نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٤

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 460

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 460
المشاهدات: 246355
تحميل: 3852


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 246355 / تحميل: 3852
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من تصريحات الأعلام

بدلالة حديث الطّير على أفضلية الإِمام عليه‌السلام

٢٨١

الطَّير؟ قلت: نعم. قال: فحدّثني به. قال: فحدّثته الحديث فقال: يا إسحاق، إني كنت اُكلّمك وأنا أظنّك غير معاندٍ للحق، فأما الآن فقد بان لي عنادك، إنّك توقنُ أنَّ هذا الحديث صحيح؟ قلت: نعم، رواه من لا يمكنني ردّه. قال:

أفرأيت أنَّ من أيقن أنّ هذا الحديث صحيح ثمّ زعم أن أحداً أفضل من علي لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن يكون دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده مردودة عليه، أو أنْ يقول: عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه، أو أن يقول: إنّ الله عزّ وجلّ لم يعرف الفاضل من المفضول. فأيّ الثلاثة أحبّ إليك أن تقل؟

فأطرقت.

ثمّ قال: يا إسحاق: لا تقل منها شيئاً، فإنّك إنْ قلت منها شيئاً استتبتك، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.

قلت: لا أعلم ».

ثمّ إنّ يحيى بن أكثم أعرب عن قبوله لما قال المأمون وعجزه عن الجواب بقوله: « يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبتّ ما لا يقدر أحد أنْ يدفعه ».

قال إسحاق: « فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلّنا نقول بقول أمير المؤمنين »(١) .

الحاكم النيسابوري

وقال الذهبي بترجمة الحاكم: « وسئل الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصحّ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله

____________________

(١). العقد الفريد ٥ / ٣٥٤ - ٣٥٨.

٢٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

فهذا الكلام الذي نسبه الذهبي إلى الحاكم وأقرّه عليه صريح في دلالة حديث الطَّير على الأفضليّة ولنعم ما أفاد محمّد بن إسماعيل الأمير في توضيح هذا الكلام المعزى إلى الحاكم:

« وإذا ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى الله من أدلة غير حديث الطير، فما ذا ينكر من دلالة حديث الطير على الأحبيّة الدالة على الأفضلية؟ وكيف تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة الحديث كما نقل عن الحاكم؟ ويقرب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلّا الاستدلال على ما يذهب إليه من أفضليّة علي، بتعليق الأفضلية على صحة حديث الطير، وقد عرف أنّه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإِقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا يصح ولو صحَّ لما كان أحد أفضل من علي بعده. وقد تبيّن صحّته عنده وعند خصمه، فيلزم تمام ما أراده من الدليل على مذهبه »(٢) .

الفخر الرّازي

قال إمام الإِشاعرة الفخر الرازي ما نصّه:

« فأما خبر الطّير فلا شك أنّه لو صحّ لدلّ على كونه أفضل من غيره، لكنه من أخبار الآحاد ».

فهذا كلامه وهو - كما ترى - إقرار بالدّلالة بلا تشكيك، وأما ما ذكره بالنسبة إلى سنده فبطلانه ظاهر ممّا تقدّم وسبق في بحث السند، لا سيّما من الحاكم النيسابوري الممدوح لدى الفخر والمعتمد.

وأيضاً:

قال الفخر بعد عبارته المذكورة في جواب حديث الطير: « وهو معارض

____________________

(١). تذكرة الحفّاظ ٢ / ١٠٣٩.

(٢). الروضة الندية - شرح التحفة العلويّة.

٢٨٣

بأخبار كثيرة وردت في حق الشيخين

لا يقال: الأحاديث المرويّة في حق علي -رضي‌الله‌عنه - أقوى، لبقائها مع الخوف الشديد على روايتها في زمان بني اُميّة، فلو لا قوّتها في ابتداء أمرها لما بقيت.

لأنّا نقول: هذا معارض بما أنّ الروافض كانوا أبداً قادحين في فضائل الصّحابة - رضي الله عنهم - فلو لا قوتها في ابتدائها وإلّا لما بقي الآن شيء منها »(١) .

