نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٧

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 418

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 418
المشاهدات: 177736
تحميل: 5671


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177736 / تحميل: 5671
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الثالث: إنّ الرّافضة لو عقلت ما ذكروا هذا الحديث على استحقاق، لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف، ولم يحصل من استخلاف هارون إلّا الفتنة العظيمة والفساد الكبير بعبادة بني إسرائيل العجل، حتى أخذ موسى رأس أخيه يجرّه إليه. وكذلك حصل من استخلاف علي أيضاً، لما عرفت من قتل المسلمين يوم الجمل وفي صفّين، ووهن الإسلام، حتى طعنت فيه الأعداء، وإن لم يكن لا لوم على علي في ذلك، لكونه صاحب الحق، لكن لو لم يكن في خلافته مثل ذلك لكان أولى ».

النظر في كلامه والجواب عنه

نعم لقد أبدى هذا الرجل كوامن أضغانه، وأعلن أقصى عدوانه لأمير المؤمنينعليه‌السلام

ألا ترى إلى قوله: « لا دلالة فيه على إمامة علي »؟

أليس هذا هو قول النواصب؟

بل إنّه يقول: « إنّ في هذا الحديث دلالةً على عدم استحقاق علي للإمامة ».

فهل هذا الحديث الّذي يرويه أهل السنّة ويعترفون بصحّته وتواتره دليلُ على عدم استحقاق أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة؟

أليس هذا مذهب النواصب والخوارج، وعلى خلاف أهل السنّة حيث يجعلونه أحد الخلفاء؟

وأيضاً: إذا كان هذا الحديث دليلاً على عدم الإستحقاق فالحديث المفترى الموضوع في حقّ الشيخين - المذكور سابقاً - دليل على عدم استحقاقهما كذلك فيكون ضرر هذا الهذر على الأعور من نفعه أكثر

٢٢١

لكنّه لم يكتف بهذا، بل جعل - في الوجه الثالث - يطعن في أمير المؤمنين وخلافته وشيعته فهل له من توجيةٍ معقول وتأويلٍ مقبول؟

في كلامه مطاعن لعلي أمير المؤمنين

لقد اشتملت عبارته على التشنيع والطّعن من وجوه:

١ - قوله: إن الرافضة لو عقلت ما ذكروا هذا الحديث حجة على استحقاق علي. يدل هذا الكلام على أنّ ذكر هذا الحديث والإحتجاج به على استحقاق الإمام يخالف العقل، ويدلّ على حمق وسفاهة ذاكره والمستدل به والحال أن ( الدهلوي ) يصرّح بأنّ هذا الحديث دليل - عند أهل السنة - على فضل الأمير وصحة إمامته في حينها، لدلالته على استحقاقه لها فيكون طعن الأعور متوجهاً إلى الشيعة والسنة معاً

٢ - قوله: « لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف، ولم يحصل من استخلاف هارون إلّا الفتنة العظيمة والفساد الكبير بعبادة بني إسرائيل العجل » تعليلٌ لنفي العقل عن الشّيعة باستدلالها بالحديث وهو يزعم أنّ نتيجة هذا التشبيه وقوع الفتنة والفساد الكبير من استخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما حصل ذلك بزعمه من استخلاف هارون.

٣ - قوله: « حتى أخذ موسى برأس أخيه يجرّه إليه » معناه: أنّ هارون كان هو السّبب فيما حصل، ولذلك فعل به موسى ذلك. وإنّما ذكر هذا لإثبات مزيد الطعن واللّوم على أمير المؤمنين، كما هو واضح.

٤ - قوله: « وكذلك حصل من استخلاف علي أيضاً، لما عرفت » تصريح بترتب كلّ ذلك الذي ترتب على استخلاف هارون بزعمه، على استخلاف أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٢٢٢

٥ -قوله: « أيضاً » تأكيد لحصول ما ذكر كما لا يخفى.

٦ - قوله: « لما عرفت من قتل المسلمين يوم الجمل والصفين » تصريح بالمراد والمقصود من « الفتنة العظيمة والفساد الكبير » في كلامه.

