نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٨

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار0%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 421

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 229970
تحميل: 5203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 229970 / تحميل: 5203
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فينتفي ما يبتني عليها ويتسّبب عنها »(١) .

وقال ابن حجر: « ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض، إنما هو للنبوّة لا للخلافة عنه، وقد نفيت النبوّة هنا، لاستحالة كون علي نبيّاً، فيلزم نفي مسبّبها الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر »(٢) .

أقول:

لكنه توهّم باطل لوجوه:

الأول : إن لازم ما ذكوره أن لا يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام خليفةً في المرتبة الرابعة أيضاً، لأنّ النبوّة منتفية عنه في هذه المرتبة كذلك، فلا يكون مفترض الطاعة فيها.

الثاني : إنه لو كان انتفاء النبوّة مستلزماً لانتفاء وجوب الطاعة ونفاذ الأمر، لما أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأحاديث الكثيرة - المعتبرة عند الفريقين - طاعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لكنّ طاعته واجبة بنصّ الأحاديث، وسنذكر بعضها.

الثالث : إذا كان إفتراض الطاعة ونفاذ الأمر مسبباً عن النبوّة لا الخلافة، بطلت خلافة الثلاثة، لانتفاء النبوّة عنهم أيضاً.

الرابع : إنّه لا ريب في أن العصمة من منازل هارونعليه‌السلام ، فعليعليه‌السلام المشبّه به معصوم، لعموم التنزيل، والعصمة مستلزمة للإمامة والخلافة، لقبح تقديم غير المعصوم على المعصوم. ولا يلزم انتفاؤها من انتفاء النبوّة، وإلّا لزم انتفاء العصمة عن الملائكة.

___________________

(١). شرح التجريد: ٣٧٠.

(٢). الصواعق المحرقة: ٧٤.

١٢١

الخامس : لو جعلت النبوة السبب الوحيد في إفتراض الطاعة، فلا يبقى خصوصيّة لافتراض الطاعة، بل لهم أن ينفوا سائر الفضائل عن أمير المؤمنين، بزعم أن جميع فضائل هارون مسببة عن نبوّته لا خلافته.

السادس : إنه ليس إفتراض الطاعة مسبباً عن النبوة فحسب، بل قد تجب الطاعة ولا نبوّة، كوجوب طاعة الله وطاعة الخلفاء. فإذا كان لشيءٍ سببان أو أكثر لم ينتف المسبب بانتفاء أحد الأسباب، وتعدّد الأسباب للشيء الواحد شائع؛ قال ابن هشام في معاني « لو »:

« الثالث: إنها تفيد الإمتناع خاصة، ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته، ولكنه إن كان مساوياً للشرط في العموم - كما في قولك: لو كانت الشمس طالعةً كان النهار موجوداً - لزم إنتفاؤه، لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي إنتفاء مسبّبه، وإنْ كان أعم - كما في قولك: لو كانت الشمس طالعةً كان الضوء موجوداً - فلا يلزم انتفاؤه، وإنما يلزم إنتفاء القدر المساوي منه للشرط. وهذا قول المحققين »(١) .

والعجب من التفتازاني، يتشبّث بالشبهة المذكورة، مع أنّه يحكي عن ابن الحاجب نفس القول المتقدم في معنى « لو » ويرتضيه في شرحيه ( المطوّل ) و ( المختصر ) على ( التلخيص ) حيث يقول:

« ولو للشرط. أي لتعليق حصول مضمون الجزاء لحصول مضمون الشرط فرضاً في الماضي، مع القطع بانتفاء الشرط، فيلزم انتفاء الجزاء، كما تقول: لو جئتني لأكرمتك. معلّقاً للإكرام بالمجيء مع القطع بانتفائه، فيلزم إنتفاء الإكرام، فهي لامتناع الثاني - أعني الجزاء - لامتناع الأول - أعني الشرط. يعني: إن الجزاء منتف بسبب انتفاء الشرط. هذا هو المشهور بين الجمهور.

___________________

(١). مغني اللبيب ١/ ٣٤٠.

١٢٢

واعترض عليه ابن الحاجب: بأن الأول سبب والثاني مسبّب، وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يكون للشيء أسباب متعددة، بل الأمر بالعكس، لأن انتفاء المسبب يدل على انتفاء جميع أسبابه، فهي لامتناع الأول لامتناع الثاني. ألا ترى أنّ قوله تعالى( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) إنما سيق ليستدل بامتناع الفساد على امتناع تعدّد آلهة، دون العكس.

واستحسن المتأخرون رأي ابن الحاجب، حتى كادوا يجمعون على أنها لامتناع الأول لا متناع الثاني، إمّا لما ذكروه، وإمّا لأن الأول ملزوم والثاني لازم، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس، لجواز أن يكون اللازم أعم.