هذا كلام الفخر ولو كان هناك مساغ لشيء من التأويلات التي ذكرها ( الدهلوي ) أو غيره، أو كان عند الفخر نفسه تأويل غيرها لذكره فيظهر أن لا طريق عندهم للجواب إلّا الطعن في السند، وقد عرفت فساده، والمعارضة بما رووه في فضائل الشيخين، وهي معارضة باطلة، لكون ما يروونه فيهما ليس بحجة، واللّاحجة لا يعارض الحجة. وأمّا ما ذكره في جواب الاعتراض فواضح الاندفاع، لأنّه قياس مع الفارق

وبالجملة، فهذا الكلام أيضاً دال على المفروغية عن دلالة حديث الطّير على الأفضليّة وهذا هو المطلوب في المقام.

محمّد بن طلحة

وقال محمّد بن طلحة الشافعي في ( مطالب السؤول ) في الباب الأول: « الفصل الخامس: في محبة الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومؤاخاة الرسول إياه، وامتزاجه به، وتنزيله إياه منزلة نفسه، وميله إليه، وإيثاره إيّاه.

وقبل الشروع في المعاقد المقصودة والمقاصد المعقودة في هذا الفصل، لا بدّ من شرح حقيقة المحبّة وكيفية إضافتها إلى الله تعالى وإلى

____________________

(١). نهاية العقول - مخطوط.

٢٨٤

العبد، فإن العقل إذا لم يحط بتصوّر ذاتها لم ينتظم قضاؤه عليها لا بنفيها ولا إثباتها، ولم يستقم حكمه لها بشيء من نعوتها وصفاتها فأقول:

المحبّة حالة شريفة أخبر الله عزّ وجلّ بوجودها منه لعبده ومن عبده له، فقال جلّ وعلا:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) وقالك( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) وقال:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ )

إنّ حقيقة محبّة الله تعالى لعبده: إرادته سبحانه لإِنعامٍ مخصوص يفيضه على ذلك العبد من تقريبه، وإزلافه من محال الطهارة والقدس، وقطع شواغله وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا، ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنّه يراه، فإرادته بأنْ يخصَّ عبده بهذه الأحوال الشريفة هي محبّته له

وأمّا محبّة الله تعالى فهي ميله إلى نيل هذا الكمال، وإرادته درك هذه الفضائل.

فيكون إضافة المحبة إلى الله - تعالى جلّ وعلا - وإضافتها إلى العبد مختلفين، نظراً إلى الاعتبارين المذكورين.

فإذا وضح معناهما فمن خصّه الله - عزّ وعلا - بمحبّته على ما تقدم من إرادته بقربه وإزلافه من مقرّ التقديس والتطهير، وقطع شواغله عنه، وتطهير قلبه من كدورات الدنيا ورفع الحجاب، فقد أحرز قصاب السّابقين، وارتدى بجلباب الفائزين المقربين.

وهذه المحبّة ثابتة لأمير المؤمنين علي، بتصريح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه صحَّ النقل في المسانيد الصحيحة والأخبار الصريحة، كمسندي البخاري ومسلم وغيرهما: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم خيبر: لأعطينَّ الراية

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً - وقد اُحضر إليه طير ليأكله - اللّهم ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه. وكان أنس

٢٨٥

حاضراً يسمع قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مجيء علي. فبعد ذلك جاء أنس إلى علي فقال: استغفر لي ولك عندي بشارة، ففعل، فأخبره بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إيقاظ وتنبيه: إعلم - أيدك الله بروحٍ منه - أن أخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدق وأقواله حق، فإذا أخبر عن شيء فهو محقّق لا يرتاب في صحته ذوو الإِيمان ولا أحد من المهتدين، فكان صلوات الله عليه قد اطّلع بنور النبوّة على أنَّ علياً ممّن يحبّه الله تعالى، وأراد أنْ يتحقق الناس ثبوت هذه المنقبة السنيّة والصّفة العليّة التي هي أعلى درجات المتّقين لعلي، وكان بين الصحابة يومئذٍ منهم حديثو عهد بالإِسلام، ومنهم سمّاعون لأهل الكتاب، ومن فيهم شيء من نفاق، فأحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يثبت ذلك لعلي في نفوس الجميع فلا يتوقف فيه أحد. فقرنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خبره بثبوت هذه الصفة - وهي المحبة الموصوفة من الجانبين لعلي، التي هي صفة معينة معنوية لا تدرك بالعيان - بصفة محسوسةٍ تدرك بالأبصار أثبتها له وهي فتح خيبر على يديه، فجمع قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصف علي بين المحبة والفتح، بحيث يظهر لكلّ ناظر صورة الفتح ويدركه بحاسّته، فلا يبقى عنده توقف في ثبوت الصفة الْأُخرى المقترنة بهذه الصفة المحسوسة، فيترسّخ في نفوس الجميع ثبوت هذه الصفة الشريفة العظيمة لعلي.