٧ - قوله: « ووهن الإسلام » يدل على أنّ قتالهعليه‌السلام الناكثين والقاسطين والمارقين كان سبب وهن الإسلام وضعف دين خير الأنامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ - قوله: « حتى طعنت الأعداء » معناه الإعتناء والإعتبار بطعن من طعن على أمير المؤمنينعليه‌السلام في قتاله لأولئك الذين قاتلهم

في كلامه تناقضات

وأمّا قوله: « وإنْ لم يكن لا لوم على علي » فإنّه إنما قاله أخيراً لرفع اللّوم على الإمامعليه‌السلام وبغضّ النظر عن كون عبارته ركيكةً - لأن نفي النفي إثبات - فإنّه هذه الجملة لا تجبر ما تفوَّه به أوّلاً في الطعن واللوم والتشنيع على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل غاية الأمر وقوع التهافت والتناقض في كلامه صدراً وذيلاً، وذلك ليس ببعيد من هؤلاء النصّاب، بل ذلك شأن جميع المبطلين الأقشاب

وتناقضه غير منحصر بهذا، ففي كلامه هنا تناقضات، وبيان ذلك:

إنّه قد صرّح في الوجه الأوّل بأنّ هذا الحديث إنّما قيل تسليةً لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: « الأول: إنه قيل تسليةً لعلي لا تنصيصاً عليه » وقال: « فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم تسليةً: أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى ». ثم ناقض نفسه في الثاني فادّعى إنه دليل على نفي استحقاقه الإمامة والخلافة، ثم ادّعى في الثالث ترتّب الفساد العظيم على

٢٢٣

استخلافه فهذا تناقض، لأنه إن كان دليلاً على نفي الإستحقاق وكان دليلاً على حصول الفساد الكبير، فلا تحصل التسلية لعليٍّ ولا دفع إرجاف المنافقين في المدينة به، بل بالعكس، يكون الحديث - بناءً على ما ذكره - تأييداً وتصديقاً لما زعمته المنافقون، وتصحيحاً لطعن الطاعنين فيه.

وأيضاً: إنّه - وإنْ بلغت عداوته في الوجه الثالث إلى أقصى الغايات - اعترف بدلالة الحديث على الخلافة، حيث قال فيه: « لأنه شبّهه بهارون في الإستخلاف » فهذا الكلام نصٌّ صريح في الدّلالة على ذلك، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبّه أمير المؤمنين بهارون في الإستخلاف، وظاهر أن ليس مراد الأعور من هذا الإستخلاف هو الإستخلاف حال الحياة لعدم وقوع أي فتنةٍ أو فساد حينذاك، فالمراد هو الإستخلاف بعد المماة. وإذْ ثبت تشبيه النبي علياً بهارون في الإستخلاف بعد المماة ثبت دلالة الحديث على الخلافة بالبداهة وإذا كان هذا حاصل كلامه في الوجه الثالث، فقد ناقض مدّعاه حيث نفى الدلالة على الخلافة قائلاً: « لا دلالة فيه على إمامة علي ».

وأمّا الأشياء الأخرى التي زعمها في ذاك الوجه - أعني الثالث - فهي لا تدلّ إلّاعلى كفره ونفاقه

وقال نجم الدين خضر بن محمد بن علي الرازي في ( التوضيح الأنور بالححج الواردة لدفع شبه الأعور ) في هذا المقام:

« وجه الشبه هو القرب والفضيلة، لا ما توهّمه من الفساد الكبير والفتنة العظيمة، وإلّا لم يكن تسليةً بل مذمة وتخطئة، وهو باطل بالإجماع. على أن الفتنة والفساد لم يحصل من نفس الإستخلاف بل من أهوائهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، وإلا لكان القدح في النبي المستخلف.

وعلي ما قتل إلّا البغاة الناكثين والقاسطين والمارقين، عملاً بقول رب

٢٢٤

العالمين:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) . ووهن الإسلام من فعل المخالفين اللئام، وطعن الأعداء لقلّة بصارتهم ومتابعة الأهواء.

