• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21415 / تحميل: 9366
الحجم الحجم الحجم
الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.

في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلّا حادثة واحدة فقط، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.

ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان :

نشأة باسم الباطن.

وأُخرى باسم الظاهر.

وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان :

مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.

ومرحلة الوجود التدريجي.

بل ليس للظاهرة ـ في الحقيقة ـ تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد، وتحقّق واحد، يرى تارة في صورة المجتمع، وأُخرى في صورة المتفرّق.

وأمّا الاختلاف ـ لو كان ـ فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.

٢. انّ حضور الحوادث والظواهر عند الله دليل على علم الله بها جميعاً، لأنّ حقيقة العلم ليست إلّا حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من

١٠١

فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.

ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم الله بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه.

وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ الله أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى الله ـ كما تفيده هذه النظرية ـ يلزم علم الله بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات بالله تعالى، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار.

فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند الله كما يستلزم علمه بها، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات بالله.

ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء بالله وإحاطته سبحانه بذلك الشيء، ومثل هذا الملاك موجود في جانب الله حيث إنّه قيوم [ تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات، لأنّها محاطة وقائمة بالله ( أي ليست محيطة بالله ولا أنّ الله سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى ).

٣. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير.

نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية، لكنَّه ليس البعد المنحصر والوحيد.

هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله:( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم

١٠٢

مع هذا التفسير.

النظرية الرابعة

وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه:(١)

إنّ الله تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله: بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة:( إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ الله تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة، من البشر، وهم العقلاء الكاملون، لا من جميع البشر.

وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى البشرية في هذه الدنيا.

وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه:( مِن بَنِي آدَمَ ) تبعيضية لا بيانية، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء.

ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول:( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (٢) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،

__________________

(١) الأمالي: ١ / ٢٩.

(٢) المؤمنون: ٨٦ ـ ٨٧.

١٠٣

وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي.

ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا ـ دون سواهم ـ بتوحيده سبحانه.

ولو كان مقصود الآية هو هذا، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية.

ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها.

فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل، بتوحيده سبحانه، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان.

هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون ـ في المستقبل ـ من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها.

* * *

ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها.

فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب‍ « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (٣٧) حديثاً(١) .

__________________

(١) البرهان: ٢ / ٤٦ ـ ٥١.

١٠٤

وكذا نقل نور الثقلين ـ وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان ـ أيضاً (٢٧) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية(١) .

ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى، فلا يمكن الاستدلال بها ـ جميعاً ـ على ذلك لوجوه :

أوّلاً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني، مثل الأحاديث: ٦ و ٧ و ٢٠ و ٢٢ و ٣٥.

وإليك نص هذه الأحاديث :

أمّا الأحاديث ٦ و ٢٢ و ٣٥ وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر، فهي :

عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقالعليه‌السلام :

« جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».

ففي هذه الأحاديث ـ كما نلاحظ ـ ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام: « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.

أما الحديث ٧ فقد روي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله ( الصادق )عليه‌السلام عن قول الله( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟

__________________

(١) نور الثقلين: ٢ / ٩٢ ـ ١٠٢.

١٠٥

قال :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: ألست بربكم، وفيه المؤمن والكافر ».

وهذا الحديث كما هو واضح يفسّر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.

وفي الحديث ٢٠ جاء عن المفضل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام في حديث طويل قال فيه :

« قال الله عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم ؟ قالوا: بلى، كان أوّل من قال بلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ».

وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها.

ثانياً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث ٢٠.

أمّا ما يدل من تلك الأحاديث ( المنقولة في تفسير البرهان ) على النظرية الأُولى فهي ٣، ٤، ٨، ١١، ١٤، ١٧، ١٨، ٢٧، ٢٩.

وعددها كما هو الظاهر (٩) أحاديث، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز ٥ أحاديث لا أكثر، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،

١٠٦

ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات، وأمّا نقل رواية زرارة ( التي هي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة ) في خمس صور، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة »، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث.

وعلى هذا فإنّ الأحاديث ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩ التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير.

وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من ٩ إلى ٥.

يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي مبهمة نوعاً ما، وليست صريحة في المقصود.

وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه الله من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية ٨١ ـ آل عمران:( وإذ أخَذَ الله ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم ١٢.

وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩.

وإليك نصها بالترتيب :

عن ابن أبي عمير، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقرعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) فقال، وأبوه

١٠٧

يسمع :

« حدثني أبي أنّ الله عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث.

وعن ابن أُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ».

ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف.

أمّا الروايات الأربع الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي بالترتيب :

عن حمران عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال :

« فقال الله لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة ولا أبالي، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم ؟ قال: ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا » الخ.

وعن ابن مسكان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قلت: معاينة كان هذا ؟ قال :

« نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».

١٠٨

وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخذ الله من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر، فعرفهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه، وقال: ألست بربكم، قالوا: بلى ».

وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال :

« قول الله عزّ وجلّ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) أخبرك أنّ الله سبحانه لـمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ».

هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى.

وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها :

فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ».

وغير ذلك كثير(١) .

__________________

(١) راجع الدر المنثور: ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

١٠٩

ثالثاً: لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون: معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ هذا القسم من الأحاديث ( التي نقلناها عن البرهان ) يخالف ظاهر القرآن، ولذلك ينبغي التسليم أمامها، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.