وهكذا في حديث الطير، جعل إتيانه وأكله معه - وهو أمر محسوس مرئي - مثبتاً عند كلّ أحد من علمه أنّ علياً متصف بهذه الصفة العظيمة، وزيادة الأحبيّة على أصل المحبة. وفي ذلك دلالة واضحة على علّو مكانة علي وارتفاع درجته وسمّو منزلته، واتّصافه بكون الله تعالى يحبّه وأنّه أحبّ خلقه إليه.

وكانت حقيقة هذه المحبة قد ظهرت عليه آثارها وانتشرت لديه أنوارها، فإنّه كان قد أزلفه الله تعالى في مقرّ التقديس، فإنّه نقل الترمذي في صحيحه: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا علياً يوم الطائف فانتجاه فقال الناس:

٢٨٦

لقد أطال نجواه مع ابن عمه! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما انتجيته ولكنَّ الله انتجاه »(١) .

الحافظ الكنجي

وقال الحافظ محمد بن يوسف الكنجي - بعد رواية حديث الطير -: « وفيه دلالة واضحة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى الله، وأدّل الدلالة على ذلك إجابة دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما دعا به. وقد وعد الله تعالى من دعاه بالإجابة حيث قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) فأمر بالدعاء ووعد بالإِجابة، وهو عزّ وجلّ لا يخلف الميعاد، وما كان الله ليخلف وعده رسله. ولا يردّ دعاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأحبّ الخلق إليه. ومن أقرب الوسائل إلى الله محبّته ومحبّة من يحبّه لحبّه. كما أنشدني بعض أهل العلم في معناه:

بالخمسة الغرّ من قريش

وسادس القوم جبرئيل

بحبّهم ربّ فاعف عنّي

بحسن ظنّي بك الجميل

العدد الموسوم بالستّة في هذا البيت أصحاب العباء الذين قال الله تعالى في حقهم:( لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) وهم: محمّد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وسادس القوم جبرئيل »(٢) .

المحبُّ الطَّبري

وقال محبّ الدين الطبري في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« ذكر أنّه أحبّ الخلق إلى الله تعالى بعد رسول الله صلّى الله عليه

____________________

(١). مطالب السؤول ١ / ٤٢ - ٤٣.

(٢). كفاية الطالب: ١٥١.

٢٨٧

وسلّم:

عن أنس بن مالكرضي‌الله‌عنه قال: كان عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير. فجاء علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه فأكل معه. أخرجه الترمذي، والبغوي في المصابيح في الحسان »(١) .

وأيضاً:

قال الطبري في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« ذكر اختصاصه بأحبيّة الله تعالى له:

عن أنس بن مالك قال: كان عند النبيّ »(٢) .

وأيضاً:

قال: « ذكر محبة الله عزّ وجلّ ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له:

تقدّم في الخصائص ذكر أحبيّته إلى الله ورسوله، وهي متضمنّة للمحبّة مع الترجيح فيها على الغير »(٣) .

فليمت المنكرون والجاحدون حنقاً وغيظاً

شهابُ الدّين أحمد

وقال السيد شهاب الدين أحمد - بعد حديث أبي ذر في أحبّ الخلق إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« قال الشيخ العارف اُسوة ذوي المعارف جلال الدين أحمد الخجنديقدس‌سره - بعد رواية حديث عائشة ومعاذة وأبي ذر رضي الله عنهم كما سبق -: وهذه الآثار عاضدة حديث الطير، إذ لا يكون أحد أحبّ إلى رسول الله

____________________

(١). ذخائر العقبى: ٦١.

(٢). الرياض النضرة ٣ / ١١٤.

(٣). الرياض النضرة ٣ / ١٨٨.

٢٨٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن يكون ذلك أحبّ إلى الله عزّ وجل »(١) .

وأيضاً:

قال السيد شهاب الدين: « الباب السابع، في ترنّم أغاني النبوّة في مغاني الفتوة، بأحبّيته إلى الله تعالى ورسوله، وتنسّمه شقائق شواهق معالي العناية بما ظهر أنّه أشدّ حبّاً لله ورسوله:

عن أنس بن مالك -رضي‌الله‌عنه - قال: كان عند النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وبارك وسلّم طير فقال: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير. فجاء علي بن أبي طالب فأكل معه. ورواه الطبري وقال: خرّجه الترمذي »(٢) .