هذا، ولو علم الخارجي الأعور التائه في الضلال بحقيقة مآل المقال ما قال ذلك، لأنه إذا كان عليعليه‌السلام كهارون وخلافته كخلافته، لزم أنْ يكون علي صاحب الحق، والمخالف مؤثراً عليه غيره بغير حق، كما أنّ هارون كان صاحب الحق وعبادة العجل التي آثروها على متابعته كان باطلاً. فيلزم منه بطلان الثلاثة الذين خلفوا لكونهم كالعجل المتّبع، ولا دخل لمحاربة علي، لأن وجه الشبه يجب أن يكون مشتركاً بين الطرفين والمحاربة ليست كذلك ».

وأيضاً: بين الوجهين الثاني والثالث تناقض، لأن مقتضى صريح الثاني كون الحديث دليلاً على نفي الإستحقاق، لأنه شبهه بهارون، وقد مات هارون في حياة موسى، فلا استحقاق للأمير للخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقتضى صريح الثالث كونه دالاً على خلافته، لكنْ ترتّب على خلافته فساد كبير وفتنة عظيمة كما زعم فالثاني ناف للخلافة والثالث مثبت، وبين النفي والإثبات تناقض كما هو واضح.

إفتراؤه على هارون

وبعد، فإنّ فظاعة كلمات الأعور في حقّ هارون غير خافية على العاقل الديّن لكنّا مزيداً للتوضيح نقول: إنّ ما ادّعاه من ترتّب الفتنة العظيمة والفساد الكبير على إستخلاف هارون بهتان عظيم وافتراء كبير، وتكذيب للكلام الإلهي الصريح في براءة هارون ممّا كان عند استخلافه وغياب موسى، فقد قال سبحانه وتعالى:( وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ

٢٢٥

الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) (١) فإن الله يبرّىء هارون، والأعور يقول بأنّه هو السبب في عبادة بني إسرائيل العجل!!

ولقد أوضح المفسّرون من أهل السنة أيضاً واقع الأمر وحقيقة الحال حيث شرحوا القصة في تفاسيرهم:

* يقول النيسابوري: « ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحاً وإشفاقاً في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال، أمّا شفقته على نفسه فهي: إنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، اما الاقتال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم( يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ) .

قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه، فقبل أنْ يطلق السامري بادره هارون فزجرهم عن الباطل أولاً بأنّ هذا من جملة الفتن، ثم دعاهم إلى الحق بقوله:( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ) ومن فوائد تخصيص هذا الإسم بالمقام: أنهم إنْ تابوا عما عزموا عليه فإنّ الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثمّ بيّن أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال:( فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) وهذا ترتيب في غاية الحسن »(٢) .

ويقول الرازي: « إعلم أنه قال ذلك شفقةً على نفسه وعلى الخلق، أمّا شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه موسى بقولهعليه‌السلام :( اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسىعليه‌السلام ، وذلك لا يجوز»(٣) .

____________________

(١). سورة طه: ٢٠، الآية ٩٠.

(٢). تفسير غرائب القرآن ٤ / ٥٦٦.

(٣). التفسير الكبير ٢٢ / ١٠٥.

٢٢٦

ويقول الرازي بتفسير الآية:( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) (١) :

« فإن قيل: لمـّا كان هارون نبياً والنبي لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصّاه بالإصلاح. قلنا: المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله:( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) »(٢) .

ويقول النيسابوري: « وإنما وصّاه بالإصلاح تأكيداً وإطمئناناً، وإلّا فالنبي لا يفعل إلّا الإصلاح »(١) .

