقتضبة ، تناول فيها الجاحظ والمقريزي وغيرهما إبراز الصورة الفنية فيما كتبوا قبل ان يقدموا للقراء روايات مدعمة بالأدلة والبراهين يشفعوا ما كتبوه بمقارنات تاريخية مدعمة بالمراجع والمصادر التي أستمدوا منها دراساتهم.

فالصورة الفنية عند هؤلاء كانت هدفاً في ذاته. ومن ثم كانت كتبهم لوناً من

٤

ألوان الأدب قبل أن تكون مصدراً من مصادر التاريخ يصح الاعتماد عليه في كل شيء.

تناول المؤلف في هذا الكتاب العديد من القضايا التي خرج فيها بنو أمية عن المثالية الإسلامية التي وضع الرسول أساسها وسار عليها الخلفاء الراشدون كل بقدر إجتهاده حتى بلغت في خلافة على القمة التي لا يعلوها قمة من أخلاقيات الإسلام ومبادئه وقيمه. لولا أن هذا النهج المثالي الذي شرعه على وبرأ فيه نفسه عن ادعاء الكمال حينما أسندت إليه الخلافة سرعان ما هو جم من معسكر البغي والعدوان من بني أمية وأعوانهم.

لقد تناول في كتابه الكثير من هذا الموقف المضاد الذي أحدثه الأمويين ضد الحكومة الراشده ، وزادوا عدواناً وعصياناً على عدوانهم وعصيانهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

وسبب واضح عند نقاد التاريخ.

وهو أن بني حرب كانوا دائماً في موقف مضاد لبني هاشم الذين كانت لهم الريادة والرفادة والسدانة للكعبة والبيت الحرام.

وكانت لهاشم جد هذا البيت رحلتا : الشتاء والصيف وهما الرحلتان المذكورتان في سوة « قريش » وخص الله بهما بني هاشم قبل غيرهما

فلما كان الإسلام تحول التنافس إلى عداء شديد لا يطاق.

وسبب هذا العداء ـ كما هو معلوم أن الله أرسل نبيه من هاشم ولم يرسل من بني حرب جد الأمويين.

ولئن كانت قريش تضم الأسرتين المتنافستين في الجاهلية والمتنازعتين في الإسلام إلا أن العنجهية القريشية في آل هاشم تختلف كل الاختلاف عن العنجهية القريشية في آل حرب.

٥

فأخلاق الهاشميين أخلاق تعتمد على الإباء والنجدة والمروءة والسؤدد وإزدادت في الإسلام حين بعث إليه حبيبه محمداً كمالا على كمالها وأرتقت أخلاقهم من مراتب النجدة والشجاعة إلى مراتب الإيثار ، ونكران الذات والعمل بما جاء من آداب المؤمنين في القرآن.

فكان النبي ومن حوله من الهاشميين وفي مقدمتهم : الإمام علي مركز إشعاع لهذه الأخلاق الإسلامية.

أما آل حرب فكانوا اقرب إلى النقيض من هذه الأخلاق على الرغم من كونهم أبناء عمهم ويجمعهم في النسب من قريش عبد مناف بن قصي والد هاشم جد هؤلاء السادة وامية جد معاوية بن أبي سفيان.

وقد ألمعنا في السطور السابقة أن التنافس بين الأسرتين تحول إلى عداء مستحكم ؛ ولكن هذا العداء لم يكن آتياً من الهاشميين وكيف يصدر عنهم؟ وهم : المتخلقون بأخلاق القرآن وفيهم سيد الأنبياء وعلي بن أبي طالب ابن عم النبي ، والعباس بن عبد المطلب عم النبي.

وإنما كان مبعث هذا التنافر والتحدي منبعثاً آل حرب « بني أمية » وسبب ذلك أنهم رأوا أن السؤدد والدين كله في ظاهره وباطنه في الهاشميين وأن هؤلاء حملوهم على الإسلام حملا وقد نالوا منهم في موقعة بدر فقتلوا الكفار من آل أمية كما قتلوا أبناءهم وأعمامهم.

فتحول أنتصار آل هاشم على آل امية تحت راية الإسلام في موقعة بدر إلى كره عنيف وحقد دفين في قلوبهم.

وتركز هذا البغض والعداء في رواسبهم النفسية ، فكان ما كان من معاداة للإمام علي في الصورة المؤلمة التي بسطتها كتب التاريخ.

٦

ومن هذا المنطق العقائدي أو العقدي ولدت الفتن والملاحم بين الأسرتين القريشيتين.

ولقد حاول المؤلف أن يفصح عن موقف الأمويين ضد مبادئ الإسلام ، فأفاد في الكثير مما كتب.

وحق له أن يتحدث عن مساوئهم وعما عرفوا به من خيانة ، وغدر بالقيم ، واقتراف للكثير من الجرائم الأخلاقية كالزنا ومعاقرة الخمر وإرتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن فضلا عن الاحتيال في الدين ونقض للعهود وكذب على الله وآل بيت نبيه ، واستحلالهم للعن الإمام علي الذي فيه يقول الرسول :

من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى.

استعرض المؤلف كل هذه الثغرات الأخلاقية التي تدين بني أمية وتضعهم في موضع غير كريم من تاريخ الإسلام. إلا أني كنت أحب أن يفلسف الخلاف بين الهاشميين والأمويين. وأساس هذا الخلاف الذي تفاقم خطية في العهد الأموي أن الإمام علي ومن حوله ومن بعده من الهاشميين كانوا يمثلون المعسكر المثالي في الإسلام الذي يؤمن بالمثل والمبادئ والقيم وهو المبدأ الذي يؤثر فيه المثاليون القيم الإسلامية على حظوظ الدينا. بينما كان الأمويون يمثلون المعسكر الواقعي المتطرف الذي لا يرى الأشياء إلا بالمنظار المادي وأتباع هذا المعسكر يضحون بكل شيء من أجل الدنيا ، ولا بأس عندهم من أن يبيعوا دينهم من أجل عرض زائل من الدنيا.