١١٠

الفصل الثالث

الله وبراهين وجوده في القرآن

١١١

الله وبراهين وجوده في القرآن

١. كثرة البراهين على وجود الله تعالى.

٢. دليل الفطرة.

٣. برهان الحدوث.

٤. برهان الإمكان.

٥. برهان الحركة.

٦. برهان النظم.

٧. برهان محاسبة الاحتمالات.

٨. برهان التوازن والضبط.

٩. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.

١٠. برهان الصدّيقين.

١١. براهين أُخرى.

١١٢

كثرة البراهين على وجود الله تعالى

من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :

« الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ».

فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود الله جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.

وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية إذ كيف يمكن ـ في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد ـ.

كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود الله بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!

ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود الله، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه، بل هو عين الحقيقة.

لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها ـ هنا ـ من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود الله، وطريقاً إلى إثباته.

ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلّا الله تعالى.

وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :

١١٣

١. دليل الفطرة

دليل الفطرة ـ كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل ـ طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.

فكل فرد ينجذب إلى الله ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية، سواء في فترة من حياته، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.

وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود الله، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

٢. برهان الحدوث

برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.

وملخّصه: أنّ لهذا الكون بداية، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم ( أي كان حادثاً )، فإنّ له محدثاً بالضرورة، لامتناع وجود الحادث دون محدث.

ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون ـ في الأغلب ـ على حدوث العالم لإثبات الصانع، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول، والأفهام.

٣. برهان الإمكان

يتوسّل الفلاسفة المسلمون ـ في الغالب ـ لإثبات وجود الله بتقسيم الأشياء إلى :

واجب

١١٤

وممكن

وممتنع

وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :

إمّا أن يقتضي الوجود لذاته، أي ينبع الوجود من ذاته، فهو « واجب الوجود ».

وإمّا يقتضي العدم لذاته، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه، فهو « ممتنع الوجود ».

وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء ( أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته ) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين، أعني: العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب‍ « ممكن الوجود ».

وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات، أو بالعكس.

وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.

١١٥

وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».

وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل ـ في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء ـ معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.

ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً(١) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو الله العالم، القادر، القيوم القائم بذاته القائم به ما سواه.

وهذا هو دليل الإمكان.

٤. برهان الحركة

كان روّاد العلوم الطبيعية ـ في السابق ـ كأرسطوا وأتباعه، يستدلّون ب‍ « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك، وبذلك يثبتون وجود الله.

فكانوا يقولون ما خلاصته: إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة: « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».

__________________

(١) سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

١١٦

٥. برهان النظم

لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين(١) من البشر إلى الله، إذ لم يكن من المعقول ـ أبداً ـ أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا، وتدبير مدبّر حكيم.

والآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار الله تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».

فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة، أو ذرة من ذرات العالم، دليلاً على حكمة الله تعالى وبرهاناً على إرادته، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».

إذ الوجود مقدّم على الصفات، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.

وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

٦. برهان محاسبة الاحتمالات

وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلّا بلورة وإيضاح هذا البرهان ـ أساساً ـ.

__________________

(١) هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم، فهو عندما يذكر آثار قدرة الله وحكمته وعلمه تعالى يعقب كلامه بهذه العبارات:( أُولُو الأَلْبَابِ ) و( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و( لقوم يتذكّرون ) .

١١٧

وإليك ملخّص هذا البرهان :

يقول: لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلّا نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.

فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :

كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟

وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.

إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلّا أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.

وبعبارة أُخرى: انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة، ولا يمكن لعاقل أن يفسّر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.

وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :

« إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد

١١٨

الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف ـ كما ينبغي لنا ـ بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة »(١) .

٧. برهان التوازن والضبط

وهذا البرهان من فروع برهان النظم، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.

ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :

يتبيّن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلّا الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود، وهكذا لو لم يكن إلّا النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.

__________________

(١) العلم يدعو للإيمان: ١٩٥ ـ ١٩٦.

١١٩

وذلك لأنّ النباتات ـ على وجه العموم ـ تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.

فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمّتها التنفس، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.

وبهذا يبدو ـ جلياً ـ أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.

فلو كانت في الأرض: « النباتات » فقط لنفذ الكربون ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولو لم يكن في الأرض إلّا « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

٨. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات

يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها، واستمرار حياتها، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب « الوحي ».

ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وكان الوليد وليا للعهد أثناء خلافة هشام.

وكان مكرما عنده « حتى طمع هشام في خلعه وعقد العهد لابنه مسلمة فولاه الحج ليظهر فسقه بالحرمين فيسقط. فحج الوليد وظهر منه فعل كثير مذموم. وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس

فدعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة ، وكان يكنى أبا شاكر ـ.

