نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار9%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180121 / تحميل: 6672
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

مروياتهما على مرويّات الأئمّة الآخرين، قول لا يعتد به ولا يقتدى، بل هو من تحكّماتهم الصرفة، كيف لا وأن الأصحيّة من تلقاء عدالة الرواة وقوة ضبطهم، وإذا كان رواة غيرهم عادلين ضابطين، فهما وغيرهما على السواء، لا سبيل للحكم بمزيتهما على غيرهما، إلّا تحكماً، والتحكّم لا يلتفت اليه. فافهم »(١) .

___________________

(١). فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٢٣ هامش المس؟؟؟.

١٨١

أحاديث من الصحيحين في الميزان

هذا، وإنّ في كتابي البخاري ومسلم، أحاديث كثيرة تكلّم فيها أئمّة الحديث وكبار الحفّاظ الثقات ونحن ننقل هنا نصوص طائفة من تلك الأحاديث بأسانيدها، وكلمات أعلام الحديث المحقّقين حولها، على سبيل التمثيل لا الحصر لنقف على حقيقة ما اشتهر بينهم من تلقيّ أهل السنّة أحاديث الكتابين بالقبول، وما قيل من تقديم مرويّاتهما على مرويّات غيرهما ونرى أن ذلك - في الحقيقة - ليس إلّا تحكّما صرفاً، وبهتاً واضحاً، ودعوى فارغة

الحديث الأول

أخرج البخاري في كتاب الطب قائلاً: « حدثنا سيدان بن مضارب أبو محمد الباهلي قال: حدثنا أبو معشر يوسف بن يزيد البراء، قال: حدثني عبيد الله ابن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: إنّ نفراً من أصحاب رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مرّوا بماء [ و ] فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل السماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً.

١٨٢

فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك [ و ] قالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله! أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله » (١) .

ابن الجوزي وهذا الحديث

و قد أورده الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات قائلاً: « قال ابن عدي: روى عمرو بن المحرم البصري، عن ثابت الحفار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن كسب المعلّمين فقال: إنّ أحقّ ما أخذ عليه الأجر كتاب الله.

قال ابن عدي: لعمرو أحاديث مناكير، وثابت لا يعرف، والحديث منكر »(٢) .

ترجمة ابن الجوزي

وقد ترجم ابن خلكان لابن الجوزي بقوله: « الفقيه الحنبلي الواعظ، الملقب جمال الدين الحافظ، كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الحفظ، صنّف في فنون عديدة، منها: زاد المسير في علم التفسير، أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة، وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله المنتظم في التاريخ وهو كبير، وله الموضوعات في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع، وله تلقيح فهوم الأثر على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة »(٣) .

وترجم له الحافظ الذهبي بقوله: « وابو الفرج ابن الجوزي، الحافظ الكبير

___________________

(١). صحيح البخاري ٧ / ١٧٠.

(٢). الموضوعات ١ / ٢٢٩.

(٣). وفيات الأعيان ٢ / ٣٢١.

١٨٣

جمال الدين الحنبلي الواعظ المتقن، صاحب التصانيف الكبيرة الشهيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والأخبار والتاريخ والطب وغير ذلك »(١) .

وقال الحافظ السيوطي ما ملخّصه: « إبن الجوزي الامام العلاّمة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف السائرة في فنون، قال الذهبي في التاريخ الكبير: لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل باعتبار كثرة اطّلاعه وجمعه »(٢) .

ووصفه الخوارزمي بـ: « إمام أئمة التحقيق »(٣) .

واليافعي عند الذب عن أحمد بن حنبل بـ « الإمام »(٤) .

كما اعتمده كبار علمائهم في الحديث والكلام، فقد اعتمده ابن تيمية في مواضع في كتابه، منها في ردّ حديث ردّ الشمس، و حديث: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.

وابن روزبهان في ردّ حديث النور.

وابن حجر المكي في تكلّمه على حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها.

و ( الدهلوي ) في رد حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها.

والمولوي حيدر علي في ( إزالة الغين ) معبّراً عنه بـ « سند المحدثين والمنقدين ».

الحديث الثاني

وهو الحديث الذي أورده الحافظ ابن حزم عن البخاري، وأبطله سنداً

___________________

(١). العبر - حوادث سنة ٥٩٧.

(٢). طبقات الحفاظ / ٤٧٧.

(٣). جامع مسانيد أبي حنيفة: ٢٨.

(٤). مرآة الجنان، حوادث سنة ٥٩٧.

١٨٤

ودلالة، وهذا نص كلامه في كتابه ( المحلى ):

« ومن طريق البخاري: قال هشام بن عمار، نا صدقة بن خالد نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، نا عطية بن قيس الكابلي، نا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدثني أبو عامر وأبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلّون الخزّ والخنزير والخمر والمعازف.

وهذا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع ».

ترجمة الحافظ ابن حزم

والحافظ ابن حزم - وإنْ كان ممقوتاً لدى كثير من علمائهم ولا سيّما المعاصرين له منهم - مذكور في معاجم التراجم وكتب الرجال مع التعظيم والإجلال فقد ذكره الحافظ الذهبي بقوله:

« وأبو محمد ابن حزم، العلامة، صاحب المصنفات، مات مشرّدا عن بلده من قبل الدولة، ببادية بقرية له، ليومين بقيا من شعبان عن اثنتين وسبعين سنة.

وكان إليه المنتهى في الذّكاء وحدّة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والأمانة والديانة والحشمة والسؤدد والرئاسة والثروة وكثرة الكتب. قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لابي محمد بن حزم، يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه. وقال ابن صاعد في تاريخه: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علم اللّسان والبلاغة والشعر والسّير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنّه اجتمع عنده من تأليفه نحو أربعمائة مجلد »(١) .

وقال السيوطي: « ابن حزم، الامامة العلامة، الحافظ الفقيه، أبو محمد،

___________________

(١). العبر في خبر من غبر، حوادث سنة ٤٥٦.

١٨٥

كان أولاً شافعياً، ثم تحوّل ظاهرياً، وكان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار »(١) .

وقال الشيخ محي الدين ابن عربي: « رأيت النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقد عانق أبا محمد ابن حزم المحدّث، فغاب الواحد في الآخر، فلم يزالا واحداً هو ورسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -، فهذا غاية الوصلة وهو المعبَّر عنه بالاتحاد »(٢) .

وقد وصفه الأدفوي بـ « الحافظ » واعتمده في مسألة ضرب العود(٣) .

وذكر ( الدهلوي ): ان ابن حزم من علماء أهل السنة الذين يدفعون المطاعن عن أمير المؤمنين -عليه‌السلام -(٤) .

وسيأتي: أن ابن تيمية يعتمد على كلام ابن حزم في حصر فضائل الامام -عليه‌السلام - في الأحاديث التالية:

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.

و: سأعطين الرّاية غداً رجلاً

و: إنّ عليّاً لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق.

