نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار16%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 347

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 347 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286559 / تحميل: 6654
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ببدلها ، وأنّها تلفت على وجهٍ مضمون ، وأمّا إذا قامت بالوديعة بيّنة أو أقرّ بها الورثة ولم توجد ، لم يجب ضمانها ؛ لأنّ الوديعة أمانة ، والأصل أنّها تلفت على الأمانة ، فلم يجب ضمانها.

ومنهم مَنْ قال : صورة المسألة أن يثبت أنّ عنده وديعة فتُطلب فلا توجد بعينها ولكن يكون في تركته من جنسها ، فيحتمل أن تكون تلفت ، ويحتمل أن تكون قد اختلطت بماله ، فلـمّا احتمل الأمران أُجري مجرى الغرماء ، وحاصّهم ، فأمّا إذا لم يكن في تركته من جنسها فلا ضمان ؛ لأنّه لا يحتمل إلّا تلفها.

ومنهم مَنْ قال بظاهر قوله ، وأنّه يحاصّ الغرماء بكلّ حال ؛ لأنّ الوديعة يجب عليه ردّها ، إلّا أن يثبت سقوط الردّ بالتلف من غير تفريطٍ ، ولم يثبت ذلك ، ولأنّ الجهل بعينها كالجهل [ بها ](١) وذلك لا يُسقط عنه وجوب الردّ ، كذا هنا(٢) .

فروع :

أ - إذا تبرّم(٣) المستودع بالوديعة فسلّمها إلى القاضي ضمن‌ ، إلّا مع الحاجة.

ب - لا يلحق بالمرض علوّ السنّ والشيخوخة‌ ؛ لأصالة براءة الذمّة.

ج - لو أقرّ المريض بالوديعة ولا تهمة ثمّ مات في الحال ، فالأقرب هنا على قول مَنْ مَنَع من المحاصّة : المحاصّةُ هنا‌ ؛ إذ إقراره بأنّ عنده أو عليه وديعة يقتضي حصوله في الحال ، فإذا مات عقيبه لم يمكن فرض التلف قبل الإيصاء.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٧.

(٣) تبرّم : تضجّر. لسان العرب ١٢ : ٤٣ « برم ».

١٨١

البحث الثالث : في نقل الوديعة‌.

مسألة ٣١ : إذا أودعه في قريةٍ فنقلها المستودع إلى قريةٍ أُخرى‌ ، فإن اتّصلت القريتان وكانت المنقول إليها أحرز أو ساوت الأُولى في الأمن ولا خوف بينهما ، فالأقرب : عدم الضمان ، مع احتماله ؛ لأنّ الظاهر من الإيداع في قريةٍ عدم رضا المالك بنقلها عنها.

وإن لم تتّصل القريتان ، فالأقرب : الضمان ، سواء كان الطريق آمناً أو مخوفاً - وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) - لأنّ حدوث الخوف في الصحراء غير بعيدٍ.

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان مع الأمن ، وثبوته لا معه ، كما لو لم تكن بينهما مسافة ، بل اتّصلت العمارتان(٢) .

وقال أكثر الشافعيّة : إن كان بين القريتين مسافة سُمّي المشي فيها سفراً ، ضمن بالسفر بها(٣) .

وبعضهم لا يقيّد ، بل يقول : إن كان بينهما مسافة ضمن. ولم يجعل مطلق المسافة مصحّحاً اسم السفر(٤) .

وقال آخَرون منهم : إن كانت المسافة بينهما دون مسافة التقصير وكانت آمنةً والقرية المنقول إليها أحرز ، لم يضمن(٥) :

وهو يقتضي أنّ السفر بالوديعة إنّما يوجب الضمان بشرط طول السفر. وهو بعيد عندهم ؛ فإنّ خطر السفر لا يتعلّق بالطول والقصر(٦) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٢

وإن كانت المسافة بحيث لا تصحّح اسم السفر ، فإن كان فيها خوفٌ ضمن ، وإلّا فوجهان:

أحدهما : إنّ الحكم كذلك ؛ لأنّ الخوف في الصحراء متوقّع.

وأظهرهما عندهم : إنّه كما لو لم تكن مسافة(١) .

وإن كانت القرية المنقول عنها أحرز من المنقول إليها ، ضمن المستودع بالنقل ، فإنّ المالك حيث أودعه فيها اعتمد حفظه فيها ، ولو كانت المنقول إليها أحرز أو تساويا ، فلا ضمان ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقد بيّنّا احتمال الضمان.

مسألة ٣٢ : إذا قلنا بالتفصيل - وهو عدم الضمان مع كون القرية المنقول إليها أحرز - وجب معرفة سبب كونها أحرز ، وهو متعدّد :

منها : حصانتها في نفسها أو انضباط أهلها أو امتناع الأيدي الفاسدة عنها.

ومنها : كونها عامرةً لكثرة القطّان بها.

ومنها : أن يكون مسكنه ومسكن أقاربه وأصدقائه بها ، فلا يقدم عليها اللصوص ، ولا يقوى طمعهم فيها ؛ لأنّ قرية أهله وأقاربه أحرز في حقّه.

واعلم أنّا حيث منعنا النقل فذلك إذا لم تَدْعُ ضرورة إليه ، فإن اضطرّ إلى نقلها جاز ، كما جوّزنا له السفر بها مع الحاجة إليه.

مسألة ٣٣ : إذا أراد الانتقال ولا ضرورة إليه ، فالحكم فيه كما سبق فيما إذا أراد السفر.

والنقل من محلّة إلى محلّة أو من دارٍ إلى دارٍ كالنقل من قريةٍ إلى قريةٍ متّصلتي العمارة.

وأمّا إذا نقل من بيتٍ إلى بيتٍ في دارٍ واحدة أو خانٍ واحد ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٣

لم يضمن وإن كان الأوّل أحرز إذا كان الثاني حرزاً أيضاً.

هذا إذا أطلق الإيداع.

والتحقيق أن نقول : إذا أودعه شيئاً ، ففيه ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يودعه ولا يعيّن له موضعاً لحفظها‌ ، فإنّ المودَع يحفظ الوديعة في حرز مثلها أيّ موضعٍ شاء ، فإن وضعها في حرزٍ ثمّ نقلها إلى حرز مثلها ، جاز ، سواء كان مثل الأوّل أو دونه - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ المودَع ردّ ذلك إلى حفظه واجتهاده ، فكلّ موضعٍ هو حرز مثلها وهي محفوظة فيه فكان وضعها فيه داخلاً تحت مطلق الإذن بالوضع فيه حيث جعل ذلك منوطاً باختياره.

الثاني : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احفظها في هذا البيت‌ ، أو في هذه الدار ، واقتصر على ذلك ولم ينهه عن غيره ، فإن كان الموضع ملكاً لصاحب الوديعة ، لم يجز للمستودع نقلها عنه ، فإن نقلها ضمن ؛ لأنّه ليس بمستودعٍ في الحقيقة ، وإنّما هو وكيل في حفظها ، وليس له إخراجها من ملك صاحبها.

وكذا إن كانت في موضعٍ استأجره لها.

وإن كان الموضع ملكاً للمستودع ، فإن نقلها إلى ما دونه في الحرز أو وضعها فيه ابتداءً ، ضمن ؛ لأنّه خالف أمره في شي‌ءٍ مطلوب فيه مرغوب إليه ، فكان ضامناً ، كما لو وضعها في غير حرزٍ.

وإن كان الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، فلا ضمان عليه ؛ لأنّ تعيينه البيت إنّما أفاد تقدير الحرزيّة ، وليس الغرض عينه ، كما لو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة ، فإنّه يجوز أن يزرعها ما يساويها في الضرر أو يقصر ضرره عنها ؛ لأنّ الغرض بتعيينها تقدير المنفعة لا عينها ، كذا هنا ، وحمل التعيين‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢٦.

١٨٤

على تقدير الحرزيّة دون التخصيص الذي لا غرض فيه ، وبه قال الشافعي(١) .

نعم ، لو كان التلف بسبب النقل ، كما إذا انهدم عليه البيت المنقول إليه ، فإنّه يضمن ؛ لأنّ التلف هنا جاء من المخالفة.

وكذا مكتري الدابّة للركوب إذا ربطها في الاصطبل فماتت ، لم يضمن ، وإن انهدم عليها ضمن.

وكذا لو سُرقت من البيت المنقول إليه أو غُصبت فيه ، على إشكالٍ.

الثالث : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احرزها في هذا البيت‌ ، أو هذه الدار ولا تخرجها منه ولا تنقلها عنه ، فأخرجها ، فإن كان لحاجةٍ بأن يخاف عليها في الموضع الذي عيّنه الحريق أو النهب أو اللّصّ فنقلها عنه إلى أحرزها ، لم يضمن ؛ لأنّ الضرورة سوّغت له النقل.

وإن نقلها لغير عذرٍ ، ضمن مطلقاً عندنا - وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي(٢) - سواء نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل أو كان مساوياً أو أحرز منه ؛ لأنّه خالف صريح الإذن لغير حاجةٍ فضمن ، كما لو نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل وهو حرز مثلها.