وكتب هشام إلى الوليد : إنك ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاش ولا مستتر. فليت شعري ما دينك؟ فكتب إليه الوليد ـ معرضا بابنه مسلمة ـ

أيهــا السائل عـن ديننــا

نحــن على دين أبي شاكر

نشر بها صرفا وممزوجــة

بالسخن أحيانا وبالفاتر(١)

ومن طريف ما يرويه(٢) الطبري عن الوليد أثناء توليته الحج ـ كما ذكرنا ـ انه عندما ولاه هشام الحج في عام ١١٩ هـ حمل « معه كلابا في صناديق. فسقط منها صندوق ـ فيما يذكر علي بن محمد عمن سميت من شيوخه ـ عن البعير وفيه كلب

وحمل الوليد معه قبة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة. وحمل معه خمراً. وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها. فخوفه أصحابه وقالوا لا نأمن الناس علينا معك. فلم يحركها. »

_________________

١ ـ فغضب هشام على ابنه مسلمة. فأغرى مسلمة شاعرا يمدحه فقال :

أيها السائــل عن ديننا

نحن على دين أبي شاكر

الواهب البـزل بارسانها

ليس بزنديـق ولا كافر

٢ ـ تاريخ الامم والملوك | ٧ | ٢٨٩.

١٤١

ومن أقذر ما يؤثر عن الوليد أنه عندما سمع بنعي هشام ـ على ما يذكر ابن شبة(١) ـ قال « والله لا تلقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر وأنشا يقول :

طاب يومي ولذ شرب السلافـة

إذ أتاني نعـي من بالرصافـة

وأتانا البريد ينعـى هشـامــا

واتانــا بـخــاتـم للخلافة

فاصطحبنا من خمر عانة صرفا

ولهونــا بقيـنـه عزافــة

واقذر من ذلك أنه قال ـ حين سمع صياحا « فسأل عنه فقيل له هذا من دار هشام يبكيه بناته » :

إنــي سمعت بليــل

ـ وراء المصلى ـ برنه

إذ بـنــات هشــام

يندبــن والدهـنــه

بندبــن قرمــا جليلا

قــد كــان يعضدهنه

أنــا المخنـث حقــا

إن لــم أنـيـكـهنـه

ومن مجونه أيضا ـ على شرابه ـ قوله لساقيه :

أسقني يا يزيد بالقرقاره

قد طربنا وحنت الزماره

أسقني أسقني فان ذنوبي

قد أحاطت فما لها كفاره

والخلاصة : فان الوليد ـ في معرض الغرام والتبذل ـ كان كما وصفه ابن عبد ربه(١) عاكفا « على البطالة وحب القيان والملاهي ، والشراب ومعاشقة النساء.

فتعاشق سعدى ابنة سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فتزوجها.

__________________

١ ـ الاغاني | ٦ | ١٠٥ ـ ١٠٦.

٢ ـ العقد الفريد ٤ | ١٨١.

١٤٢

ثم تعاشق أختها سلمي. فطلق أختها سعدي وتزوج سلمي. فرجعت سعدي إلى المدينة فتزوجت بشر بن الولدي بن عبد الملك.

ثم ندم الوليد على فراقها. وكلف بحبها. فدخل عليه أشعب المضحك. فقال له الوليد :

هل لك على أن بتلغ سعدي مني رسالة ولك عشرون ألف درهم؟ قال هاتها. فدعها إليه. فقبضها وقال ما رسالتك؟ قال : إذا قدمت المدينة فأستأذن على سعدي وقل لها يقول لك الوليد :

أسعـدي ما إليك من سبيل

ولا حتى القيامة من تلاق

بل ولعل دهراً أن يؤاتـى

بموت خليـك أو فـراق

فأتاها أشعب فقال يا سيدتي : أرسلني إليك الوليد برسالة. قالت : هاتها فأنشدها البيتين.

فقالت : ما جرأك على مثل هذه الرسالة !! قال : إنها بعشرين ألفا معجلة مقبوضة. قالت : والله لاجلدنك أو لتبلغنه كما بلغتني !! قال فأجعلي لي جعلا. قالت : بساطي هذا.

قال فقومي عنه. فقامت. فطواه وضمه ، ثم قال هاتي رسالتك فقالت قل له :

أتبكي على سعدي ! وأنت تركتها

فقد ذهبت سعدي فما أنت صانع؟

فلما بلغه الرسالة ـ هدده بالقتل ـ

فقال أشعب : يا سيدي ما كنت لتعذب عينين نظرتا إلى سعدي. فضحك وخلى سبيله. »(١)

__________________

١ ـ ابن عبد ربه العقد الفريد ٣ | ١٨٤.

١٤٣

أما ـ في معرض الشراب ـ فالوليد كان ـ بالاضافة إلى ذكرناه ـ كما وصفه علي بن عباس(١) حين قال :

« إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتى بابن شراعة من الكوفة. فو الله ما سأله عن نفسه ولا عن مسيره حتى قال له :

يا ابن شراعة أنا والله ما ابعث اليك لاسألك عن كتاب الله وسنة رسوله. قال : لو سألتني عنهما لوجدتني حمارا !! قال : إنما أرسلت إليك لا أسألك عن القهوة.

قال : دهقانها الخبير ولقمانها الحكيم وطبيبها العليم قال :

خبرني عن الشراب !! قال : يسال امير المؤمنين عما بدا له. قال :

ماتقول في الماء؟ قال لا بد لي منه. والحمار شريكي فيه. قال : ما تقول في اللبن؟ قال ما رأيت قط إلا استحييت من أمي لطول ما أرضعتني به.

قال ما تقول في السويق قال : شراب الحزين والمستعجل والمريض. قال:

فنبيذ التمر؟ قال سريع الإمتلاء سريع الانفشاش. قال فنبيذ الزبيب؟ قال : حاموا به على الشراب. قال ما تقول في الخمر؟ قال اواه تلك صديقة روحي.

قال : وأنت ـ والله ـ صديق روحي(٢) . »

__________________

١ ـ ويروي أن الوليد قال : ـ في سلمى ـ قبل تزويجه بها ـ.