وسيأتي أيضاً: أن ابن حزم يذهب إلى القول بوضع سائر الأحاديث التي يتمسك بها الامامية في إثبات إمامة علي -عليه‌السلام -، كما نقل عنه ابن تيمية القدح في حديث الغدير.

فابن حزم عندهم، من كبار الحفّاظ الذين يعتمدون على كلامهم في

___________________

(١). طبقات الحفّاظ / ٤٣٦.

(٢). الفتوحات، الباب ٢٢٣: ٢ / ٥١٩.

(٣). الإِمتاع في أحكام السماع، في مسألة ضرب العود.

(٤). التحفة الاثنا عشرية، باب الامامة: ١٧٣.

١٨٦

كتبهم، إلّا أن كثيراً منهم مقتوه لآراء له بعيدة عن الصواب ومخالفة للمشهور بين جمهور العلماء، ولذلك نهوا الناس عن اتباعه وتقليده والأخذ بأقواله

الحديث الثالث

ما أخرجه البخاري قائلاً: « حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن يزيد، عن عراك، عن عروة: أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك. فقال: أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال »(١) .

مغلطاي وهذا الحديث

وقد تكلّم الحافظ مغلطاي بن قليج في صحة هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر ما نصه:

« وقال مغلطاي: في صحة هذا الحديث نظر، لأن الخلة لأبي بكر إنما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكة، فكيف يلتئم قول: إنما أنا أخوك؟

وأيضاً: فالنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ما باشر الخطبة بنفسه، كما أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: هل تصلح له، إنما هي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: ارجعي فقولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: ادعي رسول الله، فجاء فأنكحه »(٢) .

___________________

(١). صحيح البخاري ٧ / ٦.

(٢). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١١ / ٢٦.

١٨٧

ترجمة الحافظ مغلطاي

وقد ذكر الحافظ السيوطي الحافظ مغلطاي وترجم له قائلاً: « مغلطاي بن قليج بن عبد الله، الحنفي الامام الحافظ علاء الدين، ولد سنة ٦٨٩، وسمع من الدبوسي والختني [ وخلائق ]، ووليّ تدريس الحديث بالظّاهرية بعد ابن سيد الناس وغيرها، وله مآخذ على المحدّثين وأهل اللغة. قال العراقي: كان عارفاً بالأنساب معرفة جيّدة، وأما غيرها من متعلّقات الحديث فله بها خبرة متوسّطة.

وتصانيفه أكثر من مائة، منها شرح البخاري وشرح ابن ماجة لم يكمل، وقد شرعت في إتمامه، وشرح ابن أبي داود لم يتم، وجمع أوهام التهذيب وأوهام الأطراف، وذيل على التهذيب، وذيل على المؤتلف والمختلف لابن نقطة، والزّهر الباسم في السّيرة، ورتّب المبهمات على الأبواب، ورتّب بيان الواهي [ الوهم ] لابن القطان، وخرّج رواية [ زوائد ] ابن حبّان على الصحيحين. مات في رابع عشر في شعبان سنة ٧٦٢ »(١) .

وقال أيضاً: « مغلطاي بن قليج الحنفي الامام الحافظ علاء الدّين، ولد سنة ٦٨٩، وكان حافظاً عارفاً بفنون الحديث علّامة في الأنساب، وله أكثر من مائة تصنيف »(٢) .

وكذا قال الزرقاني المالكي حيث ذكره(٣) .

وقال ابن قطلوبغا بترجمته: « مغلطاي بن قليج علاء الدين البكحري، إمام وقته وحافظ عصره »(٤) .

أقول: وردُّ الحافظ ابن حجر كلام الحافظ مغلطاي بقوله: « قلت:

___________________

(١). طبقات الحفاظ: ٥٣٤.

(٢). حسن المحاضرة ١ / ٣٥٩.

(٣). شرح المواهب اللدنية ١ / ١٢٧.

(٤). طبقات الحنفية - تاج التراجم: ٧٧.

١٨٨

اعتراضه الثاني يردّ اعتراضه الأول » لو سلّم لا يضرّ بما نحن بصدده، كما لا يخفى.

الحديث الرابع

ما أخرجه البخاري حول شفاعة الخليل ابراهيم -عليه‌السلام - لأبيه من كتاب التفسير، قائلاً:

« حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني ألّا تخزيني يوم يبعثون، فيقول الله: إنّي حرّمت الجنة على الكافرين »(١) .

الحافظ الاسماعيلي وهذا الحديث

وقد طعن الحافظ الاسماعيلي في صحة هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بشرحه: « وقد استشكل الاسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحته، فقال بعد أن أخرجه: هذا خبر في صحته نظر، من جهة أنّ ابراهيم عالم [ علم ] أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما يأتيه [ صار لأبيه ] خزياً [ له ] مع علمه بذلك؟

وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى:( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .

ثم جعل ابن حجر يرد على هذا الاشكال مصححاً الحديث(٢) ، ولكن ذلك

___________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ١٣٩.

(٢). فتح الباري - شرح صحيح البخاري ٨ / ٤٠٦.

١٨٩

لا ينافي ما نحن بصدده، كما تقدم.

ترجمة الحافظ الاسماعيلي

وقد ترجم السمعاني للحافظ الاسماعيلي، فقال ما ملخصه: « إمام أهل جرجان والمرجوع اليه في الحديث والفقه، رحل إلى العراق والحجاز وصنّف التّصانيف، وهو أشهر من أن يذكر، وكذلك أولاده وأحفاده، وله وجوه في المذهب مذكورة منظورة، وروى عنه الأئمّة والحفّاظ.

ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ في تاريخ نيسابور فقال: الامام أبو بكر الاسماعيلي، واحد عصره، وشيخ الفقهاء والمحدّثين، وأجلّهم في الرئاسة والمروءة والسّخاء، بلا خلاف بين عقلاء الفريقين من أهل العلم فيه، وقد كان أقام بنيسابور لسماع الحديث غير مرّة، وقدمها وهو رئيس جرجان.

وحكى حمزة بن يوسف السهمي، عن أبي الحسن الدارقطني، قال: كنت عزمت غير مرة أن أرحل إلى أبي بكر الاسماعيلي فلم أرزق، وكان الحسن بن علي الحافظ المعروف بابن غلام الزهري بالبصرة يقول: كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنّف سنناً ويختار على حسب اجتهاده، فإنّه كان يقدر عليه، لكثرة ما كان كتبه ولغزارة علمه وفهمه وجلالته، وما كان له أن يتبع كتاب البخاري، فإنّه كان أجل من أن يتّبع غيره.

قال السّهمي: وكان أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ يحكي جودة قراءته وقال: كان مقدّماً في جميع المجالس، وكان إذا حضر مجلساً لا يقرأ غيره. وكان أبو القاسم البغوي يقول: ما رأيت أقرأ من أبي بكر الجرجاني »(١) .

وقال اليافعي: « وفيها الامام الجامع الحبر النافع، ذو التصانيف الكبار في الفقه والأخبار، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني، الحافظ الفقيه

___________________

(١). الأنساب - الاسماعيلي.

