نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار16%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 347

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 347 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286596 / تحميل: 6654
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثاني: الصحابة في القران الكريم

وتعرّض القرآن الكريم لأحوال الصحابة وصفاتهم، منذ بداية بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتّى وفاته في كثيرٍ من سوره وآياته ...

لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مقابل الكافرين، والذين أُوتوا الكتاب، إلى ثلاثة طوائف، هم:

١ - الذين آمنوا.

٢ - الذين في قلوبهم مرض.

٣ - المنافقون.

والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان:( الّذين في قلوبهم مرض ) إلى جنب( الّذين آمنوا ) في بعض السِّوَر المكيّة،

ففي سورة (المدّثّر)، المكيّة بالإجماع، وهي من أُوليات السِّوَر، جاء قوله تعالى:

( وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا

٢١

أرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) (١) .

دلّت الآية المباركة على وجود أُناس( في قلوبهم مرض ) حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ الأيّام الأُولى من الدعوة الإسلامية، و (المرض) بأيِّ معنىً فُسّر، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنوَّرة، قال الله تعالى:

( وممّن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة ) (٢) .

فالّذين في قلوبهم مرضٌ لازموا النبيّ منذ العهد المكّي، حيث كان الإسلام ضعيفاً، والنبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطارداً.

أمّا المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الإسلام، فتظاهروا بالإسلام؛ حفظاً لأنفسهم وأموالهم وشؤونهم.

وبناءً على هذا، فكلُّ آيةٍ من القرآن الكريم، ورد في ظاهرها شيءٌ من الثناء على عموم الصحابة، فهي - لو تمّ الاستدلال بها - محفوفة بما يخرجها عن الإطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ( الّذين آمنوا ) حقيقةً، فلا يُتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرضٌ، والمنافقين، الذين وقع التصريح بذمّهم - كذلك - في كثيرٍ من الآيات(٣) .

وفيما يلي، نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة، في مختلف مراحل الدعوة الإسلامية، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبُعد عن الأُسس الثابتة في العقيدة والشريعة، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأوامر والنواهي:

____________________

١) سورة المدّثر ٧٤: ٣١.

١) سورة التوبة ٩: ١٠١.

٣) اُنظر تفسير الميزان ٢٠: ٩٠.

٢٢

آيات المدح والثناء:

ذكر غير واحدٍ من المؤلفين، آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال، على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم:

الآية الأُولى:

قال تعالى:

( كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ ) (١) .

قالوا: نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة، كما ورد عن عبدالله بن عبّاس أنّه قال:

(هم الذين هاجروا مع رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من مكّة إلى المدينة)(٢) .

وعن عِكْرِمة ومقاتل:

(نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إنَّ ديننا خيرٌ مما تدعوننا إليه، ونحن خيرٌ وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ...)(٣) .

لكنّ قول ابن عباس لو ثبت مقيّدٌ بما أشرنا إليه، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرضٌ قطعاً.

كما أنّ قول عِكْرِمة وأمثاله ليس بحجّة.

____________________

١) سورة آل عمران ٣: ١١٠.

٢) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٣٩٩. والدر المنثور، للسيوطي ٢: ٢٩٣. وبنحوه في الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٠.

٣) أسباب نزول القرآن، للواحدي: ١٢١.

٢٣

والآية حتّى لو كانت نازلةً في موردٍ خاصٍ إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الأُمّة الإسلامية، كما يقول ابن كثير:

(والصحيح أنَّ هذه الآية عامّة في جميع الأُمّة كلّ قرنٍ بحسبه)(١) .

واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية، هل هو الأُمّة بأفرادها فرداً فرداً؟

أي أنّ كلّ فرد من الأُمّة الإسلامية هو موصوف بالخيريّة، أو هو الأُمة إجمالاً، أي: بمجموعها دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً.

فذهب جماعةٌ إلى الرأي الأول، ومنهم: الخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار الحنبلي(٢) .

فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الأُمّة وهم الصحابة آنذاك، فكُلُّ صحابيٍّ يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين.

وذهب آخرون إلى الرأي الثاني، وهو اتصاف مجموع الأُمّة بالخيرية دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتصف بالخيريّة من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، سواء كان فرداً أو أُمّة.

قال الفخر الرازي:

( المعنى أنّكم كنتم في اللّوح المحفوظ خير الأُمم وأفضلهم، فاللاّئق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجّه عليكم من التكاليف والألف

____________________

١) تفسير القرآن العظيم ١: ٣٩٩.

٢) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. الإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٢٧٤.

٢٤

واللاّم في لفظ (المعروف)، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية)(١) .

وقال الفضل الطبرسي:

(كان بمعنى صار، ومعناه: صرتم خير أُمّة خلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال شرطاً في كونهم خيراً)(٢) .

وقال القرطبي:

(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر: مدح لهذه الأُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم)(٣) .

فالخيرية تزول إن زالت علّتها، وذهب إلى ذلك - أيضاً - نظام الدين النيسابوري(٤) ، والشوكاني(٥) ، وآخرون.

وذكر ابن كثير قولين - في ذكر الشروط - أحدهما لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والآخر لعمر بن الخطّاب:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

( خيرُ الناس أقرأهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم ) (٦) .

____________________

١) التفسير الكبير ٨: ١٨٩ - ١٩١.

٢) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي ١: ٤٨٦.

٣) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٣.

٤) تفسيرغرائب القرآن، للنيسابوري ٢: ٢٣٢.

٥) فتح القديرللشوكاني: ٣٧١.

٦) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير ١: ٣٩٩

٢٥

فالآية الكريمة ناظرةٌ إلى مجموع الأُمّة، أمّا الأفراد، فقد وضع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقياساً لاتصافهم بالخيرية، كما جاء في قوله.

وفي حجةٍ حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعةً، فقرأ هذه الآية، ثم قال:

(من سرّه أن يكون من هذه الأُمّة فليؤدِ شرط الله فيها)(١) .

وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيريّة مختصةٌ بمن نزلت فيهم الآية في حينها، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( أنتم خير أُمّةٍ في الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيماناً صادقاً، يظهر أثره في نفوسكم وهذا الوصف يصدُق على الذين خوطبوا به أولاً، وهم النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل وما فتئت هذه الأُمّة خير الأُمم حتّى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(٢) .

وأضاف محمد رشيد رضا: الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرّق، إلى شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( شهادة من الله تعالى للنبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها، بأنّها خير أُمّةٍ أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام، واتّباع - النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام، مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلاّ بعد القيام بالأمر

____________________

١) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٤٠٤.

٢) تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي ٤: ٢٩.

٢٦

بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله، مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين ...

إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل، لم تكن لكلِّ من يُطْلق عليه المحدّثون اسم الصحابي )(١) .

ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الأقرب للمعنى المراد، فإنَّ الآية ناظرةٌ إلى مجمل الأُمّة وليس إلى الأفراد فرداً فرداً.

وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال:

( لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، فالمراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، فلا يُراد كل واحد منهم أي من الصحابة -)(٢) .

الآية الثانية :

قال تعالى:

( وكذلِكَ جعلناكُم أُمَّةً وسطاً لِتكونُوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليكم شهيداً ) (٣).

جعل الله تعالى المسلمين أُمّةً وسطاً بين الأُمم، لا سيّما اليهود والنصارى، فالأُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغُلوّ في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الأنبياء، قال النيسابوري:

(إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط، والغالي والمقصّر في شأن الأنبياء لا كالنصارى ولا كاليهود)(٤) .

ويُطْلق الوسط - أيضاً - على الخيار والعدل.