لعل الله يجمعنــي بسلمى

اليس الله يفعل ما يشــاء !!

ويأتي بي ويطرحني عليها

فيوقظنـي وقد قضى القضاء

ويرسل ديمـة من بعد هذا

فتفسلنـا وليس بنا عنــاء

٢ ـ « أمير المؤمنين » يستفسر عن مراتب الشراب وأوصافه ، وليس له حاجة ـ باعترافه ـ أن يستفسر عن الكتاب او السنة. يفعل ذلك على مرأى ومسمع من المسلمين.

١٤٤

وأما سبب قتله فقد رواه اسحق بن محمد الازرق حين قال : ـ على ما يروي ابن عبد ربه(١) دخلت على منصور بن جهور الازدي ـ بعد قتل الوليد ابن يزيد ـ وعنده جاريتان من جواري الوليد. فقال لي : اسمع من هاتين الجاريتين ما يقولان. قالتا قد حدثناك !! قال حدثاه كما حدثتماني.

قالت إحداهما : كنا أعز جواريه عنده. فنكح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة. فأخرجها ـ وهي سكرى جنبة ـ متلثمة فصلت بالناس. »

ولا ندري فيما إذا كان من المستطاع ان يبلغ الاستهتار بالدين وبالاخلاق عند « خليفة المسلمين » حدا يتعدى ما وصل إليه عند الوليد !!

ترى لماذا استهتر الامويون بالاسلام إلى هذا الحد؟

تارة بالخروج على تعاليمه ، وأخرى بقتل الداعين إلى إتباعه.

وطورا عن طريق هدم الكعبة واستباحة المدينة الخ !!!

أهو من باب التشفي من قتلاهم في عهد الرسول؟

ذلك ما نجنح إلى قبوله والتسليم بوجاهته.

روى ابو خليفة ـ الفضل بن الحباب الجمحي القاضي ـ عن محمد بن سلام الجمحي « قال : حدثني رجل من شيوخ أهل الشام عن ابيه. قال :

كنت سميرا للوليد بن يزيد فرأيت ابن عائشة القرشي عنده وقد قال له :

إني رأيت صبيحة النحــر

حورا تفين عزيمة الصبر

مثل الكـواكـب في مطالعها

عنـد العشاء أطفن بالبدر

وخرجت أبغي الاجر محتسبا

فرجعت موقورا من الوزر

__________________

١ ـ العقد الفريد ٣ | ١٦١.

١٤٥

فقال الوليد أحسنت والله أعد بحق عبد شمس. فأعاد.

فقال : أحسنت والله أعد بحق أمية فأعاد.

فجعل يتخطى من أب إلى أب ويأمره بالاعادة حتى بلغ نفسه.

فقال أعد بحياتي. فأعاد. فقام إلى ابن عائشة فأكب عليه. ولم يبق عضوا من أعضائه إلا قبله. وأهوى إلى أيره.

فجعل ابن عائشة يضم دكره بين فخذيه. فقال الوليد ـ والله ـ لا زلت حتى أقبله. فقبل رأسه.

وقال : واطرباه !! واطرباه !!

نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة وبقى مجرداً إلى أن اتوه بثياب غيرها.

ودعا بألف دينار فدفعت إليه. وحمله على بغلة وقال أركبها على بساطي وانصرف فقد تركتني على أحر من جمر الغضى

قد كان ابن عائشة غنى بهذا الشعر يزيد بن عبد الملك ـ أباه ـ فاطربه وقيل : إنه ألحد وكفر في طربه

وذكر محمد بن يزيد المبرد أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته من ربه ومن ذلك الشعر :

تلعب بالخلافـة هاشمــي

بلا وحي أتاه ولا كتاب(١) »

__________________

١ ـ المسعودي ، مروج الذهب ٣ | ١٤٩. ومما يحكي ان الوليد استفتح فالا في المصحف فخرج : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد. فألقى المصحف ورماه بالسهام وأنشد :

تهددني بجبــار عنيـد

وهـا أنا ذاك جبار عنيد

إذا ماجئت ربك يوم حشر

فقـل يا رب مزقني الوليد

١٤٦

٣ ـ الزنى

من الموبقات التي كانت منتشرة بكثرة ، بين العرب في جاهليتهم. وقد حاربه الاسلام محاربة لا هوادة فيها ولا شفقة.

وقد مر بنا ذكر بعض الايات التي ورد فيها موقف الاسلام والصارم من هذا التصرف الفاسد. ولسنا في معرض التدليل على أخطار الزنى ومضاره ، القريبة والبعيدة ، المباشرة وغير المباشرة ، في الفرد وفي المجتمع الذي ينتمي إليه.

ويكفي التدليل على ذلك : أن نتذكر أن الاسلام قرن الزنى بقتل النفس التي حرم الله ، فحرمه ومنعه ووضع عقوبة صارمة على من يتعاطاه.

إستمع إلى ما جاء في سورة الانعام :

«قل تعالوا أتل عليكم ما حرم ربكم

ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن

«ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وجاء في سورة الاعراف :

«قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،والإثم والبغي بغير الحق » وفي سورة بني اسرائيل :

«ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا . »

وقرنه القرآن ـ في موضع آخر ـ مع الشرك « وهو أكبر الموبقات بنظر

١٤٧

الاسلام » فقال في سورة الفرقان : «والذين لا يدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون .

ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا ».