فحديث الطير عنده دليل الأحبيّة

ابن تيميّة

وقال ابن تيمية في الجواب عن حديث الطير ما نصّه:

« السادس - إنّ الأحاديث الثّابتة في الصّحاح التي أجمع أهل الحديث على صحّتها وتلقّيها بالقبول تناقض هذا، فكيف يعارض تلك بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصحّحوه؟ يتبيّن هذا لكلّ متأمّل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم

وأيضاً: فإنّ الصّحابة أجمعوا على تقديم عثمان، الذي عمر أفضل منه، وأبو بكر أفضل منهما. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد تقدّم بعض ذلك، لكن ذكر هذا ليتبيّن أن حديث الطير من الموضوعات »(٣) .

____________________

(١). توضيح الدلائل - مخطوط.

(٢). توضيح الدلائل - مخطوط.

(٣). منهاج السنّة ٤ / ٩٩.

٢٨٩

فلو لا دلالة هذا الحديث على الأفضلية عند ابن تيمية لما كان بحاجة إلى المعارضة والإِستدلال بما ذكر ولو كانت الأحبيّة فيه نسبية - كما ذكر ( الدهلوي ) أو يمكن تأويلها بوجه من الوجوه - لم يكن تناقض بين حديث الطير وما ذكر من أحاديث القوم!!

ومن هنا يظهر اضطراب القوم في مقام الجواب عن هذا الحديث الشريف، فالمتقدّمون كالرّازي وابن تيميّة لم يذكروا شيئا من التأويلات إمّا عن عجز وقصور، وإمّا للالتفات إلى ركاكتها وسخافتها، فعمدوا إلى خرافات شيوخهم في باب فضائل الشيخين، فزعموا مناقضتها لحديث الطّير، أو ادّعوا وضع هذا الحديث الشّريف، مكذّبين كبار أساطين طائفتهم الذين رووه، وأثبتوه في كتبهم في جملة فضائل مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام . والمتأخّرون سلكوا سبيل التأويل وإنكار دلالة الحديث على الأحبيّة والأفضليّة المطلقة، مخطّئين أولئك الذين أذعنوا بالدلالة وادّعوا المعارضة أو الوضع بل لقد وقع الواحد منهم في التهافت والتناقض فالرازي يعترف في ( نهاية العقول ) بدلالة حديث الطير على الأفضلية بصراحة ثمّ يدّعي المعارضة، ويناقض نفسه في ( الأربعين ) - كما ستسمع فيما بعد - ويمنع الدّلالة

لكن الجمع بين المتناقضات ممتنع، وهم بين أمرين، إمّا رفع اليد عن الحكم بالوضع بدعوى معارضته لما وضعوه في حق الشيخين، وإمّا الإِعتقاد والإِقرار بدلالة الحديث على الأحبيّة ونبذ التأويلات الموهونة وأمّا لا هذا ولا ذاك فهذا من وساوس الخناس الأفّاك، والله ولّي التفضّل بالفهم والإدراك.

محمّد الأمير الصّنعاني

وقال العلّامة محمّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في دلالة حديث الطَّير على أحبيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد إيراد طرقه:

« قلت: هذا الخبر رواه جماعة عن أنس، منهم: سعيد بن المسيب،

٢٩٠

وعبد الملك بن عمير، وسليمان بن الحجاج الطّائفي، وأبو الرجال الكوفي، وأبو الهندي، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، ويغنم بن سالم بن قنبر، وغيرهم.

وأمّا ما قال الحافظ الذهبي في التذكرة في ترجمة الحاكم أبي عبد الله المعروف بابن البيّع الحافظ المشهور، مؤلّف المستدرك وغيره، بعد أن ساق حكاية: وسئل الحاكم أبو عبد الله عن حديث الطير فقال: لا يصح، ولو صحَّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال الذهبي: قلت: ثمّ تغيّر رأي الحاكم، فأخرج حديث الطير في مستدركه. قال الذهبي: وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة قد أفردتها بمصنَّف، ومجموعها يوجب أن الحديث له أصل. انتهى كلام الذهبي. فأقول:

كلام الحاكم هذا لا يصح عنه، أو أنّه قاله ثمّ رجع عنه كما قال الذهبي ثمّ تغيّر رأيه. وإنّما قلنا ذلك لأمرين:

أحدهما - وهو أقواهما - إنّ القول بأفضليّة عليرضي‌الله‌عنه بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مذهب الحاكم، كما نقله الذهبي أيضاً في ترجمته عن ابن طاهر، قال الذهبي قال ابن طاهر: كان - يعني الحاكم - شديد التعصّب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنّن في التقديم والخلافة، وكان منحرفا عن معاوية وإنّه يتظاهر بذلك ولا يعتذر منه. انتهى كلام ابن طاهر، وقرّره الذهبي بقوله: أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر، وأمّا الشيخان فمعظّم لهما بكلّ حال، فهو شيعي لا رافضي. إنتهى.