____________________

١) تفسير المنار ٤: ٥٨ - ٥٩.

٢) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف: ٨٢.

٣) سورة البقرة ٢: ١٤٣.

٤) تفسير غرائب القرآن ١: ٤٢١.

٢٧

قال الزمخشري: ( وقيل للخيار وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محميّة محوطة.. أو عدولاً لأنَّ الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض)(١) .

وقال القرطبي نحو ذلك(٢) .

والوسطيّة بمعنى الاعتدال بين الإفراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسّرين(٣) .

فهذه الآية كسابقتها في أنّ المراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، وإنْ حاول جماعةٌ - ومنهم: عبدالرحمان ابن أبي حاتم الرازي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار(٤) - تنزيلها على الأفراد، فجعلوا كلّ مسلمٍ وسطاً وعدلاً، فالصحابة جميعهم عدولٌ بشهادة القرآن لهم.

قال الفضل الطبرسي:

( إنّه - تعالى - جعل أُمّة نبيه محمّدٍ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - عدلاً وواسطة بين الرسول والناس، ومتى قيل: إذا كان في الأُمّة من ليس هذه صفته، فكيف وصف جماعتهم بذلك؟

فالجواب: إنّ المراد به من كان بتلك الصفة، ولأنّ كلَّ عصرٍ لا يخلو من جماعةٍ هذه صفتهم)(٥) .

____________________

١) الكشّاف ١: ٣١٨.

٣) الجامع لأحكام القرآن ٢: ١٥٤.

٤) مجمع البيان ١: ٢٤٤. وتفسير المراغي ٢: ٦. وتفسير المنار ٢: ٥.

٥) الجرح والتعديل ١: ٧. والكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٤.

٦) مجمع البيان ١: ٢٢٤.

٢٨

وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطيّة، وهو اتّباع سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمن لم يتّبعْها يُعتبر خارجاً عن هذه الأُمّة فقال:

( فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتّبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى، وانحرف عن الجادّة، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّةً عليه بأنّه ليس من أُمتّه.. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين )(١) .

وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار(٢) .

وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالأولياء دون غيرهم، فقال:

(ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأُمّة، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم)(٣) .

وقال - أيضاً -:

( فالمراد بكون الأُمّة شهيدةً أنّ هذه الشهادة فيهم، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فُضّلوا على العالمين، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كلُّ واحدٍ منهم، بل نُسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه )(٤) .

وممّا يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الأُمّة، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجيّة إجماع الأُمّة استندوا إلى هذه الآية، واعتبروا إجماع الأُمّة هو الحجّة، دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، كما حكى عنهم الشريف

____________________

١) تفسير المراغي ٢: ٦.

٢) تفسير المنار ٢: ٥.

٣) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٤) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٢٩

المرتضى(١) وأبو حيان الأندلسي(٢) .

وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الأُمّة فقال:

(فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الأُمّة موصوفاً بالعدالة، إذ لا يجوز أن يكون كلُّ واحدٍ موصوفاً بها؛ لأنّ الواقع خلافه)(٣) .

وبعد، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالأمر واضح، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها، وضمّ بعضها إلى البعض الآخر، فهي وإنْ شملت الأفراد لكن(الذين آمنوا) فقط، دون(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) ، وأمّا على أقوال الجمهور، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الأُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة، لأن الواقع خلافه، كما نصّ عليه العلاء البخاري.

فالآية الكريمة جعلت المسلمين أُمّةً وسطاً أو عدلاً، وهذه الوسطيّة والعدليّة ممتدة مع امتداد الأُمّة الإسلامية في كلِّ عصرٍ وزمان، فالأُمّة الإسلامية في مراحل لاحقة هي أُمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الإسلامي، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الأُمّة الإسلامية أُمّةٌ وسط أو أُمّة عادلة، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الأُمّة، أمّا سراية الوسطيّة والعدليّة للأفراد فرداً فرداً فلا تصح، لأنّ الواقع يخالف ذلك، فكثير من المسلمين بعيدون عن الإسلام كلّ البعد في تصوراتهم

____________________

١) الشافي في الإمامة ١: ٢٣٢ وما قبلها.

٢) تفسير البحر المحيط ١: ٤٢١.

٣) كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري، دار الكتاب العربي - بيروت ١٣٩٤ هـ.

٣٠

ومشاعرهم ومواقفهم، فكيف نعمّم العدالة على الأفراد؟

وما نقوله هنا نقوله في حقِّ أفراد الأُمّة في زمن النزول، فالآية مختصة بمجموع الأُمّة، بما فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والعترة الطاهرة، والمهاجرون والأنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الأوامر الإلهيّة والنبويّة، طرفة عين، واستمروا على ذلك حتّى بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

الآية الثالثة:

قال تعالى:

( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تبيَّنَ لهُ الهدى ويتَّبِع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءت مصيراً ) (١) .

استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة، ومنهم عبدالرحمان الرازي(٢) .

ووجه الاستدلال:

أنّ الله - تعالى - جمع بين مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً، ولا يصح الأمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق.

ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى. ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه:

الأوّل :

ذهب كثيرٌ من المفسرِّين والمتكلِّمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الأُمّة ومنهم: القصّار المالكي والسبكي(٣) .

____________________

١) سورة النساء ٤: ١١٥.

٢) الجرح والتعديل، لعبدالرحمان الرازي ١: ٧.

٣) المقدمة في الأُصول، للقصّار المالكي: ٤٥. والإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي ٢: ٣٥٣.

٣١

الثاني:

المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الإيمان وطاعة الله ورسوله، فإنَّ ذلك هو (الحافظ لوحدة سبيلهم)(١) .

الثالث :

أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الإثم والعدوان، كما ورد في الآيات الكريمة، ومنها: قوله تعالى:

( وتَعاونُوا على البرِّ والتَّقوى ولا تَعاونُوا على الإثمِ والعُدوانِ ) (٢) .

وقوله تعالى:

( يا أيُّها الذين آمنُوا إذا تناجَيتُم فلا تَتَناجَوا بالإثمِ والعُدوانِ ومعصِيةِ الرَّسُولِ وتناجَوا بالبّرِ والتَّقوى ) (٣) .

فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالإثم والعدوان، لإمكان وقوعه من قبل المسلمين.

الرابع :

اختلف الصحابة فيما بينهم حتّى وصل الحال بهم إلى الاقتتال، كما حدث في معركة الجمل وصفّين، فيجب على الرأي المتقدِّم اتّباع الجميع، اتّباع علي بن أبي طالب (عليه السلام) والخارجين عليه، وهذا محال، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني:

عدم اتّباع الجميع، بل البعض منهم، وهذا هو الوجه الصحيح، وهو وجوب اتّباع من وافق الحقّ والشريعة وليس اتّباع كل سبيل.

فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللأُسس الثابتة في الشريعة، وليس هو سبيل كلِّ فردٍ من أفراد المؤمنين.

وقد أشار ابن قيّم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على

____________________

١) الميزان في تفسير القرآن ٥: ٨٢.

٢) سورة المائدة ٥: ٢.

٣) سورة المجادلة ٥٨: ٩.

٣٢

الأفراد فقال:

( إنّ لفظ الأُمّة ولفظ سبيل المؤمنين، لا يمكن توزيعه على أفراد الأُمّة وأفراد المؤمنين )(١) .

الآية الرابعة :

قال الله تعالى:

( يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ ) (٢) .

في هذه الآية تطييب لخاطر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية، فقال مجاهد: (حسبك الله والمؤمنون)(٣) .

فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى، فالله تعالى، والمؤمنون، هم الذين ينصرون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤيّدوه.

وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيّدهم، فقال:

(يخبرهم أنّه حسبهم، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم)(٤) .

وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الأوّل(٥) .

وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الأوّل، وهي قوله تعالى:

( ...فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين ) (٦) .

والآية تُسمّي من كان مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمؤمنين سواء كان الله تعالى

____________________

١) أعلام الموقعين ٤: ١٢٧.

٢) سورة الانفال ٨: ٦٤.

٣) الدُّر المنثور ٤: ١٠١.

٤) تفسير القرآن العظيم ٢: ٣٣٧.

٥) الميزان في تفسير القرآن ٩: ١٢١.

٦) سورة الأنفال ٨: ٦٢.

٣٣

ناصره وناصرهم، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا دلالة على أكثر من ذلك.

وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم(١) .

وجعلوا الآية شاملةً لجميع الصحابة، حتّى الّذين لم يشتركوا في أيّ غزوةٍ من الغزوات، وهذا التعميم بحاجةٍ إلى دليل، ولا يكفي أن نقول:

إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد، فالآية قد نزلت في موردٍ خاصٍ وفي معركة بدرٍ بالخصوص، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتّى الّذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثمّ أسلموا فيما بعد؟

وتسالم المفسرون على نزول الآية في موردٍ خاص، وهو غزوة بدر، وفي جماعةٍ خاصةٍ من الصحابة، وهم الصحابة الأوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا، لا في مطلق الصحابة.

فقيل: أنّها نزلت في الأنصار(٢) .

وقيل: أنّها نزلت في الأربعين الذين أسلموا في بداية البعثة(٣) .

وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام):

( إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب ) (٤) .

والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في القتال.

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة في تمييز الصحابة ١: ٦.

٢) التفسير الكبير ١٥: ١٩١. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٣) أسباب النزول، للسيوطي: ١٨٣. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٤) شواهد التنزيل، للحسكاني ١: ٢٣٠.

٣٤

وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي، وابن حَجَر العسقلاني، من شمولها لجميع الصحابة، فرداً فرداً، فالمتسالَم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدرٍ كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، أمّا بقيّة الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، وخصوصاً بعد فتح مكة، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره، على أعدائه الذين جمعوا له، للقضاء عليه وعلى رسالته، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، كمعاوية، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهم!

ومع نزول الآية في الصحابة الأوائل، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة، كما سيأتي فيما بعد(١) .

وهذا كلّه بحسب الأقوال والآراء في معنى الآية ونزولها.

أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ) .

وهل يعمّ هذا اللّسان غير(الذين آمنوا) من(الذين في قلوبهم مرض) ومن(المنافقين) ؟!

الآية الخامسة :

قال الله تعالى:

( والسّابِقُونَ الاَوّلُونَ مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ والَّذينَ اتّبعُوهُم بإحسانٍ رّضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنهُ وأعدَّ لهُم جنّاتٍ تجري تَحتَها الأنهارُ خالدِينَ فيها أبداً ) (٢) .

____________________

١) راجع الآية السابعة من هذا الفصل.

٢) سورة التوبة ٩: ١٠٠.

٣٥

في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله.

واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء(١) :

الرأي الأوّل: أهل بدر.

الرأي الثاني: الذين صلّوا إلى القبلتين.

الرأي الثالث: الذين شهدوا بيعة الرضوان.

واختلفوا في تفسير التابعين على آراء:

الأوّل: هم الأنصار، على قراءة من حذف الواو من قوله (والذين)(٢) .

الثاني: هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار(٣) .

الثالث: هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة(٤) .

الرابع: هم المسلمون في كلِّ زمانٍ إلى أن تقوم الساعة(٥) .

واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار، حسب رأيهم المعروف بهذه الآية، على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة

____________________

١) مجمع البيان ٣: ٦٤. والجامع لأحكام القرآن ٨: ٢٣٦. والكشاف ٢: ٢١٠. وتفسير القرآن العظيم ٢: ٣٩٨. والدُّر المنثور ٤: ٢٦٩.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧١.

٣) المصدر السابق ١٦: ١٧٢.

٤) الجرح والتعديل ١: ٨.

٥) الدُّر المنثور ٤: ٢٧٢.

٣٦

الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن أسلموا فيما بعد، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام، حسب تعريفهم للصحابة، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً(١) .

وهذا الاستدلال خلاف للواقع، فالآية مختصّة بالمهاجرين والأنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة، من غير(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) أمّا التبعيّة لهم فمشروطة بالإحسان، سواءٌ فُسِّر بإحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي(٢) ، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم، كما قال المراغي:

(فإذا اتّبعوهم في ظاهر الإسلام، كانوا منافقين مسيئين غير محسنين، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض، كانوا مذنبين)(٣) .

فمن لم يُحسِن القول فيهم أو من لا يتّبعهم بإحسان، لا يكون مستحِقاً لرضوان الله - تعالى - فمن أمر بشتم الإمام عليّ (عليه السلام) وذمّه، لا تشمله الآية، فقد جاء في وصيّة معاوية للمغيرة بن شعبة: (لا تترك شتم عليٍّ وذمّه)، فكان المغيرة (لا يدع شتم عليٍّ والوقوع فيه)(٤) .

فكيف يدّعون رضوان الله عنهم، وقد خالفوا شرطه في الاتّباع بإحسان، وخرجوا على أول المؤمنين ووصي رسول ربِّ العالمين، أو من استقرّت له الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد حسب رأيهم، وسفكوا في هذا الخروج دماء السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٢.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧٢.

٣) تفسير المراغي ١١: ١١.

٤) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٢.

٣٧

كعمّار بن ياسر، وذي الشهادتين، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وغيرهم كما هو مشهور؟!

وإضافةً إلى ذلك، فرضوان الله - تعالى - مشروطٌ بحسن العاقبة، كما ورد عن البراء بن عازب، حينما قيل له: ( طوبى لك صحبت النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وبايعته تحت الشجرة)، فقال للقائل: ( إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده)(١) .

وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ ) (٢) .

الآية السادسة:

قال تعالى:

( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المـُؤمِنينَ إذ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فتحاً قرِيباً) (٣) .

أثنى الله تعالى على الصحابة(المؤمنين) الذين بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، ومصداق الثناء هو رضوان الله عنهم، وإنزال السَكِينة على قلوبهم.

وعلى الرغم من نزول الآية في بيعة الرضوان عام الحديبية، واختصاصها بالمبايعين فقط، وعددهم - حسب المشهور من الروايات - كان ألفاً وأربعمائة(٤) ، وهي بقرينة الآيات الأُخرى مخصّصةً بالذين آمنوا ولم يكن في قلوبهم مرض، واستقاموا على الإيمان، ولم ينحرفوا عن لوازم البيعة، إلاّ أنّ الخطيب البغدادي أدرج جميع الصحابة في هذه الآية،

____________________

١) صحيح البخاري ٥: ١٦٠.

٢) مسند أحمد ٦: ١٩.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٨.

٤) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٢٢. والسيرة النبوية، لابن كثير ٣: ٣٢٤.

٣٨

وتابعه ابن حجر العسقلاني مستشهداً برأيه(١) ، ولهذا ادّعوا عدالة جميع الصحابة كما هو المشهور في تعريفهم للصحابي.

وهذا الادّعاء غير صحيح، فرضوان الله وسكينته مختصّة بالمبايعين الموصوفين بما ذكرناه فقط، أمّا غيرهم فخارج عن ذلك، ولأنّ سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان من قِبَل المشركين، بعد أن أرسله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مبعوثاً عنه إلى قريش، فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى البيعة على قتال المشركين(٢) .