وأنا أقول: منشأ هذا الإعتراض قلّة التأمّل، لأنه ليس معنى قولهم: لو لا متناع الثاني لامتناع الأول، أنه يستدل بامتناع الأول على امتناع الثاني، حتى يرد عليه أن انتفاء السبب أو الملزوم يوجب انتفاء المسبب أو اللازم، بل معناه إنها للدلالة على أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب إنتفاء الأول، فمعنى:( لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ ) أن انتفاء الهداية إنما هو بسبب انتفاء المشيّة، يعني إنها تستعمل للدلالة على أن علة إنتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي إنتفاء مضمون الشرط، من غير إلتفات إلى أن علّة العلم بانتفاء الجزاء ما هي »(١) .

كلام المرتضى في جواب الشبهة

ثم إنّ القوم لقصر باعهم في علم الكلام، لم يقفوا على كلام السيد المرتضى علم الهدىرضي‌الله‌عنه في جواب هذه الشبهة فإنهرحمه‌الله قال

___________________

(١). المختصر في شرح التلخيص: ٩٤. وانظر المطوّل: ١٦٦ - ١٦٧.

١٢٣

بعد إثبات عموم المنزلة:

« وقد يمكن مع ثبوت هذه الجملة أنْ ترتّب الدليل في الأصل على وجهٍ يجب معه كون هارون مفترض الطاعة على اُمّة موسى لو بقي إلى بعد وفاته، وثبوت مثل هذه المنزلة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإنْ لم يرجع إلى كونه خليفة له في حال حياته، ووجوب إستمرار ذلك إلى بعد الوفاة، فإنّ في المخالفين من يحمل نفسه على دفع خلافة هارون لموسىعليهما‌السلام في حياته، وإنكار كونه منزلة تنفصل عن نبوّته، وإن كان فيما حمل عليه نفسه ظاهره المكابرة.

ونقول: قد ثبت أنّ هارونعليه‌السلام كان مفترض الطاعة على اُمّة موسىعليه‌السلام ، لمكان شركته له في النبوّة التي لا يتمكن من دفعها، وثبت أنه لو بقي بعده لكان ما يجب من طاعته على جميع اُمّة موسىعليه‌السلام يجب له، لأنه لا يجوز خروجه عن النبوّة وهو حي، وإذا وجب ما ذكرناه - وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوجب بالخبر لأمير المؤمنين جميع منازل هارون من موسى ونفى أن يكون نبيّاً، وكان من جملة منازله أنه لو بقي بعده لكان طاعته المفترضة على اُمّته، وإن كانت تجب لمكان نبوّته - وجب أن يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام المفترض الطاعة على سائر الامّة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنْ لم يكن نبياً، لأن نفي النبوّة لا يقتضي نفي ما يجب لمكانها، على ما بيّناه.

وإنما كان يجب لنفي النبوّة نفي فرض الطاعة، لو لم يصح حصول فرض الطاعة إلّا للنبي، وإذا جاز أنْ يحصل لغير النبي كالإمام والأمير، علم انفصاله من النبوّة، وأنّه ليس من شرائطها وحقائقها التي تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها.

والمثال الذي تقدم يكشف عن صحة قولنا، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٢٤

لو صرّح أيضاً بما ذكرناه، حتى يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى في فرض الطاعة على اُمتي وإنْ لم تكن شريكي في النبوة وتبليغ الرسالة، لكان كلامه مستقيماً بعيداً عن التنافي »(١) .

إيراد الرازي الشبهة على وجه الترديد

نعم، قد وقف الفخر الرازي على ما ذكره السيد المرتضى، ولعلّه لذلك ذكر تلك الشبهة بطريق التشكيك لا على وجه الجزم. قال:

« قوله: إن هارون لو عاش بعد موسىعليهما‌السلام ، لقام مقامه في كونه مفترض الطاعة.

قلنا: يجب على الناس طاعته فيما يؤدّيه من الله، أو فيما يؤدّيه عن موسى، أو في تصرّفه في إقامة الحدود؟

الأول مسلّم، ولكن ذلك نفس كونه نبيّاً، فلا يمكن ثبوته في حق عليرضي‌الله‌عنه .

أما الثاني والثالث فممنوع. وتقريره: إن من الجائر أنْ يكون النبيّ مؤدّياً للأحكام عن الله تعالى، ويكون المتولّي لتنفيذ تلك الأحكام غيره.

ألاترى أن من مذهب الإمامية أن موسىعليه‌السلام إستخلف هارونعليه‌السلام على قومه، ولو كان هارون متمكّناً من تنفيذ الأحكام قبل ذلك الإستخلاف لم يكن للإستخلاف فائدة. فثبت أن هارونعليه‌السلام قبل الإستخلاف كان مؤدّياً للأحكام عن الله تعالى، وإنْ لم يكن منفّذاً لها »(٢) .

___________________

(١). الشافي في الامامة ٣ / ١٠ - ١١.

(٢). نهاية العقول - مخطوط.

