تذكرة الفقهاء الجزء ١٤

تذكرة الفقهاء0%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510

تذكرة الفقهاء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الحلي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: 510
المشاهدات: 343057
تحميل: 3130

توضيحات:

الجزء 14
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 510 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 343057 / تحميل: 3130
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء 14

مؤلف:
ISBN: 964-319-435-3
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢٠١

الفصل الثاني : الجنون‌

ولا خلاف بين العلماء كافّة في الحجر على المجنون ما دام مجنوناً ، وأنّه لا ينفذ شي‌ء من تصرّفاته ؛ لسلب أهليّته عن ذلك.

والحديث يدلّ عليه ، وهو قولهعليه‌السلام : « رُفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه »(١) .

ولا خلاف في أنّ زوال الجنون مقتضٍ لزوال الحجر عن المجنون ، سواء حكم به حاكمٌ أو لا ، وسواء كان الجنون يعتوره دائماً أو يأخذه أدواراً.

نعم ، ينفذ تصرّفه حال إفاقته إذا عُرف رشده ، ولا ينفذ حالة جنونه بلا خلافٍ.

الفصل الثالث : السفيه‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في الحجر عليه

مسألة ٤٠٨ : قال الله تعالى :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً )(٢) وقال تعالى :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٣) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٩٠ ، الهامش (٣)

(٢) النساء : ٥

(٣) النساء : ٦

٢٠٢

وإنّما أضاف الله تعالى الأموالَ إلى الأولياء وهي لغيرهم ؛ لأنّهم القُوّام عليها والمدبِّرون لها ، وقد يضاف الشي‌ء إلى غيره بأدنى ملابسة ، كما يقال لأحد حاملي الخشبة : خُذْ طرفك. فقد شرط الله في دفع المال إلى اليتيم أمرين : البلوغ ، وقد سبق ، والرشد ؛ لأنّ الحجر عليه إنّما كان لعجزه عن التصرّف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لمالِه عليه ، وبالبلوغ والرشد يقدر على التصرّف ، ويحفظ ماله ، فيزول الحجر ؛ لزوال سببه.

إذا عرفت هذا ، فإنّما يزول الحجر عن الصبي بأمرين : البلوغ ، والرشد ؛ لقوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (١) .

والبلوغ قد سلف.

وأمّا الرشد : فقال الشيخرحمه‌الله : هو أن يكون مصلحاً لمالِه ، عَدْلاً في دينه ، فإذا كان مصلحاً لمالِه غيرَ عَدْلٍ في دينه ، أو كان عَدْلاً في دينه غيرَ مصلحٍ لمالِه ، فإنّه لا يُدفع إليه(٢) . وبه قال الشافعي والحسن البصري وابن المنذر(٣) ؛ لقوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٤) والفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد.

وروي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ‌

____________________

(١) النساء : (٦)

(٢) الخلاف ٣ : ٢٨٣ - ٢٨٤ ، المسألة (٣)

(٣) الأُم ٣ : ٢١٥ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ - ٥٣٤ ، التفسير الكبير - للرازي - ٩ : ١٨٨ ، الوجيز ١ : ١٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨١ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٤) النساء : (٦)

٢٠٣

رُشْداً ) (١) : هو أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل(٢) . ومثله عن مجاهد(٣) .

ولأنّ الفاسق غير رشيدٍ ، فلو ارتكب شيئاً من المحرَّمات ممّا تسقط به العدالة ، كان غير رشيدٍ.

وكذا لو كان مبذّراً لمالِه وتصرّفه في الملاذّ النفسيّة والثياب الرفيعة والمركوبات الجليلة التي لا يليق بحاله ، كان سفيهاً ، ولم يكن رشيداً.

وقال أكثر أهل العلم : الرشد الصلاح في المال خاصّةً ، سواء كان صالحاً في دينه أو لا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد(٤) ، وهو المعتمد عندي ؛ لقوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ٠............. ) (٥) .

روي عن ابن عباس أنّه قال : يعني صلاحاً في أموالهم(٦) .

وقال مجاهد : إذا كان عاقلاً(٧) .

وإذا كان حافظاً لمالِه ، فقد أُنس منه الرشد.