وتلخص: أنّ من كان قد شمَّ رائحة الإسلام لا يصدر منه ما صدر من الأعور، ولا يشك في ضلال هذا الرجل وكفره فإنّ الطعن على نبي من الأنبياء كفر حتى لو لم ينزل في شأنه شيء في الكتاب، فكيف إذا جاء في القرآن براءته؟ بل إنّ الطعن في هارون طعن في النبي موسى الذي استخلفه، بل طعن في الله سبحانه وتعالى الذي اصطفاهما لنبوّته ونعوذ بالله من ذلك كلّه

وإذ سقط ما ذكره هذا الرجل في طرف المشبَّه به - وهو هارون - سقط ما قاله في طرف المشبَّه وهو أمير المؤمنينعليه‌السلام . فإن ما وقع في زمان خلافته من قتال أهل الجمل وصفين وغيرهم لم يكن إلّا إصلاحاً وإصطلاحاً وكان بأمرٍ من الله ورسوله وهذا أيضاً ممّا اعترف به أكابر أهل السنة وأساطينهم، أخذاً بالأدلة الدالة عليه من الكتاب والسنة النبوية ولو أردنا استيفاء الأحاديث الواردة في هذا الشأن واستقصاء كلمات أعلام القوم فيه لطال بنا المقام واحتاج إلى كتابٍ برأسه، وسنذكر طرفاً منها بعد حديث « خاصف النّعل » إن شاء الله تعالى.

____________________

(١). سورة الأعراف: ٧، الآية ١٤٢.

(٢). التفسير الكبير ١٤ / ٢٢٧ والآية في سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.

(٣). تفسير غرائب القرآن ٣ / ٣١٤.

٢٢٧

كلام ابن تيمية في الجواب عن الحديث

ثم لينظر مَن يدّعي من علماء أهل السنة - ولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام خلافاً للنواصب إلى كلام ابن تيمية، الموصوف في غير واحدٍ من كتبهم ك‍ ( فوات الوفيات ) و ( الدرر الكامنة ) بالأوصاف الجليلة والألقاب الكبيرة، ليرى أن فيهم من يتفوّه بما يأبى الناصبي عن التفوّه به، وحينئذٍ لابدّ من الإقرار بأنّ كثيراً من علماء طائفته نواصب، بل هم أشد نصباً وأكثر عداوةً من النواصب وهذا كلام ابن تيمية في الجواب عن هذا الحديث:

« وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما سافر في غزوةٍ أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان بن عفان، وفي غزوة بني قينقاع بشير بن المنذر، ولمـّا غزا قريشاً، ووصل إلى الفرع استعمل ابن أم مكتوم. وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره

فلمـّا كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحدٍ في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه صلّى الله عليه وسلّم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلّف عنه إلّا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلّف الثلاثة الذين تيب عنهم.

ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من الإستخلافات المعتادة منه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لم يبق بالمدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً فكل استخلافٍ استخلفه في مغازيه مثل

٢٢٨

الإستخلاف في غزوة بدر وفي كلّ مرةٍ يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك. فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً.

فلهذا خرج إليه عليرضي‌الله‌عنه يبكي ويقول: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟

وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلّفه لأنّه يبغضه. فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم إني إنّما استخلفتك لأمانتك عندي، وأن ليس بنقص ولا غض، فإنّ موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى ليفعله بهارون؟ فطيّب بذلك قلب علي، وبيّن أن جنس الإستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلف يغيب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج معه جميع الصحابة.

والملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والإنتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، والمتخلف إذا لم يكن في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله، فظنّ من ظنّ أن هذا غضاضة من علي ونقص منه وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا يحتاج إلى كثير سعي واجتهاد، فكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم مبييناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضّاً، إذ لو كان نقصاً أو غضّاً لما فعله موسى بهارون.

ولم يكن هنا الإستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده. وأمّا استخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم فجميع العسكر كان معه، ولم يخلف بالمدينة غير النساء والصبيان إلّا معذور أو عاص.

٢٢٩

وقول القائل: هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا، هو كتشبيه الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء.

ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأسارى لمـّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل، قال: سأخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ومثلك يا عمر مثل نوح

فقوله لهذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى. أعظم من قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. فإنّ نوحاً وموسى وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون. وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كلّ شيء، لكن فيما دلَّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.

وكذلك هنا: إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق، وهو استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون.

وهذا الإستخلاف ليس من خصائص علي، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها. وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك إستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي ...، بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف علي.