١٢٥

أقول:

لم يُجب الرازي عن الإحتمال الثاني، وإنْ أوهم بقوله « وتقريره » أن ما ذكره تقرير لمنع كلا الإحتمالين، لكن هذا التقرير لمنع الثالث. ومن الواضح أنْ لا إشكال في افتراض طاعة هارون فيما يؤدّيه عن موسى، وهو الإحتمال الثاني، لأن هارون - وإن كان شريكاً لموسى في النبوّة - فقد كان تابعاً لموسى، وكان موسى هو الأصل في النبوة، كما صرّح به الرازي نفسه(١) والنيسابوري(٢) فأيّ مانعٍ عن بقائه مؤدّياً للأحكام عن موسى لو بقي حيّاً بعده؟

وأما ما ذكره في تقرير منع الإحتمال الثالث، ففي غاية الركة والسخافة، لأنه مع كون هارون أفضل الناس بعد موسىعليهما‌السلام ، فمع فرض وجوده من بعده لا يجوز تولّي غيره تنفيذ الأحكام، لعدم جواز رئاسة المفضول مع وجود الأفضل، بخلاف حال حياة موسى، فإنّ موسى كان أفضل من هارون، فلا قبح في عدم استقلال هارون وانفراده في تنفيذ الأحكام.

فبطل احتمال عدم افتراض طاعة هارون في تنفيذ الأحكام لو بقي حيّاً بعد موسىعليه‌السلام ، وأمّا في حياة موسى، فإنّ وجود الأفضل منه - وهو موسى - منع من انفراده في تنفيذ الأحكام.

وأمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام المفترض الطاعة بعد النبي، فلم يكن أفضل منه في الاُمّة، فلا مانع من انفراده في تنفيذ الأحكام، فكان حاله بعد النبي حال هارون بعد موسى عليهم الصلاة والسلام.

___________________

(١). تفسير الرازي ٢٢ / ١٠٧.

(٢). تفسير النيسابوري ٤ / ٥٦٧.

١٢٦

حال هارون في حياة موسى حال النبي قبل البعثة

وتحقيق المقام على وجه يزيل جميع الأوهام هو: أنّه لا تنافي بين وجوب الإنقياد والإطاعة لهارون، وعدم حصول مرتبة تنفيذ الأحكام على سبيل الإنفراد والإستقلال لأن حال هارونعليه‌السلام في تلك الصورة حال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة، فإنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان موصوفاً بالنبوة ووجوب الطاعة قبل البعثة بل قبل الخلقة، لكن حصول وصف تنفيذ الأحكام له كان موقوفاً على خلقه في هذا العالم وحصول بعثته:

قال الحافظ السيوطي: « قال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه ( التعظيم والمنّة في( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) ) في هذه الآية من التنويه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلاً إليهم، فتكون نبوّته ورسالته عامّةً لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء واُممهم كلّهم من اُمّته، ويكون قوله: بعثت إلى الناس كافّة، لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول مَن قبلهم أيضاً. ويتبيَّن بذلك معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد

فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإنْ تأخّر جسده الشريف المتّصف بها، واتّصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهيّة، وإنما يتأخّر البعث والتبليغ وكلّ ما له جهة الله، ومن تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخير فيه، وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنّما المتأخر تكوّنه وتنقّله، إلى أنْ ظهر صلّى الله عليه وسلّم وغيره من أهل الكرامة

١٢٧

فعرفنا بالخبر الصحيح، حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من ربّه سبحانه، وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت فالنبي هو نبي الأنبياء. ولهذا أظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلّى بهم فلو وجد في عصرهم لزمهم اتّباعه بلا شك

فنبوّته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، ومتفقه مع شرائعهم في الاُصول، لأنها لا تختلف، وتقدّم شريعته فيما يقع الإختلاف فيه من الفروع، إمّا على سبيل التخصيص وإمّا على سبيل النسخ

وإنما يختلف الحال بين ما بعد وجود جده صلّى الله عليه وسلم وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك، بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهّلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه ولا إليهم لو تأهّلوا قبل ذلك »(١) .

وقال الشيخ عبد القادر العيدروس: « إعلم أنّ الله سبحانه لمـّا أراد إيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره الصمدية في حضرته في المصدر الأحمدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على ما اقتضاه كمال حكمته وسبق في إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بكماله ونبوّته، وبشّره بعموم دعوته ورسالته، وبأنه نبي الأنبياء وواسطة جميع الأصفياء وأبوه آدم بين الروح والجسد.

ثم انبجست منه عيون الأرواح، فظهر ممدّاً لها في عالمها المتقدم على عالم الأشباح، وكان هو الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. فهو - وإنْ تأخّر وجود جسمه - متميّز على العوالم كلّها برفعته وتقدمه، إذ هو خزانة السر الصمداني ومحتد تفرّد الإمداد الرحماني.

وصحّ في مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أنْ يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء،

___________________

(١). الخصائص الكبرى ١ / ٤.

١٢٨

ومن جملة ما كتب في الذكر - وهو اُمّ الكتاب - أن محمّداً خاتم النبيين.