وهؤلاء المشركون هم الذين أسلموا فيما بعد وأصبحوا من الصحابة، فكيف يشملهم رضوان الله وسكينته، وهم السبب الأساسي في الدعوة إلى البيعة، فكيف يُعقل أن يكون رضوان الله شاملاً للمبايعين، وللمراد قتالهم في آن واحد؟!

وإضافةً إلى ذلك فإنّ الأجر المترتِّب على البيعة موقوفٌ على الوفاء بالعهد، كما جاء في الآية الكريمة:

( إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِمْ فمن نَكَثَ فإنَّما يَنكُثُ على نفسِهِ وَمَنْ أوفى بما عاهَدَ عَلَيه اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً ) (٣)

فرضوان الله وسكينته مشروطةٌ بالوفاء بالعهد وعدم نكثه(٤) .

وكلُّ ذلك مشروطٌ بحسن العاقبة، كما في رواية البراء بن عازب المتقدِّمة، ولم تمضِ على البيعة إلاّ أيّامٌ معدودة حتّى عقد رسول

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦ - ٧.

٢) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٣٠.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٠.

٤) الكشّاف ٣: ٥٤٣. ومجمع البيان ٥: ١١٣. وتفسير القرآن العظيم ٤: ١٩٩.

٣٩

الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معاهدة الصُلْح في الحديبية، فدخل الشك والريب قلوب بعض الصحابة، حتّى خالفوا أوامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلم يستجيبوا له حينما أمرهم بالحلْق والنحر(١) إلاّ بعد التكرار وقيامه بنفسه بالحلْق والنحر، وهذا يدّل على أنّ لحسن العاقبة دوراً كبيراً في الحكم على البعض بالعدالة وعدمها، فرضوان الله تعالى، إنّما خُصّص بالبيعة، ولا دليل لشموله لجميع المراحل التي تعقب مرحلة البيعة، فمثلاً:

أنّ قاتل عمّار بن ياسر في صفّين، كان من المبايعين تحت الشجرة(٢) ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمّار:

( قاتِلهُ وسالِبُه في النار ) (٣) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النّار ) (٤) .

الآية الثامنة :

قال الله تعالى:

( مُحَمّدٌ رسُولُ اللهِ والَّذينَ معَهُ أشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَينَهُم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ مِنهُم مَغفِرةً وأجراً عظيماً ) (٥) .

وصف الله تعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه بأنّهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، عُرفوا بالركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان من الله، ووعد تعالى المؤمنين منهم والذين عملوا الصالحات، مغفرةً وأجراً عظيماً.

____________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٥. والكامل في التاريخ ٢: ٢٠٥.

٢) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤: ١٦١.

٣) سِيَر أعلام النبلاء ١: ٤٢٠ - ٤٢٦. والطبقات الكبرى ٣: ٢٦١. وأُسد الغابة ٤: ٤٧. وكنز العمّال ١٣: ٥٣١ / ٧٣٨٣. ومجمع الزوائد ٩: ٢٩٧ وقال: رجاله رجال الصحيح.

٤) صحيح البخاري ٤: ٢٥. وبنحوه في العقد الفريد ٥: ٩٠. والكامل في التاريخ ٣: ٣١٠.

٥) سورة الفتح ٤٨: ٢٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

والثانية: التقية، فكلما أرادوا شيئاً يتكلّمون به، فإذا قيل لهم هذا خطأ وظهر بطلانه قالوا: إنما قلناه تقية »(١) .

وقد أورد الشهرستاني كلام سليمان بن جرير وهذا نصه: « ثم إنه طعن في الرافضة فقال: إن أئمة الرافضة قد وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظهر أحد قط بهما عليهم، إحداهما: القول بالبداء، فإذا أظهروا قولاً أنه سيكون لهم قوة وشوكة وظهور. ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا الله تعالى في ذلك، والثانية: التقية، وكل ما أرادوا تكلّموا به، فإذا قيل لهم: ذلك ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا: إنما قلناه تقية وفعلناه تقية »(٢) .

تحريف الدهلوي الكلام المذكور

ومن غرائب الأعمال الفاضحة تحريف ( الدهلوي ) كلام الشهرستاني هذا وإقحامه فيه عبارات من عنده، فقد جاء في حاشية المكيدة السابعة بعد المائة من باب المكايد من ( التحفة ) ما نصه: « قد نقل صاحب الملل والنحل عن سليمان بن جرير من الزيدية أنه قال: إن أئمة الرفض وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظهر أحد قط بهما عليهم.

إحداهما: القول بالبداء، فإذا تليت عليهم الآيات الدالة على مدح الصحابة والثناء الحسن عليهم أولوها بالبداء وقالوا: بدا لله تعالى في حالهم، وكذا إذا أخبروا أتباعهم بأنه سيكون لهم شوكة وقوة ثم لا يكون الأمر على وفق ما وعدوا به قالوا: بد الله في ذلك.

والثانية: التقية، فكلما رويت عندهم عن أمير المؤمنين والأئمة ما يدل على الثناء في حق الصحابة والألفة معهم والمؤانسة بهم والمصاهرة والمؤاكلة والمشاربة والصلاة خلف الخلفاء ورواية الحديث عنهم ولهم قالوا: هذا كله محمول على

___________________

(١). المحصل للرازي ١٨٢.

(٢). الملل والنحل ١ / ١٦٠.

٢٦١

التقية، بل بعض فضلائهم إذا تكلم بكلام باطل فقيل له: هذا باطل عندك وعلى وفق قواعدك وقواعد أصحابك وروايات أئمتك قال: إنما قلناه تقية وتلبيساً للأمر.

أقول: هاهنا مقالة ثالثة هي حصنهم الحصين وحرزهم الحريز وهي الرجعة، فإن الآيات الدالة على غلبة الحق وأهله، وكذا الأحاديث المبشرة بحصول الأمن والغنى والجاه والثروة إذا أوردت عليهم قالوا: هذه المواعيد كلها يكون عند الرجعة ».

أقول: قد أضاف ( الدهلوي ) على كلام الشهرستاني جملة: « فإذا تليت عليهم » وجملة « فكلما ». وأسقط جملة: « وكلما أرادوا تكلّموا » ووضع في مكانها: « بل بعض فضلائهم ».

ثم إنه أضاف قضية الرجعة مصدرة بكلمة « أقول » ليوهم الناظر في كتابه أنه من كلام الشهرستاني، وأن ما ذكره قبل « أقول » كلام سليمان بن جرير وهل هذا إلّا خيانة وتدليس؟!

كلام الدواني

ومما يدل على انحراف أهل السنة عن أهل البيتعليهم‌السلام قول الدواني - حيث زعم العضدي أن الفرقة الناجية التي يعنيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث افتراق الأمة هم الأشاعرة دون غيرهم -: « فإن قلت: كيف حكم بأن الفرقة الناجية هم الأشاعرة وكلّ فرقة تزعم أنها الناجية؟

قلت: سياق الحديث مشعر بأنهم مقتدون بما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه، وذلك إنما ينطبق على الأشاعرة، فإنهم يتمسكون في عقائدهم بالأحاديث الصحيحة المروية عنهعليه‌السلام وعن أصحابه رضي الله عنهم لا يتجاوزون عن ظواهرها إلّا بضرورة، ولا يسترسلون مع عقولهم كالمعتزلة ومن يحذو حذوهم، ولا مع النقل عن غيرهم كالشيعة المتشبثين بما روي عن

٢٦٢

أئمتهم لاعتقادهم العصمة فيهم »(١) .