قلت : إذا عرفت هذا: فكيف يطعن الحاكم في شيء هو رأيه ومذهبه ومن أدلة ما يجنح إليه؟ فإنْ صحّ عنه نفي صحة حديث الطائر فلا بدَّ من تأويله بأنّه أراد نفي أعلى درجات الصحّة، إذ الصحة عند أئمة الحديث درجات سبع، أو أن ذلك وقع منه قبل الإحاطة بطرق الحديث، ثمّ عرفها بعد ذلك فأخرجه فيما جعله مستدركاً على الصحيحين.

٢٩١

والثاني : إنّ إخراجه في المستدرك دليل صحته عنده، فلا يصح نفي الصحة عنه إلّا بالتأويل المذكور.

فعلى كلّ حالٍ فقدح الحاكم في الحديث لا يتم.

ثمّ هذا الذهبي - مع تعاديه وما يعزى إليه من النصب - ألّف في طرقه جزء. فعلى كلّ تقدير قول الحاكم لا يصح. لا بدّ من تأويله.

ولأنّه علّل عدم صحته بأمر قد ثبت من غير حديث الطير، وهو أنّه: إذا كان أحبّ الخلق إلى الله سبحانه كان أفضل الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى الله من غير حديث الطائر، كما أخرجه أبو الخير القزويني من حديث ابن عباس: إنّ عليّاً -رضي‌الله‌عنه - دخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام إليه وعانقه وقبّل بين عينيه، قال له العباس: أتحب هذا يا رسول الله؟ فقال: والله للهَ أشدّ حبّاً له منّي. ذكره المحبّ الطبريرحمه‌الله .

قلت : وفي حديث خيبر الماضي - و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ساُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله - ما يدلّ لذلك. فإنّه ليس المراد من وصفه بحبّ الله إيّاه أدنى مراتبها ولا أوسطها بل أعلاها، لما علم ضرورةً من أنّ الله يحبّ جماعة من الصحابة غير عليرضي‌الله‌عنه ، قد ثبت ذلك بالنص على أفرادٍ منهم، وثبت أنّ الله يحبّهم جملةً، لقوله تعالى:( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) وقد أخبر الله عنهم في عدّة آيات أنّهم اتّبعوا رسوله كقوله تعالى:( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) وغيرها من الآيات المثنية عليهم، الدالة على اتّباعهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد علّق محبّته تعالى باتّباع رسوله، فدلّ أنّهم محبوبون لله تعالى، وأنّ رتبتهم في المحبّة متفاوتة.

فلمـّا خصَّ علياً يوم خيبر بتلك الصّفة من بينهم، وقد علم أنّه قد شاركهم في محبّة الله لهم، لأنه رأس المتّبعين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علم

٢٩٢

أنّه أعلاهم محبةً لله، كأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لاُعطينَّ الرّاية أحبَّ الناس إلى الله، ولهذا تطاول لها الصحابة، وامتدّت إليها الأعناق، وأحبَّ كلٌّ وترجّى أن يخصَّ بها.

وقد ثبت أنّ علياً أحبّ الخلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أخرجه الترمذي - وقال حسن غريب - من حديث عائشة أنّها سئلت: أيّ الناس أحب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت: فاطمة. قيل فمن الرجال؟ قالت: زوجها، إنّه كان - ما علمت - صوّاماً قوّاماً.

وأخرج المخلّص الذهبي والحافظ أبو القاسم الدمشقي من حديث عائشة - وقد ذكر عنها عليرضي‌الله‌عنه - قالت: ما رأيت رجلاً أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه، ولا امرأة أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من امرأته.

وأخرج الخجندي عن معاذة الغفارية قالت: دخلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت عائشة وعلي خارج من عنده، فسمعته يقول: يا عائشة إنّ هذا أحبّ الرجال إليّ وأكرمهم عليّ، فاعرفي له حقّه وأكرمي مثواه.