وصحّ أيضاً: إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته أي: لطريح ملقى قبل نفخ الروح فيه.

وصحّ أيضاً [ إنه قيل له ]: يا رسول الله متى كنت نبيّاً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. ويروى: كتبت. من الكتابة.

وخبر: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. قال بعض الحفاظ: لم نقف عليه بهذا اللفظ. وحسَّن الترمذي خبر: يا رسول الله متى وجبت لك النبوّة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد.

ومعنى وجوب النبوّة وكتابتها: ثبوتها وظهورها في الخارج، نحو:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ ) ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) والمراد ظهورها للملائكة وروحه صلّى الله عليه وسلّم في عالم الأرواح، إعلاماً بعظيم شرفه وتميّزه على بقيّة الأنبياء. وخصَّ الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد، لأنه أو ان دخول الأرواح إلى عالم الأجساد، والتمايز حينئذٍ أتم وأظهر. فاختص صلّى الله عليه وسلّم بزيادة إطهار شرفه حينئذٍ، ليتميَّز على غيره تميّزاً أعظم وأتم.

وأجاب الغزالي عن وصفه نفسه بالنبوة قبل وجود ذاته، وعن خبر:

أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً: بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير لا الإيجاد، فإنه قبل أنْ تحمل به اُمّه لم يكن مخلوقاً موجوداً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود، فقوله: كنت نبياً، أي في التقدير قبل تمام خلقة آدم، إذ لم ينشأ إلّا لينتزع من ذريّته محمد، وتحقيقه أن للدار في ذهن المهندس وجوداً ذهنيّاً سبباً للوجود الخارجي وسابقاً عليه، فالله تعالى يقدّر ثم يوجد على وفق تقدير بانيها. انتهى ملخصاً.

وذهب السبكي إلى ما هو أحسن وأبين، وهو: إنه جاء: أن الأرواح

١٢٩

خلقت قبل الأجساد، فالإشارة بكنت نبيّاً إلى روحه الشريفة أو حقيقة من حقائقها، ولا يعلمها إلّا الله ومن حباه بالإطلاع عليها »(١) .

وقد ذكر ابن حجر المكي في ( الفتاوي الحديثية ) كلام السبكي في أدلّة بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الملائكة كذلك.

وقال محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي: « ويستدل بخبر الشعبي وغيره مما تقدم في الباب السابق: على أنه صلّى الله عليه وسلّم ولد نبيّاً، فإنّ نبوّته وجبت له حين أخذ منه الميثاق، حيث استخرج من صلب آدم، فكان نبيّاً من حينئذٍ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرةً عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبياً، كمن يولّي ولايةً ويؤمر بالتصرّف فيها في زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته، وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت، والأحاديث السابقة في باب تقدّم نبوّته صريحة في ذلك »(٢) .

أقول:

حديث الشعبي هو: ما أخرجه ابن سعد عنه مرسلاً: قال رجل: يا رسول الله متى استنبئت؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: وآدم بين الروح والجسد حين أخذ منّي الميثاق »(٣) .

وقال نور الدين الحلبي: « وفي الوفاء عن ميسرة قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: لمـّا خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسوّاهنَّ سبع سماوات وخلق العرش، كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق

___________________

(١). النور السافر عن أخبار القرن العاشر ٦ - ٧.

(٢). سبل الهدى والرشاد ١ / ٨٣.

(٣). طبقات ابن سعد١/ ١٤٨.

١٣٠

الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي، أي موصوفاً بالنبوّة أو بما خصَّ منها وهو الرسالة على ما هو المشهور على الأبواب والأرواق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد، أي قبل أن تدخل الروح جسده، فلما أحياه الله نظر إلى العرش، فرأي اسمي، فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلمـّا غرّهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه.

أي: فقد وصف صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة قبل وجود آدم »(١) .

والحاصل: إن نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان متّصفاً بالنبوة قبل مجيئه إلى هذا العالم، فحال هارون قبل وفاة موسى -عليهما‌السلام - كذلك، وكذا حال أمير المؤمنين في حياة رسول الله، صلّى الله عليهما وآلهما وسلّم.

والمراد من الإمامة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المختصة بأمير المؤمنينعليه‌السلام هو تنفيذ الأحكام الشرعيّة، والتصرّف في شئون المسلمين وغيرهم، ومن الواضح أنْ لا وجه لثبوتها له بهذا المعنى في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا إمامته في حياته فهو وجوب انقياد الناس له واتّباعه في أوامره ونواهيه، ونفوذ تصرّفه نيابةً عن النبي، وهذه الإمامة بهذا المعنى ثابتة له في حياته، بل في الزمان السابق عليها، كما يدل عليه ( حديث النّور ) وغيره من الأحاديث الدالّة على كونه إماماً منذ كون محمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً.