وقال أبو سعيد الاصطخري : إن كان الحرز الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، لم يضمن بالنقل إليه ؛ لأنه نقلها عنه إلى مثله ، فأشبه ما إذا عيّن له موضعاً فنقلها عنه إلى مثله من غير نهي(٣) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢) راجع المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، وحلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، والبيان ٦ : ٤٢٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

١٨٥

ثمّ تأوّل كلام الشافعي بأنّه أراد بذلك إذا كان الموضع الذي هي فيه ملكاً لصاحب الوديعة(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا نهاه عن نقلها عن دارٍ فنقلها إلى دارٍ أُخرى ضمن ، وإن نهاه عن نقلها عن بيتٍ فنقلها إلى بيتٍ آخَر في الدار لم يضمن ؛ لأنّ البيتين في دارٍ واحدة حرزٌ واحد ، والطريق إلى أحدهما طريق إلى الآخَر ، فأشبه ما لو نقلها من زاويةٍ إلى زاويةٍ(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يكون بيت في الدار يلي الطريق والآخَر لا يليه ، فالذي لا يليه أحرز.

والحقّ ما قلناه ؛ لأنّه خالف لفظ المودع فيما لا مصلحة له فيه ، فوجب أن يضمن ، كما لو نقلها إلى موضعٍ هو دونه في الحرز.

مسألة ٣٤ : قد بيّنّا أنّه إذا نهاه عن النقل عن الموضع الذي عيّنه ، لم يجز له نقلها عنه إلّا لضرورةٍ‌ ، كحريقٍ أو غرقٍ أو نهبٍ أو خوف اللّصّ وشبهه ، فإن حصلت إحدى هذه الأعذار نَقَلها ، ولا ضمان ، سواء نقلها إلى حرزٍ مثل الأوّل أو أدون منه إذا كان حرز مثلها إذا لم يجد أحرز منه.

فإن وجد أحرز منه واقتصر على الأدون ، احتُمل الضمان ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعيين لا يفيد الاختصاص ، بل تقدير الحرز ، فإذا تعذّر الشخص وجب الانتقال إلى المساوي أو الأحرز ، وعدمُه ضعيفاً ؛ لأنّ التعيين قد زال ، فساغ النقل للخوف ، فيتخيّر المستودع حينئذٍ ، ولو لم يعيّن له الحرز ابتداءً جاز له الوضع في الأدون ، فكذا إذا عيّنه.

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٠ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، المغني ٧ : ٢٨٥ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٧.

١٨٦

والأوّل أقوى.

ولو أمكن النقل عن المعيّن مع عروض إحدى هذه الحالات ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط حينئذٍ في الحفظ ، إذ الظاهر أنّه قصد بالنهي عن النقل نوعاً من الاحتياط ، فإذا عرضت هذه الأحوال فالاحتياط النقل ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولو قال : لا تنقلها وإن حدثت ضرورة ، فحدثت ضرورة ، فإن لم ينقل لم يضمن ، كما لو قال : أتلف مالي ، فأتلفه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر(٣) .

وإن نقل ، لم يضمن ؛ لأنّه قصد الحفظ والصيانة والإصلاح ، فكان محسناً ، فيندرج تحت عموم قوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٤) وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٥) .

مسألة ٣٥ : لو نقلها المستودع عن الموضع المعيّن المنهيّ عن نقلها عنه‌ ، فادّعى المستودع الخوفَ من الحريق أو الغرق أو اللّصّ أو شبهه من الضرورات ، وأنكر المالك ، فإن عرف هناك ما يدّعيه المستودع ، كان القولُ قولَه مع اليمين ؛ لأنّه ادّعى الظاهر ، فصُدّق بيمينه ، وإلّا طُولب بالبيّنة ، فإن لم تكن هناك بيّنة ، صُدّق المالك بيمينه ؛ لأنّه منكر ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢ و ٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٤) التوبة : ٩١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ - ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١ - ٣٠٢.

١٨٧

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ ظاهر الحال يغنيه عن اليمين(١) .

ولهم وجهٌ آخَر غريب فيما إذا لم ينهه عن النقل ، فنقل إلى ما دونه : إنّه لا يضمن(٢) .

وهذا كلّه فيما إذا كان البيت المعيّن أو الدار المعيّنة ملكاً للمستودع ، أمّا إذا كان ملكاً للمالك ، فليس للمستودع إخراجها عن ملكه بحالٍ ، إلّا أن تعرض ضرورة إلى ذلك.

البحث الرابع : في التقصير في دفع المهلكات‌.

مسألة ٣٦ : يجب على المستودع دفع مهلكات الوديعة وما يوجب نقص ماليّتها ؛ إذ الحفظ واجب ، ولا يتمّ إلّا بذلك.

فلو استودع ثياب صوفٍ ، وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح بمجرى العادة ؛ لئلّا يفسدها الدود.

ولو لم يندفع الفساد إلّا بأن يلبس وتعبق(٣) بها رائحة الآدمي ، وجب على المستودع لُبْسها.

فإن لم يفعل ففسدت بترك اللُّبْس وتعريض الثوب للريح ، كان ضامناً ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أمّا لو نهاه عن النشر وفِعْلِ ما يحتاج إليه الحفظ فامتنع من ذلك حتى فسدت ، فَعَل مكروهاً ، ولا ضمان عليه ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٣) راجع الهامش (١) من ص ١٥٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٨٨

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ عليه الضمان(١) .

هذا إذا علم المستودع ذلك ، أمّا لو لم يعلم المستودع ذلك بأن أودعه صندوقاً مقفلاً لا يعلم ما فيه ، أو كيساً مشدوداً ولم يُعلمه المالك ، لم يضمن ؛ لعدم التفريط ، وانتفاء التقصير منه.

مسألة ٣٧ : إذا كانت الوديعة دابّةً أو آدميّاً ، وجب على المستودع القيامُ بحراستها ومراعاتها وعلفها وسقيها.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأمره المالك بالعلف والسقي ، أو ينهاه عنهما ، أو يُطلق الإيداع.

فإن أمره بالعلف والسقي ، وجب عليه فعلهما ورعاية المأمور به.

فإن امتنع المستودع من ذلك حتى مضت مدّة تموت مثل الدابّة في مثل تلك المدّة ، نُظر إن ماتت ضمنها ، وإن لم تمت دخلت في ضمانه ، وإن نقصت ضمن النقصان.

وتختلف المدّة باختلاف الحيوان قوّةً وضعفاً.

فإن ماتت قبل مضيّ تلك المدّة ، لم يضمنها إن لم يكن بها جوع وعطش سابق ، وإن كان وهو عالمٌ ضمن ، وكذا لو كان جاهلاً.

وللشافعيّة في الجاهل وجهان كالوجهين فيما إذا حبس مَنْ به بعض الجوع وهو لا يعلم حتى مات(٢) .

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان(٣) .

وعلى تقدير الضمان لهم وجهان : هل يضمن الجميع أو بالقسط؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٣ - ١٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

١٨٩

كما لو استأجر دابّةً لحمل قدرٍ فزاد عليه(١) .

وإن نهاه المالك عن العلف والسقي فتركهما ، كان عاصياً ؛ لما فيه من تضييع المال المنهيّ عنه شرعاً وهتكِ حرمة الروح ؛ لأنّ للحيوان حرمةً في نفسه يجب إحياؤه لحقّ الله تعالى.

وفي الضمان إشكال أقربه : العدم - وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) - كما لو قال : اقتل دابّتي ، فقتلها ، أو أمره برمي قماشه في البحر ، فرماه ، أو أمره بقتل عبده ، فقتله ، فإنّه يأثم ، ولا ضمان عليه ، كذا هنا.

وقال بعضهم : يجب عليه الضمان ؛ لحصول التعدّي في الوديعة ، وهو مقتضٍ للضمان ، فأشبه ما لو لم ينهه(٣) .

ولو علفها وسقاها مع نهيه عنهما ، كان الحكم كما تقدّم في القسم الأوّل.

وقال بعض الشافعيّة : الخلاف هنا مخرَّجٌ ممّا إذا قال : اقتلني ، فقتله هل تجب الدية؟(٤) .

ولم يرتضه باقي الشافعيّة ؛ لأنّا إذا أوجبنا الدية أوجبناها للوارث ، ولم يوجد منه إذن في الإتلاف ، وهنا بخلافه(٥) .

وإن أطلق الإيداع ، فلا يأمره بالعلف والسقي ولا ينهاه عنهما ، فيجب‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٤ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢.

١٩٠

على المستودع العلف والسقي ؛ لأنّه التزم بحفظها ، ولأنّه ممنوع من إتلافها جوعاً ، فإذا التزم حفظها تضمّن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ؛ لأنّه استحفظه إيّاها ولم يأمره بعلفها(٢) .

وقد بيّنّا الأمر الضمني.

مسألة ٣٨ : لا خلاف في أنّه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابّة والآدمي من ماله‌ ؛ لأصالة البراءة ، والتضرّر المنفي شرعاً ، لكن إن دفع إليه المالك النفقةَ فذاك ، وإن لم يدفع إليه ، فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ؛ لأنّه أمره بإتلاف ماله فيما عاد نفعه إليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالاً بأمره وأدّاه عنه.

وإن أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولا نهاه عنهما ، فإن كان المالك حاضراً أو وكيله طالَبه بالإنفاق عليها أو ردّها عليه ، أو أذن له المالك في الإنفاق فينفق ، ويرجع به إن لم يتطوّع بذلك.