وقد أفرط الخلخالي في العناد والانحراف فقال في ( حاشيته على شرح العقائد ) معلقاً على عبارة الدواني: « لأجل اعتقادهم العصمة في أئمتهم وعدم صدور الكذب والافتراء منهم ».

أي: أن الاعتقاد بمعصمة أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وعدم صدور الكذب والافتراء هو مما يختص بالشيعة الامامية، وأما أهل السنة فيخالفونهم في ذلك ويرونه اعتقاداً باطلاً ومذهباً منكراً.

فهذه عقيدة أهل السنة في أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، لا ما زعمه ( الدهلوي )

قوله: وإذا كان الشيعة لا يعتبرون كتب أهل السنة فبما ذا يجيبون عن الأحاديث الواردة عن الشيعة، سواء في العقائد الإلهية والفروع الفقهية الموافقة لأهل السنة، كما سيأتي في هذا الكتاب؟

أقول:

لقد أجاب علماؤنا الأعلام عن استدلالات ( الدهلوي ) بروايات الشيعة في الأصول والفروع في ردودهم على أبواب ( التحفة )، وقد أتموا الحجة على أولياء ( الدهلوي ) وأوضحوا المحجة لهم، وبرهنوا على تخلّفهم عن سفينة أهل البيت -عليهم‌السلام - التي من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك وغوى، والحمد لله رب العالمين.

لا دلالة للحديث إلّا على نجاة الإثني عشرية فحسب

قوله:

ولبعض علماء الشيعة في هذا المقام تأويل خدّاع لا بدّ من ذكره وتنفيده،

___________________

(١). شرح العقائد بحاشية الشيخ محمد عبده ( الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين ) ١ / ٢٨.

٢٦٣

حيث يقول: إن تشبيه أهل البيت بالسفينة في هذا الحديث يقتضي أن لا يكون حب جميع أهل البيت واتّباعهم ضرورياً في النجاة والفلاح، فإنّ من يستقر في زاوية واحدة من السفينة ينجو من الغرق بلا ريب، بل إن التنقل من مكان إلى آخر فيها ليس أمراً مألوفاً، فالشيعة لتمسكهم ببعض أهل البيت ناجون، ولا يرد عليهم طعن أهل السنة في ذلك.

أقول:

ليس هذا التقرير البارد لأحدٍ من علماء الشيعة، والذي أظنه - وظن الحرّ يقين - أنه من صنع يد ( الدهلوي ) نفسه وقد نسبه إلى الشيعة تهجيناً لهم وتمهيداً للردّ عليهم، وإلّا فليذكر أولياؤه قائله!!

وإذا كان جميع المناظرات على هذا المنوال لا نسد باب البحث والتحقيق

ومن العجيب: أن ( الدهلوي ) لا يسمح له عناده لأن ينقل تقريراً لأحد أعلام الشيعة ثم يتصدى لردّه بجواب صحيح أو باطل، لكنه يأتي بما لا يرضاه الحمقى - فضلاً عن العقلاء فالعلماء - ناسباً إياه إلى الشيعة

وعلى أيّ حال فإنّا لا نسلم أبداً أن يكون هذا الوجه المذكور لأحد من أهل الحق، فإنه لا يصدر من عوامهم فضلاً عن علمائهم ومحقيهم، وإنْ هو إلّا كذب مفترى.

بل إنه يتناسب مع عقيدة أهل السنة، فإنهم - بالرغم من زعمهم محبّة أهل البيتعليهم‌السلام وموالاتهم - يهتدون بهدى أعدائهم ومخالفيهم، ويتفوّهون في حقهمعليهم‌السلام بكلماتٍ قاسية - تقدّم ذكر بعضها، ولا يرون إجماعهم حجة، ويقدّمون عليهم من لا يدانوهم علماً وفقهاً وزهداً...

وهذا الذي ذكرناه يغني عن التعرّض لما ذكره في جواب هذا التقرير المزعوم، إلّا أنّا نورد ذلك ونشير بالإِجمال إلى فساده.

٢٦٤

قوله:

أما الجواب على هذا الكلام فيكون على نحوين: الأول: بطريق النقض، فالإِمامية في هذه الصورة يجب ألّا يعتبروا الزيدية والكيسانية والناووسية والفطحية منحرفين، بل مهتدون، لأن كلاً منهم قد استقر في زاوية من هذه السفينة الكبيرة، ويكفى الاستقرار في زاوية منها للنجاة من الغرق.

أقول:

لقد علم مما سبق - والحمد لله - أن مصداق حديث السفينة ليس إلّا الأئمة الهداة من أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن ركب سفينتهم معتقداً عصمتهم وطهارتهم نجا من الهلاك.

وبما أن الزيدية والكيسانية والناووسية وأمثالهم لا يذهبون إلى هذا الاعتقاد فإنهم - كأهل السنة - متخلفون في السفينة الناجية المنجية، وهم هالكون بلا ريب.

قوله:

بل إن النص على الأئمة الاثني عشر يبطل على هذا أيضاً، لأن كل زاوية من السفينة كافية في الإِنجاء من أمواج البحر، ومعنى الإِمام هو أن أتّباعه يوجب النجاة في الآخرة، فبهذا يبطل مذهب الاثني عشرية بل الامامية بأسرها.

أقول:

لقد ثبت من النصوص النبوية وكلمات الأئمة الطاهرين وسائر الأدلة والبراهين: أن مصداق الحديث هم الأئمة الاثنا عشر، فكيف يضعف هذا المذهب بهذه الشبهات الواهية؟

ومن الواضح: أنه إذا كان ركوب السفينة المنجية متوقفاً على الاعتقاد بإمامة الاثني عشر وعصمتهم وطهارتهم، كان ركوب غير الاثني عشرية فيها من المحالات، ولما كان سبب النجاة منحصرا بهذه السفينة كان من المحتم هلاك من

٢٦٥

عدا الاثني عشرية من الفرق مطلقاً

فبطلان مذهب الاثني عشرية - بعد وضوح معنى حديث السفينة - محال.

قوله:

وإذا ادعى الزيدية ذلك أجيبوا بنفس الجواب.

أقول:

إن الزيدية - وإن كانوا من الهالكين عندنا - يترفعون عن الاستدلال بهكذا دليل فاسد بارد، ومن وقف على كلماتهم حول حديث السفينة في كتاب ( ذخيرة المآل ) علم أنهم - وإنْ خلطوا فيها بين الحق والباطل - لا يستدلون بمثله أبداً.

قوله:

فلا يصح لأي فرقة من فرق الشيعة التقيد بمذهب معين، ولازمه اعتبار جميع المذاهب على صواب.

أقول:

لقد ذكرنا أن هذا التقرير ليس للشيعة مطلقاً، فما بنى عليه ( الدهلوي ) إنما هو من بناء الفاسد على الفاسد.

قوله:

في حين أن التناقض قائم بين هذه المذاهب، وأن اعتبار كلا الجانبين المتناقضين حقاً يؤدي إلى اجتماع النقيضين في غير الاجتهاديات، وهو مستحيل قطعاً.

أقول:

كأن ( الدهلوي ) في غفلة عن الاختلافات والتناقضات الموجودة بين مذاهب أهل السنة؟!