وبقدر ما يتعلق الامر بشيوع موبقة الزنى عند الامويين فإن بامكان الباحث ان يعثر على تأصله ـ في هذه الاسرة العربية الكريمة ـ منذ عهد الجاهلية ، عند رؤوس الاسرة من الرجال والنساء.

فقد مر بنا وصف ما صنعه امية بن عبد شمس « وجد معاوية بن أبي سفيان » في الجاهلية عندما زوج إبنه عمرا إحدة نسائه في حياته فولدت ابا معيط.

وقد ورث أبو سفيان عن جده هذه الخصلة الجاهلية.

وحوادث زناه معروفة لدى الكثيرين ، نذكر منها ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ علاقاته الجنسية بالنابغة والدة عمرو بن العاص ، وبسمية ام زياد.

« فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب « ربيع الابرار » فقال :

كانت النابغة ـ ام عمرو ـ أمة لرجل من عنزة. فسبيت.

فأشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة. فكانت بغيا. ثم أعتقها.

فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة.

وأبو سفيان والعاص بن وائل السهمي فولدت عمروا ». فأدعاه كل منهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص. فقال أبو سفيان :

اما أني لا اشك أني وضعته في رحم أمه. فأبت الا العاص.

فقيل لها : ابو سفيان أشرف نسبا. فقالت :

١٤٨

إن العاص كثير النفقة عليّ

وفي ذالك يقول حسان بن ثابت لعمرو :

ابوك ابو سفيان لا شـك قد بـدت

لنـا فيك منـه بينات الدلائــل

ففاخـر به أما فخـرت ولا تكـن

تفاخر بالعاص الهجيـن بن وائل

وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت

فقالت رجــاء عنـد ذاك لنائل

من العاص عمرو تخبر الناس كلما

تجمعت الاقوام عند المحافل(١)

وأما علاقات أبي سفيان بسمية فاشهر من أن تذكر.

فقد ذكر ابو مريم السلولي أنه جمع بين أبي سفيان وسمية على زنى.

« وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة إلى الحرث ابن كلدة.

وكانت تنزل في الموضع الذي ينزل فيه البغايا بالطائف ـ وخارجا عن الحضر ـ في محلة يقال لها حارة البغايا(٢) . » وإلى هذا المعنى يشير يزبد بن مفرع الحميري في هجائه معاوية(٣) :

__________________

١ ـ ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة ٢ | ١٠٠ ـ ١٠١ الطبعة الاولى بمصر.

٢ ـ المسعودي ، « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ، | ٢ | ٣١٠ ـ ٣١٢.

٣ ـ ابن الاثير « الكامل في التاريخ » ٣ | ٢٥٧. ومن طريف ما يروى عن ابن مفرغ هذا أنه كان مع عباد بن زياد بن سمية بسجستان فانشغل عنه بحرب الترك فاستبطاه ابن مفرغ ، وأصاب الجند الذي مع عباد ضيق في علوفات دوابهم. فقال ابن مفرغ :

ألا ليت اللحى كانت حشيشا

فنعلفـهـا دواب المسلمينـا

وكان عباد عظيم اللحية فقيل له ما أراد غيرك. فطلبه فهرب وهجاء :

إذا أودى معاوية بن حرب

فبشر شعب رحلك بالصداع

وأشهد أن أمك لم تباشــر

أبا سفيــان واضعة القناع

ولكن كان أمرا فيــه لبس

على وجــل شديد وارتياع

١٤٩

ألا ابلغ معاوية بن حـرب

مغلغلة مـن الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال ابوك زان

فأشهـد أن رحمك من زياد

كرحـم الفيل من ولد الإتان

أما أخبار الزنى عند الامويين بعد ذلك وبخاصة عند يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد فمشهورة.

وقد ذكرنا طرفا منها عند البحث في الخمر.

ذلك ما يتعلق بالزنى عند رجال الامويين.

أما ما يتصل بالزنى عند نسائهم فيكفي أن نذكر حمامة ام ابي سفيان ـ جدة معاوية ـ التي كانت بغيا في الجاهلية وكانت صاحبة راية ، وهند ـ أم معاوية.

والزرقاء : جدة مروان بن الحكم لأبيه. فقد كانت هند ـ على ما يذكر الرواة ـ تذكر في مكة بعهر وفجور.

ذكر الزمخشري(١) أن معاوية كان مشكوكا في أبيه. فكان يعزي إلى أربعة:

الى مسافر بن أبي عمرو.

وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة.

وإلى العباس بن عبد المطلب.

والى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد بن المغيرة.

وكان الصباح عسيفا ـ أجيرا ـ لأبي سفيان ، شابا وسيما. فدعته هند إلى نفسها فغشيها.

وكان ابو سفيان دميما قصيراً.

__________________

١ ـ ابن ابي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ١ | ١١٠ ـ ١١٣ الطبعة الاولى.

١٥٠

وقيل : إن عتبة بن ابي سفيان من الصباح أيضا.

وقيل أنها كرهت ان تدعه في منزلها فخرجت إلى اجياد فوضعته هناك.

وفي هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة الرسول قبل عام الفتح :

لمن الصبي بجانب البطحـاء

فـي الترب ملقى غير ذي نهد

نجلــت بــه بيضاء آنسة

عن عبد شمس صلبة الخد. »

ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد ان ابن حجر العسقلاني(١) قد ذكر « إن معاوية كان طويلا أبيض. »

وقد ذكرنا ان ابا سفيان على ما يصفه المؤرخون كان دميما قصيرا.