١٩٠

الشافعي المعروف بالجرجاني. وكان حجة كثير العلم حسن الدين »(١) .

وبمثله قال الحافظ الذهبي(٢) .

الحديث الخامس

وهو ما أخرجه البخاري في كتاب الصلح، حيث قال: « حدثنا مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت أبي أنّ أنساً قال: قيل للنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك.

فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أطيب ريحاً منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتما، فغضب لكلّ واحدٍ منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت:( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) .

[ قال أبو عبد الله: هذا مما انتخبت من مسدد قبل أن يجلس ويحدث ] »(٣) .

ابن بطال وهذا الحديث

وقد أبطل الامام ابن بطال هذا الحديث، فقد قال البدر الزركشي ما نصه: « فبلغنا أنها نزلت: وانْ طائفتان. قال ابن بطال: يستحيل نزولها في قصة عبد الله بن أبي والصحابة، لأن أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين وقد تعصّبوا بعد الاسلام في قصة الافك، وقد رواه البخاري في كتاب الاستيذان عن أسامة بن

___________________

(١). مرآة الجنان، حوادث سنة ٣٧١.

(٢). العبر، حوادث سنة ٣٧١.

(٣). صحيح البخاري ٣ / ٢٣٩.

١٩١

زيد - رضي الله عنهما -: أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مر في مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين، وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي، وذكر الحديث.

فدلّ على أن الآية لم تنزل فيه، وإنّما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حق فاقتتلوا بالعصي والنعال »(١) .

ترجمة الزركشي

وقد ترجم الحافظ ابن حجر للبدر الزركشي بقوله: « هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بتقديم المهملة على الموحدة كما رأيت بخطه في الحديث. وقرأ على جمال الدين الأسنوي وتخرّج به في الفقه، وسمع من ابن كثير، وأخذ عن الأذرعي وغيره، وأقبل على التصنيف، فكتب بخطه ما لا يحصى لنفسه ولغيره.

ومن تصانيفه: تخريج أحاديث الرافعي في خمس مجلدات، وخادم الرافعي في عشرين مجلداً، والتنقيح، وشرع في شرح كبير على البخاري لخصه من شرح ابن الملقن وزاد فيه كثيراً، وشرح جمع الجوامع في مجلّدين، وشرح المنهاج في عشرة، ومختصره في مجلدين، والتجريد في أصول الفقه في ثلاث مجلدات، وغير ذلك. وتخرّج به جماعة. وكان مقبلا على شأنه، منجمعا عن الناس، وكان يقول الشعر الوسط.

مات في ثلاث رجب سنة أربعين وتسعين بتقديم المثناة الفوقية وسبعمائة، رحمة الله تعالى عليه. انتهى »(٢) .

وهكذا ترجم له مخاطبنا ( الدهلوي )(٣) .

___________________

(١). التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح: ١٣٣.

(٢). أنباء الغمر ٣ / ١٣٨.

(٣). بستان المحدثين: ٩٩.

١٩٢

الحديث السادس

و هو ما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، حيث قال:

« حدثنا عبيد بن اسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لـمّا توفّي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلّي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله، فقال: يا رسول الله تصلّي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إنّما خيّرني الله فقال:( إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) وسأزيده على السبعين. قال: إنّه منافق.

قال: فصلّى عليه رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - [ قال: ] فأنزل الله:( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) (١) .

فأخرجه البخاري في الباب مرة أخرى عن ابن عباس(٢) .

و أخرجه في باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين بإسناد آخر، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمر(٣) .

كبار الأئمّة وهذا الحديث

ولقد طعن في صحة هذا الحديث، جماعة من أئمّة علماء أهل السنة، وهم:

___________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ٨٥.

(٢). نفس المصدر ٦ / ٨٥.

(٣). نفس المصدر ٢ / ١٢١.

١٩٣

الامام أبوبكر الباقلاني.

الامام إمام الحرمين الجويني.

الامام أبو حامد الغزالي الطوسي.

الامام الداودي.

وقد ذكر طعن هؤلاء الأئمّة - في صحة هذا الحديث المخرج في البخاري ثلاث مرّات - الحافظ ابن حجر في شرحه، حيث قال ما نصه:

« واستشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلّة الاطلاع على طرقه.

قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصلح أن الرسول قاله. انتهى.

ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها.

وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في صحيح. وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث.

وقال الغزالي في المستصفى: الأظهر أن هذا الحديث غير صحيح.

وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.

والسبب في إنكارهم صحته، ما تقرر عندهم ممّا قدّمناه، وهو الذي فهمه عمر -رضي‌الله‌عنه - من حمل « أو » على التسوية لما يقتضيه سياق القصة وحمل السبعين على المبالغة »(١) .

وقال شهاب الدين القسطلاني، بعد أن نقل كلمات الأئمّة المذكورين:

___________________

(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٢٧١.

١٩٤

« وهذا عجيب من هؤلاء الأئمّة، كيف باحوا بذلك وطعنوا فيه مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين على تصحيحه، بل وسائر الذين خرّجوا في الصحيح وأخرجه النسائي وابن ماجة »(١) .

أقول: وقد صرّح الغزالي في مبحث المفهوم بعد كلامٍ طويل، بأن هذا الحديث كذب قطعا، وإليك نصّ ما قال: « وأما الشافعي فلم ير التخصيص باللّقب مفهوماً، ولكنّه قال بمفهوم التخصيص بالصّفة والزّمان والمكان والعدد، وأمثلته لا تخفى، وضبط القاضي مذهبه بالتخصيص بالصّفة وادّعى اندراج جميع الأقسام تحته، إذ الفعل لا يناسب المكان والزمان إلّا لوقوعه فيه وهو كالصفة له. وتمسّك أصحابنا في نصرة مذهب الشافعي بطريقتين مزيّفتين الثانية: قولهم: لا بعد في اقتباس العلم من أمور توافرت الصّور فيها على التطابق، وان كان نقلة الصّور آحادا انحطّوا عن مبلغ التواتر، كالقطع بشجاعة علي وسماحة حاتم، وآحاد وقائعها لم ينقلها إلينا إلّا آحاد الرجال، وادّعوا مثل ذلك من الصّحابة في المفهوم، وعدّوا وقائع و قوله -عليه‌السلام - في قوله تعالى:( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) ، لأزيدنَّ على السبعين.

وهذا مزيّف على أنّ ما نقل في آية الاستغفار كذب قطعاً، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة، فلا يظنّ برسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذهول عنه »(٢) .

الحديث السابع

و هو ما رواه البخاري بعد حديثٍ عن ابن مسعود، وهذا نصّه:

« حدّثنا محمد بن كثير، عن سفيان، قال حدثنا منصور والأعمش، عن ابن

___________________

(١). إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٤٨.

(٢). المنخول في علم الأصول ٢٠٩ - ٢١٢.