بل لقد جوّز بعضهم تعدّد المذاهب بعدد الصحابة وهذا من عجائب الأمور، قال العجيلي ما نصه: « وقد وضع الشيخ الرباني وإمام أهل الكشف عبد الوهاب الشعراني قدس الله روحه في ميزانه لاختلاف المذاهب تمثالاً كالشجرة

٢٦٦

وكتب عليه: فانظر يا أخي إلى العين التي في أسفل الشجرة وإلى الفروع والأغصان والثمار، تجدها كلّها متفرعة من أصل الشجرة وهي الشريعة، والفروع الكبار مثال أقوال أئمة المذاهب، والفروع الصغار مثال أقوال المقلدين، والأغصان المتفرعة من جوانب الفروع مثال أقوال الطلبة المقلدين، والنقط الحمر التي في أعلى الأغصان مثال المسائل المستخرجة من أقوال العلماء، فلم يخرج أحد من عين شريعة وشجرة علمه، وما من قول من أقوال هؤلاء الأئمة إلّا وهو متفرع من هذه الشجرة وفروعها وأغصانها.

ثم وضع مثالاً آخر لاتصال سائر المذاهب بعين الشريعة، وخط خطوطاً كثيرة تشرع إلى العين الوسطى من سائر الجوانب، ولم يحصرها في أربعة ولا خمسة بل ذكر نحو ثمانية عشر مذهباً، كما جعلها غيره مائة ألف وأربعة عشر ألفاً على عدد الصحابة رضي الله عنهم وبأيّهم اقتديتم اهتديتم!! »(١) .

بل نسبوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: « إن شريعتي جاءت على ثلاثمائة وستين طريقة » فقد جاء في ( ذخيرة المآل ) أيضاً عن الشعراني: « وقد روى الطبراني مرفوعاً: أن شريعتي جاءت على ثلاثمائة وستين طريقة ما سلك أحد منها طريقة إلّا ونجا ، ويؤيده حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. انتهى كلام الشعراني نفع الله به »(٢) .

قوله:

الثاني بطريق الحل، فإن الاستقرار في زاوية من السفينة يضمن النجاة من الغرق في البحر، بشرط أن لا يثقب الزاوية الأخرى منها، فإذا اقترن الجلوس في زاوية مع الإِثقاب في الزاوية الأخرى فإن ذلك سوف يؤدي إلى الغرق حتماً، وما من فرقة من فرق الشيعة إلّا وهي مستقرة في زاوية وتثقب الزاوية الأخرى.

___________________

(١). ذخيرة المآل - مخطوط.

(٢). المصدر نفسه.

٢٦٧

أقول:

جوابه الحلي أوهن من جوابه النقضي، لما ذكرنا مرة بعد أُخرى من أن المراد من أهل البيت الذين شبههم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسفينة نوح هم المراد منهم في حديث الثقلين، وهم الأئمة الإِثنا عشرعليهم‌السلام ، وهل يتسنى لغير الاثني عشري ركوب هذه السفينة كي يخرقها من الجانب الآخر؟ كلّا إنه من المغرقين

وأما الاثنا عشرية فإنهم يقتدون بجميع أجزاء السفينة وينظرون إليها بعين الاكرام والتعظيم، فهم إذن ركّابها والناجون بها من الغرق.

هذا، والغريب أن ( الدهلوي ) يقيس سفينة أهل البيتعليهم‌السلام بالسفينة الخشبية التي يصنعها الناس، فيجيز ثقبها وخرقها، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن السفينة - هذه - من صنع الله سبحانه، ولو اجتمع الانس والجن على أن يخرقوها لما أمكنهم ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

قوله:

أجل فإن أهل السنة مهما تنقلوا في الزوايا المختلفة فإن سفينتهم عامرة، وأنّهم لم يثقبوا أية زاوية منها أصلاً ليتسرب الموج من ذلك الجانب ويؤدي بهم إلى الغرق، والحمد لله.

أقول:

يبطل هذا ما تقدّم نقله من كلمات أهل السنة في أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو بالعكس من ذلك عند الامامية، فإن من راجع كلماتهم وجدهم يعتقدون في الأئمةعليهم‌السلام بما هم أهله من العصمة والطهارة والامامة، ويتمسكون بأقوالهم في الأصول والفروع، فهم ركاب سفينتهم لا الذين يقتدون بغيرهم ويقتفون أثر المتقدمين عليهم، فإن هؤلاء هم المتخلّفون عن السفينة، الهالكون في بحار الغي والضلالة، الذين صدق عليهم قوله تبارك وتعالى:( مِمَّا

٢٦٨

خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ) (١) .

قوله:

وبهذا يتم لأهل السنة إلزام النواصب في إنكارهم لهذين الحديثين حيث ناقشوا في صحتهما بالدليل العقلي، فقالوا: إن مفاد هذين الحديثين هو التكليف بما يمتنع عقلاً وهو محال بالبداهة، ذلك أنه إذا وجب التمسك بأهل البيت جميعهم مع ما هم عليه من الاختلاف في العقائد والفروع، فذلك يستلزم التكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال.

وإذا وجب التمسك ببعضهم فإما أن يكون ذلك مع التعيين أو بدونه، فعلى الأولى يلزم الترجيح بلا مرجح، خصوصاً مع وجود الاختلاف بين القائلين بذلك في تأكيد النص لصالحهم، وعلى الثاني يلزم تجويز العقائد المختلفة والشرائع المتفاوتة في الدين الواحد من الشارع، في حين أن آية:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) صريحة في خلاف ذلك، مضافاً إلى استحالته بضروريات الدين.

ولا تستطيع أية فرقة من فرق الشيعة أن تخدش في دليل هؤلاء الأشقياء إلّا باتباع مذهب أهل السنة ».

أقول:

لا يخفى على الخبير أن ( الدهلوي ) كثيراً ما يدافع عن النواصب في هذا الكتاب، ويضع - من قبلهم - براهين وأدلة على ما ذهبوا إليه، وقد نسب إليهم في المقام هذا الكلام مع أنا لم نجده في كتاب أحد منهم.

الأصل في مناقشة الدهلوي

والواقع: إنه قد أخذ هذا من بعض أسلافه، فقد قال الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي - وهو الذي أثنى عليه ( الدهلوي ) واحتج ببعض هفواته في مبحث

___________________

(١). سورة نوح: ٢٥.

٢٦٩

آية الولاية، كما أنه من مشايخ والده(١) - في الجواب عن الحديثين في كتابه ( النبراس ) ما نصه:

« وأما خبر السفينة وإني تارك فيكم، فلا دلالة فيهما إلّا على أن التمسك بهم غير ضال، ولا دلالة فيهما على أن تقليدهم أولى، كما لا دلالة فيهما على أن المتمسك بغيرهم من التابعين للكتاب والسنة ليس على هدى. وأقرب ما يتبين به أنه لا دلالة في ذلك على الأولوية، إنّ الأولوية لا تثبت بهذه الأحاديث إلّا إذا دلت على أنهم لا يخطئون أبداً، ولا دلالة فيها على ذلك كما يشهد به الواقع، لما مرّ أنهم قد اختلفوا باعترافكم ونقلكم في المسائل الأصولية - وقد اعترفتم بأن الحق في الأصول واحد، وإذا كان الحق واحداً - وهم قد اختلفوا اختلافاً متناقضاً - دل ذلك على تطرق الخطأ الاجتهادي إليهم قطعاً ولا محيص لإِنكاره، وكلّما تطرق إليهم كانوا كسائر المجتهدين من الأمة، فلا أولوية بهذه الأحاديث أصلاً ».

وقد تقدم سابقاً عن ( الدهلوي ) نفسه قوله: « والحاصل أن المراد بالعترة إما جميع أهل بيت السكنى، أو جميع بني هاشم، أو جميع أولاد فاطمة وعلي، وعلى كل تقدير فالتمسك المأمور به إمّا بكلٍ منهم أو بكلّهم أو بالبعض المبهم أو بالبعض المعين. والشقوق كلها باطلة.