وإن لم يكن المالك حاضراً ولا وكيله ، رفع الأمر إلى الحاكم ، فإن وجد الحاكم لصاحبها مالاً أنفق عليها منه ، وإن لم يجد مالاً رأى الحاكم المصلحة للمالك إمّا في بيعها ، أو بيع بعضها وإنفاقه عليها ، أو إجارتها ، أو الاستدانة على صاحبها من بيت المال أو من المستودع أو من غيره ، فيفعل ما هو الأصلح.

فإن استدان عليه من بيت المال أو من غير المستودع ، دَفَعه إلى‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

١٩١

المستودع لينفقه عليها إن رأى ذلك مصلحةً.

وإن استدان من المستودع ، فالأقرب : إنّ الحاكم يتخيّر بين أن يأذن للمستودع في الإنفاق عليها ، وبين أن يأذن لغيره من الأُمناء يقبض من المستودع وينفق ؛ لأنّ المستودع أمين عليها ، فجاز للحاكم الإخلاد [ إليه ](١) في إنفاق ما يستدينه منه عليها ، كما أنّ للمالك أمره بالإنفاق ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه ليس للحاكم أن يأذن للمستودع في الإنفاق ممّا يستدينه منه على المالك ، بل يقيم الحاكم أميناً يقبض منه وينفق ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون أميناً في حقّ نفسه(٢) .

والوجه : ما تقدّم.

وعلى ما اخترناه من جواز إخلاد الحاكم إلى المستودع فالأقرب : إنّه لا يقدّرها ، بل يكل الأمر إلى اجتهاد المستودع ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّ الحاكم يقدّرها ولا يكلها إلى المستودع(٣) .

[ فإن اختلفا في قدر النفقة ](٤) فالقول قوله فيما أنفق إذا ادّعى الإنفاق بالمعروف ، ولو ادّعى أكثر لم يُقبل قوله إلّا بالبيّنة.

وكذا لو قدّر له الحاكم النفقة ، فادّعى أنّه أنفق أكثر.

ولو اختلف المستودع والمالك في قدر المدّة التي أنفق فيها ، قُدّم قول صاحبها ؛ لأنّ الأصل عدم ذلك ، وبراءة ذمّته.

ولو اختلفا في قدر النفقة ، قُدّم قول المستودع ؛ لأنّه أمين فيها.

____________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٨٢.

(٣) حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤٠.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني ٧ : ٢٩٣ ، والشرح الكبير ٧ : ٢٩٢.

١٩٢

ولو أنفق عليها من غير إذن الحاكم ، فإن قدر على إذن الحاكم ولم يُحصّله ، لم يكن له الرجوع ؛ لأنّه متطوّع.

وإن لم يقدر على الحاكم فأنفق ، فليُشهد على الإنفاق والرجوع ، فإن ترك الإشهاد مع قدرته عليه ، فالأقرب : إنّه متبرّع ، وإن تعذّر عليه الإشهاد ، فالأقرب : إنّه يرجع مع قصده الرجوع ، ويقدّم قوله في ذلك ؛ لأنّه أعرف بقصده.

وإذا قلنا : ينفق ويرجع ، صار كالحاكم في بيعها أو بيع بعضها أو إجارتها أو الاقتراض على مالكها.

ولو ترك المستودع الإنفاقَ مع إطلاق الإيداع ولم يرفعه إلى الحاكم ولا أنفق عليها حتى تلفت ، ضمن إن كانت تلفت من ترك ذلك ؛ لأنّه تعدّى بتركه.

وإن تلفت في زمانٍ لا تتلف في مثله ؛ لعدم العلف ، لم يضمن ؛ لأنّها لم تتلف بذلك.

ولو نهاه عن السقي والعلف ، لم يضمن بترك ذلك على ما تقدّم(١) من الخلاف.

وهل يرجع على المالك؟ إشكال ينشأ : من تبرّعه بالإنفاق ، وعدمه.

مسألة ٣٩ : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابّة لعلفها أو سقيها ، جاز له ذلك ؛ لأنّ الحفظ يتوقّف عليه ، ولا ضمان.

ولا فرق بين أن يكون الطريق آمناً أو مخوفاً إذا خاف التلف بترك السقي واضطرّ إلى إخراجها.

ولو أخرجها من غير ضرورةٍ للعلف والسقي ، فإن كان الطريق آمناً لا خوف فيه وأمكنه سقيها في موضعها ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لاطّراد‌

____________________

(١) في ص ١٨٩.

١٩٣

العادة بذلك ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة(١) .

ولو علفها وسقاها في داره أو اصطبله حيث يعلف دوابّه ويسقيها ، فقد بالغ في الحفظ.

وإن أخرجها من موضعها وكان يفعل ذلك في دوابّ نفسه لضيق الموضع أو لغيره ، فلا ضمان عليه.

وإن كان يسقي دوابّه فيه ، قال الشافعي : ضمن(٢) .

واختلف أصحابه ، فأطلق بعضُهم وجوبَ الضمان ؛ لأنّه أخرج الوديعة عن الحرز لغير ضرورةٍ(٣) .

وقيّده بعضهم بما إذا كان ذلك الموضع أحرز ، فأمّا إذا كان الموضع المُخْرج إليه أحرز أو مساوياً ، فلا ضمان(٤) .

وقال آخَرون : إنّه محمول على ما إذا كان في الإخراج خوف ، فإن لم يكن فلا ضمان(٥) .

مسألة ٤٠ : إذا تولّى المستودع السقي والعلف بنفسه أو أمر به صاحبه أو غلامه وكان حاضراً لم تزل يده ، فذاك.

وإن بعثها على يده للسقي أو أمره بعلفها أو أخرج الدابّة من يده ، فإن لم يكن صاحبه أو غلامه أميناً ضمن ، وإن كان أميناً فالأقرب : عدم الضمان ؛ لقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٦) .

والوجهان عند بعضهم مخصوصان بمَنْ يتولّى ذلك بنفسه ، فأمّا في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ - ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ - ٢٩٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٩٤

حقّ غيره فلا ضمان قطعاً(١) .

فروع :

أ - لو نهاه عن العلف لعلّةٍ تقتضي النهي - كالقولنج وشبهه - فعلفها قبل زوال العلّة فماتت ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط.

ب - العبد المودع والأمة كالدابّة‌ في جميع ما تقدّم.

ج - لو أودعه نخلاً ، فالأقرب : إنّ سقيه واجب كما قلنا في الدابّة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : إنّه لا يضمن بترك السقي إذا لم يأمره بالسقي(٢) .

البحث الخامس : في المخالفة في كيفيّة الحفظ‌.

مسألة ٤١ : يجب على المستودع اعتماد ما أمره المالك في كيفيّة الحفظ‌ ، فإذا أمره بالحفظ على وجهٍ مخصوص فعدل عنه إلى وجهٍ آخَر وتلفت الوديعة ، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها ضمن وكانت المخالفة تقصيراً ؛ لأنّه لو راعى الوجه المأمور به لم يتحقّق التلف ، ولو حصل التلف بسببٍ آخَر فلا ضمان.

هذا إذا لم يتحقّق المستودع التلف لو امتثل الأمر ، أمّا إذا تحقّق التلف بالامتثال فخالف للاحتياط في الحفظ فاتّفق التلف فلا ضمان ، لأنّه محسن فلا سبيل عليه ؛ للآية(٣) .

مسألة ٤٢ : إذا أودعه مالاً في صندوقٍ وقال له : لا ترقد عليه‌ ، فخالف ورقد عليه ، فإن تلفت الوديعة بالرقود بأن انكسر رأس الصندوق

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٣) التوبة : ٩١.

١٩٥

بثقله وتلف ما فيه ، ضمن ؛ لأنّه خالف ، وتلفت الوديعة بالمخالفة ، فكان ضامناً.

وإن تلفت بغير الرقود ، فإن كان في بيتٍ محرز فأخذه اللّصّ ، أو كان في برّيّةٍ فأخذه اللّصّ من رأس الصندوق ، فالأقرب : عدم الضمان - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه زاده احتياطاً وحفظاً ، والتلف ما جاء منه.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّه يضمن - وبه قال مالك - لأنّ رقوده على الصندوق تنبيه عليه وتعظيم لما فيه ، وموهم للسارق نفاسة ما فيه فيقصده(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه زاده احتياطاً وخيراً(٣) ، كما لو قال له : ضَع المال في صحن الدار ، فوضعه في البيت ، لم يضمن ، ولا يقال : إنّ هذا يتضمّن التنبيه عليه ، كذا هنا.

وكذا الخلاف فيما لو قال : لا تقفل عليها ، فقفل ، أو قال : لا تقفل عليها إلّا قفلاً واحداً ، فقفل قفلين ، أو قال : لا تغلق باب البيت ، فأغلق(٤) .

وإن كان في البرّيّة فأخذه اللّصّ من جنب الصندوق ، احتُمل عدمُ الضمان ؛ لأنّه إذا كان فوق الصندوق اطّلع على الجوانب كلّها ، فيكون أبلغ في الحفظ ، وثبوتُه ؛ لأنّه إذا رقد عليه أخلى جنب الصندوق ، وربما لا يتمكّن السارق من الأخذ لو كان [ بجنبه ](٥) .

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تحته ». والظاهر ما أثبتناه.

١٩٦

وهذا إنّما يظهر إذا فرض الأخذ من الجانب الذي لو لم يرقد عليه لكان يرقد هناك ، وذلك بأن كان يرقد أمام الصندوق فتركه فانتهز السارق الفرصة ، أو قال المالك : ارقد قُدّامه ، فرقد فوقه ، فأخذ السارق المالَ من قُدّامه.

