تذكرة الفقهاء الجزء ٧

تذكرة الفقهاء12%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169457 / تحميل: 5804
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٧

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٠٧-٢
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بل إنّ ظاهر كلمات المحققين من النحاة صحة تركيب « هو أولى » و « هما أوليان »، فإنّهم قد صرّحوا بجواز حذف « من ومجرورها » بعد اسم التفضيل، ولهم على ذلك شواهد من الكتاب وأشعار العرب: قال الأزهري: « وقد تحذف من مع مجرورها للعلم بهما، نحو:( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي من الحياة الدنيا. وقد جاء الإِثبات والحذف في:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) أي منك. وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:

وأفعل التفضيل صله أبداً

تقديراً أو لفظاً بمن إنْ جرّدا

وأكثر ما تحذف من مع المفضول إذا كان أفعل خبراً في الحال أو في الأصل، فيشمل خبر المبتدأ وخبر كان وان وثاني مفعولي ظن وثالث مفاعيل أعلم »(١) .

وقال الرضي: « وإذا علم المفضول جاز حذفه غالباً إنْ كان أفعل خبراً كما يقال لك: أنت أسن أم أنا؟ فتجيب بقولك: أنا أسن. ومنه قوله: الله أكبر ويجوز أن يقال في مثل هذه المواضع: إن المحذوف هو المضاف إليه، أي أكبر كلّ شيء ويجوز أن يقال: إن من مع مجرورة محذوف، أي أكبر من كلّ شيء »(٢) .

والأعجب من كل ذلك غفلة الرازي عن صيغة التكبير الذي يفتتح به الصلاة في كل صباح ومساء.

١٣ - وجوه بطلان منع « هو أولى الرجل » .

وأما قول الرازي: « وتقول: هو مولى الرجل ومولى زيد ولا تقول هو أولى الرجل ولا أولى زيد » فيبطله وجوه:

____________________

(١). التصريح في شرح التوضيح ٢ / ١٠٢.

(٢). شرح الكافية: مبحث أفعل التفضيل.

١٦١

الأول: إذا كان ملاك التركيب لدى الرازي هو العقل لا الوضع، فأيّ استحالة عقلية تلزم من هذا التركيب؟

الثاني: إنّ إضافة « أولى » إلى « رجل » و « زيد » جائزة بحسب القاعدة في علم النحو، لأن استعمال اسم التفضيل مضافاً هو أحد طرق استعماله، كما صرح به النحويون بأجمعهم من غير خلاف. فأيّ مانع من إضافة « أولى » وهو اسم تفضيل إلى « زيد » و « الرجل »؟

الثالث: إنه بالاضافة إلى جواز هذا الاستعمال بحسب القاعدة، فقد وقع هذا الاستعمال وورد في حديث نبوي مذكور في الصحيحين،

ففي باب ميراث الولد من أبيه وأمه من كتاب الفرائض من صحيح البخاري:

« حدثنا موسى بن إسماعيل [ قال ] حدّثنا وهيب [ قال ] حدّثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر »(١) .

وقد أخرجه في باب ميراث الجد مع الأب والأخوة(٢) .

وفي باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج(٣) .

وأخرجه مسلم في صحيحه حيث قال: « حدّثنا عبد الأعلى بن حماد - وهو النرسي - [ قال ] نا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر.

حدثنا أمية بن بسطام العيشي [ قال ] نا يزيد بن زريع [ قال ] نا روح بن القاسم عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ألحقوا الفرائض بأهلها فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر.

____________________

(١). صحيح البخاري ٨ / ١٨٧.

(٢). نفس المصدر ٨ / ١٨٨.

(٣). نفس المصدر ٨ / ١٩٠.

١٦٢

حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد - واللفظ لابن رافع - قال إسحاق نا وقال الآخران أنا عبد الرزاق قال أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله [ تعالى ] فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر »(١) .

فإن زعم الرازي أنا نمنع إضافته إلى المفرد المعرفة. فنقول: إن لاسم التفضيل عند إضافته معنيين، ولا يجوز إضافته إلى المفرد المعرفة بناءاً على أحدهما دون الآخر، قال ابن الحاجب: « فإذا أضيف فله معنيان، أحدهما - وهو الأكثر - أن تقصد به الزيادة على من أضيف إليه، وشرطه أن يكون منهم، نحو زيد أفضل الناس، ولا يجوز يوسف أحسن أخوته. والثاني: أن تقصد زيادة مطلقة ويضاف للتوضيح ».

وقال الرضي في شرحه: « قوله: والثاني أن يقصد زيادة مطلقة. أي يقصد تفضيله على كل من سواه مطلقاً، لا على المضاف إليه وحده، وإنما تضيفه إلى شيء لمجرد التخصيص والتوضيح، كما تضيف سائر الصفات، نحو: مصارع مصر، وحسن القوم، مما لا تفصيل فيه، فلا يشترط كونه بعض المضاف إليه، فيجوز بهذا المعنى أن تضيفه إلى جماعة هو داخل فيهم نحو قولك: نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل قريش، بمعنى أفضل الناس من بين قريش. وأن تضيفه إلى جماعة من جنسه ليس داخلاً فيهم، كقولك: يوسف أحسن أخوته، فإنّ يوسف لا يدخل في جملة أخوة يوسف، بدليل أنك لو سئلت عن عدد إخوته لم يجز لك عدّه فيهم، بلى يدخل لو قلت: أحسن الأخوة، أو أحسن بني يعقوب. وأن تضيفه إلى غير جماعة نحو: فلان أعلم بغداد، أي أعلم ممن سواه وهو مختص ببغداد، لأنّها منشؤه أو مسكنه، وإن قدّرت المضاف أي أعلم أهل بغداد فهو مضاف إلى جماعة يجوز أن يدخل فيهم »(٢) .

____________________

(١). صحيح مسلم ٥ / ٥٩ - ٦٠.

(٢). شرح الكافية - مبحث أفعل التفضيل.

١٦٣

أقول: وعلى هذا فمتى أريد من « أولى » التفضيل والزيادة المطلقة - لا الزيادة على من أضيف إليه فقط - جازت إضافته إلى « الرجل » و « زيد »، لأجل مجرد التخصيص والتوضيح.

١٤ - جواب منع « هما مولى رجلين ».

وأما قول الرازي: « هما أولى رجلين، وهم أولى رجال، ولا تقول: « هما مولى رجلين ولا هم مولى رجال » فهو توهم تدفعه كلمات المحققين الماضية، الدالة على أن الترادف لا يقتضي المساواة في جميع الأحكام.

على أنه لا تلزم أيّة استحالة عقلية من هذا الاستعمال، بناءاً على ما ذكره الرازي من كون مدار الاستعمال والإطلاق هو العقل لا الوضع.

١٥ - منع « هو أولاه » و « هو أولاك » غير مسلّم

وأمّا قوله: « ويقال: هو مولاه ومولاك، ولا يقال: هو أولاه وأولاك » فغير مسلّم، فإنه إذا كان الغرض هو التفضيل المطلق جاز إضافة اسم التفضيل إلى المفرد المعرفة لمجرد التخصيص والتوضيح، وعليه فلا مانع من إضافته إلى الضمير أيضاً. وقال ابن حجر العسقلاني بشرح « فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » نقلاً عن السهيلي: « فإنْ قيل: كيف يضاف « أي أولى » للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب: إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإنْ لم يكن جزءاً منه، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البر « برّ أمّك ثم أباك ثم أدناك »(١) .

وقد أضيف في هذا الحديث « أدنى » - وهو اسم تفضيل - إلى الضمير.

على أنّ الملاك لدى الرازي هو تجويز العقل كما تقدّم مراراً، ولا استحالة في إضافة اسم التفضيل إلى الضمير عقلاً.

____________________

(١). فتح الباري ١٥ / ١٤.

١٦٤

ثم إنّ الرازي قال في خاتمة كلامه: « وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأصول ».

فنقول له: أيها المجادل الغفول، الآتي بكل كلام مدخول! إذا كان عندك في هذا الوجه نظر مذكور في الأصول، فلم أتعبت النفس بتزوير هذا الهذر والفضول! الذي يردّه المنقول وتأباه العقول! وتبطله إفادات المحققين الفحول؟!

وبما ذكرنا ظهر بطلان قول ( الدهلوي ): « وهو منكر بالإِجماع ».

على أنّ الرازي قد قال في وجوه إثبات مجيء « الباء » للتبعيض كما هو مذهب الشافعي: « الثاني: النقل المستفيض حاصل بأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، فوجب أن يكون إقامة حرف « الباء » مقام « من » جائزاً. وعلى هذا التقدير يحصل المقصود ».