أما الأول فلأنه يستلزم التمسك بالنقيضين في الواقع، لاختلاف العترة فيما بينهم في أصول الدين كما مرّ مفصلاً، وعلى الثاني يلغو الكلام، لأن التمسك بما أجمع عليه كلهم بحيث لا يشذ عنه فرقة لا يجدي نفعاً، إذ البحث في المسائل الخلافية. وعلى الثالث يلزم تصويب الطرفين المتخالفين، ويلزم على الامامية تصويب الزيدية والكيسانية وبالعكس. وعلى الرابع يلزم التجهيل والتلبيس في التبليغ، إذ البعض المراد غير مذكور في الكلام، فيفضي إلى النزاع في تعيينه كما

___________________

(١). وقال الشوكاني في ( البدر الطالع ١ / ١١ ) ما ملخصه: « الامام المجتهد الكبير ولد سنة ١٠٢٥ وبرع في جميع الفنون وانتفع به الناس ورحلوا اليه وأخذوا عنه في كلّ فن حتى مات سنة ١١٠١ ».

٢٧٠

هو الواقع ».

فظهر - إذن - أن ما ذكره من قبل النواصب هو من هفواته وهفوات أهل السنة، وقد ذكرنا سابقاً بطلانه بما لا مزيد عليه، ونقول هنا باختصار: بما أن الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام هم مصداق « أهل البيت » في حديث الثقلين وحديث السفينة، وهم متفقون في أصول الدين وفروعه وغير ذلك - فلا وجه لهذه الشقوق الباطلة أبداً.

ثم إنّ هؤلاءعليهم‌السلام معصومون من الخطأ ومبرؤن من الزلل، وأن اجتماعهم على عقيدة واحدة ومذهب واحد من أظهر الأمور، حتى اعترف بذلك جماعة من علماء أهل السنة، كالعلامة السندي صاحب ( دراسات اللبيب ).

وإذ قد عرف « أهل البيت » بالتحقيق، وعلم أنهم معصومون ومتفقون فيما بينهم في الأصول والفروع، ظهر بطلان كلام ( الدهلوي ) الذي زعم أنه للنواصب، ولو تم ذلك للزم القدح في الاسلام. قال بعض علمائنا الأعلام هذا المقام:

« أما ما ذكره هذا الناصبي عن النواصب، فإنه في الحقيقة قدح في الاسلام، إذ بناءاً عليه يجوز للكفار أن يقولوا بوجود التناقض والاختلاف في آيات الكتاب، وان التكليف بالعمل بالمتناقضين محال، وأما أحدهما فإن كان معيناً لزم الترجيح بلا مرجح - وأيضاً فالوجوه المرجحة مختلفة كذلك، وحينئذٍ يتمسك كل بما يرجح عقيدته - وإنْ لم يكن معيناً لزم تجويز الشرائع المتفاوتة في دين واحد.

وأيضاً، فإن هذا التقرير الذي ارتكبه ( الدهلوي ) من قبل النواصب يبطل حديث النجوم - الذي طالما اغتر به هو وأصحابه - إذ يمكن القول بأن الذي أمرت الامة بالاقتداء به إما جميع الأصحاب وإما بعضهم، فإنْ كان الأول لزم اجتماع النقيضين - للاختلاف الكثير فيما بينهم - وإنْ كان الثاني فإما أن يكون معيناً وإمّا أن يكون مبهماً، فعلى الأول يلزم الترجيح بلا مرجح - على أن حديث الاقتداء معارض بأحاديث ارتداد الاصحاب على الأعقاب، فيأتي هنا عين ما ذكره

٢٧١

( الدهلوي ) هناك، وأيضاً، فإن الشيعة الذين يقتدون بافضل الصحابة غير ملومين - وعلى الثاني يلزم تجويز التناقضات ».

فتلخص: بطلان مناقضات ( الدهلوي ) في دلالة حديث السفينة.

٢٧٢

تفنيد كلام الدهلوي

في حاشية التحفة

٢٧٣

٢٧٤

مناقشة أخرى

وقد نقل ( الدهلوي ) في هذا المقام في حاشية كتابه كلاماً لبعض علماء طائفته هو أكثر سخافة مما تقدم منه، فقال:

قال الملّا يعقوب الملتاني من علماء أهل السنة: إن تشبيه أهل البيت بالسفينة والصحابة بالنجوم يشير إلى وجوب أخذ الشريعة من الصحابة والطريقة من أهل البيت، إذ يستحيل الخوض في بحار الحقيقة والمعرفة من غير إعمال قواعد الطريقة وتطبيق تكاليف الشريعة، كما يستحيل ركوب البحر من غير الاهتداء بالنجوم، والسفينة - وإنْ كانت تنجي من الغرق - إلّا أن الوصول إلى المقصود من دون ملاحظة النجوم محال، كما أن ملاحظة النجوم من غير ركوب السفينة لا أثر لها. وعليك بالتأمّل في هذه النقطة فإنها عميقة.

وجوه الجواب عن المناقشة

أقول:

وهذا الوجه - الذي ذكره الفخر الرازي عن بعض المذكّرين(١) - موهون

___________________

(١). جاء في التفسير الكبير تحت آية المودة « والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحب أصحابه، وهذا المنصب لا يسلم الا على قول أصحابنا أهل السنة =

٢٧٥

___________________

= والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة، وسمعت بعض المذكرين قال: انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين:

« أحدهما » السفينة الخالية عن العيوب والثقب.

و « الثاني » الكواكب الظاهرة الطالعة النيرة، فاذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة ».

ومن الغريب استحسان بعضهم هذا الكلام حتى نسبوه إلى الرازي، قال الطيبي في ( الكاشف ):

« شبه الدنيا لما فيها من الكفر والضلالات والبدع والاهواء الزائغة ببحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، وقد أحاط بأكنافه وأطرافه الارض كلها وليس فيه خلاص ومناص الا تلك السفينة وهي محبة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أحسن انضمامه معقوله مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى! قال الامام فخر الدين الرازي في تفسيره: نحن معاشر أهل السنة بحمد الله ركبنا سفينة محبة أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهتدينا بنجم هدى أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونرجو النجاة من أهوال القيامة ودركات الجحيم والهداية الى ما يزلفنا الى درجات الجنان والنعيم المقيم ».

وقال القاري في ( المرقاة ) في شرح حديث السفينة نقلا عن الطيبي « شبه الدنيا بما فيها من الكفر والضلالات والبدع والجهالات والاهواء الزائغة ببحر لجي يغشاه موج من فوقه من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، وقد أحاط بأكنافه وأطرافه الارض كلها وليس منه خلاص ولا مناص الا تلك السفينة وهي محبة أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أحسن انضمامه مع قوله مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشيء منه ( منها. ظ ) اهتدى ونعم ما قال الامام فخر الدين الرازي في تفسيره: نحن معاشر أهل السنة بحمد الله ركبنا سفينة محبة أهل البيت واهتدينا بنجم هدى أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنرجو النجاة من أهوال القيمة ودركات الجحيم والهداية الى ما يوجب درجات الجنان والنعيم المقيم. انتهى.

وتوضيحه أن من لم يدخل السفينة كالخوارج من الهالكين في أول وهلة، ومن دخلها ولم يهتد بنجوم الصحابة كالروافض ضل ووقع في ظلمات ليس بخارج منها ».

٢٧٦

بوجوه:

الوجه الأول: إن حديث النجوم موضوع حسب اعتراف كبار أئمة أهل السنّة(١) .

الوجه الثاني: إن المراد من « الأصحاب » في هذا الحديث - لو صحّ - هم « أهل البيت »عليهم‌السلام ، كما حقق ذلك في ( استقصاء الافحام ) فيجب أخذ الشريعة منهم كذلك.