وبالجملة، لا إشكال في كونهعليه‌السلام إماماً في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنْ تأخّر تصرّفه الكلّي المستقل عن حياته الكريمة، كما ذكر محمد بن يوسف الصالحي في نفس نبوة نبيّنا

وعلى ما ذكرنا في معنى الإمامة الثابتة لهعليه‌السلام في حياة النبي، لا

___________________

(١). السيرةالحلبية ١ / ٢٩٨.

١٣١

يرد إشكال امتناع اجتماع النبوة لنبي والإمامة للإمامعليه‌السلام في زمنٍ واحد.

فمن الغرائب قول ( الدهلوي ) في الباب الحادي عشر من كتابه: « النوع التاسع أخذ القوّة مكان الفعل، كقولهم: إنّ الأمير كان إماماً في حضور النبي، لقوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، فلو لم يكن بعده إماماً لزم عزله، وعزل الإمام غير جائز. والحال أنه في حضور النبيّ لم يكن إماماً بالفعل بل بالقوّة، وعزل الإمام بالقوة، بمعنى عدم نصب جائز، لوجود الأرجح منه»(١) .

وهو كلام واضح البطلان جدّاً، لأن ثبوت الإمامة بالقوّة من حديث المنزلة لأمير المؤمنينعليه‌السلام يكفي لثبوت مرام الإمامية، لأنه حينئذٍ يكون نصّاً على إمامته، فيتعيّنعليه‌السلام لها، وتكون الخلافة حقّه، ولا حقّ لمن لا نصَّ عليه أصلاً.

وهذه الإمامة نظير نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وجوده الظاهري وبعثته إلى الناس وكما لا يجوز تقدّم أحد عليه في النبوة بعد وجوده في هذا العالم، كذلك لا يجوز تقدم أحد على الإمامعليه‌السلام في الإمامة

ثمّ إن في كلامه المذكور تجويز « عزل » الوصي بالحق، وهو يناقض ما نصَّ عليه - في بحث حديث المنزلة وقد تقدم كلامه - من أن العزل يوجب الإهانة حيث قال: « وانقطاع هذا الإستخلاف ليس بعزل حتى يكون إهانةً ». وأيضاً، يردّه قول ابن القيم - المذكور سابقاً - بأنَّ العزل يدل على النقص.

وما زعمه من وجود « الأرجح » من أمير المؤمنينعليه‌السلام ، مندفع بالأدلّة الكثيرة، وباعتراف ( الدهلوي ) نفسه وغيره بعدم النص على الخلفاء الثلاثة والمفروض دلالة حديث المنزلة على النص عليه باعترافه كذلك.

___________________

(١). التحفة الإثنا عشرية: ٣٥٠.

١٣٢

من تناقضات الرازي

وما ذكره الرازي: « أن من مذهب الإمامية أن موسىعليه‌السلام استخلف هارونعليه‌السلام على قومه، ولو كان هارون متمكّناً من تنفيذ الأحكام قبل ذلك الإستخلاف لم يكن للإستخلاف فائدة، فثبت أن هارونعليه‌السلام قبل الإستخلاف كان مؤدّياً للأحكام عن الله تعالى وإنْ لم يكن منفّذاً لها» فيردّه:

أوّلاً : إنّ إستخلاف هارون لم يكن من مذهب الإمامية فحسب، بل هو مذهب أساطين أهل السنّة كما عرفت، وبه قال الرازي نفسه في تفسيره، فنسبة ذلك إلى الإمامية هنا تناقض ظاهر.

وثانياً : إن هذا الكلام مبطل لكلامه السّابق حيث قال « إنْ سلّمنا دلالة الحديث على العموم، ولكنْ لا نسلّم أن من منازل هارون كونه قائماً مقام موسىعليه‌السلام لو عاش بعد وفاته. قوله: إنه كان خليفةً له حال حياته فوجب بقاء تلك الحالة بعد موته. قلنا: لا نسلّم كونه خليفةً له. أما قوله تعالى:( اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) قلنا: لم لا يجوز أنْ يقال إن ذلك كان على طريق الإستظهار كما قال( وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) لأن هارون كان شريك موسى في النبوّة، فلو لم يستخلفه موسى كان هو لا محالة يقوم بأمر الاُمّة، وهذا لا يكون استخلافاً على التحقيق، لأن قيامه بذلك إنما كان لكونه نبيّاً » لأنّه صريحٌ في عدم ترتّب فائدة على الإستخلاف، وكلامه هنا يفيد لزوم ترتب فائدةٍ عليه، وأنه لا يكفي النبوة لنفوذ الأحكام والأوامر، بل لا بدّ من الإستخلاف.

لكنّك عرفت أن إنكار الإستخلاف - مع الإعتراف بحصول افتراض الطاعة لهارون بغير الإستخلاف - لا يضرّ باستدلال الإماميّة، فإنّ مقصودهم

١٣٣

حاصل في هذه الصورة أيضاً.

وأيضاً، قال الرازي بعد عبارته السّابقة:

« وأيضاً: من مذهبهم أن يوشع بن نون كان نبيّاً بعد موسىعليه‌السلام ، مؤدّياً عن الله تعالى، ولم يكن خليفةً لموسىعليه‌السلام في معنى الإمامة، لأن الخلافة في ولد هارونعليه‌السلام .