ولا مانع في نظرهم أيضاً من اصطناع الكذب والخيانة والرشوة وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ليصلوا إلى دنياهم بالطريق غير المشروع.

والتاريخ شاهد على هذه الآثام التي أرتكبت على حساب الدين.

وهل هناك أفظع من التحايل على الإسلام حين رفع معاوية وعمرو وصحبهم

٧

المصاحف على الرماح بغياً للفتنة التي قال في شأنها الإمام علي :

« حق أريد به باطل » !

وهل هناك أقيم عند الله من نيل الدنيا على القيم والعقيدة واصطناع الحيل كما فعل معاوية وعمرو؟ ثم ما أجرم فيه أصحاب معاوية من دس السم للإمام الحسن ، ودس السم لمالك الأشتر وقول معاوية : إن لله جنوداً من العسل مما لا تقره المروءة والنخوة الإسلامية. ثم ما كان بعد ذلك من أهوال لا تطيقها الجبال من قتل ابن بنت رسول الله ظلماً وعدواناً ، وضرب يزيد للكعبة بالمنجنيق ، واستحلال المدينة ، إلى غير ذلك من الفظائع الاموية. إلى غير ذلك مما أشار إليه المؤلف في كتابه.

أما الأحاديث التي أشار المؤلف إليها وما ظنه انه من الأحاديث التي صنعها بنو امية للدفاع عن أغراضهم المادية ، فإن الأمر في ذلك ينشطر إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أحاديث تتعلق بالسياسة والثناء على بني أمية ، والمبالغة في مناقب معاوية ، فإن مثل هذه الأحاديث تستحق النظر وينبغي ألا يصدق شيء منها إلا في حالتين الأولى صحة السند والثانية متابعته على غيره من الأحاديث. وإلا كان موضع شك لا يحتمل.

الثاني : أحاديث جاءت في العزوف عند الدنيا وطاعة الرؤساء ولو كانوا من الظلمة. فإن مثل هذه الأحاديث أصح من الأولى بلا جدال. لسبب واحد وهو أن هناك أحاديث كثيرة جاءت بهذا المعنى ولعل المراد منها :

إيثار وحدة المسلمين على انقسامهم في حالة خروج بعض الأمة على رؤساء.

وينبغي أن نكون على حذر في تكذيب مثل هذه الأحاديث ، لأن الانكار بالقلب على من خرج على أحكام الشرع من خاصة الأمة وعامتهم من الأمور المؤثرة في الدين ويؤيده حديث : « من رأى منكم منكراً ».

الثالث : الأحاديث المروية عن ابي هريرة هي في الحقيقة أصح من القسمين

٨

السالفين ، باعتبار أن أبا هريرة لم يكن طرفا في النزاع بين المعسكر المثالي الذي يؤثر القيم والمعسكر الواقعي الذي يؤثر الدنيا والتحايل على كسبها ، لأجل ذلك أرى أن الحذر كل الحذر في تكذيب ما روى عن أبي هريرة أمر واجب.

وهناك بعض أحاديث رواها قد يتصور بعض الناس أنها تنافي الذوق العام كحديث الذبابة ، ومع ذلك فأنا أحكم بصدق روايتها عن النبي لأنه لا نستطيع أن نقيس الأحاديث على ذوقنا الخاص ، فربما كانت هناك علل علمية وأسباب كونية قد تخفى علينا اليوم ويثبت العلم صحتها في المستقبل وقد حدث مثل ذلك كثيراً ، وبذلك يصح الحديث ويبطل قول المتقولين.

هذه لفتة صغيرة لا أفرضها على المؤلف الفاضل ولكني أذكرها إتماماً للفائدة وإحقاقاً للموضوعية التي يتعصب لها كل باحث.

وبعد فإني أحمد للباحث هذا الجهد الكبير الذي أتحفنا به وأضاف فيه جديداً على ما أورده أبو عثمان الجاحظ في رسالته ، وما أشار إليه تقي الدين أحمد المقريزي في كتابه : « النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ».

دكتور حامد حفني داود

القاهرة في ١٣ / ٩ / ١٩٧٨

٩
١٠

 

١١

١٢

سيقول بعض القراء : ما لنا وللأمويين؟ لقد مضى عليهم زهاء ثلاثة عشر قرنا. أليست هناك مواضيع أخرى ـ ألصق منهم بحياتنا الحاضرة ـ تستلزم البحث والاستقصاء؟ ألا يثير البحث ـ في هذا النوع من المواضيع ـ اختلافا بين المسلمين نحن في غنى عنه في الوقت الحاضر؟ أليس البحث ـ في هذا الموضوع بالذات ـ ينم عن « رجعية » في التفكير؟

أن هذا النمط من التساؤل ينطوي ـ على ما أرى ـ إما على سذاجة في الإدراك ، أو على نفاق وتهافت ، أو أنه يتضمن المغالطة والتضليل ـ كل ذلك بالطبع يتوقف على الجهة التي يصدر منها.

ذلك لأن الأمويين يلازم تاريخهم الناشئة العراقية ـ بنين وبنات ـ طوال المراحل الدراسية الثلاث : الابتدائية والثانوية والعالية.

وفي أكثر من جانب من جوانب منهج التدريس : في دروس التاريخ والدين والادب والمطالعة والنصوص. يضاف إلى ذلك أن الأمويين يطلون علينا ـ بين حين وآخر ـ من نوافذ المنظمات القومية المنبثة في أنحاء القطر وبعض أرجاء العالم العربي.

هذا إلى أن المرء كثيرا ما يصادفهم في منظوم القول وفي منثوره. فقد تغنى بمجدهم فريق من الكتاب المعاصرين وحن إلى عهدهم رعيل من الشعراء المحدثين.