١٩٥

أبي الضحى، عن مسروق، قال: أتيت ابن مسعود فقال: إنّ قريشاً أبطئوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، إنّ قومك قد هلكوا فادع الله، فقرأ: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) . الآية. ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) الآية. ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ) يوم بدر.

قال: « وزاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر. فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم »(١) .

كبار الأئمّة وهذا الحديث

وقد أبطل وغلّط جماعة من كبار أئمّتهم هذه الزيادة عن أسباط وهم:

الامام العلامة قاضي القضاة بدر الدين العيني شارح البخاري.

والامام الداودي.

والامام أبو عبد الملك والامام الدمياطي.

والامام الكرماني.

فقد قال العيني بشرح هذا الحديث: « هذا تعليق - يعني زاد أسباط بن نصر، عن ابن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود - قد وصله البيهقي من رواية علي بن ثابت، عن أسباط بن نصر، عن ابن أبي الضحى، عن مسروق عن ابن مسعود، قال: لـمّا رأى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من الناس

___________________

(١). صحيح البخاري ٢ / ١٣٧.

١٩٦

إدباراً، فذكر نحو الذي قبله، وزاد: فجاءه أبو سفيان وأناس من أهل مكّة، فقالوا: يا محمد إنّك تزعم أنك بعثت رحمة، وإنّ قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. فدعا رسول الله -عليه‌السلام - فسقوا الغيث. الحديث.

وأسباط - بفتح الهمزة وسكون السّين المهملة بعدها الباء الموحّدة وفي آخره الطاء المهملة - قال صاحب التّوضيح: أسباط هذا هو: ابن محمد بن عبد الرحمن القاصّ أبو محمد القرشي مولاهم الكوفي، ضعّفه الكوفيون، وقال النّسائي، ليس به بأس، وثقّه ابن معين.

وقيل: هو ابن نصر وهو الصحيح، وهو أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفي، وثقّه ابن معين، وتوقّف فيه أحمد، وقال النّسائي: ليس بالقوي.

واعترض على البخاري زيادة أسباط هذا، فقال الداودي: أدخل قصة المدينة في قصة قريش وهو غلط.

وقال أبو عبد الملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط، لأنّه ركّب سند عبد الله بن مسعود على متن حديث أنس بن مالك وهو قوله: فدعا رسول الله -عليه‌السلام - فسقوا الغيث إلى آخره.

وكذا قال الحافظ شرف الدّين الدّمياطي وقال: هذا حديث عبد الله بن مسعود وكان بمكة، وليس فيه هذا.

والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات.

وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرّتين. وفيه نظر لا يخفى.

وقال الكرماني: قلت: قصة قريش والتماس أبي سفيان كان في مكة، لا في المدينة. قلت: القصة مكيّة إلاّ القدر الذي زاد أسباط، فإنه وقع في المدينة »(١) .

___________________

(١). عمدة القاري - شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٦.

١٩٧

ترجمة العيني

ونكتفي بترجمة الحافظ جلال الدين السيوطي للبدر العيني، حيث قال:

« محمود بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود الغسّاني، الحنفيّ العلامة، قاضي القضاة بدر الدين العيني، ولد في رمضان سنة ثلاثين وستّين وسبعمائة بعين تاب، ونشأ بها وتفقّه واشتغل بالفنون وبرع ومهر وانتفع في النحو وأصول الفقه والمعاني وغيرها بالعلامة جبريل بن صالح البغدادي، وأخذ عن الجمال يوسف الملطي والعلاء السّيرافي، ودخل معه القاهرة، وسمع مسند أبي حنيفة للحارثي على الشرف بن الكويك، ووليّ نظر الحسبة بالقاهرة مراراً، ثم نظر الأحباس، ثم قضاء الحنفيّة، ودرّس الحديث بالمؤيّدية، وتقدّم عند السلطان الأشرف برسياي.

وكان إماماً عالماً علامة، عارفاً بالعربية والتصريف، وغيرهما، حافظاً للّغة كثير الاستعمال لحواشيها، سريع الكتابة، عمّر مدرسةً بقرب الجامع الأزهر ووقف بها كتبه »(١) .

عمدة القاري

وذكر الكاتب الجلبي كتابه بقوله: « ومن الشروح المشهورة أيضاً: شرح العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفيّ المتوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وهو شرح كبير أيضاً في عشرة أجزاء وأزيد، وسمّاه عمدة القاري

وقد استمدّ فيه من فتح الباري بحيث ينقل منه الورقة بكمالها، وكان يستعيره من البرهان ابن خضر بإذن مصنّفه له، وتعقّبه في مواضع وطوّله بما تعمّد

___________________

(١). بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٧٥. وتوجد ترجمته في: الضوء اللامع ١٠ / ١٣١ - ١٣٥، البدر الطالع ٢ / ٢٩٤، حسن المحاضرة ١ / ٧٧٠، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٧، نظم العقيان / ١٧٤ - ١٧٥، وغيرها، توفي سنة ٨٥٥.

١٩٨

الحافظ ابن حجر حذفه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كلّ من تراجم الرواة بكلام وتباين الأنساب واللّغات والاعراب والمعاني والبيان، واستنباط الفوائد من الحديث والأسئلة والأجوبة.

وحكى أنّ بعض الفضلاء ذكر لابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهة: هذا شيء نقله من شرح ركن الدين، وقد كنت وقفت عليه قبله، ولكن تركت النقل منه لكونه لم يتمّ

وبالجملة، فإنّ شرحه حافل كامل في معناه، لكن لم ينتشر كانتشار فتح الباري في حياة مؤلّفه وهلمّ جرّاً »(١) .

الحافظ ابن حجر وهذا الحديث

أقول: وبالرغم من كثرة محاولة الحافظ ابن حجر العسقلاني الدّفاع عن مرويات صحيح البخاري ومساعدة مؤلّفه، فإنه لم يجد بدّاً هنا من الاعتراف بأنّ هذا الحديث منكر، وإنكار الحديث يساوق القدح فيه كما ذكر ( الدّهلوي ) في كلامه على حديث: « أنا مدينة العلم وعلي بابها »

أمّا إنكار الحافظ ابن حجر هذه الزّيادة، فقد جاء بترجمة أسباط بن نصر الهمداني:

« أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف قال حرب: قلت لأحمد كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنّه ضعّفه. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعّفه وقال: أحاديثه عامّتها سقط مقلوب الأسانيد، وقال النّسائي: ليس بالقوي.

قلت: علّق له البخاري حديثاً في الاستسقاء، وقد وصله الإِمام أحمد والبيهقي في السنن الكبير، وهو حديث منكر أوضحته في التعليق.

وقال البخاري في تاريخه الأوسط: صدوق. وذكره ابن حبّان في الثقات.

___________________

(١). كشف الظنون ١ / ٥٤٨.

١٩٩

وسيأتي في ترجمة مسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه إخراجه لحديث أسباط هذا. وقال الساجي في الضعفاء: روى أحاديث لا يتابع عليها عن سماك بن حرب. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ثقة. وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس »(١) .