وأيضاً: فداود كان مبيّناً للأحكام والمتولّي لتنفيذها طالوت.

فإذا جاز ذلك لم يلزم من تقدير بقاء هراونعليه‌السلام بعد موسىعليه‌السلام كونه متولّياً لتنفيذ الأحكام، وإذا لم يجب ذلك لم يجب كون علي -رضي‌الله‌عنه - أيضاً كذلك ».

ولا يخفى ما فيه فإنّ نفي الإمامية خلافة يوشع عن موسى غير ثابت، بل الأحاديث الواردة من طرق الشيعة والسنّة تدل على وصايته. نعم ظاهر كلام الشهرستاني أن وصايته كانت مستودعةً حتى يبلّغها إلى شبّر وشبير - ولدي هارونعليه‌السلام - وهذا لا ينفي الخلافة عنه، بل يثبتها لكن بطريق الإستيداع، ولا شابة فيه

وأمّا أنّ داود كان مبيّناً للأحكام والمتولّي لتنفيذها طالوت فالجواب عنه: أنّ تولّي طالوت ذلك كان باستخلافٍ من شموئيلعليه‌السلام ، ولا ضير في استخلاف النبيّ غير النبي في تنفيذ الأحكام، قال وليّ الله الدهلوي في ( إزالة الخفا ): « لو أقام معصوم مفترض الطاعة ملكاً بأمر السلطنة صحّت سلطنته، وكان هو الإمام والملك خليفة له، كما فعل شموئيل حيث استخلف طالوت، فكان النبيّ وطالوت الملك ».

فاندفعت شبهات الرازي.

وتلّخص: إنه لو بقي هارون بعد موسى كان هو المنفّذ للأحكام، وأنّه لم

١٣٤

يقم بذلك غيره إلّا على وجه النيابة عنه، ولا ضير فيه. فكذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام النازل منزلة هارون

وليتأمّل العاقل اليلمعي في تهافتات الرازي وتناقضاته كيف ينكر تارةً ترتّب الفائدة على استخلاف هارون، وأخرى يوجب ترتّبها وإلّا فلا استخلاف؟

لكنّ مقصود الإمامية هو دلالة استخلاف هارونعليه‌السلام على ثبوت ثمرة الخلافة له، وسواء كانت هذه الثمرة حاصلةً له قبل الإستخلاف، وكان الإستخلاف مؤكّداً، أو كانت حاصلةً من حين الإستخلاف فإنّ استدلال الإمامية تام بلا كلام بل إنّ ثبوتها له من قبل أنفع وأبلغ للإستدلال، فلا ترد شبهة انقطاع الخلافة أبداً.

وأيضاً، قد عرفت المشابهة بين حال هارون قبل استخلاف موسى إيّاه، وبين حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته بالرسالة، فالفائدة المترتّبة على بعثته بعد الأربعين - مع ثبوت نبوّته قبل خلقه - مترتّبة على استخلاف هارون، مع ثبوت افتراض طاعته قبله.

وأيضاً، فإنّ نفس الإستخلاف شرف عظيم وفضل جليل كما عرفت سابقاً

ثم قال الرازي:

« ثم إنْ سلّمنا أن هارون لو عاش بعد موسىعليهما‌السلام ، لكان منفّذاً للأحكام. ولكنْ لا شك في أنه ما باشر تنفيذ الأحكام » إلى آخر ما سبق.

وحاصل هذا الكلام: دلالة وفاة هارون قبل موسى على سلب الخلافة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وقد عرفت جوابه بوجوه عديدةٍ وطرقٍ سديدة.

فدعوى الرازي التعارض والتساقط ساقطة عن الإعتبار.

١٣٥

وأما قوله:

« وعندهم عن ذلك أن هارونعليه‌السلام إنما لم يباشر عمل الإمامة لأنه مات قبل موسىعليه‌السلام ، وأمّا علي -رضي‌الله‌عنه - فإنه لم يمت قبل النبيعليه‌السلام ، فظهر الفرق. فجوابنا عنه: أنْ نقول » إلى آخر ما سبق.

فالغرض منه الردّ على كلام السيد المرتضى علم الهدى في ( الشافي )، والحال أنّ كلامه في غاية القوّة والمتانة، وإيراده بالإختصار والإجمال ليتيسّر نقضه، بعيد عن دأب أهل العلم والفضل

هذا مضافاً إلى الوجه الآخر الذي ذكره السيد بقوله: « لأن هارون وإنْ لم يكن خليفةً » فإنّ السيّدرحمه‌الله عارض القاضي عبد الجبار بقوله: « ولو كان ما ذكره صحيحاً لوجب » وكان على الرازي أن يجيب عن هذا الوجه الجواب الشاف لو أمكنه لا أن يورده ملخّصاً على وجهٍ غير مرضي، فيجيب عنه بزعمه جواباً لا يغني

ونقول للرازي: إنه إنما يلزم انتفاء المسبَّب من انتفاء السّبب، لو كان السبب واحداً لا متعدّداً، ومع تعدّده فإنّه غير لازم كما بيّنا آنفاً ومن هنا لم يدّع الرازي - جازماً - انتفاء المسبب بانتفاء السبب، وإنما قال مردّداً: « إما أن يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب أو لا يلزم » فعبارته تدل بوضوح على عدم جزمه بالإنتفاء، لكنّ المقلّدين له تجاسروا على الدعو، وزعموا أن انتفاء النبوة يستلزم انتفاء فرض الطاعة.