فنقول: لا ريب في جواز « فلان مولى لك ». وبناءاً على ما ذكره من أن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض، يجب أن يكون إقامة حرف « من » مقام اللام « جائزاً » وأن يستعمل « فلان مولى منك » بدل ( فلان أولى منك ) وعلى هذا التقدير يحصل المقصود.

* * *

١٦٥

١٦٦

وجوه بطلان شبهة

إن قول أبي عبيدة بيانٌ لحاصل معنى الآية

وشبهات أخرى

١٦٧

١٦٨

قوله:

« وأيضاً: فإنّ تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية ».

أقول: هذا باطل لوجوه:

١ - لم يقل هذا أحد من أهل العربية

إن ( الدهلوي ) قد نسب هذا القول إلى جمهور أهل العربية، مع أن أحداً منهم لم يقله، بل إنّ الأصل في هذه الشبهة هو الرازي كما سيأتي، وقد ذكر من ترجم للرازي أنه لم يكن له اطلاع في علوم العربية، قال ابن الشحنة: « وكانت له اليد الطولى في العلوم خلا العربية »(١) .

٢ - لو كان كذلك فلما ذا خطّئوا أبا زيد كما زعم؟

إنه لو أمكن حمل تفسير أبي عبيدة على ما ذكر، فلماذا خطّأ جمهور أهل العربية أبازيد في تفسيره الذي تبع فيه أبا عبيدة - حسب زعم ( الدهلوي ) -؟ ولما ذا

____________________

(١). روضة المناظر - حوادث سنة ٦٠٦.

١٦٩

لم يحملوا تفسيره على هذا المعنى كذلك؟

٣ - لم ينفرد أبو عبيدة بهذا التفسير

إنه وإنْ كان الأصل في هذه الشبهة هو الرازي، لكن الرازي اعترف بأنّ جماعة من أئمة اللغة والتفسير يفسّرون الآية كذلك، وليس أبو عبيدة منفرداً به، قال الرازي بعد عبارته السابقة: « وأما الذي نقلوا عن أئمة اللغة أن « المولى » بمعنى « الأولى » فلا حجة لهم، وإنما يبيّن ذلك بتقديم مقدمتين -.

إحداهما: إن أمثال هذا النقل لا يصلح أن يحتج به في إثبات اللغة، فنقول: أن أبا عبيدة وإنْ قال في قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) هي أولى بكم. وذكر هذا أيضاً: الأخفش والزجاج وعلي بن عيسى، واستشهدوا ببيت لبيد، ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق، لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه، والأكثرون لم يذكروه إلّا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى مرسلاً غير مسند، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة، وليس كل ما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصلية، ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة في قوله تعالى:( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) . والقلب بالعقل في قوله( لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) . مع أن ذلك ليس لغة أصلية، فكذلك ههنا »(١) .

لكن ( الدهلوي ) يحاول إسدال الستار على هذه الحقيقة الراهنة، فيدعي أن جمهور أهل العربية يحملون تفسير أبي عبيدة على انه بيان للمعنى لا تفسير، وكأن أبا عبيدة منفرد بهذا التفسير، وقد رأينا أن مخترع هذه الشبهة - وهو الرازي - يعترف بأن جماعة آخرين يفسرون الآية كذلك.

وأما قول الرازي: « ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق » فساقط جداً. إذ لا طريق لنا إلى معرفة مفاهيم الألفاظ إلّا بتنصيصات أئمة اللغة، فإنْ

____________________

(١). نهاية العقول - مخطوط.

١٧٠

حملت كلماتهم على التساهل سقطت عن الحجية، وبطلت الاستدلالات والحجج، بل إنّ كلام الرازي هذا خير وسيلة وذريعة للملحدين وجحدة الدين في إنكار حقائق الدين الإسلامي، إذ متى أريد إلزامهم بأمرٍ من أمور الدين استناداً إلى تصريحات اللغويين كان لهم أن يقولوا: « ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق »، بل يكون اعتراضهم أقوى، واعتذارهم عن القبول والتسليم أبلغ، لأنهم يخالفون أئمة اللغة في الدين أيضاً، بخلاف الرازي فإنه وإيّاهم من أهل ملة واحدة وبذلك ينهدم أساس دين الاسلام، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

هذا، ولا عجب من تأييد الرازي للملحدين، فقد عرفت من تصريح الذهبي(١) أن للرازي تشكيكات على دعائم الإسلام، وفي ( لسان الميزان )(٢) عن الرازي أن عنده شبهات عديدة في دين الإسلام، وأنه كان يبذل غاية جهده في تقرير مذاهب المخالفين والمبتدعين، ثم يتهاون ويتساهل في دفعها والجواب عنها.

٤ - الأصل في هذه الدعوى أيضاً هو الرازي

ثم إنّ الأصل في هذه الشبهة أيضاً هو الرازي كما عرفت من كلامه السابق، وقال بتفسير قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ ) ما نصه:

« وفي لفظ « المولى » هاهنا أقوال - أحدها: قال ابن عباس: مولاكم أي مصيركم. وتحقيقه: إن المولى موضع « الولي » وهو القرب. فالمعنى: إن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه.

والثاني: قال الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة. واعلم: أن هذا الذي قالوه معنىً وليس بتفسير للّفظ، لأنه لو كان « مولى »

____________________

(١). ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.

(٢). لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.

١٧١

و « أولى » بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يصح أن يقال: « هذا مولى من فلان » كما يقال: « هذا أولى من فلان » ويصح أن يقال: « هذا أولى فلان » كما يقال: « هذا مولى فلان ». ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير.

وإنما نبّهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لمـّا تمسّك في إمامة علي بقوله [عليه‌السلام ]: « من كنت مولاه فعلي مولاه » قال: أحد معاني « مولى » أنه « أولى » واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية بأن مولى معناه أولى. وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه إمّا بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى التقدير الثاني كذباً.

وأمّا نحن فقد بيّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضوع معنىً لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال »(١) .

٥ - خدشة النيسابوري لكلام الرازي

ولكن ما أسلفنا من البحوث كاف لإسقاط وإبطال هذا الكلام، على أنه قد بلغ من السقوط والهوان حدّاً لم يتمكن النيسابوري من السكوت عليه، بالرغم من متابعته للرازي في كثير من المواضع، قال النيسابوري ما نصه: « هي مولاكم قيل: المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. وقيل أراد هي أولى بكم، قال جار الله: حقيقته هي محراكم ومقمنكم. أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة الكرم، أي مكان لقول القائل إنه لكريم.

قال في التفسير الكبير: هذا معنى وليس بتفسير اللفظ من حيث اللغة، وغرضه أن الشريف المرتضى لمـّا تمسّك في إمامة علي بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١). تفسير الرازي ٢٩ / ٢٢٧ - ٢٢٨.

١٧٢

من كنت مولاه فهذا علي مولاه، إحتج بقول الأئمة في تفسير الآية: إن « المولى » معناه « الأولى » وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه، لأن ما عداه بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى التقدير الثاني كذباً. قال: وإذا كان قول هؤلاء معنىً لا تفسيراً بحسب اللغة سقط الاستدلال.

قلت: في هذا الاسقاط بحث لا يخفى »(١) .

* * *

____________________

(١). تفسير النيسابوري ٢٧ / ٩٧.

١٧٣

شبهات أخرى

هذا، وقد بقيت شبهات أخرى في هذا المقام، نذكرها مع وجوه دفعها إتماماً للمرام:

١ - عدم ذكر بعض اللغويين هذا المعنى

فالشبهة الأولى: إنه وإنْ ذكر جماعة من أئمة اللغة هذا المعنى، إلّا أنّ بعضهم لم يذكروه. ذكر هذه الشبهة الفخر الرازي حيث قال: « لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه ».

وجوه دفعها

وهذه الشبهة مندفعة بوجوه:

الأول: لا اعتبار بالنفي الصريح في مقابلة الإِثبات، فكيف بعدم الذكر والسكوت؟ إنْ صحت النسبة إلى الخليل؟

والثاني: إنّ كتاب « العين للخليل » موصوف بالاضطراب والتصريف

١٧٤

الفاسد، قال أحمد بن الحسين الجاربردي بعد ذكر بيت جاء فيه لفظة « أمهتي » « والهاء زائدة، لأنّ أما فعل بدليل الأمومة في مصدره وأمات في جمعه » ثم قال بعد بيت جاء فيه لفظة « أمات »: « وأجيب عن ذلك بمنع أن أماً فعل والهاء زائدة، وسنده: إن الهاء يجوز أن يكون أصلاً، لما نقل خليل بن أحمد في كتاب العين من قولهم « تأمهت » بمعنى: إتخذت أماً. هذا يدل على أصالة الهاء ».