الحديث الثامن

وهو حديث « تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فردّوه ».

وقد أخرجه البخاري في صحيحه.

التفتازاني وهذا الحديث

قال التفتازاني « بأنه خبر واحد » وأضاف بأنه « قد طعن فيه المحدثون » وهذا نصّ كلامه:

« قوله: وإنما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب، لأنّه مقدّم لكونه قطعياً متواتر النظم، لا شبهة في متنه ولا في سنده، لكنَّ الخلاف إنما هو في عمومات الكتاب وظواهره، فمن يجعلها ظنيّة يعتبر بخبر الواحد إذا كان على شرائط عملاً بالدليلين، ومن يجعل العامّ قطعياً، فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ بالقطعي، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً، لأنه بمنزلة النسخ.

واستدل على ذلك بقوله -عليه‌السلام - تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه وما خالفه

___________________

(١). تهذيب التهذيب ١ / ٢١٢.

٢٠٠

فردّوه.

وأجيب: بأنه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعياً، فكيف يثبت به مسألة الأصول، على أنه يخالف عموم قوله تعالى:( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) .

وقد طعن المحدّثون بأن في روايته يزيد بن ربيعة وهو مجهول، وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان فيكون منقطعاً.

وذكر يحيى بن معين: إنه حديث وضعته الزّنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية ...»(١) .

ترجمة التفتازاني

وقد ترجم الحافظ السّيوطي للتّفتازاني بقوله: « مسعود بن عمر بن عبد الله، الشّيخ سعد الدين التّفتازاني، الامام العلاّمة، عالم بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرهما، شافعي.

قال ابن حجر: ولد سنة ستّين وسبعمائة وأخذ عن القطب والعضد، وتقدّم في الفنون واشتهر بذلك، وطار صيته وانتفع النّاس بتصانيفه، وله شرح العضد، وشرح التلخيص مطوّل وآخر مختصر، شرح القسم الثاني من المفتاح، وله التلويح على التنقيح في أصول الفقه، شرح العقائد، المقاصد في الكلام، وشرحه الشّمسية في المنطق، شرح تصريف العزّي، الإرشاد في النحو، حاشية الكشاف لم يتمّ، وغير ذلك.

وكان في لسانه لكنة، وانتهت اليه معرفة العلوم بالمشرق، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة »(٢) .

___________________

(١). التلويح على التنقيح، في أصول الفقه ٢ / ٣٩٧.

(٢). بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٨٥.

٢٠١

وقال محمد بن سليمان الكفوي: « وكان من كبار علماء الشافعية، ومع ذلك له آثار جليلة في أصول الحنفيّة، بلغني من الثقات أنه كتب حول صندوق قبره بسرخس: ألا أيّها والزوار زوروا وسلّموا على روضة الحبر الامام المحقق والحبر المدقق، سلطان المصنفين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، معدّل ميزان المعقول والمنقول، منقّح أغصان الفروع والأصول، ختم المجتهدين أبي سعد الحقّ والدين مسعود القاضي الامام مقتدى الأنام ».

وقال الكفوي في ( كتائبه ): « وكان -رحمه‌الله - من محاسن الزمان، لم تر العيون مثله في الأعيان والأعلام، والمذكور في بطون الأوراق، إشتهرت تصانيفه في الأرض ذات الطول والعرض، حتى أنّ السيد الشّريف في مبادي التأليف وأثناء التصنيف كان يغوص في بحار تحقيقه وتحريره، ويلتقط الدرّ من تدقيقه وتسطيره، ويعترف برفعة شأنه وجلالته ووفور فضله وعلوّ مقامه وإمامته ».

وترجم له جار الله أبو مهدي الثعالبي المالكي في رسالة ( أسانيده ) ترجمة حافلة، حيث نقل كلام السيوطي المذكور، ثمّ ترجمة ابن حجر العسقلاني إياه(١) .

الحديث التاسع

وهو ما أخرجه البخاري قائلاً:

« حدثني محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثمّ عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لا نفاضل بينهم.

___________________

(١). وتوجد ترجمة التفتازاني في: الدرر الكامنة ٤ / ٣٥٠، شذرات الذهب ٦ / ٣١٩، البدر الطالع ٢ / ٣٠٣ - ٣٠٥، وغيرها.

٢٠٢

تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز »(١) .

الحافظ ابن عبد البر وهذا الحديث

وقد تكلّم الحافظ ابن عبد البر القرطبي على هذا الحديث وغلّطه وأبطله وذلك حيث قال ما نصه: « وأخبرنا محمد بن زكريا ويحيى بن عبد الرحمن [ وعبد الرحمن ] بن يحيى، قالوا: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا مروان بن عبد الملك، قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي [ كرّم الله وجهه ] سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعرف لعثمان سابقته فهو صاحب سنة.

فذكرت له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلّم فيهم بكلام غليظ، وكان يحيى بن معين يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو بكر: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت - يعني فلا نفاضل وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: أن عليّاً أفضل الناس بعد عثمان. وهذا مما لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان، واختلف السلف أيضا في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع - الذي وصفنا - دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد: كنّا نبيع أمّهات الأولاد على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهم يقولون بذلك، فقد ناقضوا، وبالله التوفيق »(٢) .

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٨.

(٢). الاستيعاب ٣ / ١١١٥ - ١١١٧.

٢٠٣

ترجمة الحافظ ابن عبد البر

وقد ترجم الحافظ الذهبي الحافظ ابن عبد البر ترجمة ضافية نلخّصها في ما يلي:

« إبن عبد البر، الامام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة. مولده في سنة ثمانين وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول: وقيل: في جمادى الأولى. طلب العلم بعد التسعين والثلاثمائة وأدرك الكبار وطال عمره وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف ووثّق وضعّف وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان، وفاته السماع من أبيه الامام أبي محمد، وكان تفقّه على التحسين وسمع من أحمد بن مطرف وأبي عمرو بن حزم المؤرّخ.

وصاحب الترجمة، أبو عمرو، سمع من أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، والمعمّر محمد بن عبد الملك بن صفوان، وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر مولى الناصر لدين وأبي عمر أحمد بن محمد بن الحسور وخلف بن القاسم بن سهل الحافظ والحسين بن يعقوب البجارتي، وقرأ على عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الموهراني، وأبي عمر الطلمنكي والحافظ أبي الوليد ابن الفرضي، وسمع من يحيى بن عبد الرحمن ابن وجه الجنة ومحمد بن رشيق المكتّب وأبي المطّرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي وأحمد بن فتح بن الرسان وأبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن الباجي وأبي عمر أحمد بن عبد المكودي، وطائفة سواهم.

قال الحميدي: أبو عمرو فقيه حافظ مكثر عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.

وقال أبو علي الغسّاني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد

٢٠٤

وأحمد بن خالد الحباب، ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما ولا متخلّفاً عنهما، وكان من النمر بن قاسط، طلب وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي ودأب في طلب الحديث وافتتن به وبرع براعةً فاق بها من تقدّمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه فكان في الغرب مدة ثم تحول إلى شرق الأندلس.