ولأنّ هذا نكرة مثبتة يصدق في صورة ما ، ولا ريب في ثبوت الرشد‌

____________________

(١) النساء : (٦)

(٢) أحكام القرآن - للجصّاص - ٢ : ٦٣ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، الخلاف - للطوسي - ٣ : ٢٨٤ ، ضمن المسألة (٣)

(٣) تفسير الطبري ( جامع البيان ) ٤ : ١٦٩ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٢ : ٦٣ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٧ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩ ، وفيها تفسير الرشد بالعقل فقط.

(٤) بداية المجتهد ٢ : ٢٨١ ، المعونة ٢ : ١١٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٧ ، التفسير الكبير - للرازي - ٩ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ - ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٥) النساء : (٦)

(٦) تفسير الطبري ( جامع البيان ) ٤ : ١٦٩ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٧) راجع المصادر في الهامش (٣)

٢٠٤

للمصلح لماله وإن كان فاسقاً ؛ لأنّه قد وُجد منه رُشْدٌ. ولأنّ العدالة لا تُعتبر في الرشد في الدوام ، فلا تُعتبر في الابتداء ، كالزهد في الدنيا. ولأنّ هذا مصلح لماله ، فأشبه العدل. ولأنّ الحجر عليه إنّما كان لحفظ ماله عليه وحراسته عن التلف بالتبذير ، فالمؤثّر فيه ما أثّر في تضييع المال ، والفاسق وإن لم يكن رشيداً في دينه لكنّه رشيد في ماله.

ويُنتقض قولهم بالكافر ، فإنّه غير رشيد في دينه ، ولا يُحجر عليه ، كذا الفاسق. ولأنّه لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه ، لم يزل رشده ، ولم يُحجر عليه لأجل فسقه ، ولو كانت العدالة شرطاً في الرشد ، لزال بزوالها ، كحفظ المال.

ولا يلزم من منع قبول شهادته منع دفع ماله إليه ، فإنّ المعروف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان ومَنْ لا يتحفّظ من الأشياء المفضية إلى قلّة المروءة - كالأكل في السوق ، وكشف الرأس بين الناس ، ومدّ الرِّجْل عندهم ، وأشباه ذلك - لا تُقبل شهادته ، وتُدفع إليه أمواله(١) إجماعاً.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الفاسق إن كان يُنفق مالَه في المعاصي - كشراء الخمور وآلات اللهو والقمار - أو يتوصّل به إلى الفساد ، فهو غير رشيد لا تُدفع إليه أمواله إجماعاً ؛ لتبذيره لماله وتضييعه إيّاه في غير فائدة.

وإن كان فسقه لغير ذلك - كالكذب ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة - مع حفظه لماله ، دُفع إليه ماله ؛ لأنّ الغرض من الحجر حفظ المال ، وهو يحصل بدون الحجر ، فلا حاجة إليه.

وكذا لو طرأ الفسق الذي لا يتضمّن تضييع المال ولا تبذيره ، فإنّه‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إليهم أموالهم ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

٢٠٥

لا يُحجر عليه إجماعاً.

واعلم أنّ الشافعي قال : الصلاح في الدين حين تكون الشهادة جائزةً(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشهادة قد تُردّ بترك المروءة ، والصنائع الدنيئة ، كالزبّال ، والسؤال على أبواب الدور وإن كان ذلك لا يُثبت الحجر.

مسألة ٤٠٩ : لو بلغ الصبي غيرَ رشيد ، لم يُدفع إليه ماله وإن صار شيخاً وطعن في السنّ‌ ، وهذا قول أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر ، فإنّهم يرون الحجر على كلّ مضيّع لماله ، صغيراً كان أو كبيراً - وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمّد(٢) - لقوله تعالى :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٣) علّق دفع المال على شرطين : البلوغ ، والرشد ، فلا يثبت الحكم بدونهما.

وقال تعالى :( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (٤) يعني أموالهم.

وقال تعالى :( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) (٥) أثبت الولاية على السفيه.

____________________

(١) الأُمّ ٣ : ٢١٥ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٠.

(٢) بداية المجتهد ٢ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني ٤ : ٥٥٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٥ : ٢١٦ / ٢٣١١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨١ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٢.