فالدكتور بديع شريف ، مثلا ، يشيد بمجدهم في كتابه الممتع « الصراع بين المولى والعرب » والدكتور عبد الرزاق محي الدين يريدها ـ في قصيدته الرقيقة ـ أما معاوية

يعلو الاريكة أو أبو الحسن

فلماذا لا يعترض المعترضون على ذلك؟ ويعتبرونه رجعية في التفكير؟ لأنه يدعو إلى ارجاع عهد مرت عليه مئات السنين.

١٣

لماذا لا يطلبون من وزارة المعارف أن ترفع كابوس الأمويين عن كاهل الطلاب والطالبات؟ هل « الرجعية » المزعومة ناتجة عن كون بحثنا هذا يختلف عما ألفه المعترضون من « حقائق » مدرسية عن التاريخ الأموي؟.

أما الدعوة إلى البحث في أمور ألصق بحياتنا اليومية من الأمويين فكلمة حق يراد بها باطل. ذلك لان البحث في الامويين لا يحول دون التصدي للبحوث الاخرى بالتمحيص والنقد.

وأما الاختلاف بين المسلمين فموجود في أغلب نواحي الحياة ـ بما في ذلك موقفهم من الأمويين.

وما هذه الدراسة ـ في الواقع إلا صدى لذلك الاختلاف. فهي نتيجة من نتائجه لا سبب من أسباب حدوثه. ولعلها ـ إذا ما قرئت بعين الانصاف والتدبير ـ تخفف من حدة ذلك التوتر بين المسلمين في موقفهم من الأمويين على الاقل.

على أن الامر ، مع هذا « أعمق من ذلك كله بكثير فالأمويون ملتصقون بحياتنا العامة أشد الالتصاق : تؤثر سيرتهم فينا بصورة مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا اخرى.

فالقومية العربية ، بشكلها النازي الممقوت من حيث موقفها من العرب غير المسلمين ومن غير العرب ، هي احدى مخلفات الأمويين. وتظاهر الكثيرين منا باحترام الدين واتباع أوامره ونواهيه ـ في القول ـ ومخالفتهم ذلك « في العمل » هو الآخر من آثارهم.

واهتمام كثير من المشتغلين بالأمور الدينية بالجوانب الثانوية الاهمية من الدين على حساب جوهره هو أيضاً من مخلفاتهم.

١٤

والخلاصة : إننا مرضى في أخلاقنا ، يأمر أغلبنا بالفضيلة ولا يفعلها ، وينهى عن الرذيلة ويتعاطاها.

وما هذا الانحراف الخلقي ، على ما أرى ، إلا أحد مخلفات الامويين : تعست أمة تستوحي مثلها العليا ، والسياسة والاخلاق ، من معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو ابن العاص وزياد بن سمية ، والحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلتهم من الحكام والامراء

بغداد في ٢٣ / ٦ / ١٩٥٦ م

نوري جعفر

١٥

مقدمة

عاش العرب في شبه جزيرتهم أيام الجاهلية. وعاشوا داخل شبه الجزيرة وخارجها عندما انبثق نور الإسلام في بلادهم.

وقد حاولوا ـ في الحالة الأولى وعلى القدر المستطاع ـ أن يتجنبوا الاحتكاك بغيرهم من الأمم إلا ما استلزمته طبيعة الظروف التي نشأوا خاضعين لها من الناحيتين المادية والفكرية.

وسعوا ـ في الحالة الثانية ـ إلى الاحتكاك بالأقوام التي عاشت خارج نطاق محيطهم الجغرافي. وسبب ذلك ـ على ما يبدو ـ هو : أن الدين الجديد قد شجع العرب على التوغل في البلاد الأخرى عن طريق الفتح.

غير أن احتكاك العرب المسلمين بالأمم الأخرى ، عن طريق الفتح ، قد اصبح في العهد الأموي الذي بدأ بخلافة عثمان بن عفان لا بحكم معاوية كما هو الشائع.

وسيلة من وسائل إشغال العرب المسلمين بالتوغل في بلاد غريبة عنهم في مواردها وفي طبائع أهلها ، وعاملا من عوامل توجيه أنظارهم نحو الانتفاع بتلك الموارد من الناحية المادية.

وواسطة من وسائط اليها الذين يطالبون « الخليفة » بوجوب السير وفق تعاليم الدين كما جاءت في القرآن وسيرة النبي. أي إن : « الفتح » الإسلامي قد أصبح وسيلة من الوسائل التي يتخلص بها « الخليفة » من العناصر المتمردة على الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة غير المنسجمة مع بمبادئ الدين الحنيف.

وواسطة من وسائط ابتزاز موارد البلاد المفتوحة ليتصرف بها « الخليفة » وفق هواه على حساب الدين.

١٦

فعثمان بن عفان ـ الذي بدا في عهده وضع أسس الحكم الأموي ـ مثلا : قد أسرف في تبذير أموال المسلمين على أصهاره ، وأنصاره وذوي قرباه.

فمنح مروان ابن الحكم ـ زوج ابنته أم إبان ـ كما منح ابنته عائشة زوج الحرث ابن الحكم ، أخي مروان مثلا : « مئتي ألف درهم من بيت المال سوى ما أقطعه من قطائع

ومنح أبا سفيان ـ شيخ بني أمية ـ مئة ألف درهم »(١) .

« كما أنه وهب مروان بن الحكم » خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في أفريقية.

وأعطى الحكم ـ أبا مروان ـ وابنه الحرث ثلثمائة الف.

وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد الأموي ثلثمائة ألف.

وأعطى لكل واحد ـ من الذين وفدوا مع عبد الله بن خالد ـ مئة مئة ألف.

وأعطى الزبير بن العوام ستمائة ألف ، وطلحة مئة الف ، وسعيد بن العاص مئة ألف.