ثم قال: « قال في شرح الهادي: الحكم بزيادة الهاء أصح لقولهم: أم بنية الأمومة. وقولهم: « تأمهت » شاذ مسترذل » قال: « في كتاب العين من الاضطراب والتصريف الفاسد ما لا يدفع»(١) .

فإذا كان هذا حال ( كتاب العين ) بالنسبة إلى ما ورد فيه، فكيف يكون عدم ورود معنىً فيه سنداً لإِنكاره؟!

الثالث: إنه بالاضافة إلى ما تقدم فقد قدح طائفة من كبار المحققين في « كتاب العين » كما لا يخفى على من راجع ( المزهر ) و ( كشف الظنون )(٢) .

الرابع: لقد صرح الرازي نفسه بإطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في ( العين ) فقد قال السيوطي في ( المزهر ): « أوّل من صنف في جمع اللغة الخليل ابن أحمد. ألّف في ذلك كتاب العين المشهور. قال الامام فخر الدين الرازي في المحصول: أصل الكتب المصنفة في اللغة كتاب العين، وقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه ».

فالعجب من الرازي يقول هذا ثم يحتج بعدم ذكر الخليل ( الأولى ) في جملة معاني ( المولى ) وإذا كان ذلك رأي الجمهور من أهل اللغة فلا ينفع دفاع السيوطي عن ( العين ).

الخامس: دعواه عدم ذكر أضراب الخليل هذا المعنى للفظ المذكور كذب

____________________

(١). شرح الجار بردي على الشافية لابن الحاجب ١٤٩ - ١٥٠.

(٢). كشف الظنون ٢ / ١٤٤٢.

١٧٥

واضح، فإن ( أبا زيد ) من أضرابه ومعاصريه - بل ذكر المترجمون له تقدّمه على الخليل كما تقدم - قد ذكر ذلك، كما اعترف به الخصوم حتى ( الدهلوي )، وفسر ( أبو عبيدة ) لفظة « المولى » بـ « الأولى » كما اعترف به الجماعة حتى الرازي نفسه، و ( أبو عبيدة ) من أضراب الخليل ومعاصريه، بل أفضل منه كما علم من تراجمه، وكذلك ( الفراء ) من معاصريه وقد فسّر « المولى » بـ « الأولى ».

فثبت كذب الرازي في هذه الدعوى.

السادس: لقد فسر محمد بن السائب الكلبي « المولى » بـ « الأولى »، وقد توفي الكلبي سنة (١٤٦) فهو متقدم على الخليل المتوفى سنة (١٧٥) وقيل (١٧٠) وقيل (١٦٠) كما ذكر السيوطي(١) .

السابع: لقد علمت مما تقدم أن جماعة كبيرة من مشاهير الأئمة الأساطين - غير من ذكرنا - قد أثبتوا مجيء « المولى » بمعنى « الأولى »، واستشهدوا لذلك بشعر لبيد، فعدم ذكر الخليل ذلك - إنْ ثبت - لا يليق للاحتجاج بعد إثبات هؤلاء الأثبات للمعنى المذكور.

الثامن: لقد علمت سابقاً أن البخاري ذكر للمولى خمسة معان، فقال ابن حجر وغيره بأن أهل اللغة يذكرون له معان أخرى غيرها. فمن هنا يظهر أن عدم ذكر البخاري لتلك المعاني لا ينفي ثبوتها، فكذلك عدم ذكر الخليل « الأولى » ضمن معاني « المولى » - على تقدير تسليم ذلك - غير قادح في ثبوته، لأن غيره من الأئمة قد ذكروه.

ثم قال الرازي: « والأكثرون لم يذكروه إلّا في تفسير هذه الآية أو آية أخرى ».

وهذا الكلام فيه كفاية لأهل الدراية.

قال: « مرسلاً غير مسند ».

____________________

(١). بغية الوعاة ١ / ٥٦٠.

١٧٦

ويدفعه ما تقدم في دفع دعواه أن ذلك معنىَّ لا تفسير.

قال: « ولم يذكروه في الكتب الأصلية ».

ويدفعه: تصريح ابن الأنباري ومحمد بن أبي بكر الرازي بكون « الأولى بالشيء » من جملة معاني « المولى ». بل ورود تفسيره بهذا المعنى في ( الصحاح للجوهري ) وهو من الكتب الأصلية في اللغة بلا ريب.

وأمّا قوله: « ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة » فيفيد جواز استعمال « المولى » بمعنى « الأولى » مثل استعمال « اليمين » بمعنى « القوة » و « القلب » بمعنى « العقل ».

ثم قال الرازي: ما نصه: « وثانيها: - إن أصل تركيب ( ول ي ) يدل على معنى القرب والدنو، يقال: وليته وأليه والياً، أي دنوت منه، وأوليته إياه: أدنيته، وتباعدنا بعد ولي. ومنه قول علقمة:

وعدت عواد دون وليك تشعب.

وكل مما يليك، وجلست مما يليه، ومنه: الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي، والولية: البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة، وولي اليتيم والقتيل وولي البلد، لأن من تولّى الأمر فقد قرب منه. ومنه قوله تعالى:( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) من قولهم: ولاه ركبته، أي جعلها مما يليه. وأما ولىّ عني إذا أدبر فهو من باب ما يثقل الحشو فيه للسلب، وقولهم: فلان أولى من فلان أي أحق، أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب، وفيه معنى القرب أيضاً، لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه، والمولى اسم لموضع الولي، كالمرمى والمبنى لموضع الرمي والبناء ».

أقول: هذه المقدمة لا علاقة لها بمطلوب الرازي الذي هو نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أصلاً، لأن حاصل هذا الكلام هو كون أصلا تركيب « ولي » دالاً على معنى القرب، وكون « المولى » اسماً لموضع الولي، وهذان الأمران لا دلالة فيهما على نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أبداً، وإلّا لزم أن لا يكون

١٧٧

« المعتق » و « المعتق » وغيرهما من معاني « المولى » أيضاً.

٢ - تفسير أبي عبيدة يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق

ثم قال الرازي: « وإذا ثبت هاتان المقدمتان فلنشرع في التفصيل قوله:

إن أبا عبيدة قال في قوله تعالى:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) معناه: هي أولى بكم. قلنا: إنّ ذلك ليس حقيقة بوجهين أحدهما: إن ذلك يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق، إلّا أن النار أحق، لأن ذلك من لوازم أفعل التفضيل وإنه باطل ».

وجوه دفعها

وهذه الشبهة حول تفسير أبي عبيدة يدفعها وجوه:

الأول: إنه يحتمل أن يكون المعنى: نار جهنم أولى بإحراق الكفّار من نار الدنيا، لا أن المراد أولوية النار بهم من الجنة.

الثاني: إنه لمـّا كان زعم الكفار استحقاقهم دخول الجنة، فإنه بهذا السبب يثبت أولوية النار بهم من الجنة أيضاً. قال نجم الأئمة الرضي الاسترآبادي: « ولا يخلو المجرور بمن التفضيلية من مشاركة المفضل في المعنى، إمّا تحقيقاً نحو: زيد أحسن من عمرو، أو تقديراً كقول عليعليه‌السلام : « لئن أصوم يوماً من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان ». لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف، فقدّرهعليه‌السلام محبوباً إلى نفسه أيضاً، ثم فضّل صوم شعبان عليه، فكأنّه قال: هب أنه محبوب عندي أيضاً، أليس صوم من شعبان أحبّ منه. و قالعليه‌السلام : « اللهم أبدلني بهم خيراً منهم » أي في اعتقادهم لا في نفس الأمر، فإنّه ليس فيهم خير، « وأبدلهم بي شراً مني » أي في اعتقادهم أيضاً، وإلّا فلم يكن فيهعليه‌السلام شر. ومثل قوله تعالى( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) كأنهم لما اختاروا موجب النار. ويقال في

١٧٨

التهكّم: أنت أعلم من الحمار، فكأنّك قلت: إنْ أمكن أن يكون للحمار علم فأنت مثله مع زيادة، وليس المقصود بيان الزيادة، بل الغرض التشريك بينهما في شيء معلوم انتفاؤه من الحمار»(١) .

الثالث: إن المستفاد من الأحاديث العديدة هو أن لكل واحد من المكلّفين مكاناً في الجنّة ومكاناً في النار. وقال الرازي نفسه بتفسير قوله تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) « وهاهنا سؤالات - السؤال الأول: لم سمّي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث، مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقّهم في قوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) ؟ الجواب من وجوه:

الأول: ما روي عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهو أبين ما يقال فيه: وهو: أنّه لا مكلَّف إلّا أعدّ الله له في النار ما يستحقه إن عصى، وفي الجنة ما يستحقه إنْ أطاع، وجعل لذلك علامة، فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار [ منزل ] منازل من لم يؤمن كالمنقول، وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بدّ معها [ معه ] من حرمان الثواب كموتهم، فسمي ذلك ميراثاً لهذا الوجه »(٢) .