وأخرج الملّا في سيرته عن معاوية بن ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر - وهو في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: يا أبا ذر، ألا تخبرني بأحبّ الناس إليك، فإني أعرف أنَّ أحبّ الناس إليك أحبّهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: أي وربّ الكعبة، أحبّهم إليَّ أحبّهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ذاك الشيخ - وأشار إلى عليرضي‌الله‌عنه -.

ذكر هذه الأحاديث المحبّ الطبريرحمه‌الله .

وإذا ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه أحبّ الخلق إلى الله سبحانه. فإن رسول الله لا يكون الأحب إليه إلّا الأحبّ إلى الله سبحانه. وإنّه قد ثبت أنّه أحبّ الخلق إلى الله من أدلّة غير حديث الطائر هذا.

٢٩٣

فماذا ينكر من دلالة حديث الطّير على الأحبيّة الدالّة على الأفضليّة؟ وانّها تجعل هذه الدلالة قادحة في صحة الحديث! كما نقل عن الحاكم.

ويقرب أنّ الحافظ أبا عبد الله الحاكم ما أراد إلّا الإِستدلال على ما يذهب إليه من أفضليّة عليرضي‌الله‌عنه ، بتعليق الأفضليّة على صحة حديث الطير، وقد عرف أنّه صحيح، فأراد استنزال الخصم إلى الإِقرار بما يذهب إليه الحاكم فقال: لا يصح، ولو صحَّ لما كان أحد أفضل من عليرضي‌الله‌عنه بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تبيَّن صحته عنده وعند خصمه، فيلزم تمام ما أراده من الدليل على مذهبه هذا.

وفي حديث الطير معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستجابة دعائه في إتيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحبّ الخلق.

وفيه دلالة على أن أحبّ الخلق إلى الله علي، فإنّه مقتضى استجابة الدعوة، وأنّه لا أرفع منه درجةً في الأحبيّة عنده تعالى بعد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا ثلاث مرّات، وكلّها يأتي فيها عليرضي‌الله‌عنه لا غيره، ويرجع من طريقه مرة بعد مرة، يردّه أمر الله والدعوة النبويّة، وألقى في قلب أنس ردّه لهرضي‌الله‌عنه مرة بعد مرة، ليظهر الأمر الإِلهي والدعوة النبويّة، إذ لو فتح له عند أوّل مرة لربّما قيل اتّفق أنّه وصل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّفاقاً، فما وقع الترديد من أنس والتردّد منهرضي‌الله‌عنه إلّا ليعلم اختصاصه، وأنّه لو كان غيره في رتبتهرضي‌الله‌عنه لجاء به له أو معه، إذ ليست الدعوة مقصورةً على أحد.

وقد قدّمنا في حديث المحبّة بحثاً نفيساً في حديث خيبر فلا نكرّره، وأشار الإِمام المنصور بالله إلى حديث الطير بقوله:

ومن غداة الطير كان الذي

خصّ بأكل الطّائر المشتوي »(١)

____________________

(١). الروضة الندية - شرح التحفة العلوية.

٢٩٤

الملّا يعقوب اللّاهوري

وقال الملّا يعقوب اللاهوري في ( شرح تهذيب الكلام ) في البحث عن أدلّة أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ولحديث الطير وهو قولهعليه‌السلام : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء علي فأكل معه. رواه الترمذي.

ولا شكَّ أنّ الأحبّ إلى الله تعالى من كان أكثر ثواباً عنده.

أقول : وهذا الحديث يدلّ على أفضليّة علي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو خلاف الإِجماع، والعام المخصوص لا يكون حجة ».

ودلالة هذا الكلام على مطلوب الإِمامية واضحة جدّا، فقد نصّ اللاّهوري على دلالة حديث الطير على أفضليّة أمير المؤمنين مطلقا حتى من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والعياذ بالله -. لكن زعم شمول هذا الإِطلاق للنبيّ عليه وآله السلام صريح البطلان، لما نصّ عليه أكابر العلماء المحققين من عدم دخول المتكلِّم في إطلاق كلامه وسيجئ ما يدل على ذلك وعليه، فهذا العام ليس مخصّصاً حتى يقال: العام المخصوص لا يكون حجة.