بل كان ذلك الإستخلاف يكون على أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، وكانت الحاجة إلى الإستخلاف أكثر، وأنه كان يخاف من الأعداء على المدينة، فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفتحت مكة، وظهر الإسلام وعز، ولهذا أمر الله نبيهُ أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة

٢٣٠

تحتاج إلى من يقاتل بها العدو، ولهذا لم يدع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند علي من المقاتلة كما كان يدع بها في سائر الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلّهم »(١) .

النظر في كلامه والجواب عنه

قد ذكرنا كلام ابن تيمية في هذا المقام بطوله، وأنت إذا لاحظته رأيت أنّ الشيء الذي يدّعيه ويصرّ عليه هو محاولة إثبات: إنّ استخلاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنينعليه‌السلام على المدينة في غزوة تبوك كان أضعف من الإستخلافات الكثيرة المعتادة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة، وجعل يستدلّ لهذه الدعوى ويؤكّدها بأمور فيها كذب وفيها ما لا أساس له من الصحّة فهذا عمدة ما ادّعاه وأطنب فيه، حيث ذكر أنّه في كل مرّة « كان يخرج من المدينة كان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه، فلمـّا كان في غزوة تبوك فلم يتخلّف عنه إلّا النساء والصّبيان ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم كما كان يستخلف عليهم في كل مرّة، بل كان هذا الإستخلاف أضعف » فهذه دعواه.

وقد استدل لها بزعمه بقول أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: « فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً، فلهذا خرج إليه علي يبكي ويقول: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ ».

وإذا بينّا بطلان استدلاله، بقي ما ذكره دعوى فارغة غير مسموعة فنقول:

السبب في بكاء أمير المؤمنين عليه‌السلام

أمّا بكاء أمير المؤمنينعليه‌السلام فالسّبب فيه - بعد قطع النّظر عن أنّه

____________________

(١). منهاج السنة ٧ / ٣٢٦ - ٣٣١.

٢٣١

غير موجود فيما أخرجه الشيخان من أخبار القصّة وذلك قادح عند الرّازي، كما قال في حديث الغدير، فليكن هذا كذلك - هو: التألم ممّا قاله المنافقون في المدينة، والشّوق إلى ملازمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة كسائر الحروب والغزوات، وهذا صريح روايات القصة في جميع الكتب التي جاء فيها ذكر البكاء، فقد روى النسائي - كما سمعت سابقاً - عن مالك قال: « قال سعد بن مالك: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا على ناقته الحمراء وخلّف عليّاً، فجاء علي حتى تعدّى الناقة فقال: يا رسول الله زعمت قريش أنك إنما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكى علي، فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس: ما منكم أحد إلّاوله خابّة، يا ابن أبي طالب أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي »(١) .

وقال إسحاق الهروي في ( السهام الثاقبة ) في جواب الحديث:

« ثم أقول: قد ذكر أهل التحقيق من المحدثين في صدور هذا الكلام من سيد الأنام صلوات الله عليه إلى يوم القيام: إنه لمـّا توجه صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك استخلف عليّاًرضي‌الله‌عنه على المدينة وعلى أهل بيته، فجاء عليرضي‌الله‌عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باكياً حزيناً لكثرة شوقه إلى الغزاء وملازمة سيد الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه. فقال: يا رسول الله تتركني مع الأخلاف؟ فقالعليه‌السلام تسليةً له رضي الله تعالى عنه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي ».

فالعجب من ابن تيمية كيف يقلب هذا البكاء الذي يعدّ فضيلةً من فضائل الإمامعليه‌السلام إلى دليل على ضعف استخلافه على المدينة؟

____________________

(١). خصائص علي: ٧٧ رقم ٦١.

٢٣٢

السبب في قوله: أتخلّفني ...؟

وكذلك الحال في قولهعليه‌السلام : يا رسول الله أتخلّفني مع النساء والصبيان؟ فإنه لما تألّم وتأذّى ممّا قالته قريش في استخلافه، قال هذا للنبي صلّى الله وآله وسلّم ليصدر منه كلام يكون جواباً قاطعاً عما قيل فيه، ولذا لمـّا قال له ذلك أجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كذبوا ».