وزوج ثلاثاً أو أربعاً من بناته لنفر من قريش فأعطى كل واحد منهم مئة ألف دينار »(٢) قال البلاذري(٣) :

حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن أسامة بن زيد بن أسلم عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال : أغزانا عثمان أفريقية فأصاب عبد الله بن أبي سرخ غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم

__________________

١ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن ابي طالب ج ٢ | ص ٢٠ ـ ٢١.

٢ ـ الدكتور طه حسين ، الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان ص ١٩٣.

٣ ـ أنساب الأشراف ٥ / ٢٧ و ٢٨ و ٥٢. ومحمد بن سعد ـ صاحب الواقدي وكاتبه ـ هو صاحب الطبقات الكبرى توفي عام ٢٣٠ هـ. أما الواقدي فهو صاحب المغازي. تولى القضاء في عهد المأمون. وهو منسوب إلى واقد جده. توفي سنة ٢٠٧ هـ.

١٧

وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر عن أبيها قالت قدمت أبل الصدقة على عثمان فوهبها للحرث بن الحكم بن أبي العاص.

وإن عثمان ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلثمائة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها.

وأعطى عثمان زيد بن ثابت الأنصاري مئة ألف درهم.

هذه نماذج من تبذير الأمويين أموال المسلمين سقناها على سبيل التمثيل لا الحضر هذا مع العلم أنها حصلت في عهد ثالث الخلفاء الراشدين.

أما نظائرها في عهد معاوية والذين جاؤوا من بعده فقد بلغت حداً يفوق الوصف.

لقد مر بنا القول بأن الفتح الإسلامي قد أصبح ـ في عهد الأمويين ـ وسيلة من وسائل إشغال الناس بالغزو لصدهم عن التحدث في أوضاعهم الداخلية العامة.

وقد اتضح ذلك عندما أخذ الأمر يتفاقم على عثمان بن عفان.

فقد جمع ابن عفان ـ سنة ٣٤ هـ ـ كبار أمرائه للتداول معهم في إيجاد حل للخروج من تلك الأزمة السياسية الحادة وتلك الفتنة الغليظة المظلمة.

فاقترح عبد الله بن عامر ـ على عثمان ـ أن يرسل المسلمين إلى « الجهاد » ويلهيهم بالحرب ويطيل إقامتهم بالثغور.

ويلوح لي أن بعض المسلمين قد انتبه إلى هذه الحيلة فحاول أن يفسدها.

فحمد بن أبي حذيفة(١) ـ الذي آلمته سياسة عثمان ، مثلا قد بدأ يندد به ويحرض على قتله ، رغم صلة القربى التي تجمع بين الرجلين.

« فكان يلقي الرجل عائداً من غزوة الروم فيتخابث ويسأل :

أمن الجهاد ؛ فيجيبه الرجل بنعم. فيشير بإبهامه إلى ناحية الحجاز ويقول :

__________________

١ ـ إبن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وعتبة جده هو أبو هند زوج أبي سفيان وأم معاوية. أسره عمرو بن العاص عند ما غزا مصر بعد النهروان وقتل محمد بن ابي بكر عامل علي عليها. فأخذه معاوية وسجنه. غير أنه هرب من السجن. فلحق به عبيد الله بن عمرو ابن ظلام ـ وهو رجل من خثعم ـ فقتله.

١٨

لقد تركنا خلفنا الجهاد ـ جهاد عثمان بن عفان »(١)

هذا ما يقوله محمد بن أبي حذيفة فيما يتعلق بتصرفات ثالث الخلفاء الراشدين.

ولا ندري ما كان يقوله محمد لو قدر له أن يعيش فيشهد سيرة الأمويين بعد مصرع ابن أبي طالب !! حيث أصبحت القاعدة العامة للحكم الأموي هي : الخروج على القرآن وسيرة النبي ، وصار الحكام الأمويون يتسابقون على الانغماس في الموبقات :

الأمر الذي اضطر فريقاً من خيرة المسلمين(٢) إلى توجيه روح الجهاد « الذي غرسه الإسلام في نفوسهم » نحو محاربة الأمويين. فوقعوا صرعى في ساحات الشرف.

ولقد جاهد أولئك المسلمون الأمويين لإرجاعهم إلى أحضان الدين ولردعهم من الإيغال في الموبقات ولصدهم عن السير في وثنيتهم السياسية والأخلاقية ـ جرياً مع مستلزمات القرآن.

فقد جاء في سورة البقرة : «وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم » وفي سورة المائدة : «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا ».

وفي سورة المجادلة : «لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم »

لقد كانت الغاية من الجهاد ـ في عهد الرسول الكريم ـ هي رفع كلمة الله والسمو بالمتخلفين من الناس إلى أوج المستويات الخلقية الرفيعة.

وكان الرسول الكريم يوزع غنائم الفتح توزيعاً عادلا بين المسلمين وفق

__________________

١ ـ عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن أبي طالب ٢ / ٤٨ والبلاذري ، أنساب الأشراف ٥ / ٥٠ / ٥١.

٢ ـ وفي مقدمتهم الحسين بن علي وصحبه وعمار بن ياسر وحجر بن عدي وصحبه وعمرو ابن الحمق الخزاعي وميثم التمار ومن هم على شاكلتهم.

١٩

مستلزمات الشرعية السمحاء. فلا غرو أن رأينا المسلمين ـ في عهده ـ يتسابقون في تقديم أرواحهم للموت.

وفي تاريخ الرسول أمثلة رائعة من هذا القبيل ذكر الواقدي :

إن الرسول ـ عندما علم أن أبا سفيان قد ألب عليه المشركين لأخذ ثأرهم منه بعد معركة بدر ـ استشار أصحابه قبل الخروج إلى أحد فيما ينبغي أن يفعلوه. فطلبوا منه أن يخرج إلى عدوهم ورغبوا في الاستشهاد في سبيل الله.