قلت: كان إماماً ديناً ثقة متقناً علامة متبحراً، صاحب سنة واتباع، وكان أولاً أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثمّ تحوّل مالكياً مع ميل بيّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين، ومن نظر في مصنّفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن.

قال أبو القاسم ابن بشكوال: ابن عبد البر إمام عصره، واحد دهره، قال أبو علي ابن سكرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمرو ابن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ أهل المغرب.

مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستّين وأربعمائة، واستكمل خمساً وتسعين سنة وخمسة أيام،رحمه‌الله .

قلت: كان حافظ المغرب في زمانه، وفيها مات حافظ المشرق أبو بكر الخطيب »(١) .

الحديث العاشر

و هو حديث شريك في قصة الأسراء. أخرجه البخاري ومسلم، قال

___________________

(١). سير أعلام النبلاء. وتوجد ترجمته أيضاً في: تاريخ ابن كثير ١٢ / ١٠٤، مرآة الجنان ٣ / ٨٩ وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٨، شذرات الذهب ٣ / ٣١٤، تذكرة الحفاظ ٣ / ٣٠٦، طبقات السبكي ٤ / ٨، النجوم الزاهرة ٥ / ٧٧ المنتظم ٨ / ٣٤٢.

٢٠٥

البخاري: « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من مسجد الكعبة: أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبتّه حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدّنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به » (١) .

وأخرجه مسلم حيث قال:

« حدثنا هارون بن سعيد الايلي، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان - وهو ابن بلال - حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري برسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه »(٢) .

كبار الأئمّة وهذا الحديث

وقد طعن في هذا الحديث جماعة من أئمة التحقيق من أهل السنة، فقد قال الحافظ أبو زكريا النووي في شرح حديث مسلم:

___________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٨٢ - ١٨٣.

(٢). صحيح مسلم ١ / ١٠٢.

٢٠٦

« - وذلك قبل أن يوحى إليه - وهو غلط لم يوافق عليه، فإن الاسراء أقلّ ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بخمس سنين. وقال ابن اسحاق: أسري به -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقد فشا الاسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أن خديجة - رضي الله عنها - صلّت معه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف [ في ] أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس.

ومنها: أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟

وأما قوله في رواية شريك: وهو نائم، وفي الرواية الأخرى، بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤية [ رؤيا ] نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلّها.

هذا كلام القاضي -رحمه‌الله - وهذا الذي قاله في رواية شريك وانّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس، في كتاب التوحيد في [ من ] صحيحه وأتى بالحديث مطوّلاً، قال الحافظ عبد الحق -رحمه‌الله - في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكره هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك ابن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.

وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة - يعني عن أنس - قال: فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال: والأحاديث التي

٢٠٧

تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبد الحق،رحمه‌الله »(١) .

ترجمة الحافظ النووي

وقد أنثى ( الدهلوي ) على الحافظ النووي في ( رسالة أصول الحديث ) ووصفه بـ « الإِمام » وذكر بأنه والبغوي والخطابي علماء معوَّل على كلامهم وتحقيقهم

وترجم له الحافظ الذهبي قائلاً: « والشيخ محي الدين النواوي، شيخ الاسلام أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق ليشتغل، فنزل بالرواحية وحفظ التنبيه في سنة خمس، وحج مع أبيه سنة احدى وخمسين، ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً نحو عشر سنين حتى فاق الأقران وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل

وكان مع تبحّره في العلم وسعة معرفته بالحديث والفقه واللغة وغير ذلك ممّا سارت به الركبان رأساً في الزهد، قدوةً في الورع، عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(٢) .

وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته في طبقاته: « هو محرر المذهب ومهذّبه ومنقّحه ومرتّبه، سار في الآفاق ذكره وعلا في العالم محلّه وقدره، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة ...»(٣) .

وقال اليافعي في حوادث سنة ٦٧٦: « وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الامام شيخ الاسلام مفتي الأنام، المحدّث المتقن، المدقق النجيب الحبر المفيد، المقرئ المعيد محرّر المذهب، الفاضل الوليّ الكبير الشهير، ذو المحاسن العديدة والسيرة

___________________

(١). المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ٢ / ٦٥ - ٦٦.

(٢). العبر في خبر من غبر، حوادث سنة ٦٧٦.

(٣). طبقات الشافعية ٢ / ٤٧٦.

٢٠٨

الحميدة والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في علاء المقامات، ناصر السنة ومعتمد الفتوى، الشيخ محي الدين النّووي يحيى بن شرف ابن مري بن حسن الشافعي، مؤلّف: الروضة، والمنهاج، والمناسكين، وتهذيب الأسماء واللغات، وشرح صحيح مسلم، وشرح المهذب، وكتاب التّبيان، وكتاب الارشاد، وكتاب التّيسير والتقريب، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية

روى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ، قالوا: وكان الشّيخ محي الدين النووي متبحّراً في العلم، متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة وغير ذلك

قلت: ورأيت لابن العطار جزء في مناقبه، ذكر فيه أشياء عزيزة »(١) .

وترجم له أبو بكر ابن قاضي شهبة الاسدي في طبقاته ترجمة ضافية وصفه فيها بـ « الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الاسلام » وقال: « كان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في عمله وشئونه، حافظاً لحديث رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عارفاً بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظاً للمذهب وقواعده وأصوله وأقوال الصّحابة والتابعين واختلاف العلماء ...»(٢) .

وذكره جمال الدين ابن تغري بردي في حوادث سنة ٦٧٦ « وفيها توفي شيخ الاسلام النووي الفقيه الشافعي الزاهد، صاحب المصنفات المشهورة قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر، وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي اذ هو كتاب تراجم يحسن الاطناب فيه »(٣) .

___________________

(١). مرآة الجنان، حوادث ٦٧٦.

(٢). طبقات الشافعية ٣ / ٩.

(٣). النجوم الزاهرة في محاسن مصر والقاهرة، حوادث سنة ٦٧٦.

٢٠٩

الامام الكرماني وهذا الحديث

وقال الامام محمد بن يوسف الكرماني بشرح الحديث:

« قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من جملتها: أنه قال ذلك قبل أن يوحى وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضاً: العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء، إذ قال: أبعث؟ نعم. صريح في أنه كان بعده»(١) .

ترجمة الكرماني

وترجم الحافظ السيوطي للكرماني شارح البخاري بقوله: « محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي، الشيخ شمس الدين صاحب شرح البخاري، الامام العلّامة في الفقه والتفسير والأصلين والمعاني والعربية.