وكما قال ابن تيميّة نفسه: « فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي ».

فإذن، لم يكن استخلافه إيّاه نقصاً عليه، ولم يكن هذا الإستخلاف ضعيفاً، ولم يكن قول الأمير ذلك وبكاؤه لهذا الذي زعمه ابن تيمية

وأيضاً قوله: « فكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم تبييناً أن جنس الإستخلاف » صريح في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع بقوله: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » توهّم أن استخلافه في المدينة يدل على نقصٍ فيه، وأفاد أنّه لو كان الإستخلاف دالاً على ذلك لما فعله موسى بهارون فهذا الكلام من ابن تيمية وجه آخر لإبطال استدلاله بالبكاء وقول: « أتخلّفني » على أنّ هذا الإستخلاف كان أضعف الإستخلافات، وهكذا يتضح وقوع التهافت والتناقض في كلماته.

لكنّه يدعي - مع ذلك كلّه - أنّ متوهّم هذا الوهم الذي دفعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمير المؤمنينعليه‌السلام نفسه فيقول: « وقول القائل: إذ جعله بمنزلة هارون إلاّفي النبوة. باطل، فإن قوله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيّب قلبه، لما توهم من وهن الإستخلاف ونقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له ».

لكنّها دعوى لا أساس لها ولا شاهد عليها.

٢٣٣

تأييد ابن تيمية إرجاف المنافقين وتناقضاته

وبالجملة، فإنّ هذا الرّجل يدّعي وهن إستخلاف النبي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويريد إثبات دعواه هذه بأباطيل وأكاذيب، وهو في الوقت ذاته يناقض نفسه ويقول بأنّ ما قاله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ينفي هذا التوهّم ويبطل هذه الدعوى ففي كلماته تناقض واضح ولكنْ لماذا هذا الإنهماك في تأييد إرجاف المنافقين بمولانا أمير المؤمنين وتقوية أكاذيبهم، ثم التناقض مرة بعد اُخرى؟

إنّه يقول: « فبيّن له النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا تخوينه ».

ثم يعود فيقول: « وذلك لأن المستخلف ». وظاهر أنَّ هذا الكلام ليس توضيحاً وبياناً للكلام السابق عليه وهو « فبيّن »، إذ لا مناسبة بين هذا الكلام وبين « وإنّما استخلفتك لأمانتك عندي » و « الإستخلاف ليس بنقصٍ ولا غض » و « الإستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته وتخوينه »

فالمشار إليه بقوله: « وذلك » إمّا ما ذكره من قبل من « أنّ هذا الإستخلاف أضعف » وإمّا إرجاف المنافقين وطعنهم في أمير المؤمنين.

فظهر أنّ ابن تيمية قد أغرق نزعاً في إثبات مزعوم المنافقين وتأييده بأن « الملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به ومعاونته لهم ويحتاجون إلى مشاورته ».

ثم أبطل كل هذا الذي نسجه بقوله: « فكان قول النبي ».

ثم عاد فقال: « ولم يكن هذا الإستخلاف كاستخلاف هارون » فأيّد طعن الطاعنين في استخلافهعليه‌السلام وردَّ على قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصراحة

٢٣٤

نسبة إلى الصحيحين كاذبة

ثم إنّ الحديث الذي استشهد به ابن تيمية في خلال كلماته قائلاً: « ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي » غير موجود في الصحيحين، وليس من أحاديثهما، كما لا يخفى على من راجعهما وهذا شاهد آخر على أنّ الرّجل لا وازع له حتّى عن الكذب الواضح الصّريح.

٢٣٥

العودُ إلى كلمات الدّهلوي

قوله:

وقالوا: إنّ هذه الخلافة ليست الخلافة المتنازع فيها حتى يثبت استحقاق تلك الخلافة بهذا الإستخلاف.