٣ - لو كان الأمر كما ذكر أبو عبيدة لقيل هي مولاتكم

ثم قال الرازي: « ثانيهما: لو كان الأمر كما اعتقدوا في أن « المولى » هاهنا بمعنى « الأولى » لقيل هي مولاتكم ».

وجوه دفعها

وهذه شبهة أخرى حول تفسير أبي عبيدة، وهي مندفعة بوجوه:

____________________

(١). شرح الكافية - مبحث أفعل التفضيل.

(٢). تفسير الرازي ٢٣ / ٨٢.

١٧٩

الأول: لقد نسي الرازي أو تناسى إصراره على لزوم التساوي بين المترادفين في جميع الاستعمالات، فإنه بناءاً على ذلك لا يبقى مورد لهذه الشبهة، لأنه إذا كان « المولى » بمعنى « الأولى » جاز استعمال كل منهما مكان الآخر، فإذا وقع « الأولى » خبراً لمبتدأ كان المذكر والمؤنث فيه على حد سواء فكذلك « المولى » الذي بمعناه يستوي فيه المذكر والمؤنث في صورة وقوعه خبراً، فالشبهة مندفعة بناءاً على ما ذهب إليه وألحّ عليه.

الثاني: دعوى اختصاص استواء التذكير والتأنيث باسم التفضيل كذب صريح وغلط محض، لثبوت الاستواء المذكور في مواضع اُخر، قال ابن هشام:

« الغالب في « التاء » أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم، ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان، أحدها: فعول، كرجل صبور بمعنى صابر وامرأة صبور بمعنى صابرة، ومنه:( وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) والثاني: فعيل بمعنى مفعول، نحو رجل جريح وامرأة جريح. والثالث: مفعال كمنحار، يقال رجل منحار وامرأة منحار، وشذ ميقانة. والرابع: مفعيل كمعطير، وشذ امرأة مسكينة، وسمع امرأة مسكين. والخامس: مفعل كمغشم ومدعى »(١) .

الثالث: إنّ تذكير المؤنث بحمل أحدهما على الآخر شائع في الاستعمال كتأنيث المذكر، قال السيوطي: « الحمل على المعنى. قال في الخصائص: إعلم أن هذا الشرح غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح. وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث، وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول، أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعا وغير ذلك، فمن تذكير المؤنث قوله تعالى:( فَلمـّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ) أي هذا الشخص( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) لأن الموعظة والوعظ واحد.( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أراد

____________________

(١). التوضيح في شرح الألفية بشرح الأزهري ٢ / ٢٨٦ - ٢٨٧.

١٨٠

وقال الشافعي ومالك والأوزاعي : إذا أتى بأفعال الحجّ ، لزمه دم.

وقال الشعبي وطاوس وداود : لا يلزمه شي‌ء(١) .

لنا : أصالة عدم وجوب الدم فلا يثبت منافيه إلّا بدليل.

وأمّا إذا نوى التمتّع ، فلزوم الدم ثابت بالإجماع.

والمتمتّع إذا أحرم من مكة ، لزمه الدم ، ولو أحرم من الميقات ، لم يسقط الدم.

وقالت العامة : يسقط الدم(٢) .

لنا : أنّ الدم استقرّ بإحرام الحج ، فلا يسقط بعد استقراره ، وكذا لو أحرم المتمتّع من مكة ومضى الى الميقات ثم منه الى عرفات.

وقال الشيخ : يسقط(٣) .

إذا عرفت هذا ، فلا يجوز نيّة حجّتين ولا عمرتين ، ولو فعل ، قيل : تنعقد إحداهما ، وتلغو الاُخرى(٤) ، وبه قال مالك والشافعي(٥) .

وقال أبو حنيفة : ينعقد بهما ، وعليه قضاء إحداهما ، لأنّه أحرم بهما ولم يتمّهما(٦) .

____________________

(١) كما في المعتبر : ٣٣٨ نقلاً عن الشيخ في الخلاف ٢ : ٢٦٤ - ٢٦٥ ، المسألة ٣٠ ، وفيه : وقال الشعبي : عليه بدنة. وقال طاوس : لا شي‌ء عليه. وبه قال داود.

وانظر : الاُم ٢ : ١٣٣ ، والحاوي الكبير ٤ : ٣٩ ، والمجموع ٧ : ١٩٠ و ١٩١ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٥٢.

(٢) كما في المعتبر : ٣٣٨.

(٣) المبسوط - للطوسي - ١ : ٣٠٧.

(٤) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١.

(٥) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١ ، فتح العزيز ٧ : ٢٠٣ ، الاُم ٢ : ١٣٦ ، مختصر المزني : ٧٠ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٥٥.

(٦) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١ ، فتح العزيز ٧ : ٢٠٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٥٥.

١٨١

وليس بجيّد ؛ لأنّهما عبادتان لا يلزمه المضيّ فيهما ، فلا يصحّ الإِحرام بهما ، كالصلاتين.

وعلى هذا لو أفسد حجّه أو عمرته ، لم يلزمه إلّا قضاؤها إن قلنا بانعقاد إحداهما.

وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معاً ، بناءً على صحة إحرامه بهما(١) .

مسألة ١٣٤ : المكّي إذا خرج عن مكة ثم عاد وحجّ على ميقات ، أحرم منه ، وجاز له التمتّع ؛ لما رواه العامّة عن ابن عباس ، قال : وقّت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام مَهْيَعَةَ(٢) ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يَلَمْلَمْ ، وهي لهم ولكلّ آتٍ من غيرهم ممّن أراد الحج والعمرة(٣) .

ومن طريق الخاصة : قول الكاظمعليه‌السلام : « مَنْ دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّا من المدينة»(٤) .

وأمّا جواز التمتع : فلأنّه إذا خرج عن مكة إلى مصر من الأمصار ، ومرّ على ميقات من المواقيت ، صار ميقاتاً له ، ولحقه أحكام ذلك الميقات.

ولما رواه الكاظمعليه‌السلام : عن رجل من أهل مكة خرج إلى بعض الأمصار ثم رجع فمرّ ببعض المواقيت التي وقّت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل له أن يتمتّع؟ قال : « ما أزعم أنّ ذلك ليس له ، والإِهلال بالحجّ أحبّ اليّ ، ورأيت مَنْ سأل أبا جعفرعليه‌السلام ، قال : نويت الحج من المدينة كيف أصنع؟

قال : تمتّع ، قال : إنّي مقيم بمكة وأهلي فيها ، فيقول : تمتّع »(٥) في‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١.

(١) مَهْيَعَة : اسم للجُحْفة. النهاية - لابن الأثير - ٤ : ٣٧٧ ، معجم البلدان ٥ : ٢٣٥.

(٣) سنن البيهقي ٥ : ٢٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٢٥ - ١٢٦ بتفاوت.

(٤) التهذيب ٥ : ٥٧ - ٥٨ / ١٧٩.

(٥) التهذيب ٥ : ٣٣ - ٣٤ / ١٠٠ ، الاستبصار ٢ : ١٥٨ / ٥١٨.

١٨٢

حديث طويل.

مسألة ١٣٥ : ومن كان من أهل الأمصار فجاور بمكة ثم أراد حجّة الإِسلام ، خرج الى ميقات أهله ، فأحرم منه ، فإن تعذّر ، خرج الى أدنى الحلّ ؛ ولو تعذّر ، أحرم من مكة.

هذا إذا لم يجاور مدّة سنتين ، فإن مضى عليه سنتان وهو مقيم بمكة ، صار من أهل مكة وحاضريها ليس له أن يتمتّع ، وبه قال الشيخ في كتابي الأخبار(١) .

وقال في النهاية : لا ينتقل فرضه عن التمتّع حتى يقيم ثلاث سنين(٢) .

وقد روى زرارة - في الصحيح - عن الباقرعليه‌السلام ، قال : « مَنْ أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعة له » فقلت لأبي جعفر : أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكة؟ قال : « فلينظر أيّهما الغالب عليه فهو من أهله »(٣) .

إذا عرفت هذا ، فذو المنزلين بمكة وناءٍ يعتبر في حقّه أغلبهما إقامةً ، فيُحْرم بفرض أهله ، فإن تساويا ، تخيّر في التمتّع وغيره.