وان الصباح ـ مغني عمارة بن الوليد بن المغيرة كان وسيما.

فهل توجد علاقات ـ فسلجية ـ موروثة بين الصباح ومعاوية؟

وإذا كان الامر كذلك فإن العلم الحديث يلقي بعض الضوء على ما ذهب اليه المؤرخون في هذا الباب.

وهناك روايات أخرى تتصل بعهر السيدة هند نذكر منها ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى حين قال :

إن السيدة « هند كانت تحت الفاكة بن المغيرة المخزومي ، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكة وهند. ثم قام الفاكة وترك هند في البيت ـ لأمر عرض له. ثم عاد إلى البيت فاذا رجل خرج

فأقبل الفاكه إلى هند فركلها برجله وقال : من الذي كان عندك؟ فقالت :

__________________

١ ـ الاصابة في تمميز الصحابة ٣ | ٤١٢.

١٥١

لم يكن عندي أحد ، وإنما كنت نائمة. فقال : ألحقي بأهلك.

فقامت من فورها الى اهلها وتكلم في ذلك الناس(١) .

وأما الزرقاء ـ جدة مروان بن الحكم لأبيه ـ فهي بنت وهب.

وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء(٢) .

وكان يقال لأولاد عبد الملك بن مروان : « أولاد الزرقاء » في معرض الذم.

٤ ـ الغدر

وهو : صفة ممزوجة دينياً وإجتماعياً. ويتضمن الغدر ، في كثير من الاحيان جبن الشخص الذي يستعين به للإيقاع بخصومه ومناوئيه.

وللغدر آثار خلقية سيئة ، وله إضرار مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، فردية وإجتماعية من الناحيتين المباشرة وغير المباشرة.

وقد حرم الاسلام الغدر ونهى عنه. استمع إلى الآيتين التاليتين : سورة البقرة :

«والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض اولئك هم الخاسرون . » وجاء في سورة الرعد :

والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار . »

لقد برزت ظاهرة الغدر في الاسرة الاموية بين النساء والرجال على السواء ،

__________________

١ ـ ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » ١ | ٣١٣ الطبعة الاولى.

٢ ـ ابن الاثير ، « الكامل في التاريخ » ٢ | ٣. تلك جدة عبد الملك ومواقف جده وأبيه من النبي معروفة. أما جده لأمه فهو ـ أبو عائشة ـ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الذي جدع أنف حمزة في أحد ومثل به. راجع المقريزي ، النزاع والتخاصم ص ٢٠.

١٥٢

ضد بعضهم بعضا أحيانا ، وضد غير الامويين أحيانا حسبما تستلزم الظروف السياسية القائمة.

غير ان الامويين ـ مع هذا لا يبعدون عن عصبيتهم الاموية في هذا الباب ، ومن الممكن أن تفسر خصوماتهم الداخلية بأنها ناتجة عن إختلافهم في أساليب تثبيت تلك العصبية. ومهما يكن من شيء فإن ظروف الحاكم الاموي القائم إذا استلزمت الغدر بأموي آخر ـ أو البطش به ـ فإنه يتراجع به إنتهاء مهمته تلك فيرعى ذوي الاموي المغضوب عليه.

وفي التاريخ الاموي من ذلك شيء كثير : من ذلك مثلا موقف عبد الملك بن مروان من يحى وعنبسه ـ ابني سعيد ـ بعد أن قتل أخاهما عمرو بن سعيد الاشدق.

فقد أمر عبد الملك بقتل يحى « فقام إليه أخوه عبد العزيز فقال : جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين اترك قاتلا بني أمية في يوم واحد. !! فأمر عبد الملك بيحى فحبس. ثم أتى بعنبسة بن سعيد. فأمر به أن يقتل. فقام إليه عبد العزيز فقال : أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها !! فأمر بعنبسة فحبس(١) »

فقد اعتبر عبد العزيز قتل يحى قتلا للامويين فناشد أخاه ان يصفح عنه ففعل. وتظهر تلك العصبية كذلك في موقف عبد الملك بن مروان من أولاد عمرو ابن سعيد الاشدق. فقد وفد هؤلاء عليه ـ بعد مقتل أبيهم ـ ، فرق لهم رقة شديدة وقال : إن اباكم خبرني بين أن يقتلني أو أقتله ، وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأرعاني لحقكم !! فأحسن جائزتهم ووصلوهم وقربهم(١)

__________________

١ ـ الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ | ١٧٨.

٢ ـ تاريخ الامم والملوك ٧ | ١٨٠.

١٥٣

لقد مر بنا القول بأن صفة الغدر كانت متفشية بين الامويين من النساء والرجال على السواء وبقدر ما يتعلق الامر ، بالغدر عند النساء الامويات يمكننا ان نقول :

لقد غدرت ام خالد ـ ابنة ابي هشام ـ ارملة يزيد بن معاوية بزوجها مروان بن الحكم فخنقته بالوسادة حتى قتلته. وتفصيل ذلك على ما رواه الطبري(١) :

إن معاوية بن يزيد « عندما حضرته الوفاة أبى أن يستخلف أحداً. وكان حسان بن مالك بن بجدل ـ خال يزيد بن معاوية ـ يريد أن يجعل الامر بعد معاوية بن يزيد ، لأخيه : خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

وكان خالد صغيرا. فبايع لمروان بن الحكم على ان يجعل الامر من بعده لخالد. فلما بايع لمروان وبايعه اهل الشام قيل لمروان تزوج ام خالد حتى تصغر شأنه فلا يطلب الخلافة. فتزوجها. فدخل خالد يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة.