« فقال مالك بن سنان ـ أبو أبي سعيد الخدري ـ يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسينين :

إما أن يظفرنا الله بهم. فهذا الذي نريده. والأخرى ـ يا رسول الله ـ يرزقنا الله الشهادة. والله ـ ما أبالي أيهما كان. إن كلا لفيه الخير

وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة ـ أخو بني سالم ـ يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فو الذي لا اله إلا هو لأدخلنها(١)

وقال خثيمة ـ أبو سعد ـ يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيسها(١) . ثم جاؤنا. فلنخرج لهم عسى الله أن يظفرنا بهم. أو تكون الاخرى وهي الشهادة.

__________________

١ ـ مغازي رسول الله « ص » ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢ ـ وقد حدث شيء مشابه لهذا بين المخلصين من اتباع الامام أثناء استعداده للخروج إلى صفين. فقد ازدحمت الخيل حين عبرت الفرات متوجهة من العراق إلى الشام « فسقطت قلنسوة الله بن أبي الحصين. فنزل فأخذها وركب. ثم سقطت فلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب. فقال لصاحبه أن يكون ذلك تطيرا صادقاً أقتل وشيكا وتقتل. فقال عبد الله بن أبي الحصين ما شيء أحب إليّ مما ذكرت ، فقتلا معا يوم صفين. « ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١ | ٢٩٠ الطبعة الاولى بمصر.

٣ ـ الاحابيس هم بنوالحرث بن عبد مناف بن كنانة ، وبنو المصطلق من خزاعة ، وبنو الهون من خزيمة ـ راجع ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ٢ | ١١٨.

٢٠

٤. روى الإمام الصادقعليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال لقاض « هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ » ، قال : لا ، قال : « فهل أشرفت على مراد الله عزّ وجل في أمثال القرآن ؟ » ، قال : لا ، قال : « إذاً هلكت وأهلكت ». والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف والإطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ، ثم التقوى ، ثم حينئذٍ إن قدر.(١)

٥. قال أمير المؤمنين علىعليه‌السلام : « سمّوهم بأحسن أمثال القرآن ، يعنى : عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا ».(٢)

٦. وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام في دعائه عند ختم القرآن :

« اللّهمّ انّك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته ـ إلى أن قال : ـ اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً ، ولأقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً ، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله ».(٣)

٧. وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام في مواعظه : « فاتّقوا الله عباد الله ، واعلموا أنّ الله عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ٢ / ١٢١ ح٣٤ ، باب النهى عن القول بغير علم من كتاب العلم.

٢ ـ بحار الأنوار : ٩٢ / ١١٦ ، الباب ١٢ من كتاب القرآن.

٣ ـ الصحيفة السجادية : من دعائه ٧ عند ختم القرآن.

٢١

أحسن عملاً لآخرته ، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلاّ بالله ».(١)

٨. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام لاَخيه زيد بن علي : « هل تعرف يا أخى من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيئ عليه بشاهد من كتاب الله ، أو حجّة من رسول الله ، أو تضرب به مثلاً ، فانّ الله عز وجلّ أحلَّ حلالاً وحرّم حراماً ، فرض فرائض ، وضرب أمثالاً ، وسنَّ سنناً ».(٢)

٩. روي الكليني عن إسحاق بن جرير ، قال : سألتني امرأة أن استأذن لها على أبي عبد اللهعليه‌السلام فأذن لها ، فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت : يا أبا عبد الله قول الله عزّ وجلّ :( زَيتُونةٍ لا شَرْقيةٍ وَلا غَرْبية ) (٣) ما عني بهذا ؟ فقال : « أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم ».(٤)

١٠. روى داود بن كثير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال : « يا داود إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الأرض ، وجعل لنا أضداداً وأعداءً ، فسمّـانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبها إليه ، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه ».(٥)

هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

__________________

١ ـ الكافي : ٨ / ٧٥.

٢ ـ بحار الأنوار : ٤٦ / ٢٠٤ ، الباب ١١.

٣ ـ النور : ٣٥.

٤ ـ الكافي : ٥ / ٥٥١ ، الحديث ٢ ، باب السحق من كتاب النكاح.

٥ ـ البحار : ٢٤ / ٣٠٣ ، الحديث ١٤.

٢٢

وقد حازت الأمثال القرآنية على اهتمام المفكرين ، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الأمثال ومكانتها في القرآن :

١. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى عام ٣٥١ هـ ) : لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر ، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق ، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق ، والمتوهَّم في معرض المتيقن ، والغائب كأنّه مشاهد ، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ ، فإنّه يؤثر في القلوب ما لا يؤثّر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ، ومن سور الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال وفشت في كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلام الأنبياء والحكماء.(١)

٢. قال الإمام أبو الحسن الماوردي ( المتوفّى عام ٤٥٠ هـ ) : من أعظم علم القرآن علم أمثاله ، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال ، وإغفالهم الممثَّلات ، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام.(٢)

٣. قال الزمخشري ( المتوفّى عام ٥٣٨ هـ ) في تفسير قوله سبحانه :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ) (٣) : وضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني.(٤)

٤. وقال الرازي ( المتوفّى عام ٦٠٦ هـ ) : « إن المقصود من ضرب الأمثال انّها

__________________

١ ـ الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة : ١ / ٥٩ ـ ٦٠ والعجب أن هذا النص برمّته موجود في الكشّاف في تفسير قوله سبحانه :( فَما رَبِحَتْ تِجارتهم وَما كانُوا مُهْتَدين مَثَلُهُمْ كَمَثل الَّذي استَوقَدَ ناراً ) ( انظر الكشّاف : ١ / ١٤٩ ).

٢ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤١.

٣ ـ البقرة : ١٧.

٤ ـ الكشّاف : ١ / ٧٢.