وللشافعيّة وجهان(١) كالاحتمالين.

والأوّل أقوى ؛ لأنّه زاده خيراً(٢) .

وكذا لو قال : ضَعْها في هذا البيت ولا تنقلها ، فخاف عليها فنَقَلها ، فلا ضمان ؛ لأنّه زاده خيراً(٣) .

ولو أمره بدفن الوديعة في بيته وقال : لا تبن عليه ، فبنى ، فهو كما لو قال : لا ترقد عليه ، فرقد.

تذنيب : لو نقل المستودع الوديعةَ عند الخوف إلى مكانٍ‌ غير ما عيّنه المالك بأُجرةٍ ، لم يرجع بها على المالك ؛ لأنّه متطوّع متبرّع.

مسألة ٤٣ : إذا استودع دراهم أو دنانير أو شبهها وأمره المالك بأن يربطها في كُمّه فأمسكها في يده ، ضمن‌ ؛ لأنّه خالف المالكَ في تعيين الحرز ، ولأنّ الكُمّ أحرز ؛ لأنّ الإنسان في معرض السهو والغفلة والنسيان فيرسل يده فتسقط الوديعة ببسط اليد والإرسال ، فإذا خالف المستودع في الإحراز عن الأعلى إلى الأدنى لا لضرورةٍ كان ضامناً.

واختلفت الرواية عن الشافعي ، فروى المزني أنّه لا يضمن(٤) ، ونقل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ - ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٢ و ٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) مختصر المزني : ١٤٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٠ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

١٩٧

الربيع عنه الضمان(١) .

واختلف أصحابه على طريقين :

منهم مَنْ قال : ليست على قولين ، وإنّما هي على اختلاف حالين ، وفيها طريقان :

أحدهما : إنّه إن لم يربطها في الكُمّ واقتصر على الإمساك باليد ، ضمن ، كما نقله الربيع ، ورواية المزني محمولة على ما إذا أمسك باليد بعد الربط في الكُمّ.

وأصحّهما عندهم : إنّ رواية المزني محمولة على ما إذا تلفت بأخذ غاصبٍ ، فلا يضمن ؛ لأنّ اليد أحرز بالإضافة ، وإن سقطت بنومٍ أو نسيانٍ ضمن ؛ لأنّها لو كانت مربوطةً في الكُمّ ما ضاعت بهذا السبب ، فالتلف حصل بسبب المخالفة(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألة على قولين :

أحدهما : الضمان ؛ لأنّ ما في اليد يضيع بالنسيان وبسط اليد ، وما في الكُمّ لا يضيع بهما.

وهذا القول يقتضي الضمان بالوضع في اليد مطلقاً ؛ لأنّها ليست حرزاً على هذا القول.

والثاني : عدمه ؛ لأنّ اليد أحرز من الكُمّ ؛ لأنّ الطرّار يأخذ من الكُمّ ، ولا يتمكّن من الأخذ من اليد(٣) .

فروع :

أ - لو أمره بالربط في كُمّه فامتثل ، لم يحتج في ذلك إلى الإمساك‌

____________________

(١) الأُمّ ٤ : ١٣٧ ، مضافاً إلى المصادر المزبورة في الهامش السابق ما عدا مختصر المزني.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩ - ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨.

١٩٨

باليد ؛ لأنّه جعلها في حرزٍ أمره المالك به ، فلا يفتقر إلى الزيادة.

ب - لو أمره بربطها في كُمّه فجعلها في جيبه ، لم يضمن‌ ؛ لأنّ الجيب أحرز ، فإنّه ربما نسي فسقط الشي‌ء من كُمّه ، إلّا إذا كان واسعاً غير مزرور ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ ضعيف : إنّه يضمن(٢) .

ولو انعكس فقال : ضَعْها في جيبك ، فربطها في كُمّه ، ضمن لا محالة.

ج - إذا ربطها في كُمّه بأمر المالك ، فإن جعل الخيط الرابط خارجَ الكُمّ فأخذها الطرّار ضمن‌ ؛ لأنّ فيه إظهارَ الوديعة ، وهو يتضمّن تنبيه الطرّار وإغراءه ، ولأنّ قطعه وحلّه على الطرّار أسهل ، وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقدة لم يضمن إذا احتاط في الربط وقوّة الشدّ ؛ لأنّها إذا انحلّت بقيت الدراهم في الكُمّ.

وإن جعل الخيط الرابط داخلَ الكُمّ ، انعكس الحكم ، فإن أخذه الطرّار لم يضمن ، وإن سقط بالاسترسال ضمن ؛ لأنّ العقد إذا انحلّ تناثرت الدراهم.

واستشكل بعضُ الشافعيّة هذا التفصيلَ ؛ لأنّ المأمور به مطلق الربط ، فإذا أتى به وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف ، بخلاف ما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلف ، وقضيّة هذا أن يقال : إذا قال : احفظ الوديعة في هذا البيت ، فوضعها في زاويةٍ منه فانهدمت عليها ، يضمن ؛ لأنّها لو كانت في زاويةٍ أُخرى لسلمت ، ومعلومٌ أنّه بعيد(٣) .

مسألة ٤٤ : إذا أودعه دراهم في طريقٍ أو سوقٍ ولم يقل له : اربطها‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

١٩٩

في كُمّك ، أو : أمسكها في يدك ، فربطها في كُمّه وأمسكها بيده ، فقد بالغ في الحفظ.

وكذا لو جعلها في جيبه وهو ضيّق أو واسع مزرور ، ولو كان واسعاً غير مزرورٍ ضمن ؛ لسهولة أخذها باليد.

ولو أمسكها بيده ولم يربطها في كُمّه ، لم يضمن إن قلنا : اليد حرز ، وإلّا ضمن.

وقال الشافعي : إن تلفت بأخذ غاصبٍ لم يضمن ، وإن تلفت بغفلةٍ أو نومٍ أو بسط يدٍ ضمن(١) .

ولو ربطها ولم يمسكها بيده ، فالحكم النظر إلى كيفيّة الربط وجهة التلف عندهم(٢) .

ولو وضعها في الكُمّ ولم يربط فسقطت ، ضمن.

وفصّل بعضُ الشافعيّة فقال : إن كانت خفيفةً لا يشعر بها ضمن ؛ لتفريطه في الإحراز ، وإن كانت ثقيلةً يشعر بها لم يضمن(٣) .

وقياس هذا يلزم طرده فيما سبق من صُور الاسترسال كلّها.

ولو وضعها في كور عمامته من غير شدٍّ ، ضمن.

مسألة ٤٥ : إذا أودعه شيئاً وهو في السوق أو الطريق أو غيره ، وقال : احفظ هذه الوديعة في بيتك‌ ، وجب على المستودع المبادرة إلى بيته والإحراز فيه ، فإن أخّر من غير عذرٍ ضمن ، ولو كان لعذرٍ فلا ضمان.

وكذا لو بادر إلى المضيّ إلى بيته فتلفت ، لم يضمن.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ) (١) .

وقوله تعالى:( قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (٤) .

وقوله تعالى:( يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) (٥) .

وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٦) .

وقوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) (٧) .

وقوله تعالى:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (٨) .

وقوله تعالى:( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ ) (٩) .

___________________

(١). سورة البقرة - ٢٠٤.

(٢). سورة آل عمران - ٢٩.

(٣). سورة النساء - ٨١.

(٤). سورة المائدة - ٤١.

(٥).. سورة التوبة - ٥٦.

(٦). سورة المجادلة - ١٤.

(٧). سورة المجادلة - ١٨.

(٨). سورة المجادلة - ٢٢.

(٩) سورة آل عمران - ١١٨.

٢٢١

وقوله تعالى:( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ) (١) .

ولنعم ما قال بعض علمائنا الأعلام في جواب مخاطبنا في هذا المقام: إنّ دعوى التمسك بحبل وداد العترة من دون التبرؤ من أعاديهم غير مسموعة كما قيل:

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنني

صديقك، إن الرأي عنك لعازب

إذ ليس التمسك بمجرّد إظهار الود باللسان، كما أن قوله « حسبنا كتاب الله » من غير عمل به غير مفيد، وحال الثقلين - أعني أهل البيت مع القرآن - في التمسك سواء لِقران العترة بالقرآن.

وبالجملة: فلو جاز لأهل السنة أن يدّعوا موالاة أهل البيتعليهم‌السلام - مع اتّباعهم لأعدائهم أمثال عائشة وطلحة والزبير ونظرائهم - جاز القول بموالاة الشيعة للشيخين وأنصارهما - مع لعنهم إياهم وطعنهم فيهم على ضوء ما جاء في كتب أهل السنة!! انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.

نماذج من تقوّلاتهم على أهل البيت

أضف إلى ذلك: ما في كتب أهل السنة من الكلمات والأقاويل الشنيعة في حق أهل البيتعليهم‌السلام ، وهي كثيرة جداً، يجدها المتتبع الخبير، وذلك من أقوى البراهين على عدائهم للعترة الطاهرة، ومن أوضح الشواهد على بطلان دعوى الموالاة وكذبها، ونحن نكتفي هنا بذكر بعض كلمات والد ( الدهلوي ) والإِشارة إلى بعضها الآخر، وذلك من باب الإِضطرار « والضرورات تبيح المحظورات»:

قال ولي الله الدهلوي:

___________________

(١). سورة آل عمران - ١٦٧.