ولو سلَّمنا كونه عاماً مخصوصاً فهو - على ما نصّ عليه أجلّة المحققين في علم الاُصول - حجة أيضاً بل حجيّته مورد اجماعٍ مستند إلى الصّحابة، وإليك كلام القاضي عضد الدين الإِيجي الصريح في ذلك، فإنّه قال في مبحث العام المخصّص من ( شرح المختصر ):

« لنا ما سبق من استدلال الصّحابة مع التخصيص، وتكرر وشاع ولم ينكر، فكان إجماعاً. ولنا أيضاً: إنا نقطع بأنّه إذا قال: أكرم بني تميم وأمّا فلاناً منهم فلا تكرمه، فترك إكرام سائر بني تميم عُدّ عاصياً، فدلَّ على ظهوره فيه وهو المطلوب. ولنا أيضاً: إنّه كان متناولاً للباقي، والأصل بقاؤه على ما كان

٢٩٥

عليه »(١) .

المولوي حسن زمان

وقال المولوي حسن زمان الهندي في معنى حديث الطير: « وكان إتيان الشيخين إتّفاقاً، فلذا صرفهما رضي الله عنهما، ثمّ إتيان المرتضى إجابة من الله عزّ وجلّ لدعائه، ولذا قبله، حيث علم ذلكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلّا فكيف يسوغ ردّ من أتى الله به!

ولذا خرّجه النسائي في ذكر منزلة علي من الله عزّ وجلّ.

وبه تبطل إرادة « من أحبّ الخلق » فإنّ الصدّيق والفاروق كذلك قطعاً، فما وجه تخصيصه بالأحبيّة بالإِتيان به دونهما!

ويبطل احتمال أنّهما لم يكونا حينئذٍ بالمدينة الطيّبة.

وقيل من قال: إنَّ المراد: أحبّ الناس إلى الله في الأكل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المرتضى هو كذا، إذ الأكل مع من هو في حكم الولد يوجب تضاعف لذّة الطعام. مردود بأنّ أحبّ الناس كذلك شرعاً وعرفاً وعقلاً إنّما هو فاطمة أو اُختها إن كانت، أو الحسن والحسين إن كانا، أو الأزواج المكرّمات.

واحتمال الأحبيّة للمجموع إحتمال ناشٍ من غير دليل، فلا اختلال به بالاستدلال »(٢) .

* * *

____________________

(١). شرح المختصر في علم الاُصول: ٢٢٤.

(٢). القول المستحسن في فخر الحسن - فضائل علي.

٢٩٦

قوله:

ولا ريب في كون حضرة الأمير أحبّ الناس إلى الله في الوصف المذكور.

أقول:

لا ريب في كون سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق إلى الله تعالى في ذاك الوصف، بل جميع الأوصاف الفاضلة والمحامد الكاملة. ولو فرضنا قصر دلالة هذا الحديث على الأحبيّة في الأكل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدلّ ذلك على أفضليّته من غيره مطلقا، لأنّ محبّة الله ليست منبعثة عن الطبائع النفسانيّة، وإنّما هي دائرة مدار الأفضليّة الدينيّة، فمن كان الأفضل من حيث الفضائل الدينية كان الأكثر محبوبيةً، لامتناع أحبيّة المفضول من الفاضل عنده سبحانه، ولوضوح أنّه الحكيم على الإِطلاق، وأفعاله وأحكامه مبنيّة على الحكم والمصالح، فهي منزّهة عن اللغو والعبث، ولا مساغ للترجيح أو الترجّح بلا مرجّح في أقواله وأفعاله.

وعلى هذا، فكون المفضول أحبّ عند الله في الأكل مع رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبث صريح بل ظلم قبيح وترجيح للمرجوح، وكلّ ذلك ممتنع في حقه، وتعالى شأنه عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.

٢٩٧

فأحبيّة مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام في الأكل مثبتة لأفضليته في الدين وتقدّمه على غيره من المقرّبين فكيف بالمردودين! فاستبصر ولا تكن من الغافلين.

فهذا التأويل لا ينفع السّاعين وراء إنكار فضائل الوصّي، ودلائل إمامته بعد النبيّ صلوات الله عليهما.

قوله:

لأنّ الأكل مع الولد أو من هو في حكم الولد يوجب تضاعف لذّة الطعام.