إذا ثبت هذا ، فلو لم تمض هذه المدّة ، ففرضه التمتّع يخرج الى الميقات ، ويُحْرم منه مع المكنة ، وإلّا فمن حيث أمكن ؛ لأنّه لم ينتقل فرضه عن فرض إقليمه ، فيلزمه الإِحرام من ميقاتهم ، أمّا لو تعذّر فإنّه يخرج الى خارج الحرم فيحرم منه ، للضرورة ، ولأنّ ميقاته قد تعذّر عليه ، فيسقط اعتباره ، كما لو تعذّر عليه التمتّع ، وذلك كقضية عائشة ، ولو كان الإِحرام من مكة جائزاً ، لما كلّفها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تحمّل المشقّة.

وروى الحلبي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت : رجل ترك‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٤ ذيل الحديث ١٠٠ ، الاستبصار ٢ : ١٥٩ ذيل الحديث ٥١٨.

(٢) النهاية : ٢٠٦.

(٣) التهذيب ٥ : ٣٤ / ١٠١ ، الاستبصار ٢ : ١٥٩ / ٥١٩.

١٨٣

الإِحرام حتى دخل مكة ، قال : « يرجع الى ميقات أهل بلاده ، الذي يُحرمون منه فيُحْرم ، وإن خشي أن يفوته الحج ، فليُحْرم من مكانه ، فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج »(١) .

وقال الشافعي : يجوز أن يُحرم من مكة مع المكنة من الخروج الى الميقات(٢) ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر أصحابه بالإِحرام من مكة للتمتّع(٣) .

وليس حجّةً ؛ لجواز أمرهم بإحرام الحج لا بإحرام العمرة ، أو أنّ ذلك كان للضرورة.

البحث الثاني : في وقت أداء النسكين‌

مسألة ١٣٦ : أشهر الحج شوّال وذو القعدة وذو الحجة عند أكثر علمائنا(٤) ، وبه قال مالك ، وهو مروي عن ابن عباس وعمر وابن عمر(٥) ؛ لقوله تعالى :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (٦) وأقلّ الجمع ثلاثة.

وما رواه زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، قال : «( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ، ليس لأحد أن يُحرم بالحج في سواهنّ ، وليس لأحد أن يُحرم قبل الوقت الذي وقّت رسول الله صلّى الله عليه‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٨ / ١٨٠.

(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٤١.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ٣٥٦.

(٤) منهم : الشيخ الطوسي في النهاية ٢٠٧ ، وابن ادريس في السرائر : ١٢٦ ، والمحقق في شرائع الاسلام ١ : ٢٣٧ ، والمعتبر : ٣٣٦.

(٥) المغني ٣ : ٢٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٣٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٥ ، أحكام القرآن - لابن العربي - ١ : ١ ٣١ ، المجموع ٧ : ١٤٥ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥٢ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٦١ ، التفسير الكبير ٥ : ١٧٦.

(٦) البقرة : ١٩٧.

١٨٤

وآله ، وإنّما مثل ذلك مثل مَنْ صلّى أربعاً في السفر وترك الثنتين »(١) .

ولأنّه يصح أن يقع في باقي ذي الحجة شي‌ء من أفعال الحج ، كالطواف والسعي وذبح الهدي.

وقال بعض علمائنا هي : شوّال وذو القعدة والى قبل الفجر من عاشر ذي الحجّة(٢) ؛ لقوله تعالى :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) (٣) ولا يمكن فرضه بعد طلوع الفجر من يوم النحر.

ولقوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ ) (٤) وهو سائغ يوم النحر ؛ لأنّه يمكنه التحلّل في أوّله.

ولا حجّة فيه ؛ لأنّ المراد : فمن فرض في أكثرهن ، وبه يتمّ المطلوب.

وقال بعض علمائنا : هي شوّال وذو القعدة والى طلوع الفجر من ليلة النحر(٥) . وبه قال الشافعي(٦) .

وقال بعضهم : وتسعة من ذي الحجة(٧) .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إلى آخر العاشر من ذي الحجة - وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن الزبير وعطاء ومجاهد والحسن والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأحمد - لقول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير : شهران وعشر ليال(٨) . وإذا أطلق ذلك ، اقتضى تعدّده من الأيّام.

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢١ - ٣٢٢ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٥١ / ١٥٥ ، الاستبصار ٢ : ١٦١ / ٥٢٧.

(٢) الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٣٠٨.

(٣ و ٤) البقرة : ١٩٧.

(٥) الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٢٥٨ ، المسألة ٢٣.

(٦) الحاوي الكبير ٤ : ٢٧ ، فتح العزيز ٧ : ٧٤ ، المجموع ٧ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥١.

(٧) الشيخ الطوسي في الجمل والعقود ( ضمن الرسائل العشر ) : ٢٢٦.

(٨) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٦٠ و ٦١ ، المغني ٣ : ٢٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٩ و ٢٣٠ ، =

١٨٥

ولأنّ يوم النحر يدخل به وقت ركن من أركان الحج ، وهو : طواف الزيارة ، ويقع فيه كثير من أفعال الحجّ ، كالرمي والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع الى منى ، فكان من أشهره ، كيوم عرفة.

واعلم : أنّه لا فائدة كثيرة في هذا النزاع ؛ للإِجماع على أنّه لو فاته الموقفان فقد فاته الحجّ ، وأنّه يصح كثير من أفعال الحج يوم العاشر وما بعده.

مسألة ١٣٧ : لو أحرم بالحجّ قبل أشهره ، لم ينعقد إحرامه للحجّ ، وينعقد للعمرة - وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي(١) - لقوله تعالى :( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (٢) تقديره : وقت الحجّ أشهر ، أو أشهر الحجّ أشهر ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف اليه مقامه ، وإذا ثبت أنّه وقته ، لم يجز تقديم إحرامه عليه ، كأوقات الصلوات.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « مَنْ أحرم بالحجّ في غير أشهُر الحجّ فلا حجّ له »(٣) .

وأمّا انعقاده للعمرة : فلقول الصادقعليه‌السلام في رجل فرض الحجّ من غير أشهر الحجّ ، قال : « يجعلها عمرة »(٤) .

وقال مالك والثوري والنخعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق : ينعقد إحرامه ، واذا بقي على احرامه الى وقت الحجّ ، جاز ؛ لقوله تعالى :

____________________

= الحاوي الكبير ٤ : ٢٧ ، التفسير الكبير ٥ : ١٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥١ ، أحكام القرآن - لابن العربي - ١ : ١٣١ ، المجموع ٧ : ١٤٥.

(١) المغني ٣ : ٢٣١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٩ ، الاُم ٢ : ١٢٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٨ - ٢٩ و ٣٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥٢ ، فتح العزيز ٧ : ٧٧ ، المجموع ٧ : ١٤٢ و ١٤٤ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٦٠ ، المحلّى ٧ : ٦٦.

(٢) البقرة : ١٩٧.

(٣) الكافي ٤ : ٣٢٢ / ٤ ، التهذيب ٥ : ٥٢ / ١٥٧ ، الاستبصار ٢ : ١٦٢ / ٥٢٩.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٧٨ / ١٣٦١.

١٨٦

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ ) (١) فدلّ على أنّ جميع الأشهر ميقات(٢) .

ولا حجّة فيه ؛ لأنّ الأزمنة أوقات للحوادث التي من جملتها الحجّ.

مسألة ١٣٨ : لا ينعقد الاحرام بالعمرة المتمتّع بها قبل أشهر الحجّ ، فإن أحرم بها في غيرها ، انعقد للعمرة المبتولة - وهو أحد قولي الشافعي وأحمد(٣) - لأنّ الإِحرام بالعمرة نسك وركن من أركانها ، فيعتبر وقوعه في أشهر الحجّ ، كما يعتبر وقوع باقيها.

ولأنّ المتمتّع بها داخَلَه في الحجّ ؛ لقولهعليه‌السلام : ( دخلت العمرة في الحجّ هكذا ) وشبّك بين أصابعه(٤) ، والحجّ لا يصح إحرامه قبل أشهره ، فكذا ما دخل فيه.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا تكون عمرة إلّا في أشهر الحجّ »(٥) .

ولأنّه أتى بنسك لا تتم العمرة إلّا به في غير أشهر الحج ، فلا يكون متمتّعاً كما لو طاف.

وقال الشافعي في ثاني قوليه : إنّه إذا أحرم بالعمرة في رمضان وأتى بالطواف والسعي والحلق في شوّال وحجّ من سنته فإنّه يكون متمتّعاً(٦) .

وقال مالك : إذا أحرم بها في غير أشهر الحجّ ولم يتحلّل من إحرام‌

____________________

(١) البقرة : ١٨٩.

(٢) المغني ٣ : ٢٣١ - ٢٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٦٠ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٩ ، المجموع ٧ : ١٤٤ ، المحلّى ٧ : ٦٦.