٢٣

تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثّل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول ، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الاِخبار بضعفه مجرّداً ، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى :( وَتِلْكَ الأمْثال نَضْرِبها لِلنّاس ) (١) .(٢)

٥. وقال الشيخ عزالدين عبدالسلام ( المتوفّى عام ٦٦٠ هـ ) : إنّما ضرب الله الأمثال في القرآن ، تذكيراً ووعظاً ، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب ، أو على إحباط عمل ، أو على مدح أو ذم أو نحوه ، فإنّه يدل على الاحكام.(٣)

٦. وقال الزركشي ( المتوفّى عام ٧٩٤ هـ ) : وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى ، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والشاهد بالغائب ، فالمرغب في الإيمان مثلاً ، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود ، والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم ، وقد أكثر الله تعالى في القرآن ، وفي سائر كتبه من الأمثال.(٤)

لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع إلى

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤٣.

٢ ـ مفاتيح الغيب : ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

٣ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤١.

٤ ـ البرهان في علوم القرآن : ١ / ٤٨٨.

٢٤

نفس الأمثال لا إلى الضرب بها ، فانّ الأمثال شيء وضرب الأمثال شيء آخر ، لأنّ إبراز المتخيل بصورة المحقّق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، ليس من مهمة ضرب الأمثال ، وإنّما هي مهمة نفس الأمثال ، « وذلك أنّ المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة ، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها ، والمثل هو الذي يفصّل إجمالها ، ويوضّح إبهامها ، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها ».(١)

السابع : الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية

ولأجل هذه الاَهمية التي حازتها الأمثال القرآنية ، قام غير واحد من علماء الإسلام القدامى منهم والجدد ، بتأليف رسائل وكتب حول الأمثال القرآنية نذكر منها ما وقفنا عليه.

١. « أمثال القرآن » للجنيد بن محمد القواريري ( المتوفّى سنة ٢٩٨ هـ ).

٢. « أمثال القرآن » لاِبراهيم بن محمد بن عرفة بن مغيرة المعروف بنفطويه ( المتوفّـى سنة ٣٢٣ هـ ).

٣. « الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة » لحمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّـى ٣٥١ هـ ).

٤. « أمثال القرآن » لأبي على محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي ( المتوفّى عام ٣٨١ هـ ).

٥. « أمثال القرآن » للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي النيسابوري ( المتوفّـى عام ٤١٢ هـ ).

__________________

١ ـ تفسير المنار : ١٢٣٧.

٢٥

٦. « الأمثال القرآنية » للاِمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي ( المتوفّـى سنة ٤٥٠ هـ ).

٧. « أمثال القرآن » للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ( المتوفّـى سنة ٧٥٤ هـ ). وقد طبعت مؤخّراً.

٨. « الأمثال القرآنية » لعبد الرحمن حسن حنبكة الميداني.

٩. « أمثال القرآن » للمولى أحمد بن عبد الله الكوزكناني التبريزي ( المتوفّـى عام ١٣٢٧ هـ ). المطبوعة على الحجر في تبريز عام ١٣٢٤ هـ.

١٠. « أمثال القرآن » للدكتور محمود بن الشريف.

١١. « الأمثال في القرآن الكريم » للدكتور محمد جابر الفياضي. وقد طبعت مؤخّراً.

١٢. « الصورة الفنية في المثل القرآني » للدكتور محمد حسين علي الصغير. وقد طبعت مؤخّراً.

١٣. « أمثال قرآن » ( بالفارسية ) لعلي أصغر حكمت. وقد طبعت مؤخّراً.

١٤. « تفسير أمثال القرآن » ( بالفارسية ) للدكتور إسماعيل إسماعيلي. وقد طبعت مؤخّراً.

الثامن : تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن

ذكر بدر الدين الزركشي ان الأمثال على قسمين : ظاهر وهو المصرّح به ، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال.(١)

وقد نقل السيوطي ذلك النص بنفسه وحاول تفسير المثل الكامن ، وقال ما

__________________

١ ـ البرهان في علوم القرآن : ١ / ٥٧١.

٢٦

هذا نصّه : فمن أمثلة الأوّل ، قوله تعالى :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ...) (١) ضرب فيها للمنافقين مثلين : مثلاً بالنار ومثلاً بالمطر ـ ثمّ قال ـ : وأما الكامنة : فقال الماوردي : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم ، يقول : سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن فضل ، فقلت : إنّك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن ، فهل تجد في كتاب الله : « خير الأمور أوسطها » ؟ قال : نعم في أربعة مواضع :

قوله تعالى :( لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) .(٢)

وقوله تعالى :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لم يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوا ماً ) .(٣)

وقوله تعالى :( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) .(٤)

وقوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) .(٥)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « من جهل شيئاً عاداه » ؟ قال : نعم ، في موضعين :

( بَل كَذّبُوا بما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) .(٦)

__________________

١ ـ البقرة : ١٧ ـ ٢٠.

٢ ـ البقرة : ٦٨.

٣ ـ الفرقان : ٦٧.

٤ ـ الإسراء : ٢٩.

٥ ـ الإسراء : ١١٠.

٦ ـ يونس : ٣٩.

٢٧

( وَإِذ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَديم ) .(١)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « احذر شر من أحسنت إليه » ؟ قال : نعم.