(٣) النساء : ٦

(٤) النساء : ٥

(٥) البقرة : ٢٨٢.

٢٠٦

ولأنّه مبذّر لماله ، فلا يجوز دفعه إليه ، كغير البالغ خمساً وعشرين سنة.

وقال أبو حنيفة : لا يُدفع إليه ماله إذا كان قد بلغ سفيهاً ، وإن تصرّف ، نفذ تصرّفه ، فإذا بلغ خمساً وعشرين سنة ، فُكّ عنه الحجر ، ودُفع إليه ماله وإن كان سفيهاً ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) وقد زال اليتم.

ولأنّه قد بلغ أشدّه ، وصلح أن يصير جَدّاً. ولأنّه حُرٌّ بالغ عاقل مكلّف ، فلا يُحجر عليه ، كالرشيد(٢) .

والآية لا دلالة فيها ، ولو دلّت فإنّما تدلّ بمفهوم الخطاب ، وهو ليس حجّةً عنده(٣) .

ثمّ هي مخصوصة بما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع ، فيجب أن تخصّ بما بعدها ؛ لأنّ الموجب للتخصيص علّة السفه ، وهي موجودة فيما بعدها ، فيجب أن يخصّ بها ، كما أنّ الآية لمـّا خُصّصت في حقّ المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خُصّت أيضاً به بعد خمس وعشرين.

والمنطوق الذي استدللنا به أولى من مفهومه.

____________________

(١) الأنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٢ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٥ : ٢١٦ / ٢٣١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ - ٧٤ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٤.

(٣) كما في المغني ٤ : ٥٥٥ ، والشرح الكبير ٤ : ٥٥٤ ، وفي ميزان الأُصول ١ : ٤٤٥ ، وشرح اللمع ١ : ٤٢٨ ، والإشارة في معرفة الأُصول ٢٩٤ نسبته إلى أصحاب أبي حنيفة.

٢٠٧

وكونه جَدّاً ليس تحته معنى يقتضي الحكم ، ولا أصل له في الشرع يشهد له بالاعتبار ، فيكون إثباتاً للحكم بالتحكّم.

ثمّ هو ثابت في مَنْ له دون هذا السنّ ، فإنّ المرأة تكون جَدّةً لإحدى وعشرين.

وقياسهم منتقض بمَنْ له دون خمس وعشرين سنة ، وموجب الحجر قبل خمس وعشرين ثابت بعدها ، فيثبت حكمه.

مسألة ٤١٠ : هذا المحجور عليه للسفه قبل بلوغه خمساً وعشرين سنة وبعد بلوغه بالاحتلام لا ينفذ تصرّفه ألبتّة في شي‌ء‌ ، ولا ينفذ إقراره ، ولا يصحّ بيعه ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه لا يدفع إليه ماله ؛ لعدم رشده ، فلا يصحّ تصرّفه وإقراره ، كالصبي والمجنون. ولأنّه إذا نفذ إقراره وبيعه ، تلف ماله بذلك ، ولم يُفد منعه من ماله [ شيئاً ](٢) .

وقال أبو حنيفة : يصحّ بيعه وإقراره ، وإنّما لا يسلّم إليه ماله إلّا بعد خمس وعشرين سنة.

وبنى ذلك على أصله من أنّ البالغ لا يُحجر عليه ، وإنّما يمنع من تسليمه المال ؛ للآية(٣) (٤) .

وهو خطأ ؛ فإنّ تصرّفه لو كان نافذاً ، لسُلّم إليه ماله ، كالرشيد. ولأنّه لا فرق بين أن يسلّم إليه أو إلى مَنْ يقبضه بسببه ، فإنّه إذا باع ، وجب‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) الأنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٣ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧١ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٥.

٢٠٨

تسليمه إلى المشتري ، وإلّا لم يُفد تصرّفه شيئاً ، فكان يتسبّب إلى إتلاف ماله بوسائط المشترين.

مسألة ٤١١ : لو بلغ وصرف أمواله في وجوه الخير‌ كالصدقات وفكّ الرقاب وبناء المساجد والمدارس وأشباه ذلك [ فذلك ](١) ممّن لا يليق به - كالتاجر وشبهه - تبذير - وبه قال بعض الشافعيّة(٢) - لأنّه إتلافٌ للمال.