(٣) فتح العزيز ٧ : ١٣٨ - ١٤٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١ ، المهذب - للشيرازي - ١ : ٢٠٨ ، المجموع ٧ : ١٧٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ٤٩ - ٥٠.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٨ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٤ / ١٩٠٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٧.

(٥) التهذيب ٥ : ٤٣٥ - ٤٣٦ / ١٥١٤ ، المعتبر : ٣٣٦.

(٦) الحاوي الكبير ٤ : ٤٩ - ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٠ - ٢٦١.

١٨٧

العمرة حتى دخلت أشهر الحجّ ، صار متمتّعاً(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر أفعال العمرة في أشهر الحجّ ، صار متمتّعاً إذا دخلت عليه أشهر الحجّ(٢) .

وكلّ هذه الأقوال لا حجّة عليها ، فلا يلتفت اليها.

مسألة ١٣٩ : العمرة المبتولة تجوز في جميع أيّام السنة بغير خلاف بين علماء الأمصار ؛ لما رواه العامة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( عمرة في رمضان تعدل حجّةً )(٣) .

واعتمرعليه‌السلام في شوّال وفي ذي القعدة(٤) .

واعتمرت عائشة من التنعيم ليلة المحصب(٥) ، وهي الليلة التي يرجعون فيها من منى الى مكة.

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « السنة اثنا عشر شهراً ، يعتمر لكلّ شهر عمرة»(٦) .

ولأنّها عبادة لها تحريم وتحليل فكان من جنسها عبادة غير موقّتة ، كالصلاة.

مسألة ١٤٠ : المتمتّع إذا دخل مكة وخاف فوات الوقت لو أكملها ، جاز له أن ينقل نيته الى الإِفراد ليدرك أحد الموقفين ثم يعتمر عمرة مفردة بعد إتمام الحج.

____________________

(١) المدونة الكبرى ١ : ٣٩٥ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٢٢٨ ، بداية المجتهد ١ : ٣٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٣٠ - ٣١.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ١٨٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣٣٤ ، فتح العزيز ٧ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١.

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٢٧٦ / ٩٣٩ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٤٦.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٩١٦ / ٢١٧ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٤٦.

(٥) صحيح مسلم ٢ : ٨٨١ / ١٢١٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٤٤.

(٦) الفقيه ٢ : ٢٧٨ / ١٣٦٢.

١٨٨

وكذا الحائض والنفساء لو منعهما عذرهما عن التحلّل وإنشاء إحرام الحجّ ، نقلتا حجّتهما الى الإِفراد ، واعتمرتا بعده ، لأنّ التكليف منوط بالقدرة.

ولما رواه جميل عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن المرأة الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية ، قال : « تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجّةً مفردة ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم وتجعلها عمرة »(١) .

إذا عرفت هذا ، فلو غلب على ظنّها أنّها تطهر وتدرك الموقف ، صبرت على إحرام المتعة الى أن تطهر ثم تطوف وتتمّ متعتها ؛ لأنّ أبا بصير سأل الصادقعليه‌السلام عن المرأة تجي‌ء متمتّعة فتطمث قبل أن تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة ، فقال : « إن كانت تعلم أنّها تطهر وتطوف بالبيت وتحلّ من إحرامها وتلحق الناس فلتفعل »(٢) .

البحث الثالث : في المواقيت‌

والنظر في أمرين :

الأول : تعيينها‌

مسألة ١٤١ : المواقيت ستّة ، فقد أجمع العلماء كافّة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على أربعة مواقيت ، وهي : ذو الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويَلَمْلَمْ.

وروى العامة عن ابن عباس ، قال : وقّت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ،

____________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٤٠ / ١١٤٦ ، التهذيب ٥ : ٣٩٠ / ١٣٦٣.

(٢) الكافي ٤ : ٤٧٧ / ٨ ، الفقيه ٢ : ٢٤٢ / ١١٥٨ ، التهذيب ٥ : ٣٩١ / ١٣٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٣١١ / ١١٠٨.

١٨٩

ولأهل اليمن يَلَمْلَمْ ، قال : فهي لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ، فمن كان يريد الحجّ والعمرة فمن كان دونهن فمهلَّه(١) من أهله ، وكذلك أهل مكة يهلّون منها(٢) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تجاوزها إلّا وأنت محرم ، فإنّه وقّت لأهل العراق - ولم يكن يومئذٍ عراق - بطن العقيق من قبل أهل العراق ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة ، وهي : مَهْيَعَة ، ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ومن كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكة فوقته منزله »(٣) .

وأمّا ميقات أهل العراق : فقد اتّفقوا على أنّه لو أحرم من ذات عرق أحرم من الميقات ، وكان أنس يحرم من العقيق ، واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البرّ(٤) ، واختلفوا في ثبوته.

قال العلماء : إنّه يثبت بالنصّ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، وبه قال أحمد وأصحاب أبي حنيفة(٥) ؛ لما رواه العامة عن ابن عباس ، قال : وقّت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل العراق ذات عرق(٦) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام وقد سأله أبو أيّوب الخزّاز‌

____________________

(١) أي : موضع الإِهلال بالإِحرام.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٨٣٨ / ١١٨١ ، صحيح البخاري ٢ : ١٦٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٩.

(٣) الكافي ٤ : ٣١٨ / ١ ، التهذيب ٥ : ٥٤ / ١٦٦.

(٤) المغني ٣ : ٢١٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٣ ، الاُم ٢ : ١٣٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٦٨ ، فتح العزيز ٧ : ٨١ ، المجموع ٧ : ١٩٧.

(٥) المجموع ٧ : ١٩٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٤ ، فتح العزيز ٧ : ٨١.

(٦) أورده المحقق في المعتبر : ٣٤٢.

١٩٠

- في الصحيح - : حدّثني عن العقيق أوقت وقّته رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو شي‌ء صنعه الناس؟ فقالعليه‌السلام : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة ، وهي عندنا مكتوبة مَهْيَعَة ، ووقّت لأهل اليمن يَلَمْلَمْ ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل نجد العقيق وما أنجدت »(١) .

وقال قوم : إنّه يثبت قياساً ؛ لأنّ أهل العراق كانوا مشركين(٢) .

ولا حجّة فيه ؛ لعلمهعليه‌السلام بأنّهم يسلمون ، أو يمرّ على هذا الميقات مسلمون.

مسألة ١٤٢ : مَنْ كان منزله دون الميقات فميقاته منزله بإجماع العلماء - خلافاً لمجاهد ؛ فإنّه قال : يُهلّ بمكة(٣) . وهو خطأ - لما رواه العامّة عن عليعليه‌السلام وابن مسعود وعمر في قوله تعالى :( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (٤) قالوا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك(٥) .

وعن النبيعليه‌السلام في قوله : ( فمن كان دونهنّ فمهلّه من أهله )(٦) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « ومن كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكة فوقته منزله »(٧) .

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣١٩ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٥٥ / ١٦٨.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ٦٨ ، فتح العزيز ٧ : ٨٠ ، المجموع ٧ : ١٩٧ ، وراجع : المغني والشرح الكبير ٣ : ٢١٤.

(٣) المغني ٣ : ٢١٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٦ ، المجموع ٧ : ٢٠٣ - ٢٠٤.

(٤) البقرة : ٢٩٦.

(٥) الحاوي الكبير ٤ : ٧٥ ، المغني ٣ : ٢٢٢ ، تفسير الطبري ٢ : ١٢٠ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ١ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٠.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ١٦٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٩.

(٧) الكافي ٤ : ٣١٨ / ١ ، التهذيب ٥ : ٥٤ - ٥٥ / ١٦٦.

١٩١

مسألة ١٤٣ : ميقات أهل المدينة ذو الحليفة - وهو مسجد الشجرة - اختياراً ، وهو على عشرة مراحل من مكة ، وعن المدينة ميل ، وعند الضرورة الجحفة.

روى العامّة عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ( مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة )(١) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « الإِحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يُحْرم قبلها ولا بعدها ، وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة »(٢) الحديث.

وفي الصحيح عن الحلبي ، قال : سألته من أين يُحْرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : « من الجحفة ولا يجاوز الجحفة إلّا محرماً »(٣) .

وكان الصادقعليه‌السلام عليلاً فأحرم من الجحفة(٤) .

مسألة ١٤٤ : العقيق ميقات أهل العراق ، وكلّ جهاته ميقات من أين أحرم جاز ، لكن الأفضل الإِحرام من المسلخ ، وتليه غمرة ، وآخره ذات عرق.

وروى العامّة عن ابن عباس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقّت لأهل المشرق العقيق(٥) .