٢٢٢

« وليعلم أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر - في أحاديث متواترة معنى - بمقتل عثمان وأنه ستقع فتنة عظيمة قبيل مقتله بحيث تتغير أحوال الناس وينتشر بلاؤها، فمدح الزمان السابق عليها وذم التالي لها، وأطال في بيان تلك الفتنة بحيث لم يخف على أحد مطابقة ما ذكر لما وقع.

ولقد أوضح بأبلغ بيان: بأنه سينقطع الخلافة الخاصة بسبب تلك الفتنة وتنتهي بها بقية بركات أيام النبوة وقد تحقّق ما ذكر ووقعت الفتنة على وجه لم يتمكن المرتضى من الخلافة، برغم رسوخ قدمه في السوابق الإسلامية وكثرة تحليه بأوصاف الخلافة الخاصة، ورغم انعقاد البيعة ووجوب انقياد الرعية، فلم ينفذ حكمه في أقطار الأرض ولم يسلّم لحكمه المسلمون، وانقطع الجهاد في عهده وتفرقت كلمة المسلمين، وقد حاربه الناس في وقائع عظيمة، فرفعوا يده عن التصرف في البلاد وتضيقت دائرة سيطرته يوما فيوما، لا سيّما بعد التحكيم، إلى أن لم يصف له منها سوى الكوفة وما والاها، وهذه الأمور وإن لم تؤثر على صفاته الكاملة النفسانية، إلاّ أن مقاصد الخلافة لم تتحقق على وجهها.

ولما تمكن معاوية بن أبي سفيان اتفق الناس عليه وزالت الفتنة من بين الأمة الإِسلامية »(١) .

وفيه أيضاً ما ملخّصه: أنه قد ضعفت أركان الدين الاسلامي منذ خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام فما بعد، واستشهد لذلك بأن الامامعليه‌السلام لم يحج بنفسه في زمن خلافته بل لم يتمكن - في بعض الأعوام - من إرسال نائب عن قبله لإِمارة الحج

وكرّر في موضع آخر من كتابه المذكور القول بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أشار إلى الفتنة التي تنتهي بمقتل عثمان، وزعم:

« أنه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - جعل تلك الفتنة الحد الفاصل بين زمان الخير وزمان الشر، وأخبر بتحوّل الخلافة على منهاج النبوة من ذلك الحين إلى ملك

___________________

(١). إزالة الخفا عن تاريخ الخلفا، الفصل الخامس من الجزء الأول.

٢٢٣

عضوض، وتدل كلمة ( عضوض ) على وقوع الحروب والفتن وقيام الواحد في وجه الآخر والنزاع على الملك ».

وقال في آخر المقصد الأول ما ملخّصه:

« إن الغاية من الخلافة هي إصلاح الناس وهدايتهم، ولم تحقّق خلافة المرتضى هذه الغاية، ولم يكن من واجب الأمة النضال تحت رايته كما كانت مأمورة بذلك تحت راية المشايخ الثلاثة، ولقد وجدنا - كما دلت على ذلك الأحاديث - انقطاع العناية الربانية في عصره بالرغم من نزولها على الامة في عصور اولئك باستمرار، وأن الخير - وهو عبارة عن ائتلاف المسلمين واتحادهم - مفقود في عصره، ولم يتحقق فيه قوله تعالى:( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ) إذ لم تحصل له السيطرة والقوة لدفع الكفار وإعلاء كلمة الإسلام، ولم يتحقق قوله تعالى:( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ) إذ لم ينفذ حكمه في جميع الأمة.

مع أن ذلك قد حصل وتحقق للمشايخ الثلاثة، وهذا من أقوى وجوه أفضليتهم »(١) .

هذا، ولشاه ولي الله الدهلوي كتاب سماه بـ ( قرة العينين في تفضيل الشيخين ) حاول فيه تفضيلهما على أمير المؤمنينعليه‌السلام بأكاذيب وأباطيل مفضوحة، وباستدلالات باردة ووجوه سخيفة لا تبعث إلّا من العناد والبغض، ومن ذلك قوله:

« والذين خالفوا المرتضى وقاتلوه مجتهدون لكنهم مخطئون » وقد ذكر فيه تفضيل الشيخين على الامامعليه‌السلام ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بشرّهما بالخلافة، وأنه ستطبق الأحكام الدينية على عهدهما وتقع الفتوح على أيديهما بخلاف المرتضى.

وقال أيضاً: والدين عبارة عما اجتمع الناس عليه ونقل عن الامام، ولقد

___________________

(١). ازالة الخفا ٢ / ٥٧٢ - ٥٧٣.

٢٢٤

اختلف أصحاب المرتضى في فهم كلماته على مذاهب شتى، فمنهم من روى عنه - مثلاً - براءته من دم عثمانرضي‌الله‌عنه ، ومنهم من فهم من قوله: قتله الله وأنا معه - قال ابن سيرين: رواه ابن أبي شيبة - رضاه بقتله، وهكذا في كلّ قضية مشكلة من فقه وغيره كمسألة تحريم المتعة وغسل الرجلين، فقد وقعوا في حيرة في تطبيق كلماته وبذلك فتح باب الاختلاف ».

وقال: « كان أصحاب الشيخين متأدبين بآداب الشرع وراغبين في الخير ولم يظهر من أحد منهم فعل شنيع أبدا، وأما أصحاب المرتضى فكان أكثرهم أصحاب طمع وحرص وحقد وحسد ».

وقال: إن المرتضى أغلق في عصره باب الجهاد، فالشيخان أفضل وأرجح منه بهذا الإِعتبار.

كما فضّلهما عليه -عليه‌السلام - باعتبار الصفات القلبية، فذكر أن المرتضى سعى وراء الخلافة وحارب من أجل الحصول على الجاه وهذا ينافي الزهد، قال: إن أعظم أنواع الورع ترك المقاتلات بين المسلمين كما كان من الشيخين، بخلاف المرتضى.

وهكذا فضّلهما عليه في التواضع والزهد والعبادة وحسن الخلق كما انتقص علم الامام فقال: « بل وقع الغلط من المرتضى في مسألة فقهية: عن عكرمة: إن علياً حرّق قوماً ارتدّوا عن الاسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال:

لو كنت أنا لقتلتهم بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بدّل دينه فاقتلوه، ولم أكن لأحرقهم، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا تعذّبوا بعذاب الله. فبلغ ذلك علياً فقال: صدق ابن عباس. أخرجه الترمذي »(١) .

كما انتقص فصاحة الامامعليه‌السلام وسياسته، وأنكر إنتفاع الاسلام

___________________

(١). قرة العينين ١٤٩.

٢٢٥

والمسلمين به، وقال بالنسبة إلى قضية مؤاخاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الامامعليه‌السلام :

« إن قضية المؤاخاة توحي بأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤاخ أحداً لحاجة منه إليه، لكثرة أصحابه وخدّامه من المهاجرين والأنصار، وإنما شرّف المرتضى بالأخوة لحزنه وبكائه »(١) .

أقول: والأفظع الأشنع من ذلك كله ما ذكره من أباطيل وسطره من أكاذيب تحت عنوان « مطاعن الامامعليه‌السلام »، ومن شاء فليراجع كتابه ( قرة العينين ) ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

قوله:

بخلاف الشيعة، إذ لا يوجد من بينهم فرقة تحب أهل البيت، جميعاً، فبعضهم يوادون طائفة ويكرهون الباقين، والبعض الآخر على العكس.

المراد من « اهل البيت » الأئمة المعصومون

أقول:

لقد ظهر مما سبق بالتفصيل أنْ ليس المراد من « أهل البيت » في حديث الثقلين وحديث السفينة إلّا الأئمة من عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذين ثبتت عصمتهم وطهارتهم، ولا ريب في أن الامامية الاثني عشرية يوالون جميعهم وينقادون إليهم في الاعتقادات والعبادات مطلقاً، وأما سائر الفرق - كالزيدية والإِسماعيلية وغيرهم - فليسوا بشيعة على الحقيقة وإنْ تسمّوا بهذا الاسم، لأنهم يعرضون عن بعض الأئمة الاثني عشر ويبغضونهم، فهم كالنواصب والخوارج عندنا في الحكم.

___________________

(١). نفس المصدر ١٦٣.

٢٢٦

قوله:

وأما أهل السنة فليسوا كذلك، بل يروون أحاديث جميعهم ويستندون إليها، كما تشهد بذلك كتبهم في التفسير والحديث والفقه.

أقول:

لا يخفى على أهل العلم والبصيرة، أن اتباع أهل السنة للعترة يشبه اتّباع المنافقين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانت دعوى اولئك أصدق من دعوى هؤلاء، لأن السنة يدّعون ذلك في الوقت الذي يأخذون أصولهم من الأشعري والماتريدي وأمثالهما، ويقلّدون في الفروع مالكاً وأبا حنيفة وأحمد والشافعي، وأما المنافقون فإنهم - وإنْ شاقّوا الرسول وعائدوه - لم ينتموا - في الظاهر - إلى الكفار واليهود والنصارى

وامّا ما ذكره من روايتهم لأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ، فالجواب أن الرواية أعم من الاتباع، ولنعم ما قال بعض الأعلام في هذا المقام: « لو كان مجرد نقل الرواية عن أحد دليلاً للولاء والاتباع، لكان البخاري الراوي عن الخوارج تابعاً لهم وراكباً سفينتهم، فلا يكون من ركّاب سفينة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإلّا لزم اجتماع النقيضين ».