وأمّا قوله في فرض عدم لزوم انتفاء المسبّب من انتفاء السبب: « عدم إمامة هارونعليه‌السلام إنما كان لموته قبل موسىعليه‌السلام ، فوجب أنْ لا يلزم من عدم موت علي -رضي‌الله‌عنه - قبل رسول اللهعليه‌السلام أنْ لا يحصل له المسبب وهو نفي الخلافة » فغريب جداً.

١٣٦

وذلك للبون الشّاسع بين تمسّك الإماميّة بقضيّة عدم انتفاء المسبب بانتفاء السبب، وبين تمسّك الرازي بها، ولا أظنّ خفاء ذلك الفرق على أدنى المحصّلين، فضلاً عن إمام المناظرين في العلوم العقلية والنقليّة؟! لكنّ التعصّب واللّجاج يغلب على الفهم ويعمي العين

وبالجملة، إنّ تمسّك الإمامية بتلك القضيّة هو في مقام ردّ إستدلال أهل السنّة، ومن الواضح كفاية الإحتمال لإبطال الإستدلال، وتمسّك الرازي بها هو مقام الإستدلال، ولا يكفي للمستدل مجرّد الإحتمال.

وبيان كيفية إستدلال الإماميّة هو: أنهم يستدلّون بحديث المنزلة - بعد إثبات عموم المنزلة - قائلين بأنّ من منازل هارون كونه مفترض الطّاعة، فيجب أن يكون أمير المؤمنينعليه‌السلام مفترض الطّاعة كذلك فهذا منهم إستدلال وهم في مقام الإدّعاء.

من قواعد فن المناظرة

فإن قال قائل من أهل السنّة في الجواب: بأن افتراض الطاعة كان مسبّباً عن النبوّة، وحيث هي منتفية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فافتراض الطّاعة منتفٍ كذلك، لانتفاء المسبَّب بانتفاء سببه فقد خالف الأدلّة المتفق عليها، ثمّ إنّه يكون المدّعي وعليه إثبات أنّه إذا انتفت النبوّة انتفى وجوب الطّاعة، وهذا أوّل الكلام، وللإماميّة منعه مع قولهم بافتراض الطّاعة، وحينئذٍ يكفي للمنع مجرد إبداء احتمال عدم الإنتفاء، وعلى أهل السنّة إثبات الملازمة، حتى تقع المعارضة ويكون التساقط.

هذا واقع المطلب، وهو ما يقتضيه قواعد المناظرة وإنْ كنت في شكٍ ممّا ذكرناه، فلنورد كلام بعض المحققين في فن المناظرة:

١٣٧

قال الشيخ عبد الرشيد الجونفوري في ( شرح الرسالة الرشيدية ): « فإذا أقام المدّعي الدليل ويسمّى حينئذٍ معللاً تمنع مقدمة معينة منه مع السند، كما إذا منع الحكيم كبرى دليل المتكلّم بأنْ يقول لا نسلّم أن كل متغيّر حادث، مستنداً بأنه لِمَ لا يجوز أنْ يكون بعض المتغيّر قديماً، أو مجرداً عنه، أي عارياً عن السند، فيجاب بإبطال السند إذا مع مع السند بعد إثبات التساوي، أي بعد بيان كون السند مساوياً لعدم المقدمة الممنوعة، بأنْ يكون كلّما صدق السند صدق عدم المقدمة الممنوعة وبالعكس، ليفيد إبطاله بطلان المنع، كأن يثبت المتكلّم كون قوله يجوز أنْ يكون بعض المتغيّر قديماً مساوياً لعدم كون كل متغيّر حادثاً، ثم يبطل بالدليل ذلك الجواز أو يجاب بإثبات المقدمة الممنوعة، أعم من أن لم يكن المانع مستنداً بشيء، أو يكون مستنداً بالسند المساوي أو غيره، مع التعرّض بما تمسّك به، إنْ كان متمسّكاً بشيء، والتعرض مستحسن وليس بواجب

وينقض الدليل إذا كان قابلاً للنقض بأحد الوجهين المذكورين من التخلف ولزوم المحال ويعارض إنْ كان قابلاً للمعارضة بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة، من المعارضة بالقلب أو المعارضة بالمثل أو المعارضة بالغير كما مر.