قال ابن عبد البرّ : العقيق أولى وأحوط من ذات عرق ، وذات عرق‌

____________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٨٤١ / ١٨ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٧.

(٢) الكافي ٤ : / ٣١٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٩٨ / ٩٠٣ ، التهذيب ٥ : ٥٥ / ١٦٧.

(٣) التهذيب ٥ : ٥٧ / ١٧٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٥٧ / ١٧٦.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ١٤٣ / ١٧٤٠ ، سنن الترمذي ٣ : ١٩٤ / ٨٣٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٨.

١٩٢

ميقاتهم بإجماع(١) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « وقّت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل العراق العقيق أوّله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق ، وأوّله أفضل »(٢) .

واعلم أنّ أبعد المواقيت ذو الحليفة على عشرة مراحل من مكة ، وتليه في البُعْد : الجحفة ، والمواقيت الثلاثة على مسافة واحدة بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.

مسألة ١٤٥ : المواقيت المذكورة مواقيت لأهلها ولمن مرّ بها ممّن يُريد الحجّ أو العمرة ، فإذا حجّ الشامي من المدينة فجاز على ذي الحليفة ، أحرم منها ، وإن حجّ من اليمن ، فميقاته يلملم ، وإن حجّ من العراق ، فميقاته العقيق ، وكذا غيرها ، ولا نعلم فيه خلافاً ؛ لما روى العامّة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( هُنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة )(٣) .

ومن طريق الخاصة : قول الكاظمعليه‌السلام : « مَنْ دخل المدينة فليس له أن يُحْرم إلّا من المدينة»(٤) .

ولأنّ التكليف بالمضيّ إلى ميقات بلده ضرر ، فيكون منفيّاً.

مسألة ١٤٦ : الصبي ميقاته هذه المواقيت ، ويجوز أن يجرّد من فخّ ، وأن يؤخّر إحرامه(٤) إليه ، لما رواه معاوية بن عمّار ، قال : سمعت الصادقعليه‌السلام يقول : « قدّموا من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو إلى بطن‌

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢١٤.

(٢) الفقيه ٢ : ١٩٩ / ٩٠٧.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٦٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٩.

(٤) التهذيب ٥ : ٥٧ - ٥٨ / ١٧٩.

(٥) في النسخ الخطية والحجرية : إحرامهم. وما أثبتناه يقتضيه السياق.

١٩٣

مَرّ ثم يصنع بهم ما يصنع بالمـُحْرم ويطاف بهم ويسعى بهم ، ومن لم يجد منهم هدياً صام عنه وليّه»(١) .

وسأل أيّوب(٢) الصادقعليه‌السلام عن الصبيان أين نجرّدهم للإِحرام؟

فقال : « كان أبي يجرّدهم من فخّ »(٣) .

مسألة ١٤٧ : ميقات عمرة التمتّع هذه المواقيت ، وميقات حجّه مكّة لا غير ، فإن أحرم من غير مكة اختياراً ، لم يجزئه ، وكان عليه العود إلى مكة لإِنشاء الإِحرام ، ذهب إليه علماؤنا.

وقال أحمد : يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحجّ(٤) .

وليس بصحيح ؛ لما رواه العامّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل على عائشة وهي تبكي ، قال لها : ( أهلّي بالحجّ )(٥) وكانت بمكة.

وأمر أصحابه بالإِحرام من مكة لمـّا فسخوا الحجّ(٦) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « إذا كان يوم التروية - إلى أن قال - وادخل المسجد - إلى أن قال - فأحرم بالحجّ »(٧) .

إذا عرفت هذا ، فلو أحرم من غير مكة اختياراً ، لم يجزئه ، وكان عليه العود إلى مكة لإِنشاء الإِحرام ؛ لأنّ النبيعليه‌السلام أمر أصحابه بالإِحرام من مكة(٨) .

وقال الشافعي : يجوز أن يخرج إلى أحد المواقيت فيُحْرم بالحجّ‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٤ / ٤ ، الفقيه ٢ : ٣٦٦ / ١٢٩٤ ، التهذيب ٥ : ٤٠٩ / ١٤٢٣.

(٢) في النسخ الخطية والحجرية : أبو أيوب ، وما أثبتناه من المصدر وكما في المعتبر : ٣٤٢.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٠٩ / ١٤٢١.

(٤) المغني ٣ : ٢١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٨.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ١٥٤ - ١٥٥ / ١٧٨٥ ، سنن النسائي ٥ : ١٦٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٢ / ١٢١٤ ، المغني ٣ : ٢١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٨.

(٧) الكافي ٤ : ٤٥٤ / ١ ، التهذيب ٥ : ١٦٧ / ٥٥٧.

(٨) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٢ / ١٢١٤ ، المغني ٣ : ٢١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٨.

١٩٤

منه(١) .

ويجوز أن يُحرم من أيّ موضع كان من مكة ؛ لأنّها كلّها ميقات ، لكن الأفضل الإِحرام من المسجد ، وأفضله تحت الميزاب أو في مقام إبراهيمعليه‌السلام .

ولو خرج من مكة بغير إحرام ناسياً أو جاهلاً ، رجع إليها أو أحرم منها ، فإن عرض له مانع ، أحرم من موضعه ولو بعرفات ، وكذا في الخائف من الرجوع.

مسألة ١٤٨ : هذه المواقيت المذكورة مواقيت للحجّ على ضروبه وللعمرة المفردة إجماعاً إذا قدم مكة حاجّاً أو معتمراً.

أمّا المفرد والقارن إذا قضيا مناسك الحج وأرادا الاعتمار ، أو غيرهما ممّن يريد الاعتمار ، فإنّه يلزمه أن يخرج إلى أدنى الحلّ ، فيُحْرم بالعمرة المفردة ثم يعود إلى مكة للطواف والسعي ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا أرادت عائشة أن تعتمر بعد التحلّل من الحجّ أمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم(٢) ، وهو من الحلّ.

ولو خرج إلى أحد المواقيت فأحرم منه ، جاز لكن خفّف عنه بالإِحرام من أدنى الحلّ.

وينبغي أن يُحْرم من الجعرانة ؛ فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اعتمر منها(٣) ، فإن فاتته فمن التنعيم ؛ لأنّ النبيعليه‌السلام أمر عائشة بالإِحرام منها(٤) ، فإن فاتته فمن الحديبية ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا قفل(٥) من‌

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٧٨ ، المجموع ٧ : ١٩٦.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٤ و ٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٧١ / ١١٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٥٧‌

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٣ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٠٥ - ٢٠٦ - ١٩٩٣ و ١٩٩٤ ، سنن الترمذي ٣ : ١٨٠ / ٨١٦.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٧٠ - ٨٧١ / ١١٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٦.

(٥) قفل : رجع. النهاية - لابن الأثير - ٤ : ٩٢.

١٩٥

حنين أحرم بالجعرانة(١) .

النظر الثاني : في أحكام المواقيت‌

مسألة ١٤٩ : لا يجوز الإِحرام قبل الميقات عند علمائنا إلّا لناذر على خلاف ، ولمـُريد العمرة في رجب إذا خاف فواته.

وأطبق العامّة على جوازه(٢) ، واختلفوا في الأفضل.

فقال مالك : الأفضل الإِحرام من الميقات ، ويكره قبله. وبه قال عمر وعثمان والحسن وعطاء ومالك وأحمد وإسحاق(٣) .

وقال أبو حنيفة : الأفضل الإِحرام من بلده(٤) .

وعن الشافعي كالمذهبين(٥) .

وكان علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم(٦) .

لنا : ما رواه العامّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحرم من الميقات(٧) ، ولا يفعل إلّا الراجح ، وقالعليه‌السلام : ( خُذوا عنّي مناسككم )(٨) فوجب‌

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٧٢.

(٢) المغني ٣ : ٢٢٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٢٠٠ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٦٤ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٢٠٥.

(٣) المدوّنة الكبرى ١ : ٣٦٣ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٨ ، المغني ٣ : ٢٢٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، حلية العلمَاء ٣ : ٢٧٠ ، فتح العزيز ٧ : ٩٣.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ١ : ١٨٥ ، المغني ٣ : ٢٢٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، فتح العزيز ٧ : ٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٠ ، المجموع ٧ : ٢٠٢.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢١٠ ، المجموع ٧ : ٢٠٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٠ ، فتح العزيز ٧ : ٩٣ ، المغني ٣ : ٢٢٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦.

(٦) المغني ٣ : ٢٢٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، وانظر : المجموع ٧ : ٢٠٢.

(٧) المغني ٣ : ٢٢٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٧.

(٨) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

١٩٦

اتّباعه.

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « من أحرم بالحجّ في غير أشهر الحجّ فلا حجّ له ، ومن أحرم دون الميقات فلا إحرام له »(١) .