طعن القوم في روايات أئمة أهل البيت ومقاماتهم.

بل إنا لا نسلم نقل أهل السنة عن أهل البيتعليهم‌السلام جميعاً رواياتهم واستنادهم إليها، وتلك كلمات أكابرهم القبيحة وعباراتهم البذيئة في شأن روايات الأئمة الطاهرين، بل في ذواتهم المقدسة من حيث النقل والرواية والعلم والمذهب موجودة في كتبهم، أمثال ( منهاج السنة ) و ( كتب والد الدهلوي ) بل ( التحفة ) ولننقل في هذا المقام طرفاً في كلّ واحد من الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام باختصار:

٢٢٧

١ - امير المؤمنينعليه‌السلام

قال ابن تيمية: « وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من العلماء ...»(١) .

وفيه: « وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتاباً كبيراً في ما لم يأخذ به المسلمون من قول علي، لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة »(٢) .

وفيه: « ولم يعرف لأبي بكر فتياً ولا حكم خالف نصاً، وقد عرف لعمر وعثمان وعلي من ذلك أشياء، والذي عرف لعلي أكثر مما عرف لهما »(٣) .

ونقل السبكي بترجمة المروزي عن أبي إسحاق الشيرازي: أن المروزي « صنّف كتابا في ما خالف فيه أبو حنيفة علياً وعبد الله رضي الله عنهما »(٤) .

وقال والد الدهلوي ما ملخصه: أن الشيخين أفضل من الامامعليه‌السلام باعتبار نشر العلوم الاسلامية أيضاً، فالقرّاء لم يأخذوا بقراءته إلّا أصحاب عبد الله بن مسعود من أهل الكوفة، وأمّا الحديث فإنهما نصبا المحدّثين في مختلف البلاد، وأما الإمامعليه‌السلام فلم ينصب أحداً لذلك، والمرتضى في الحديث في رتبة ابن مسعود لكن أصحاب ابن مسعود فقهاء ثقات، ورواة حديث علي مجهولون فلم يصح من حديثه إلّا ما رواه ابن مسعود عنه، وأما أهل المدينة والشام فلم يرووا عنه إلّا القليل.

وأما الفقه فإن أمهات المسائل الفقهية هي المسائل الاجماعية لعمر، وليس في ( موطأ مالك ) و ( مسند أبي حنيفة ) و ( آثار الامام محمد ) و ( مسند الشافعي ) التي عليها العمل عند أكثر المسلمين عن المرتضى إلّا أحاديث معدودة مرفوعة وآثار

___________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٢١٧.

(٢). المصدر نفسه ٤ / ٢١٧.

(٣). المصدر نفسه.

(٤). طبقات السبكي ٢ / ٢٤٧.

٢٢٨

موقوفة »(١) .

٢ - الحسنانعليهما‌السلام

قال ابن تيمية: « وأما الحسن والحسين فمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما صغيران في سن التمييز، فروايتهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة »(٢) .

وقال: « وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل، وأما قوله: « وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا، فهذا كذب عليهما »(٣) .

وقال السبكي: « لكن الحسنرضي‌الله‌عنه فلم تتسع مهلته، ولم تبرز أوامره ولا عرفت طريقته، لقلة المدة »(٤) .

أقول: وإذا لم تعرف طريقته فكيف يقال: إن أهل السنة يتبعون أهل البيت وهو من أئمتهم؟! بل نفى ابن حجر المكي أن يكون الامام الحسنعليه‌السلام خامس الخلفاء الراشدين فقد قال في ( المنح المكية بشرح الهمزية ) ما نصه: « ومما يبطل توجيه تلك الكلمة ما ذكرته في مختصري ( تاريخ الخلفاء ) للحافظ السيوطي: أن رجلاً سمّى يزيد أمير المؤمنين، فأمر عمر بن عبد العزيز - خامس أو سادس الخلفاء الراشدين، ولا يرد الحسنرضي‌الله‌عنه على الذين عبّروا بالأول فإنه وإن كان منهم بنص الحديث الصحيح على أن الخلافة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثون سنة، ومدة خلافته سنة أشهر تكملة هذه الثلاثين، لأنها لم تطل ولم بدن له ما دان للأربعة من جميع بلاد الإسلام، فكأنه اندرج في خلافة أبيه فهما كرجل واحد، فهو من الأربعة، وحينئذ تعيّن أن خامسهم عمررضي‌الله‌عنه -

___________________

(١). قرة العينين ١٥٠ - ١٥٢.

(٢). منهاج السنة

(٣). منهاج السنة ٢ / ١٥١.

(٤). الابهاج في شرح المنهاج ٢ / ٣٦٧.

٢٢٩

بضربه عشرين سوطاً » الخ.

تحقيق في ما نسب إلى الإِمام الحسن من كثرة التزويج والطلاق

وقال ابن الهمام(١) في كتابه ( فتح القدير ) في كتاب الطلاق: « وأما وصفه فهو أبغض المباحات إلى الله تعالى، على ما رواه أبو داود وابن ماجة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: إن أبغض المباحات عند الله الطلاق، فنص على إباحته وكونه مبغوضا، وهو لا يستلزم ترتب لازم المكروه الشرعي إلّا لو كان مكروهاً بالمعنى الاصطلاحي، ولا يلزم ذلك من وصفه بالبغض إلّا لو لم يصفه بالإِباحة، لكنه وصفه بها لأن أفعل التفضيل بعض ما أضيف إليه، وغاية ما فيه أنه مبغوض إليه سبحانه وتعالى ولم يترتب عليه ما رتب على المكروه.

ودليل نفي الكراهة قوله تعالى:( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ ) وطلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة، ثم أمر سبحانه وتعالى أن يراجعها فانها صوامة قوامة. وبه يبطل قول القائلين: لا يباح إلا لكبر، لطلاق سودة، أو ريبة، فإن طلاقه حفصة لم يقرن بواحد منهما.

وأما ما روي: لعن الله كلّ ذوّاق مطلاق، فمحمله الطلاق بغير حاجة، بدليل ما روي من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما امرأة اختلعت من زوجها بغير نشوز فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ولا يخفى أن كلامهم فيما سيأتي من التعاليل يصرح بأنه محظور، لما فيه من كفران نعمة النكاح وللحديثين المذكورين وغيرهما، وإنما أبيح للحاجة والحاجة ما ذكرنا في بيان سببه، فبين الحكمين منهم تدافع.

___________________

(١). وهو: محمد بن عبد الواحد السيوطي المعروف بابن الهمام، من أئمة الحنفية في الفقه والأصول وغيرهما. له: فتح القدير في شرح الهداية في الفقه، والتحرير في أصول الفقه، وغيرهما من المصنفات، توفى سنة ٨٦١ توجد ترجمته في: الضوء اللامع ٨ / ١٢٧، الفوائد البهية في تراجم الحنفية ١٨٠، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٩.

٢٣٠

والأصح حظره إلّا لحاجة للأدلة المذكورة، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات، أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود: ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق، وأن الفعل لا عموم له في الزمان غير أن الحاجة لا تقتصر على الكبر والريبة، فمن الحاجة المبيحة أن يلقى إليه عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر باكراهه نفسه على جماعها، فهذا إذا وقع فإنْ كان قادراً على طول غيرها مع استبقائها ورضيت بإقامتها في عصمته بلا وطء أو بلا قسم فيكره طلاقه، كما كان بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسودة، وإن لم يكن قادرا على طولها أو لم ترض هي بترك حقها فهو مباح، لأن مقلّب القلوب رب العالمين.

وأما ما روي عن الحسن، وكان قيل له في كثرة تزوّجه وطلاقه، فقال: أحب الغنى، قال الله تعالى:( وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ) فهو رأي منه إن كان على ظاهره! وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي الله عنهم كطلاق عمررضي‌الله‌عنه أم عاصم، وعبد الرحمن بن عوف تماضر، والمغيرة بن شعبة الزوجات الأربع دفعة واحدة فقال لهن: أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الاطواق طويلات الأعناق، اذهبن فأنتن طلاق! فمحمله وجود الحاجة مما ذكرنا. وأما إذا لم تكن حاجة فمحض كفران نعمة وسوء أدب فيكره، والله سبحانه وتعالى أعلم ».

قلت: وقد ردّ عليه العلامة المحقق محمد معين السندي(١) بما لا مزيد عليه، ولننقل كلامه بطوله، فإنه قال بعد ذكر حجية عمل أهل البيتعليهم‌السلام :

« وعلى هذا الذي اعتقد في أهل بيت النبوة أنتقد على إمام الحنفية كمال الدين ابن الهمام في موضعين من كتابه ( فتح القدير )، فقد أحرق قلبي بما أفرط

___________________

(١). في نزهة الخواطر ٦ / ٣٤٧: « مولانا محمد معين السندي: الشيخ الفاضل العلامة محمد معين بن محمد أمين السندي، أحد العلماء المبرزين في الحديث والكلام والعربية ».