قال ابنه في ذيل المسالك: ولد يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقرأ على والده بهاء الدين، ثم انتقل إلى كرمان وأخذ عن العضد وغيره، ومهر وفاق أقرانه وفضل غالب أهل زمانه، ثم دخل دمشق ومصر وقرأ بها البخاري على ناصر الدين الفارقي، وسمع من جماعة وحج ورجع إلى بغداد واستوطنها، وكان تام الخلق، فيه بشاشة وتواضع للفقراء وأهل العلم، غير مكترث بأهل الدّنيا ولا يلتفت اليهم، تأتي إليه السلاطين في بيته ويسألونه الدعاء والنصيحة، وله من التصانيف شرح البخاري، شرح المواقف، شرح مختصر ابن الحاجب سماه السبعة السيارة، شرح الغياثية في المعاني والبيان، شرح الجواهر أنموذج الكشاف، حاشية على تفسير البيضاوي - وصل فيها إلى سورة يوسف -

___________________

(١). الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ٢٥ / ٢٠٤.

٢١٠

رسالة في مسألة الكحل.

مات بكرة يوم الخميس سادس عشر المحرم، سنة ست وثمانين وسبعمائة، بطريق الحج، فنقل إلى بغداد ودفن بقبر أعدّه لنفسه بقرب الشيخ أبي اسحاق الشيرازي »(١) .

وترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني وأثنى عليه(٢) .

وكذلك ( الدهلوي ) في كتاب ( بستان المحدثين ) الذي انتحله من ( مفتاح كنز دراية المجموع من درر المجلد المسموع )(٣) .

العلامة ابن القيم وهذا الحديث

وقال العلامة الشهير ابن قيم الجوزية حول الحديث المذكور، بعد كلام له:

« وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الاسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد،رحمه‌الله »(٤) .

الحديث الحادي عشر

وهو ما رواه البخاري بقوله: « حدثنا نعيم بن حماد، نا هشيم، عن حصين عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها فرجمتها معهم »(٥) .

___________________

(١). بغية الوعاة ١ / ٢٧٩.

(٢). إنباء الغمر - حوادث ٧٨٦: ٢ / ١٨٢.

(٣). وتوجد ترجمته أيضاً في البدر الطالع للشوكاني ٢ / ٢٩٢.

(٤). زاد المعاد ٢ / ٤٩.

(٥). صحيح البخاري ٥ / ٥٦.

٢١١

الحافظان الحميدي وابن عبد البر وهذا الحديث

وهذا الحديث قد استنكره ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي بأنه: « ليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري ». هذا كلامهما حول هذا الحديث. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال:

« وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلّف وإقامة الحدّ على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم. قال: فإنَّ كانت الطريق صحيحة، فلعلّ هؤلاء كانوا من الجن، لأنّهم من جملة المكلّفين. وإنّما قال ذلك لأنّه تكلّم على الطريق التي أخرجها الاسماعيلي فحسب.

وأجيب: بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زناء حقيقة ولا حدّا، وانما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.

وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين، فزعم أن هذا الحديث [ وقع ] في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري.

وما قاله مردود وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء، من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته اليه، وهذا الذي قاله تخيّل فاسد، يتطرّق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد بعينه، جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور »(١) .

___________________

(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٢٧.

٢١٢

ثلاثة أحاديث في البخاري

وأخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء، عن ابن عباس اثنان منها في كتاب الطلاق والآخر في كتاب التفسير، فأمّا ما أخرجه في كتاب الطلاق فهذا نصه:

« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان اذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فاذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردّت اليه، وإنْ هاجر عبد منهم أو أمة فهما حرّان ولهما ما للمهاجرين. ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإنْ هاجر عبد أو أمه للمشركين أهل العهد لم يردّوا وردّت أثمانهم.

وقال عطاء عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطّاب فطلّقها، فتزوّجها معاوية بن أبي سفيان. وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلّقها فتزوّجها عبد الله بن عثمان الثقفي »(١) .

وأما حديثه في كتاب التفسير، فهذا نصه:

« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ [ ف ] كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبا، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى

___________________

(١). صحيح البخاري ٧ / ٦٢ - ٦٣.

٢١٣

الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت »(١) .

كبار الأئمّة وهذه الأحاديث

وهذا الأحاديث الثلاثة، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن ابن عباس في التفسير، مع العلم بأن أكابر الأساطين والأئمّة من أهل السنة يقدحون في رواية عطاء في التفسير، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقاً.

والحافظ ابن حجر - وهو الذي طالما ساعد البخاري وذبّ عن كتابه - يذكر كلمات القدح، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ويقول بأنه: لا بدّ للجواد من كبوة، ومعنى هذا: أن البخاري قد أخطأ في إخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.

وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع:

« الحديث الحادي والثمانون - قال أبو علي الغساني، قال: البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام - هو ابن يوسف -، عن ابن جريج قال قال - عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.

تعقّبه أبو مسعود الدمشقي فقال: ثبت هذا الحديث والذي قبله - يعني بهذا الاسناد سوى الحديث المتقدّم في التفسير - في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.

قال أبو علي: وهذا تنبيه بليغ [ بديع ] من أبي مسعود -رحمه‌الله - فقد رويناه عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن [ علي ] ابن المديني، قال: سمعت هشام

___________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ١٩٩.

٢١٤

بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء - يعني ابن أبي رباح - عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال: عطاء عن ابن عباس، قال: الخراساني، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا - يعني حسبنا [ كتبنا ] أنه عطاء الخراساني -.

قال علي بن المديني: وإنّما كتبت هذه القصة، لأن محمد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظنّ الذين حملوها عنه، أنّه عطاء بن أبي رباح قال عليّ: وسألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف، فقلت: له: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كلّه ضعيف، إنما هو كتاب دفعه اليه.

قلت: ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه: أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه إلّا على أنّه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأمّا الخراساني فليس من شرطه، لأنّه لم يسمع عن ابن عباس.

لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فإنّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضاً، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعاً، والله أعلم.

فهذا جواب إقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السّديد، ولا بدّ للجواد من كبوة، والله المستعان. وما ذكره أبو مسعود من التعقب قد سبقه إليه الاسماعيلي، ذكر ذلك الحميدي في الجمع، عن البرقاني، عنه، قال: وحكاه عن علي بن المديني، يشير إلى القصة التي ساقها الغسّاني، والله الموفّق »(١) .

أقول:

والعجب من الحافظ ابن حجر، فانه أورد هذا الجواب الإقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير، ولم يقل هناك بأنّ هذا عنده « من المواضع العقيمة عن

___________________

(١). هدى الساري - مقدمة فتح الباري: ٢ / ١٣٥ - ١٣٦.

٢١٥

الجواب السديد، ولا بدّ للجواد من كبوة » وهذا نصّ كلامه: « قوله: عن ابن جريج وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج، قال في قوله [ تعالى ]:( وَدًّا وَلا سُواعاً ) الآية، قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونها [ نهم ]، وقال عطاء: كان ابن عباس إلى آخره.

قوله: عن ابن عباس، قيل: هذا منقطع لأنّ عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج، فقال: أخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس.

وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء، فنظر فيه.