فقال مروان لخالد تعال يا ابن الرطبة الاست ـ يقصر به ليسقطه من أعين اهل الشام ـ فرجع الخالد إلى أمه فأخبرها. فقالت له : أنا اكفيكه

ثم أن مروان نام عندها فغطته بالوسادة حتى قتلته. » ويحدثنا الطبري كذلك(٢) عن منشأ العداوة بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الاشدق ـ الذي سنذكره عند التحدث عن الغدر عند الامويين من الرجال ، فيغزو. إلى حقد قديم منطو على الغدر الذي اتصفت به ام مروان بن الحكم.

__________________

١ ـ تاريخ الامم والملوك ٧ | ٨٣ ـ ٨٤.

٢ ـ المصدر نفسه : ٧ | ١٨٠.

١٥٤

وتفصيل ذلك : أن عمرو ابن سعيد وأخاه ، وعبد الملك ومعاوية ابني مروان يأتون ـ وهم غلمان ـ إلى « ام مروان بن الحكم الكنانية. فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود. وكانت أم مروان ـ إذا أتوها ـ هيأت لهم طعاما ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحيفة على حدة.

وكانت لا تزال تورش بين معاوية ومروان ومحمد بن سعيد ، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد فيقتتلون ويتصارمون الحبل لا يكلم بعضهم بعضا.

وكانت تقول : إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين.

فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم ».

أما الغدر عند رجال بني أمية فهو أبين منه عند نسائهم وذلك لطبيعة الاوضاع العامة التي تميز بين الجنسين. ويتجلى الغدر ـ بين الامويين ـ بأوضح أشكاله عند معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.

ويلوح لي أن الغدر كان صفة ملازمة للحكام الامويين فإذا صادف أن اختفى الغدر في عهد أحدهم فإن مرد ذلك يعود إما إلى عدم تسجيل المؤرخين لذلك « الأسباب شتى مقصودة أو غير مقصودة » او إلى أن ذلك الحاكم لم ير حاجة إلى الاستعانة به لتوافر أساليب ملتوية أخرى ـ من نوعه من حيث الاساس ـ وبقدر ما يتعلق الامر بالحكام الامويين : الذين ذكرنا أسماءهم فإن قصص الغدر عند معاوية مشهورة في كتب التاريخ.

فقد غدر بالاشتر كما هو معروف ودس له من يسمه وهو في القلزم في طريقه إلى مصر واليا من قبل علي بن أبي طالب.

١٥٥

فلما بلغ معاوية نجاح غدره إلتفت إلى زميله عمرو بن العاص وقال مبتسما :

إن لله جنودا من عسل.

وغدره بالحسن بن علي وبعبد الرحمن بن خالد بن الوليد أشهر من أن يذكر.

وأما غدر عبد الملك بن مروان فيتجلى بأبشع أشكاله في موقفه من عمرو ابن سعيد الاشدق(١) . وقد حصل ذلك في عام « ٧٠ » عندما كان عبد الملك منشغلا في المسير من دمشق نحو العراق للقاء مصعب بن الزبير.

وكان مروان بن الحكم قد وعد عمرو بن سعيد بأن يتولى الامر من بعده فكسب مساعدته وتأييده في ظروف وملابسات تاريخية معروفة نجمت عن تخلي معاوية بن يزيد عن الحكم واضطراب الامر من بعده غير ان مروان بن الحكم ـ على عادته الاموية ـ نكث عهده للأشدق وأوصى بالخلافة لإبنه عبد الملك.

فذكر الاشدق عبد الملك بذلك وطلب إليه أن يعهد له بالامر من بعده. ولكن عبد الملك أرادها لاولاده من بعده. فبيت للأشدق شرا وطلبه إليه.

فأجاب الاشدق على رغم تحذير خواصه. فقال لهم :

« والله لو كنت نائماً ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء

ومضى في مئة رجل من مواليه. وبعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر ان يحبس من كان معه. وأذن له فدخل فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك فإذا حوله بنوا مروان.

فلما رأى جمعهم أحس بالشر. فرحب به عبد الملك وقال : ههنا يا أبا أمية

__________________

١ ـ راجع الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ | ١٧٦ ـ ١٧٩.

١٥٦

يرحمك الله. فاجلسه معه على السرير. وجعل يحدثه طويلا ثم قال : « يا غلام خذ السيف عنه ». فقال عمرو : أنا لله ـ يا أمير المؤمنين ـ فقال عبد الملك أو تطمع ان تجلس معي متقلدا سيفك !! فأخذ السيف عنه. ثم تحدثا. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها امامه. ثم قال يا غلام قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها.

فقال عمرو اذكرك الله ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تخرجني فيها على رؤوس للناس.

فقال عبد الملك أمكراً يا ابن أمية عند الموت !! ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه فكسر ثنيته. فقال عمرو أغدرا يا ابا الزرقاء !! ـ وأذن مؤذن العصر.

فخرج عبد الملك ليصلي بالناس ، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتل عمروا وصلى عبد الملك ورجع فوجد عمرا حيا. فقال ـ لعبد العزيز ـ ما منعك من أن تقتله؟ قال : إنه ناشدني الله والرحم فرفقت به.