أقول:

قد عرفت أن هذا الذي نسبه ( الدهلوي ) إلى النواصب قد صرّح كبار علماء أهل السنّة من المحدّثين والمتكلّمين وسنأتي على هذه الشبهة فيما بعد بالتفصيل بما يقلع جذورها ويخجل المتفوّهين بها

ولا يخفى أنّ هذه شبهة في مقابل تمسّك أصحابنا بحديث المنزلة من حيث دلالة خصوص الإستخلاف لأمير المؤمنين على إمامته وخلافته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سنبيّن، وأمّا الإستدلال بهذا الحديث من الجهات والوجوه الأخرى التي يذكرها أصحابنا الإمامية من غير دخلٍ للإستخلاف، فلا تضرّ به هذه الشبهة الركيكة، لأن تلك الوجوه مبنيّة على إثبات ما كان لهارون من المنازل، لسيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة، والتي منها: الخلافة عن موسى بعد الوفاة، والأعلميّة، والأفضليّة، والعصمة، ووجوب الطّاعة وكلّ واحدة من هذه المنازل كافية لثبوت الإمامة والخلافة للإمام عليه الصّلاة والسلام.

وبغضّ النظر عن هذا، فإنّ هذه الخلافة - حتى وإنْ لم تكن الخلافة

٢٣٦

الكبرى - كافية للإستدلال كما سنبيّن، إذْ لنا أنْ نستصحب تلك الخلافة الجزئية - الثابتة في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى بعد وفاته، لعدم الدّليل على العزل، كما لم يكن دليل على تحديدها بزمنٍ خاص، وإذا صح استصحاب تلك الخلافة الجزئية - حسب الفرض - إلى بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبتت الخلافة الكبرى بالإجماع المركب، لأنّ خلافته على بعضٍ دون بعض مخالف لإجماع الاُمّة.

وبمثل هذا البيان تشبّث أهل السنّة لإثبات الخلافة الكبرى لأبي بكر، بزعم استخلاف النبي إيّاه في الصلاة، مع أنّ أصل الإستخلاف في الصلاة مدخول، وبعدم الثبوت بل ثبوت العدم معلول، فشتّان ما بين المقامين.

قوله:

فإنّ النبيعليه‌السلام قرّر في تلك الغزوة إلى محمد بن مسلمة أن يكون عاملاً في المدينة، وسباع بن عرفطة عسّاساً فيها، وابن اُم مكتوم إماماً للصّلاة في مسجده بإجماع أهل السير.

أقول:

في هذه العبارة كلام من جهتين:

نسبة إلى أهل السّير كاذبة

أمّا أولاً: فإنّ أهل السّير ذكروا أن الذي استخلفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة هو محمد بن مسلمة أو سباع بن عرفطة وسنذكر بعض عبائرهم. فهم مختلفون فيه، وكذا ذكر صاحب المرافض، أمّا هذا الذي ذكره ( الدهلوي ) فغير وارد في شيء من كتب السّير، بل هو افتعال منه.

٢٣٧

دعوى الإجماع منهم كاذبة

وأما ثانياً: فدعواه الإجماع منهم على ما نسبه إليهم، دعوى كاذبة باطلة جدّاً. ولنذكر طرفاً من كلماتهم لتوضيح الجهة الأولى، وأنْ لا إجماع منهم على ما ذكره، ولا يخفى أنّ الذي في كلمات جمع منهم هو الإستخلاف على الناس في المدينة المنوّرة، فمنهم من ذكر علياًعليه‌السلام فقط، ومنهم من ذكر غيره، فتردّد بين أحد الرجلين، ففي كلماتهم - بصورة عامة - دلالة على كذب ما زعمه ( الدهلوي ) من أن الإمام إنما استخلف على العيال فقط.

قال الحلبي: « وخلّف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه على ما هو المشهور، قال الحافظ الدمياطيرحمه‌الله : وهو أثبت عندنا. وقيل: سباع بن عرفطة. أي: وقيل: ابن أم مكتوم. وقيل: علي بن أبي طالب، قال ابن عبد البر: وهو الأثبت، هذا كلامه »(١) .