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني، قال: سألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف فقلت له: إنّه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، إنّما هو كتاب دفعه اليه. إنتهى. وكان ابن جريح يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.

وقال الاسماعيلي: أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في [ عن ] تفسير ابن جريج كلاماً معناه أنه كان يقول: عن عطاء الخراساني، عن ابن عبّاس، فطال على الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث، فتركه، فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح. إنتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في تقييد المهمل، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثمّ قال اعفني من هذا، [ قال: ] قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس، قال عطاء الخراساني، قال هشام: فكتبنا ثمّ مللنا - يعني حسبنا أنّه [ كتبنا ] الخراساني - قال ابن المديني وإنّما بيّنت هذا لأنّ محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته - عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ

٢١٦

أنّه عطاء بن أبي رياح.

وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور، من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يقل: الخراساني. وأخرجه عبد الرزاق كما تقدّم فقال: الخراساني.

وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعاً، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة، وإلّا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدّده في شرط الاتصال واعتماده غالباً في العلل على علي ابن المديني شيخه، وهو الذي نبّه على هذه القصّة. وممّا يؤيّد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة، وإنما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح، ولو كان خفى [ ذلك ] عليه لا ستكثر من إخراجها، لأنّ ظاهرها أنها [ على ] شرطه »(١) .

أقول: وعلى أي حال، فإنّا نريد إثبات تكلّم الحفّاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين، وهذا ما هو الواقع، وأمّا دفاع الحافظ ابن حجر - بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام - فيرجع الحكم في صحته وسقمه الى جهابذة الفن

الحديث الخامس عشر

و هو ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي من كتابه، حيث قال: « حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن أبي وائل، قال: حدثني مسروق بن الاجدع، قال: حدّثتني أم رومان - وهي أم عائشة - قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان وفعل،

___________________

(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٥٤١.

٢١٧

فقالت أمّ رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني ممّن [ فيمن ] حدّث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرّت مغشيّاً عليها، فما أفاقت إلّا وعليها حمّى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطّيتها، فجاء النبي - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول الله! أخذتها الحمى بنافض، قالت: فلعلّ في حديث تحدّث [ به ]، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدّقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل [ لي ] شيئاً، فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك » (١) .

كبار الحفّاظ وهذا الحديث

وصريح هذا الحديث سماع مسروق بن الأجدع من أم رومان أم عائشة، ولقد غلّط كبار الأئمّة الحفّاظ هذا الحديث وقالوا: إن مسروقاً لم يدرك أم رومان، ومن هؤلاء:

الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي.

الحافظ أبو عمرو ابن عبد البر القرطبي.

الحافظ أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي.

الحافظ ابراهيم بن يوسف صاحب مطالع الأنوار على صحاح الآثار.

الحافظ أبو القاسم السهيلي شارح السيرة.

الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الأندلسي.

الحافظ جمال الدين المزّي.

الحافظ شمس الدين الذّهبي.

الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي.

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٥٤.

٢١٨

وإليك كلمات القوم الصريحة في ذلك:

قال ابن عبد البر الحافظ ما نصّه: « رواية مسروق عن أم رومان مرسلة، ولعله سمع ذلك من عائشة - رضي الله عنها - »(١) .

وقال الحافظ المزّي بعد أن أورد الحديث المذكور:

« وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: هذا حديث غريب من رواية أبي وائل عن مسروق، لا نعلم رواه غير حصين بن عبد الرحمن عنه، وفيه إرسال، لأن مسروقاً لم يدرك أم رومان، وكانت وفاتها على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها ويقول: سئلت أم رومان، فوهم حصين فيه إذ جعل السائل لها مسروقاً، أللهمَّ إلّا أن يكون بعض النقلة كتب « سألت » بالألف، فإن من الناس من يجعل الهمزة في الخط ألفاً وإنْ كانت مكسورة أو مرفوعة، فتبرأ حينئذٍ حصين من الوهم فيه، على أن بعض الرواة قد رواه عن حصين على الصواب.

قال: وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه، لما رأى فيه عن مسروق قال: سألت أم رومان، ولم تظهر له علته.

وقد بيّنا ذلك في كتاب المراسيل وأشبعنا القول بما لا حاجة لنا إلى إعادته »(٢) .

وقال الحافظ السهيلي بترجمة أم رومان:

« وروى البخاري حديثاً عن مسروق فقال فيه:

سألت أم رومان وهي أم عائشة عما قيل فيها، ومسروق ولد بعد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بلا خلاف، فلم ير أم رومان قط، فقيل: إنّه وهم في الحديث. وقيل: بل الحديث صحيح وهو مقدّم على ما ذكره أهل السيرة من موتها في حياة رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -.

___________________

(١). الاستيعاب ٤ / ١٩٣٧.

(٢). تهذيب الكمال في معرفة الرجال ٣٥ / ٣٦٠.

٢١٩

وقد تكلّم شيخنا أبو بكر ابن العربي -رحمه‌الله - على هذا الحديث واعتنى به لإِشكاله ...»(١) .

وقال ابن سيد الناس.

« وقد وقع في الصحيح رواية مسروق عنها بصيغة العنعنة وغيرها ولم يدركها، وملخص ما أجاب به أبو بكر الخطيب أن مسروقاً يمكن أن يكون قال: سئلت أم رومان، فأثبت الكاتب صورة الهمزة فتصحفت على من بعده بسألت، ثم نقلت إلى صيغة الإخبار بالمعنى في طريق، وبقيت على صورتها في آخر، ومخرجها التصحيف المذكور »(٢) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ الخطيب وتصدى للجواب عنه مدافعاً عن البخاري ثم قال: « وقد تلقى كلام الخطيب بالتسليم: صاحب المشارق، والمطالع، والسهيلي، وابن سيد الناس، وتبع المزي الذهبي في مختصراته، والعلائي في المراسيل، وآخرون.

وخالفهم صاحب الهدى »(٣) .

أقول: ( صاحب المشارق ) هو: الحافظ القاضي عياض، وكتابه ( مشارق الأنوار على صحاح الأخبار ) من الكتب المعروفة المعتبرة، ذكر فيه تحريفات وتصحيفات وأخطاء وقعت في الموطأ وكتاب البخاري وكتاب مسلم.

( وصاحب المطالع ) هو: الحافظ إبراهيم بن يوسف، وكتابه ( مطالع الأنوار على صحاح الآثار ) قال الكاتب الجلبي بتعريفه:

« مطالع الأنوار على صحاح الآثار، في فتح ما استغلق من كتب الموطأ ومسلم والبخاري، وإيضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث، لابن قراقول ابراهيم ابن يوسف، المتوفى سنة تسع وستين وخمسمائة صنّفه على منوال مشارق الأنوار

___________________

(١). الروض الأنف ٦ / ٤٤٠.

(٢). عيون الأثر ٢ / ١٠١.

(٣). فتح الباري ٧ / ٣٥٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423