٢٣١

فيهم مع وفور علمه وحسن سيرته وشمائله، فسّرنا الله وإياه بجميل عفوه ورحمته بعزهم وجاههم، على جدّهم وعليهم أفضل الصلاة والتسليمات:

أحدهما: في مباحث الطلاق، حيث ذكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله كلّ ذوّاق مطلاق، وحرم بذلك فعله، ثم قال: وأما ما فعله الحسنرضي‌الله‌عنه فرأي منه! يعني ما فعله رضي الله تعالى عنه من كثرة الطلاق فرأي منه في مقابلة النص من غير تمسك بنص آخر، ولا جواب عن هذا فلا يقبل، فإن ما يكون بتمسك من نص أو جواب عما يرد عليه ليس هذا عنوان ذكره، فيفيد عدم قبوله قولهرضي‌الله‌عنه ، مع أن الحنفية يقبلون ألف رأي كذلك عن علمائهم، ويرتكبون لأقوالهم تأويل النصوص، بل يدّعون نسخها حماية لهم، ولا يأتون في آرائهم بمثل هذا القول الذي جاء به إمام من أئمتهم في رأي الحسن رضي الله تعالى عنه غير مبال لإصلاحه وطرحه محجوباً بالحديث!

وثانيهما: في باب الغنائم حيث تكلّم على قول أبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما، فيما أخبر به عن جدّه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان يرى سهم ذوى القربى، لكن لم يعطيهم مخافة أن يدعى عليه بخلاف سيرة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، بكلام محصوله كون خبره ذلك خلاف الواقع، فيكون ذلك إما من جهله بمذهب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أو سهوه أو نسيانه أو كذبه عليه لترويج مذهبه ومذهب الأئمة من ولده! وكلّ ذلك تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ولو كان رأياً من أبي جعفر رضي الله تعالى عنه فرده بما بدا له من الدليل لكان أهون من رد ما روى وأخبر به.

فالفجيعة كلّ الفجيعة على الأمة أن خلت كتب المذاهب الأربعة عن مذهب أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ثم إذا وجد شيء من ذلك يعارض بمثل هذا!! ولقد سبقت منا رسالة مفردة في انتقاد الموضعين تكلمنا فيها على الثاني، واستوفينا الكلام في الجواب عن الامام الحق رضي الله تعالى عنه، فلنكتف به ولنتكلم على الأول:

٢٣٢

فاعلم أن الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم يحرّمون الرأي والقياس، ولهذا لما دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنه - على ما حكاه الشعراني في اللواقح - قال له: بلغني أنك تقيس، لا تقس، فإن أوّل من قاس إبليس، فإسناد ذلك إلى الامام الحسن باطل، وإنما عملهم على النصوص والإلهام والكشف والفهم من الله سبحانه في معانيها.

ثم إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن في هذا الحديث كلّ ذوّاق مطلاق، فخص ما عم، فأفاد النهي عن كثرة الطلاق المسبب بكثرة التلذذ من صاحبه بالنساء لرداءة حاله في شره شهوته المفضي إلى ارتكاب أبغض المباحات إلى الله تعالى، فالمطلاق لا للذوق بل لأمر صحيح في نفسه لا يتوجه إليه هذا اللعن، كالذي اتفق له في كل زوجة ما لم يضيّق الشرع في دفعه عن نفسه، كالمرض الساري أو العقم ولم يكن قادراً إلّا على نفقة الواحدة أو النشوز أو الفسق أو غيرها، أو يكون طبيباً يريد الاطلاع على ما يختص بطبائعهنّ مما يتيسر من غير محرميته نكاح بجماعة منهن، وهذا مما أخبر به بعض المتبصرين بالطبائع المختصة بهن عن نفسه وعمله، أو يكون فقيهاً يريد الاطلاع على دقائق مسائل الحيض مما يتوقف على المحرمية، وكل ذلك مقاصد صحيحة لكثرة الطلاق، ولا يصدق على أحد ممن يطلق لما ذكر « ذواق » فإنه ظاهر فيمن حمله كثرة الذوق بعسيلة الجماع على كثرة الطلاق، فإذا كان اللفظ ظاهراً في مثل هذا المحمل، ولم يكن نصاً في معارضة العمل من مثله رضي الله تعالى عنه، يجب أن يحمل على أحسن المحامل ولو على الإرسال وعدم التعين لها، فيقال: النهي مخصوص بكلّ حريص شره لا يحمله على الطلاق إلا الشهوة واللذة، وأدنى المقبلين على الآخرة فضلاً عن المتوجهين إلى الله تعالى يستنكف أن يرتكب ذلك لذلك، كما لا يخفى هذا على من شاهد بعده عن بعض المشتغلين بالخير في زماننا، فما ظنّك بالامام الحق سيد أقطاب الله في أرضه.

فكان الواجب أن يقول: وأما ما فعله الامام الحسن رضي الله تعالى عنه

٢٣٣

فله في ذلك مقاصد حسنة لا ترد بها الحديث حجة، فما أحوجه إلى ذلك وترك ما قال، لما عرفت أن الحديث ليس متعيناً في معارضة فعله رضي الله تعالى عنه، بل عندنا معارضة الأحاديث الصحيحة بعمل هؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم والثابت عنهم ثبوت الحديث المعارض عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فرض وجودها لها حكم معارضة النصوص بعضها ببعض، فإن فهم الجمع فيها وإلّا يتوقف، مع الجزم بأنْ لا تعارض بينها في نفس الأمر.

ثم إن الإِرسال في محمل حسن لعمله رضي الله تعالى عنه يكفينا في الجواب، بعد ما اتضح عليك أن النص لا يقوم معارضا بعمله رضي الله تعالى عنه إلّا بالتزام فعله لما يستنزه منه أصبياء الطريقة والجزم بتعينه فيه مما يعد جحودا بأهل هذا البيت المقدس رضي الله تعالى عنهم، أعاذ الله سبحانه كلّ مسلم عن ذلك، فقد بدا لي بحمد الله سبحانه وجهان لفعله رضي الله تعالى عنه اللائق بحاله على المعنى من ذلك.

أحدهما: أن للعارفين في مجالي النساء تجلي إلهي خاص، أشار أعرف خلق اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك بقوله: حبّب إليَّ من دنياكم ثلاث، وذكر النساء، وسرّ ذلك يطلب من الحكمة الفردية في الفص المختتم به كتاب ( فصوص الحكم ) وفي غيره من كلام الشيخ الأكبررحمه‌الله تعالى، وتلون العارف بالتجليّات الإِلهية خير عنده من التمكن، وكلّ شيء من الدنيا فيه سر إلهي يختص بذلك الشيء، فمباشرة كثرة النساء تعرض للنفحات الالهية المتجددة ولا يتيسر تلك الكثرة إلّا بكثرة الطلاق والأنكحة.

وفي حلّ النكاح سرّ ليس في ملك اليمين، فإنه وهب وقبول لسر متحرك وبين الزوجين صلة بين المتفرقين، ولا يوجد ذلك في ملك اليمين، فإنّ حل المباشرة فيه عرض طرأ على الملك وليس العقد عقد الوصلة وجمع التفرقة، والنكاح والتزويج ينبئان لغة عن ذلك، إذ النكاح بمعنى الضم والتزويج بمعنى التلفيق، وهو ليس سر الملك ومعناه من حيث انه ملك كما هو معنى النكاح والتزويج

٢٣٤

وسرهما من حيث الحقيقة، هذا يؤيد مذهب الشافعي من أن النكاح لا ينعقد بلفظ التمليك للمباينة بينهما معنى، لأن لوازم المعاني غير داخلة في أصلابها، فلزوم التلفيق والضم شرعاً بملك اليمين لا يؤثر في زوال المباينة المذكورة كما لا يخفى.

فكثرة طلاقه ونكاحه رضي الله تعالى عنه كان صورة لتلونه رضي الله تعالى عنه بالتجليات الإِلهية المتلونة الغير المتكررة، ويرزق الله عباده الكمّل من نفسه بما شاء من مجاليه المعنوية والروحية والمثالية والحسية، وليس الحس دون العوالم إلّا بالنسبة إلى المترقي منه إلى العوالم العلوية.

وأما بالنسبة إلى العارف الصاعد الراجع فالأمر على عكس ذلك، وهو معنى قولهم: مقام النزول أتم من مقامات العروج، وإليه الاشارة بقوله تعالى:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ( وجعل الأرض. صح. ظ ) كله مسجداً وطهوراً، وبيان هذه الأسرار محلها كتابنا ( أنوار الوجد ) وهذا القدر يكفي منه هاهنا، وهذا الوجه في فعله رضي الله تعالى عنه تحفة مهداة إلى أهل الطريق من الفقراء الصادقين، فقد علم كلّ أناس مشربهم وإن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها.

وثانيهما: أنه قد ثبت في الحديث ما دل على أن أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتزوجون إلّا من أهل الجنّة، فأراد رضي الله تعالى عنه دخول صهره في هذه البشارة، وشقاوة جده لا ينافي سعادة أهله الذين وصلوا بالإمام الحق، وكأنه بإرادته هذه تنبّه رجل من همدان بحيث قال ما قال، وقصة ذلك ما أورده ابن سعد: أن علياً رضي الله تعالى عنه لما دخل الكوفة قال: يا أهل الكوفة إن الحسن رجل مطلاق فلا تزوّجوه، فقام رجل من همدان فقال: لنزوجنه فما شاء أمسك وما شاء طلّق. انتهى. فذهب بخير الدنيا والآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

٢٣٥

والله ذو الفضل العظيم »(١) .