وقال الشامي: « قال ابن هشام: واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاريرضي‌الله‌عنه . قال: وذكر الدراوردي: إنه استخلف عام تبوك سباع بن عرفطة. زاد محمد بن عمر بعد حكاية ما تقدم: ويقال: ابن اُم مكتوم. قال: والثابت عندنا محمد بن مسلمة، ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها. وقيل: علي بن أبي طالب. قال أبو عمرو وتبعه ابن دحية: وهو الأثبت. قلت: ورواه عبد الرزاق في المصنف بسندٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص ولفظه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج إلى تبوك، إستخلف على المدينة علي بن أبي طالب»(٢) .

____________________

(١). السيرة الحلبية ٣ / ١٣١.

(٢). سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٥ / ٤٤٢.

٢٣٨

لم يستخلف النبيّ في تبوك على المدينة غير علي

أقول:

لقد ظهر أن التفصيل الذي ذكره ( الدهلوي ) غير مذكور في كتب السّير، ودعواه الإجماع كاذبة والحقيقة: إن النبي صلّى الله عليه آله وسلّم لم يستخلف على المدينة في عام تبوك غير علي.

وأمّا ذكر محمد بن مسلمة أو سباع أو غيرهما، فمن مفتريات المبغضين لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، السّاعين في إنكار فضائله ومناقبه، والذي يهوّن الأمر وجود التنافي بين رواياتهم وأقوالهم، فيما بينهم، فإن ذلك كافٍ لإسقاطها عن درجة الإعتبار. ويبقى خبر استخلاف الأميرعليه‌السلام بلا معارضٍ ومؤيَّداً باتّفاق الشيعة عليه، وعليه عبد الرزاق وابن عبد البر وابن دحية وغيرهم.

وقد روى خبر استخلافه وحده جماعة آخرون غير من ذكر، فرواه أبو الحسين ابن أخي تبوك عن طريق خيثمة بن سليمان بن الحسن بن حيدرة الإطرابلسي قال: « حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر قال: أخبرني قتادة وعلي بن زيد بن جدعان: أنهما سمعا سعيد بن المسيب يقول: حدثني سعد بن أبي وقاص:

إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خرج إلى تبوك استخلف عليّاً على المدينة، فقال: يا رسول الله، ما كنت أحب أن تخرج وجهاً إلّاوأنا معك. فقال: أما ترضى أنْ تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي »(١) .

____________________

(١). كتاب مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام لأبي الحسين عبد الوهاب الكلابي المعروف بابن أخي تبوك الموجود في آخر مناقب المغازلي: ٤٤٣.

٢٣٩

ورواه الطّبراني، فقد روى الوصابي في ( الإكتفاء ) « عن علي بن أبي طالب، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمـّا خلّفني على المدينة: خلّفتك لتكون خليفتي. قلت: كيف أتخلّف عنك يا رسول الله؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي. أخرجه الطبراني في الأوسط ».

ورواه أحمد والحاكم، ففي ( مفتاح النجا ): « أخرج أحمد والحاكم عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه : إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ».

كما روى الحاكم في ( المستدرك ) قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين: « إن المدينة لا تصلح إلّابي أو بك »(١) .

ونصّ عليه - عدا عبد الرزاق وأحمد والطبراني وابن عبد البر وابن المغازلي وابن دحية والشّامي - جماعة آخرون من أعلام الأعيان، أمثال: القاضي عياض، والسرّاج، والنووي، والمزي، وابن تيمية، والقسطلاني، والعلقمي، وابن روزبهان، وابن حجر المكي، ومحمد پارسا، وشيخ العيدروس وإسحاق الهروي، والبدخشاني، وولي الله الدهلوي، والرشيد الدهلوي وغيرهم.

قال القاضي عياض - كما في ( المرقاة ) -: « وليس فيه دلالة على استخلافه بعده، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك »(٢) .

وقال ابن عبد البر: « ذكر السرّاج في تاريخه: ولم يتخلّف - أي علي - عن

____________________

(١). مستدرك الحاكم ٢ / ٣٣٧.

(٢). المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٤.

٢٤٠