فقال له عبد الملك أخزى الله أمك البواله على عقبها ثم إن عبد الملك قال يا غلام أئتني بالحرية. فأتاه بها. فهزها. ثم طعنه بها وجلس على صدره فذبحه

انتفض عبد الملك رعدة فحمل عبد الملك عن صدره ووضع على سريره

وجاء عبد الرحمن بن أم حكيم الثقفي فرفع إليه الرأس فألقاه في الناس.

وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ الاموال في البدور فجعل يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الاموال ورأوا الرأس إنتهبوا الاموال وتفرقوا. »

تلك هي مأساة الاشدق. ولابد أن القارئ قد لاحظ معنا جملة امور قام بها عبد الملك بن مروان « خليفة » للمسلمين وابن « خليفتهم » ـ لا يجيزها الدين

١٥٧

ولا العرف ، ولا الذوق الانساني الرفيع.

ترى لماذا قتل عبد الملك ابن عمه بذلك الشكل الغادر؟ لكي يحافظ على الخلافة الإسلامية التي انتهك حرمتها أبوه من قبله؟

لماذا صلى وهو متلبس بجريمة التهيؤ للقتل؟

أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

هل تنسجم الصلاة مع قتل النفس التي حرم الله؟

ثم لماذا نثرت الدارهم على الناس مع رأس القتيل؟ للإمعان في إفساد أخلاق الناس؟

هل يجيز الاسلام ان يعمل « الخليفة » على إفساد أخلاق المسلمين؟

إن الاجابة عن هذه الاسئلة تسوقنا إلى القول بأننا أمام تصرفات خلقية جاهلية وثنية حاربها الاسلام وتعهدها الامويون بالرعاية والتنشيط.

ولعل أطرف قصص الغدر وما يرافقه من التواء في الخلق عند الامويين قصة الوليد بن عبد الملك عندما أراد خلع أخيه سليمان من ولاية العهد وتحويلها لولده عبد العزيز « بعد أن أغراه على ذلك ـ ووافقه عليه ـ جملة أشخاص من المتنفذين وفي مقدمتهم الشاعر جرير وقتيبة بن مسلم الباهلي وإلى خراسان والحجاج بن يوسف الثقفي وإلى العراق ».

ومن أطرف ما نظمه جرير في هذا الصدد ـ قوله :

إذا قيل أي الناس خيـر خليفــة

أشــارات إلى عبــد العزيز الاصابع

رأوه أحق الناس كلهـم بـهــا

وما ظلموا ـ فبايعوه وسارعوا(١)

__________________

١ ـ الطبري : تاريخ الامم والملوك ٨ | ٩٧.

١٥٨

وقال : أيضا في قصيدة أخرى يحث الوليد على جعل ولاية العهد لأبنه عبد العزيز :

فزحلقهـا بأزملهـا إليه

أمير المؤمنين إذا تشاء

فـان الناس قدموا إليه

أكفهـم وقد برح الخفاء

ولو قد بايعوه ولي عهد

لقام الوزن واعتدل البناء

غير أن إخفاق الوليد في مسعاه قد جعل الامر ينتقل بعد وفاته إلى أخيه سليمان وبذلك أصبح موقف الذين ألبوا الوليد على خلع سليمان حرجا.

ولعل محاولة « الخليفة » الجديد الإنتقام لنفسه من هؤلاء وسعى قتيبة بن مسلم الباهي إلى تدارك الموقف تبين لنا الغدر الاموي بإحدى صوره البشعة.

وإلى القارئ ملخصها : عندما علم قتيبة بتسلم سليمان مقاليد الحكم الاموي كتب إليه كتابا « يهنئه ويعزيه على الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ما كان لهما من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان.

وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم

وكتب إليه كتابا ثالثا فيه خلعه. وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة.

وقال له : إدفع اليه هذا الكتاب. فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا فقرأه سليمان ثم القاه اليه فادفع اليه هذا الكتاب فإن قرأه والقاه الى يزيد فادفع اليه هذا الكتاب.

فإن قرا الاول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الاخرين

فلما قدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب. فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه الى يزيد. فدفع اليه كتابا آخر. فقرأه ثم رمى به إلى

١٥٩

يزيد. فاعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه. ثم دعا بطين فحثمه. ثم أمسكه بيده

ثم أمر برسول قتيبة أن ينزل فحول إلى دار الضيافة. فلما أمسى دعا به سليمان. فأعطاه صرة فيها دنانير وقال : هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسولي معك بعهده. فخرج الباهلي. فبعث معه سليمان رجلا من عبد القيس ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة او مصعب. فلما كانوا بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة وقتله(١) . »

٥ ـ الظلم

وقد مر بنا ذكره ضمنا في النقاط السابقة. فالغدر والزنى وقتل النفس كلها امور تقع من الظلم في الصميم. والظلم ـ بمختلف صنوفه ـ من الموبقات التي حاربها الاسلام ». جاء في سورة الزمر :

ولو ان الذين ظلموا ما في الارض ومثله معه ـلافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ».

وذكر مسلم بأن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. فقال معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله لو علمت ان لي حياة ما حدثتك :

إني سمعت رسول الله يقول : ما من يسترعيه الله رعيته يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة. »

__________________

١ ـ الطبري : تاريخ الامم والملوك ٨ | ١٠٤.

٢ ـ صحيح مسلم ١ | ٦٧.

٣ ـ تاريخ الامم والملوك ٨ | ١٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182