أقول:

لا يخفى أنّ هذه الجملة غير واردة في كلام الكابلي الذي انتحل ( الدهلوي ) كلماته، وإنّما هي زيادة منه أتى بها تمادياً في الباطل وسعياً وراء إطفاء نور الله ولكنّه جهل ما يستلزمه ذلك، وأنّ ذلك سيعرّضه إلى مزيدٍ من النقد، لأنّ أكل الولد أو من في حكمه مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يوجب تضاعف لذّه الطّعام فيما إذا كان ذاك الولد أو من بحكمه أفضل من غيره لدى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلّا فمن الواضح جدّاً أنّه لو كان هناك أفضل من هذا الآكل معه لم يكن أكل هذا المفضول أحبّ إليه من أكل الأفضل معه، وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ ملاك الأحبيّة والأقربيّة إلى الله والرّسول هو الأفضليّة في الدين، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يراعي هذا الملاك في جميع جهات معاشرته مع أصحابه، ولم تكن أفعاله وأقواله منبعثةً عن الميول النفسانيّة.

ومن هنا كان ما رواه الحافظ ابن مردويه بسنده: « عن رافع مولى عائشة قال: كنت غلاماً أخدمها، فكنت إذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها ذات يوم، إذ جاء جاءٍ فدقَّ الباب، فخرجت إليه، فإذا جارية مع إناءٍ مغطّى،

٢٩٨

فرجعت إلى عائشة فأخبرتها فقالت: أدخلها، فدخلت فوضعته بين يدي عائشة، فوضعته عائشة بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل يأكل وخرجت الجارية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليت أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وإمام المتّقين يأكل معي. فجاء جاءٍ فدقَّ الباب، فخرجت إليه، فإذا هو علي بن أبي طالب. قال: فرجعت فقلت: هذا علي. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مرحباً وأهلاً فقد عنيتك مرّتين حتى أبطأت عليّ، فسألت الله عزّ وجلّ أن يأتي بك، إجلس فكل معي »(١) .

فهذا الحديث صريح في أنّ دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ناشئاً عن الميل النفساني، بل إنّ دعائه بحضور أمير المؤمنينعليه‌السلام عنده وأكله معه كان لأجل كونهعليه‌السلام « أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وإمام المتقين » هذه الأوصاف التي يكفي الواحد منها للإِمامة والخلافة من بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

فلو سلّم كون الأحبيّة في حديث الطير مقيّدة بالأكل مع النبيّ، فلا ريب في أنّ السبّب في هذه الأحبيّة هي الأحبيّة الحقيقيّة العامّة والأفضليّة المطلقة التامّة الثابتة لأمير المؤمنينعليه‌السلام .

فإنكار دلالة حديث الطير، ودعوى دلالته على مجرّد الأحبيّة في الأكل - أو تأويله بغير هذا التأويل ممّا ذكره ( الدّهلوي ) - لا يسقط الحديث عن الصّلاحية للاستدلال به للامامة والخلافة بلا فصل لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

____________________

(١). مناقب أمير المؤمنينعليه‌السلام لا بن مردويه - مخطوط.

٢٩٩

قوله:

ولو كان المراد الأحبيّة مطلقاً فلا دلالة للحديث على المدّعى.

أقول:

أمّا أنّ المراد هو الأحبيّة المطلقة فقد بيّنا ثبوته بما لا مزيد عليه.

وأمّا أنّ هذه الأحبيّة لا تفيد المدّعى فتفوّه ( الدهلوي ) به بعيد، لما أثبتنا بما لا مزيد عليه كذلك من دلالة الأحبيّة على الأفضلية، وأن الأفضليّة توجب الإِمامة والرئاسة والخلافة وقد كان عمر بن الخطّاب نفسه يرى ذلك، فإنكار استلزام الأحبيّة للأفضلية الدالّة على الإِمامة تكذيب لخليفتهم أيضاً.

قوله:

وأيّ دليلٍ على أنْ يكون أحبّ الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامّة؟

أقول:

هلّا ألقى ( الدهلوي ) نظرةً في إفادات والده التي نصَّ فيها على الملازمة بين الأحبيّة والإِمامة؟

لكنْ لا عجب لأنّ الإِنهماك في الباطل والسّعي في إبطال الحق قد يؤدّي إلى ذلك وإلاّ فإنّ ( الدهلوي ) متّبع لوالده في عقائده وأفكاره، وسائر على نهجه في أخذه وردّه

بل، إنّ هذا الذي قاله تكذيب لجدّه الأعلى، وإبطالٌ لاستدلاله يوم السقيفة على أولويّة أبي بكر بالخلافة

وعلى كلّ حالٍ، فقد ثبت - والحمد لله - وجوب الرئاسة العامة والإِمامة الكبرى لأحبّ الخلق إلى الله، وأنّ العاقل المنصف لا يجوّز أنْ يتقدم غير

٣٠٠