فيجاب في صورتي النقض والمعارضة بالمنع إذا كان قابلاً له، أو النقض إن كان صالحاً له، أو المعارضة إن كان قابلاً لها، لأن المعلّل الأول بعد النقض والمعارضة يصير سائلاً، فيكون له ثلاث مناصب كما كانت للسائل الأول، وقد يورد الأسؤلة الثلاثة على كلّ واحدٍ منهما، فكلمة أو لمنع الخلوّد دون الجمع ».

قال: « والمعارضة إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم، والمراد بالخلاف ما ينافي مدّعي الخصم، سواء كان نقيضه أو مساوي نقيضه أو أخصّ منه، لا ما يغايره مطلقاً، كما يشعر به لفظ الخصم، لأنه إنما يتحقق

١٣٨

المخاصمة لو كان مدلول دليل أحدهما ينافي مدلول دليل الآخر، فإنْ اتّحد دليلاهما بأنْ اتّحدا في المادة والصروة جميعاً، كما في المغالطات العامة الورود أو صورتهما فقط، بأنْ اتّحدا في الصورة فقط، بأن يكونا على الضرب الأول من الشكل الأول ومثلاً مع اختلافهما في المادة، فمعارضة بالقلب، إنْ اتحد دليلاهما، ومعارضة بالمثل إن اتّحد صورتهما، وإلّا أي وإنْ لم يتّحدا لا صورةً ولا مادّةً فمعارضة بالغير ».

وبالجملة، فإنّ المعارضة إقامة الدليل، فالمعارض مستدل على خلاف ما أقام الخصم الدليل عليه، فيكفي لدفع المعارضة مجرّد إبداء الإحتمال، لأنه إذا جاز الإحتمال بطل الإستدلال.

لكنّ الرازي - بتمسّكه بعدم مباشرة هارونعليه‌السلام تنفيذ الأحكام، بسبب موته قبل موسىعليه‌السلام - يستدل على عدم إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والإستدلال دليل الدعوى، فالرازي مدّع، ومن هنا يجعل دليله معارضاً لدليل الإمامية ويقول « إذا تعارضا تساقطا ».

فهذه دعواه، وذاك دليله.

فإنْ قال الإماميّة بأنّه لا يلزم من عدم إمامة هارون - بسبب موته قبل موسى - عدم إمامة أمير المؤمنين، لعدم حصول سبب النفي وهو موته في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان الإمامية في مقام المنع لا الإستدلال، وللمانع يكفي مجرّد الإحتمال.

أمّا أهل السنّة، فلكونهم في مقام الإستدلال، فلا يكفي لهم احتمال أنْ يقوم سبب آخر - لنفي إمامة الأمير - مقام الموت في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلى أساس ما ذكرناه نقول بأنَّ مجرّد عدم موت أمير المؤمنين عليه‌

١٣٩

السلام كاف لعدم انتفاء الخلافة عنه، ومن الواضح عدم تحقّق سببٍ آخر موجب لانتفائها، فالخلافة ثابتة لسيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فالتقرير المذكور من الرازي لا يفي بغرضه، حتى لو لم يكن في مقام الإستدلال، لأن تقرير إثبات افتراض الطاعة هو بَعد إثبات عموم المنازل الثابت بحديث المنزلة، فيكون افتراض طاعته في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابتاً، كافتراض طاعة هارون في حياة موسىعليهما‌السلام ، أمّا عدم حصول افتراض الطاعة لهارون بعد موسى فهو لأجل موته قبله، وهذا السبب في حق الأمير منتف، واحتمال سنوح سبب آخر يمنع افتراض طاعته بعد النبي باطل، لأنه بعد ثبوت فرض طاعته في حياة النبي يثبت فرضها بعده بالإجماع المركّب، وهذا الإجماع دليل قاطع على عدم حصول سببٍ آخر يوجب نفي خلافته ويقوم مقام الموت في السببيّة لنفيها.

وأيضاً، إفتراض طاعة هارون كان على جميع اُمّة موسى على العموم والشمول، فكذلك افتراض طاعة أمير المؤمنين، فهو على جميع اُمّة نبيّنا على العموم والشمول، فيكون أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممّن تجب عليهم طاعته في حياة النبي، ولا يجوّز عقل عاقلٍ زوال هذا الفرض بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلاً عن انقلابه، بأنْ تكون طاعة كلّ واحدٍ منهم على الترتيب واجبةً على أمير المؤمنينعليه‌السلام وهذا وجه آخر لعدم حصول سببٍ آخر - غير الموت - لنفي خلافة الأميرعليه‌السلام .

وأيضاً، لمـّا ثبت فرض طاعته، كان هذا الحكم متسصحباً حتى مجيء الرافع اليقيني، وليس في البين رافع يقيني بل ولا ظنّي، ومن ادّعاه فهو مكابر.

وفي ( عماد الإسلام ) في جواب هذا القول:

« ويرد عليه: أنا لا نمنع هذا التجويز في نفسه، نظراً إلى إمكان أن يكون

١٤٠