( وما نَقمُوا إلاّ أن أغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « ليس الخبر كالعيان » ؟ قال : في قوله تعالى :( قالَ أَوَ لَمْ تُوَْمِن قال بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبي ) .(٣)

قلت : فهل تجد « في الحركات البركات » ؟ قال : في قوله تعالى :( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُراغَماً كَثيراً وَسَعَة ) .(٤)

قلت : فهل تجد « كما تدين تدان » ؟ قال : في قوله تعالى :( مَنْ يعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه ) .(٥)

قلت : فهل تجد فيه قولهم « حين تَقْلي تدري » ؟ قال :( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حينَ يَرَونَ العَذابَ مَن أَضلُّ سَبِيلاً ) .(٦)

قلت : فهل تجد فيه : « لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين » ؟ قال :( هَلْ آمنُكُمْ عَليهِ إلا كَما أَمِنتُكُمْ عَلى أَخيهِ مِنْ قَبْلُ ) .(٧)

قلت : فهل تجد فيه « من أعان ظالماً سُلّط عليه » ؟ قال :( كَتَبَ عَليهِ أنَّهُ مَنْ

__________________

١ ـ الأحقاف : ١١.

٢ ـ التوبة : ٧٤.

٣ ـ البقرة : ٢٦٠.

٤ ـ النساء : ١٠٠.

٥ ـ النساء : ١٢٣.

٦ ـ الفرقان : ٤٢.

٧ ـ يوسف : ٦٤.

٢٨

تَوَلاّهُ فَأنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعير ) .(١)

قلت : فهل تجد فيه قولهم : « ولا تلد الحية إلا حيّة » ؟ قال : قوله تعالى :( وَلا يَلِدُوا إلا ف اجِراً كَفّاراً ) .(٢)

قلت : فهل تجد فيه : « للحيطان آذان » ؟ قال :( وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ ) .(٣)

قلت : فهل تجد فيه : « الجاهل مرزوق والعالم محروم » ؟ قال :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالةِ فلَيَمْدُد لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً ) .(٤)

قلت : فهل تجد فيه : « الحلال لا يأتيك إلا قوتاً ، والحرام لا يأتيك إلا جزافاً » ؟ قال :( إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَومَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهم ) (٥) .(٦)

وقد أخذ عليه « بأنّه لو حققْتَ النظر فيما أورده الماوردي ، لما وجدت مثلاً قرآنياً واحداً بالمعنى الذي يراد التعبير عنه بأنّه مثل كامن ، على أنّ الماوردي لم ينقل عن الحسين بن الفضل بأنّ متخيّره هذا مثل كامن ، ولاسمَّى الماوردي ذلك به ، وإنّما أورد رواية للمقارنة بما يمكن أن يعد أمثالاً من كلام العرب والعجم ، ووضع قائمة مختارة ازاءه من كتاب الله بما يبذّ كلامهم ويعلو على أمثالهم.

فالتسمية إذن اختارها السيوطي متابعاً فيها الزركشي. وطبّق عليها هذه

__________________

١ ـ الحج : ٤.

٢ ـ نوح : ٢٧.

٣ ـ التوبة : ٤٧.

٤ ـ مريم : ٧٥.

٥ ـ الأعراف : ١٦٣.

٦ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤٥ ـ ١٠٤٦.

٢٩

الأمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الأمثال ، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الأمثال ، لا يكفي لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة ، فالصيغة الموروثة ركن أساس في المثل ، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية ( أمثالاً كامنة ) محاولة لا تستند على دليل نصّي ولا تاريخي.(١)

تفسير آخر للمثل الكامن :

ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة « مثل » أو « كاف » التشبيه ، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسّد بما في التمثيل من الأمر المحسوس ، ومن هذا الباب قوله سبحانه :

١.( أَفَمَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَن أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ في نارِ جَهَنَّم وَاللهُ لا يَهْدي القَوم الظّالِمين ) .(٢)

إنّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واهٍ ساقط.(٣)

____________

١ ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : ١١٨ ، نقلاً عن كتاب « الأمثال في النثر العربي القديم ».

٢ ـ التوبة : ١٠٩.

٣ ـ مجمع البيان : ٣ ٧٣.

٣٠

٢.( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَروا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدخُلُونَ الجنَّةَ حتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِين ) .(١)

كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال ، بقولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يَبْيَضَّ القار ، إلى غير ذلك من الأمثال.

يقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

ولكنّه سبحانه مثّل لاستحالة دخول الكافر الجنّة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الاِبرة ، وقال : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.

ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.

٣.( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُون ) .(٢)

إنّ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد ، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر ، ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً ، فإن أنبتت فممّـا لا منفعة فيه ، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها ليّن يقبل الوعظ ومنها قاسٍ جافٍ لا يقبل الوعظ ، فليشكر الله تعالى من لانَ قلبه بذكره.(٣)

__________________

١ ـ الأعراف : ٤٠.

٢ ـ الأعراف : ٥٨.

٣ ـ مجمع البيان : ٢ / ٤٣٢.

٣١

وفي ذيل الآية( كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات ) إلمام إلى كونه تمثيلاً ، كما في الآية التالية.

٤. قال سبحانه :( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمراتِ وَأَصابَهُ الكِبَر وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعفاءُ فَأَصابَها إعصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ) .(١)

أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن ترون هذه الآية نزلت( أَيَوَدُّ أَحدكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخيل وَأَعْناب ) ؟

قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر ، وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، فقال : يابن أخي : قل ولا تحقِّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ ، قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني عمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.(٢)

وحصيلة البحث : إنّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، تارة يقترن بكلمة المثل ، وأخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن ، وثالثة بحرف كاف التشبيه ، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله :( وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يخْرجُ نَباتهُ بِإذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخرجُ إلا نَكِداً ) .(٣)

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٦.

٢ ـ صحيح البخاري : التفسير : تفسير سورة البقرة ، باب قوله :( أيودّ أحدكم ) رقم ٤٢٦٤.

٣ ـ الأعراف : ٥٨.

٣٢

التاسع : ما هو المراد من ضرب المثل ؟

قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « المَثَل » و « المِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه :( إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (١) وهو في المقام ، جمع المِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والاِمكان.

وقال سبحانه :( تِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون ) .(٢)

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ) .(٣) وقال سبحانه :( وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون ) .(٤)

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه :( أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الْحَجَر ) (٥) وقد ذكروا وجوهاً :

الأوّل : إنّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٤.