افتعالهم اعتراض الحسن على أبيه

وذكر الدهلوي أن الامام الحسنعليه‌السلام اعترض على أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام في قصة مقتل عثمان قائلاً له: « أمرتك حين حضر الناس هذا الرجل أن تأتي مكة فتقيم بها فعصيتني، ثم أمرتك حين قتل أن تلزم بيتك حتى ترجع إلى العرب عوازب أحلامها، فلو كنت في حجر ضب لضربوا إليك آباط الإبل حتى يستخرجوك من جحرك فعصيتني، وأنا أنشدك بالله أن لا تأتي العراق فتقتل بحال مضيعة.

قال فقال علي: أما قولك آتي مكة فلم أكن بالرجل الذي تستحل به مكة، وأما قولك قتل الناس عثمان فما ذنبي إنْ كان الناس قتلوه؟ الحديث، أخرجه ابن أبي شيبة »(٢) .

قول بعضهم: قتل الحسين بسيف جده!!

ومن أجلى آيات بغضهم لأهل البيتعليهم‌السلام قول بعضهم: إن يزيد قتل الحسين بسيف جدّه الآمر بسله على البغاة وقتالهم، وهذا كفر صريح نعوذ بالله منه ومن أولئك البعض: القاضي أبوبكر بن العربي المالكي(٣) صاحب ( العواصم والقواصم ) فقد قال ابن حجر المكي في ( المنح المكية ) في ذكر

___________________

(١). دراسات اللبيب في الاسوة الحسنة بالحبيب: ٤٣٧.

أقول: هذا كله بناء على ثبوت أصل الموضوع تاريخياً وصحة الروايات الحاكية لذلك سنداً، لكن الظاهر أنه من القضايا المفتعلة ضد أهل البيت عليهم‌السلام ، فراجع.

(٢). قرة العينين / ١٨٩.

(٣). هو: محمد بن عبد الله المتوفى سنة ٥٤٣، له ترجمة في: وفيات الأعيان ١ / ٤٨٩ الديباج المذهب ٢٨١، نفح الطيب ١ / ٣٤٠، له مؤلفات منها: ( العواصم من القواصم ) الذي نشره بعض أعداء الدين مع إضافة أباطيل كثيرة إليه.

٢٣٦

يزيد بن معاوية: « قال أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به ورعاً وعلماً يقضيان بأنه لم يقل ذلك إلّا لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت عنده وإن لم تثبت عند غيره كالغزالي فإنه أطال في ردّ كثير ممّا نسب إليه كقتل الحسين، فقال: لم يثبت من طريق صحيح أنه قتله ولا أمر بقتله، ثم بالغ في تحريم سبّه ولعنه.

وكابن العربي المالكي فإنه نقل عنه ما يقشعر منه الجلد، إنه قال: لم يقتل يزيد الحسين إلّا بسيف جدّه، أي: بحسب اعتقاده الباطل أنه الخليفة والحسين باغ عليه والبيعة سبقت ليزيد، ويكفي فيها بعض أهل الحل والعقد وبيعته كذلك، لأن كثيرين أقدموا عليها مختارين لها، هذا مع عدم النظر إلى استخلاف أبيه له، أما مع النظر لذلك فلا يشترط موافقة أحد من أهل الحل والعقد على ذلك ».

وفيه أيضاً « وقول بعضهم - لا ملام على قتلة الحسين، لأنهم إنما قتلوه بسيف جدّه الآمر بسلّه على البغاة وقتالهم - لا يعوّل عليه ».

وقال المناوي: « قيل لابن الجوزي(١) - وهو على الكرسي [ على كرسي الوعظ ] - كيف يقال يزيد قتل لحسين وهو بدمشق والحسين بالعراق؟ فقال:

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق، لقد أبعدت مرماكا

___________________

(١). وهو: الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي البغدادي المتوفى سنة ٥٩٧، من كبار علماء القوم في الحديث والفقه والتفسير والتاريخ وله في هذه العلوم وغيرها مصنفات. منها: كتاب ( الرد على المتعصب العنيد المانع من لعن يزيد ) قال في أوله: « سألني سائل في بعض مجالس الوعظ عن يزيد ابن معاوية، وما فعل في حق الحسين، وما أمر به من نهب المدينة. فقال لي: أيجوز أن يلعن؟ فقلت: يكفيه ما فيه والسكوت أصلح. فقال: قد علمت أن السكوت أصلح، ولكن هل تجوز لعنه؟ فقلت: قد أجازها العلماء الورعون منهم الامام أحمد بن حنبل.

فبلغ كلامي هذا الى شيخ قد قرأ أحاديث مروية، ولم يخرج من العصبية العامية، فأنكر ذلك وصنف جزء لينتصر فيه ليزيد. فحمله الى بعض أصحابي وسألني الرد ».

قلت: وهذا الشيخ هو عبد المغيث بن زهير الحنبلي، وهو الذي رد عليه ابن الجوزي بكتاب آخر سماه ( آفة اصحاب الحديث في الرد على عبد المغيث ) في مسألة صلاة أبي بكر بالناس في مرض رسول الله ٦. وقد نشرنا هذا الكتاب لأول مرة مع مقدمة وتعاليق كثيرة.

٢٣٧

وقد غلب على ابن العربي الغض من أهل البيت حتى قال: قتله بسيف جدّه »(١) .

ابن خلدون ومخاريقه

ومن أولئك المبغضين أيضاً ابن خلدون، فإنه قد تفوّه بذلك كذلك، ولأجله لعنه وسبّه بعض حفاظ أهل السنة، فقد ذكر السخاوي بترجمته عن ابن حجر العسقلاني ما نصه: « وقد كان شيخنا أبو الحسن - يعني الهيثمي(٢) - يبالغ في الغض منه، فلما سألته عن سبب ذلك ذكر أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما في تاريخه فقال: قتل بسيف جدّه، ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسبّه وهو يبكي.

قال شيخنا(٣) في - رفع الأصر - ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكأنه ذكرها في النسخة التي رجع عنها »(٤) .

أقول: ومع ذلك توجد في ( مقدمة ابن خلدون ) كلمات حول يزيد والامام الحسين الشهيدعليه‌السلام ، تنبئ عن سوء سريرة ابن خلدون وخبث باطنه، يستحق بها اللعن والسب، كما فعل الحافظ نور الدين الهيثمي فقد قال في فصل ولاية العهد:

« وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها. فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته، فإياك أن تظن بمعاويةرضي‌الله‌عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك وأفضل، بل كان يعذله أيام حياته في سماع

___________________

(١). فيض القدير ١ / ٢٠٥.

(٢). هو: الحافظ الهيثمي صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد المتوفى سنة ٨٠٧ ترجم له في: الضوء اللامع ٥ / ٢٠٠، طبقات الحفاظ ٥٤١، البدر الطالع ١ / ٤٤.

(٣). هو: الحافظ ابن حجر العسقلاني الملقب عندهم بشيخ الإسلام صاحب فتح الباري، الاصابة، تهذيب التهذيب وغيرها من أمهات المصادر. توفي سنة ٨٥٢.

(٤). الضوء اللامع ٤ / ١٤٧.

٢٣٨

الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك، وكانت مذاهبهم فيه مختلفة، ولـمّا حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه، فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك، كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك، ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به، لأن شوكة يزيد يومئذٍ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتتبع عصبية مضر أجمع، وهي أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم، فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه، وهذا كان شأن جمهور المسلمين. والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين، فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة، وفقنا الله للاقتداء بهم ».

فتراه في هذا الكلام يدّعي حدوث فسق يزيد في ايام خلافته، ويقصد من ذلك تنزيهه في أيام ولاية العهد.

ويحذر من أن يظن. بمعاوية أنه علم ذلك من يزيد مدّعياً كونه أعدل من ذلك وأفضل.

ويقول بأن معاوية كان يعذل يزيد في سماع الغناء وينهاه عنه، وسماع الغناء أمر اقل من الفسق، ومذاهب الأصحاب والتابعين فيه مختلفة.

ويعود فيدّعي حدوث الفسق من يزيد، واختلاف الصحابة حينئذٍ في شأنه.

ويصرح بنسبة الخروج عليه ونقض البيعة إلى الامام الحسينعليه‌السلام وغيره

إلى غير ذلك من الطامات والأكاذيب المشتمل عليها هذا الكلام.

ولابن خلدون في ( المقدمة ) كلام آخر كشف فيه عن كثير من الأسرار، وهتك فيه كثيراً من الأستار إنه يقول:

« وأما الحسين فإنّه لما ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره، فرأى الحسين أن الخروج على

٢٣٩

يزيد متعين من أجل فسقه، لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته وشوكته، فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة، وأما الشوكة فغلط يرحمه‌الله فيها ! لأن عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنّما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه، وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين، فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت، ولم يبق إلّا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محكم والعادة معزولة، حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لنبي أُمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل.

فتبين لك غلط الحسين! إلّا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه!، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه وكان ظنة القدرة على ذلك، ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفّية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك! ولم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله.

وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإنْ كان فاسقاً لا يجوز، لما ينشأ من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك، ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثموه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين.

ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره، فإنّهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهدهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه ويقول: سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن سعيد ( سعد. ظ ) وزيد بن أرقم وأمثالهم، ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره، ولا تعرض لذلك لعلمه أنه عن

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347