ولأنّه أحرم قبل الميقات ، فكان حراماً ، كالإِحرام قبل أشهر الحجّ.

ولما فيه من التغرير بالإِحرام والتعرّض لفعل محظوراته ، وفيه مشقّة على النفس ، فمُنع ، كالوصال في الصوم.

احتجّوا : بما رواه العامّة عن اُمّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّها سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : (من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)(٢) .

وفي الطريق ضعف عند العامّة(٣) .

مسألة ١٥٠ : سوّغ أكثر أصحابنا(٤) الإِحرام قبل المواقيت في موضعين :

الأول : إذا نذر أن يُحرم قبل الميقات ؛ لما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يُحرم من الكوفة ، قال : « فليُحْرم من الكوفة وليف لله بما قال »(٥) .

الثاني : مَنْ يريد الإِحرام بالعمرة المفردة في رجب ، فإنّه إذا خشي تقضّيه قبل الوصول إلى الميقات ، جاز له أن يُحْرم قبل الميقات ليدرك التلبّس بالعمرة في رجب ؛ لما رواه إسحاق بن عمّار عن الكاظمعليه‌السلام عن‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٢ / ٤ ، التهذيب ٥ : ٥٢ / ١٥٧ ، الاستبصار ٢ : ١٦٢ / ٥٢٩.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٤٣ / ١٧٤١ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٠ ، وانظر : المغني ٣ : ٢٢٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٢٦.

(٣) المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣ - ٢٢٤.

(٤) منهم ابن حمزة في الوسيلة : ١٥٩ - ١٦٠ ، والمحقّق في المعتبر : ٣٤٢ ، وشرائع الإِسلام ١ : ٢٤٢ ، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ١٧٨.

(٥) التهذيب ٥ : ٥٣ / ١٦٢ ، الاستبصار ٢ : ١٦٣ / ٥٣٤.

١٩٧

الرجل يجي‌ء معتمراً ينوي عمرة رجب ، فيدخل عليه الهلال قبل أن يبلغ العقيق ، أيُحْرم قبل الوقت ويجعلها لرجب أو يؤخّر الإِحرام إلى العقيق ويجعلها لشعبان؟ قال : « يُحْرم قبل الوقت لرجب ، فإنّ لرجب فضلاً وهو الذي نوى »(١) .

مسألة ١٥١ : وكما لا يجوز الإِحرام قبل الميقات كذا لا يجوز مجاوزته بغير إحرام لمن يريد النسك ، فإن جاوزه فعليه أن يرجع ليُحْرم منه إن أمكنه ، سواء تجاوزه عالماً أو جاهلاً ، وسواء علم تحريم ذلك أو جهله ، فإن رجع إليه فأحرم منه ، فلا شي‌ء عليه ، ولا نعلم فيه خلافاً ؛ لأنّ فائدة توقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه المواقيت : الإِلزام بالمناسك منها لا يتقدّم عنها ولا يتأخّر.

ولما رواه معاوية بن عمّار - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « من تمام الحجّ والعمرة أن تُحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تجاوزها إلّا وأنت مُحْرم »(٢) .

مسألة ١٥٢ : لو أحرم غير الناذر وغير مريد الاعتمار في رجب قبل الميقات ، لم ينعقد إحرامه ، ولم يعتدّ به ، ولو فعل ما هو محظور على المـُحْرم ، لم يكن عليه شي‌ء ، وإذا بلغ الميقات ، وجب عليه تجديد الإِحرام من رأس ؛ لأنّ ما فَعَله كان منهيّاً عنه ، فلا يكون مجزئاً.

ولأنّ الباقرعليه‌السلام شبّه ذلك بمن صلّى في السفر أربعاً(٣) ، والصادقعليه‌السلام شبّهه بمن صلّى العصر(٤) ستّاً(٥) ، والمعنى واحد ، وهو‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٣ / ٩ ، التهذيب ٥ : ٥٣ / ١٦٠ ، الاستبصار ٢ : ١٦٢ - ١٦٣ / ٥٣٢.

(٢) الكافي ٤ : ٣١٨ / ١ ، التهذيب ٥ : ٥٤ / ١٦٦.

(٣) الكافي ٤ : ٣٢١ - ٣٢٢ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٥١ / ١٥٥ ، الاستبصار ٢ : ١٦١ / ٥٢٧.

(٤) في الاستبصار والطبعة الحجرية و « ط » : الظهر.

(٥) التهذيب ٥ : ٥٢ / ١٥٦ ، الاستبصار ٢ : ١٦١ - ١٦٢ / ٥٢٨.

١٩٨

الزيادة في الفريضة ، كزيادة المـُحْرم قبل الميقات على المقدار المعتبر في نظر الشرع.

وقال الباقرعليه‌السلام : « من أحرم من دون الوقت الذي وقّته رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأصاب شيئاً من النساء والصيد فلا شي‌ء عليه »(١) .

وأطبق الجمهور كافّة على صحة هذا الإِحرام(٢) .

مسألة ١٥٣ : لو ترك الإِحرام من الميقات عامداً مع إرادة النسك ، وجب عليه الرجوع إلى الميقات والإِحرام منه مع المكنة ، ولا نعلم في ذلك خلافاً ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل المواقيت مواطن الإِحرام ، ومنع من الجواز بها إلّا لمـُحْرم إذا كان مُريداً للنسك(٣) .

ولما روى العامّة أنّ أبا الشعثاء جابر بن زيد رأى ابن عباس يردّ مَنْ جاوز الميقات غير مُحْرم(٤) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل ترك الإِحرام حتى دخل الحرم ، فقال : « يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي يُحْرمون منه ، فيُحرم ، وإن خشي أن يفوته الحجّ فليُحْرم من مكانه ، فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج»(٥) .

إذا عرفت هذا ، فلو لم يتمكّن من الرجوع إلى الميقات وكان قد ترك الإِحرام من الميقات عامداً متمكّناً منه مع إرادة النسك ، بطل حجّة - وبه قال سعيد بن جبير(٦) - لأنّه ترك الإِحرام من الميقات عامداً متمكّناً ، فبطل حجّه ،

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٤ / ١٦٥.

(٢) تقدّم تخريجه في المسألة ١٤٩.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٦٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٣٨ - ٨٣٩ / ١١ و ١٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٩.

(٤) الاُم ٢ : ١٣٨ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٩.

(٥) التهذيب ٥ : ٥٨ / ١٨٠.

(٦) المغني ٣ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٢ ، المجموع ٧ : =

١٩٩

كما لو ترك الوقوف بعرفة.

وقالت العامّة : يجبره بدم ، ويُحْرم من موضعه ؛ لما رواه ابن عباس : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( من ترك نسكاً فعليه دم )(١) .

ونحن إنّما نثبت العموم لو قلنا بصحة الحج ، وهو ممنوع.

ولو أحرم من موضعه مع تركه عامداً قادراً ، لم يجزئه على ما بيّنّاه ، ولو عاد إلى الميقات فكذلك ما لم يجدّد الإِحرام ؛ لأنّ الأول لم ينعقد ، فجرى مجرى الإِخلال بالإِحرام.

ولا فرق في بطلان الحج بين أن يكون عدم التمكّن من الرجوع لمرض أو خوف أو ضيق الوقت.

مسألة ١٥٤ : لو ترك الإِحرام عامداً فقد قلنا بوجوب الرجوع ، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه ، فلا دم عليه ، سواء رجع بعد التلبّس بشي‌ء من أفعال الحج ، كطواف القدوم مثلاً ، أو الوقوف ، أو لم يتلبّس - وبه قال عطاء والحسن والنخعي(٢) - لأنّ إحرامه من موضعه لا اعتداد به ، وكذا ما فعله ، ومع الرجوع إلى الميقات يصح إحرامه ، والأصل براءة الذمّة من الدم.

ولأنّه رجع إلى الميقات وأحرم منه ، فلا شي‌ء عليه ، كما لو لم يفعل شيئاً من مناسك الحج.

وقال الشافعي : إن رجع قبل التلبّس ، فلا شي‌ء عليه ، وإن رجع بعد التلبّس ، وجب عليه دم(٣) ؛ لأنّه أحرم من دون الميقات فوجب الدم ، لكن برجوعه سقط ، لأنّه حصل في الميقات محرماً قبل التلبّس بشي‌ء من أفعال‌

____________________

= ٢٠٨.

(١) الحاوي الكبير ٤ : ٧٣ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٢٥.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٢٥ ، المجموع ٧ : ٢٠٨.

(٣) الحاوي الكبير ٤ : ٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢١٠ ، المجموع ٧ : ٢٠٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧١ ، فتح العزيز ٧ : ٩٢ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٢٥.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481