٢ ـ الحشر : ٢١.

٣ ـ إبراهيم : ٢٤.

٤ ـ الزمر : ٢٧.

٥ ـ الأعراف : ١٦٠.

٣٣

خيرة ابن منظور واستشهد بقوله :( واضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أَصحابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها الْمُرسَلُون ) (١) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال :( يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطِل ) (٢) أي يمثل الله الحقّ والباطل.(٣) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه :( وضَرَبَ الله مَثلاً عَبداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء ) .(٤)

واستشهد بقول الكميت :

وذلك ضرب أخماس أريدت

لأسداس عسى أن لا تكونا(٥)

الثالث : إنّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسي(٦) ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) ، والزمخشري ،(٧) والآلوسي ،(٨) ( المتوفّى عام ٠٧٢١ ) فقد فسّروا به قوله سبحانه :( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) .(٩)

الرابع : إن الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير ،

__________________

١ ـ يس : ١٣

٢ ـ الرعد : ١٧.

٣ ـ لسان العرب : ٢ / ٣٧ ، مادة ضرب.

٤ ـ النحل : ٧٥.

٥ ـ تفسير الطبري : ١ / ١٧٥.

٦ ـ التبيان في تفسير القرآن : ٧ / ٣٠٢.

٧ ـ الكشّاف : ٢ / ٥٥٣.

٨ ـ روح المعاني : ١ / ٢٠٦.

٩ ـ الحج : ٧٣.

٣٤

وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الأرض إذا صار فيها ، ومنه سُمِّيَ الضارب مضارباً.(١)

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :

ضرب الله سبحانه لعباده ، الأمثال ، وضرب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لاَُمّته الأمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدّبون الأمثال ، فما معنى ضرب المثل ؟

قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الأرض ) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه.(٢)

وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدلّ عليه خواطرهم كما تستدلّ عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.

وقوله تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطل ) (٣) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( ٣٥٩ ـ ٤٠٦ هـ ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » :

__________________

١ ـ الحكم والأمثال : ٧٩.

٢ ـ انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.

٣ ـ الرعد : ١٧.

٣٥

وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه ، فيكون مشتقّاً من ضرب اللّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء.(١)

ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لإيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :

١. ضرَب في الأرض بمعنى : سار.

٢. ضربه : نصبه للناس وأشهره.

٣. ضرب : صنع وأنشأ.

٤. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء.(٢)

وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه :( ...وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) .(٣)

نرى أنّ المشركين وصفوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول :( انظر ـ أيّها النبي ـكيف ضربوا لك الأمثال ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلو من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وإنّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

__________________

١ ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن : ١٠٧.

٢ ـ الأمثال في القرآن الكريم : ٢٠ ـ ٢١.

٣ ـ الفرقان : ٨ ـ ٩.

٣٦

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدّم أنّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : أن انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لأنّ وصف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض ، لأنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الأرض ».

العاشر : الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة

لا شكّ أنّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها ، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي ، وكلامهما عن كلام البدوي ، وما ذاك إلاّ لأنّ البيئة تُعدّ أحد الأضلاع الثلاثة التي تُكوّن شخصية الإنسان ، ومن هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الاِسلامي ، والشعر في العصر الأموي عن الشعر في العصر العباسي ، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الاَدبي ، ولكن القرآن بما أنّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة ، لأنّ الله سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشيء سواه.

ومع ذلك كلّه نزلت الأمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لأجلها ، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية ، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.

أمّا الأمثال المكية ، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها

٣٧

المجتمع المكى لا سيما وانّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان بالله وحده ، وترك عبادة غيره ، والإيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح.

يقول سبحانه :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون ) .(١)

فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.

كما أنّه سبحانه في آية أخرى شبّه آلهتهم بالذباب ، وقال :( يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب ) .(٢)

فقد كانت قريش تعبد ٣٦٠ إلهاً يطلونها بالزعفران فيجفّ ، فيأتى الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد ، قال سبحانه :( ضعف الطالب والمطلوب ) أي الذباب والمدعوّ.

فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة.ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك ، بأن يجتمعوا

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤١.

٢ ـ الحج : ٧٣.

٣٨

فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت.(١)

هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للاَوثان والأصنام ، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والاِعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة ، قال سبحانه :( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرض مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأنْعامُ حَتّى إذا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وَ ازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون ) .(٢)

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الأمثال التي نزلت في مكة.

وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة ، فقد نجد فيها الطابع المدني لأجل انّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الأخروية ، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الأدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها.

فقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بغية الاِطاحة بالحكومة الإسلامية الفتيّة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين وبيّنت خطورة موقفهم على الإسلام والمسلمين ، فتارة يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأخرى بالمطر ، يقول سبحانه :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ

__________________

١ ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : ٩٩ ، نقلاً عن كتاب « القرآن وقضايا الإنسان » لبنت الشاطئ.

٢ ـ يونس : ٢٤.

٣٩

ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون * صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون * أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحيطٌ بِالكافِرين ) .(١)

كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاث من اليهود وهم : بنو قينُقاع ، وبنو النضير ، وبنو قُريظة ؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في توراتهم ، ويمرّون عليها مرار الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة ، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاًً ، يقول سبحانه :( مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالِمين ) .(٢)

وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم ، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة الله ، أو ينفقونها بالمنّ والأذى ، فنزل الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل الله ، والمنفق بالمنِّ والأذى أو رئاء الناس ، قال سبحانه :( مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليم ) .(٣)

وقال سبحانه :( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَليه

__________________

١ ـ البقرة : ١٧ ـ ١٩.

٢ ـ الجمعة : ٥.

٣ ـ البقرة : ٢٦١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182