الوجه الثالث: لو لم يكن المراد « أهل البيت » فلا ريب في أن بعضهم من « الأصحاب »، فالاقتداء بهم يستلزم الهداية، ويجب أخذ الشريعة والطريقة منهم معاً.

الوجه الرابع: لما شمل حديث النجوم على فرض صحته أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وكان حديث السفينة مختصاً بهم - باعترافه - كانواعليهم‌السلام أولى وأقدم من غيرهم، لجمعهم بين الفضيلتين اللتين أشار إليهما.

الوجه الخامس: لقد دلّت الأدلة الوافرة من الكتاب والسنة على وجوب أخذ الشريعة من أهل بيت العصمة والطهارة.

الوجه السادس: دعوى دلالة حديث السفينة على الرجوع إليهمعليهم‌السلام في الطريقة فحسب، تردها تصريحات كبار علمائهم، فإن من راجعها ظهر له حكمهم بوجوب الرجوع إليهمعليهم‌السلام في الشريعة والطريقة معاً.

الوجه السابع: لقد بلغت دلالة حديث السفينة على أخذ الشريعة من أهل البيتعليهم‌السلام من الوضوح حدّاً حتى اعترف بها نصر الله الكابلي صاحب ( الصواقع ) فقال بعده « ولا شك أن الفلاح منوط بولائهم وهديهم والهلاك بالتخلف عنهم، ومن ثمة كان الخلفاء والصحابة يرجعون إلى أفضلهم فيما أشكل

___________________

(١). حديث « أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم » موضوع باطل سنداً ودلالة باعتراف أعلام القوم من المتقدمين والمتأخرين. وقد فصلنا فيه الكلام في قسم ( حديث الثقلين ) حيث ذكره الدهلوي معارضاً للحديث المذكور، كما أنا بحثنا عنه في رسالة مفردة مطبوعة.

٢٧٧

عليهم من المسائل، وذلك لأن ولاءهم واجب وهديهم هدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

الوجه الثامن: لقد اعترف ( الدهلوي ) نفسه بهذا المعنى إذ قال « وكذلك حديث مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، فإنه لا يدل إلّا على الفلاح والهداية الحاصلين من حبهم والناشئين من اتّباعهم، وأن التخلف عن حبهم موجب للهلاك ».

وقال في حاشية ( التحفة ) أيضاً « وهكذا الأمر في الاتباع والانقياد، فإن أهل السنة لا يخصون ذلك بطائفة دون أخرى، بل يروون أحاديث جميعهم ويتمسكون بها كما تشهد بذلك كتبهم في التفسير والحديث والفقه ».

الوجه التاسع: ما ذكره الملتاني يستلزم تضليل أهل البيتعليهم‌السلام - والعياذ بالله - والصحابة جميعاً، إذ من المعلوم أن أهل البيتعليهم‌السلام لم يأخذوا الشريعة من الأصحاب، كما أن الأصحاب لم يسلكوا طريق أهل البيت ولم يهتدوا بهداهم، بل كان أكثرهم قالين لهم منحرفين عنهم.

الوجه العاشر: كلامه يقتضي تضليل مذهب المتصوفة الذين يذهبون إلى وصول أوليائهم إلى أقصى مراتب الكمال ومدارج العرفان، مع مجانبتهم للشريعة وتركهم للواجبات الشرعية، بل وارتكابهم للمحرّمات الإِلهية كما لا يخفى على ناظر ( لواقع الأنوار ) و ( نفحات الأنس ) وغيرهما من كتب المتصوفين الأعلام، وقد ذكر شطر من أحوالهم في كتاب ( استقصاء الإِفحام ).

الوجه الحادي عشر: دعوى لزوم الاهتداء بالنجوم باطلة، لأن قوله تعالى( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (١) صريح في أن الاهتداء بها يكون في ظلمات البر والبحر، وأما في حال وضوح الطريق، ومعرفة الربان به، وجريان السفينة بإذن الله، فلا حاجة إلى ذلك، لأن من شأن هذه

___________________

(١). سورة الانعام: ٩٧.

٢٧٨

السفينة أن ترسو على شاطئ النجاة لا محالة، وأن تصل إلى هدفها المطلوب قطعاً، وهذا ظاهر.

الوجه الثاني عشر: قوله: إن الوصول إلى المقصود من دون ملاحظة النجوم محال باطل كذلك، لما ذكرنا في الوجه السابق، ونضيف هنا: إذا كان الهدف الأصلي من الركوب هو النجاة من الغرق، فإن مجرد الركوب كاف لحصول هذا الغرض، ولا حاجة إلى الاهتداء بالنجوم حينئذٍ أبداً، كما لا يخفى.

الوجه الثالث عشر: قوله كما أن اعتراف بالحق، إلّا أنّه يريد بهذا التأكيد على ورود حديث النجوم في حق أسلافه، وقد بيّنا بطلان ذلك.

الوجه الرابع عشر: إن هذا الكلام واضح البطلان والهوان، ولا ينطوي على فائدة، ولا يتضمن معنى وجيها، فلا وجه لأمره بالتأمل فيه.

من وجوه الشبه بين سفينة نوح وأهل البيت

لقد شبّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البيت بسفينة نوحعليه‌السلام لا بسفينة أخرى، ومن المعلوم أن سفينة نوح لم تكن بحاجة إلى الاهتداء بالنجوم، فما ذكره الملتاني و ( الدهلوي ) باطل قطعاً.

ويدل على استغناء سفينة نوح عن ذلك وجوه:

١ - الغرض من الركوب هو النجاة

لقد كان الغرض الأصلي من ركوب سفينة نوحعليه‌السلام هو النجاة من الهلاك والغرق في الطوفان الذي جاء قوم نوح، أي: إن الله تعالى قد ضمن النجاة لركّابها، وفي هذه الحالة يكفي مجرد الركوب فيها لأجل النجاة من الهلاك والخلاص من الغرق، من غير توقف على الاهتداء بالنجوم.

ولقد كان هذا المعنى مقصوداً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال: من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق

٢٧٩

٢ - وجود نوح فيها من أسباب النجاة

وإن وجود نوحعليه‌السلام - وهو نبي معصوم ومن أولي العزم - كان من أسباب نجاة السفينة وركابها واهتدائها إلى ساحل النجاة، من دون حاجة إلى شيء من الأسباب الظاهرية.

٣ – ( واصنع الفلك بأعيننا )

وإن السفينة التي صنعت بيد نوحعليه‌السلام وبعين الباري ووحيه لا بدّ وأنْ تصل إلى هدفها المقصود، وإلى ساحل الأمان والنجاة من الغرق وسائر الأخطار قال الله تعالى مخاطباً لنوحعليه‌السلام :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) (١) .

٤ – ( بسم الله مجريها )

ولقد قال الله تعالى في حق هذه السفينة( بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) (٢) .

وقد ذكر المفسرون في معنى هذه الآية: أن نوحاًعليه‌السلام إذا أراد أن ترسو قال بسم الله، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت:

قال الطبري: « حدثنا أبو كريب، قال ثنا جابر بن نوح، قال ثنا: أبو روق عن الضحاك في قوله:( إرْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) قال: إذا أراد أن ترسي قال بسم الله فرست، وإذا اراد أن تجري قال بسم الله فجرت »(٣) .

وقال البغوي: « قال الضحاك: كان نوح إذ أراد أن تجري السفينة قال بسم

___________________

(١). سورة هود: ٣٧.

(٢). سورة هود: ٤١.

(٣). تفسير الطبري ١٢ / ٤٥.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347