قال الله تعالى :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) (٣) وهو صريح في النهي عن هذه الأشياء.

وتضييع المال بإلقائه في البحر أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها تبذير.

وكذا الإنفاق في المحرَّمات.

وكذا صَرفه في الأطعمة النفيسة - وبه قال بعض الشافعيّة(٤) - للعادة.

وقال أكثرهم : لا يكون تبذيراً ؛ لأنّ الغاية في تملّك المال الانتفاعُ به والالتذاذ(٥) .

وكذا قالوا : إنّ شراء الثياب الفاخرة وإن لم تكن لائقةً به ، والإكثار من شراء الغانيات والاستمتاع بهنّ وما أشبهه ليس تبذيراً(٦) .

وبالجملة ، حصر أكثرهم التبذيرَ في التضييعات ، كالرمي في البحر ، واحتمالِ الغبن الفاحش وشبهه ، وفي الإنفاق في المحرّمات(٧)

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٤.

(٣) الإسراء : ٢٩ و ٣٠.

(٤ - ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٤.

٢٠٩

وليس بجيّد على ما سلف.

مسألة ٤١٢ : المرأة - كالذكر - إذا بلغت وعُلم رشدها ، زال الحجر عنها‌ ، ودُفع إليها مالُها ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وعطاء والثوري وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لعموم قوله تعالى :( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٢) .

ولأنّها يتيم بلغ وأُنس منه الرشد ، فيدفع إليه مالُه ، كالرجل. ولأنّها بالغة رشيدة ، فدُفع إليها مالُها ، ونفذ تصرّفها ، كالتي دخل بها الزوج.

وعن أحمد رواية أُخرى : أنّ المرأة لا يُدفع إليها مالُها ما لم تتزوّج أو تلد أو يمضي لها في بيت زوجها سنة ، سواء بلغت رشيدةً أو لا - وبه قال عمر بن الخطّاب وشريح والشعبي وإسحاق - لما رواه شريح قال : عهد إليَّ عمر بن الخطّاب : أن لا تحبيّن(٣) الجارية عطيّةً حتى تحول في بيت زوجها [ حولاً ](٤) أو تلد ولداً(٥) .

وهذا الخبر ليس حجّةً ؛ لأنّ قول عمر لا يجب المصير إليه ، وليس مشهوراً ، ولا ورد به الكتاب ولا عضده خبرٌ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أفتى به أحد من الصحابة ، ولا دلّ عليه قياس ولا نظر ، مع أنّه لو كان حجّةً ، لكان مختصّاً بالعطيّة. ولا يلزم من منع العطيّة منع مالها عنها ولا منعها من قبضه‌

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢١٦ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٥ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦٠.

(٢) النساء : (٦)

(٣) في المصدر : « لا أُجيز » بدل « لا تحبيّن ».

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦٠.

٢١٠

والتصرّف فيه بما شاءت.

وقال مالك : لا يُدفع إليها مالُها حتى تتزوّج ، ويدخل عليها زوجها ، فإذا نكحت ، دُفع إليها مالُها بإذن الزوج ، ولا ينفذ تبرّعها بما زاد على الثلث ، إلّا بإذن الزوج ما لم تصر عجوزاً ؛ لأنّ كلّ حالة جاز للأب تزويجها فيها من غير إذنها لم ينفكّ عنها الحجر ، كالصغير ، فإذا كان للأب إجبارها على النكاح ، كانت ولاية المال لغيرها(١) .

ونحن نمنع إجبارها على النكاح ، بل متى بلغت رشيدةً كان أمرها في النكاح وغيره إليها على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ؛ فإنّ مصلحتها في النكاح لا يُقدر على معرفتها إلّا بمباشرة الأب أو بمباشرتها بعد وقوعه.

وبالجملة ، فإنّ للأب إجبارَها على النكاح ؛ لأنّ اختبارها لا يمكن بالنكاح ، بخلاف المعاملات من البيع والشراء وغيرهما ، فإنّه يمكن معرفته ومباشرته قبل النكاح وبعده.

وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوّج ، دام الحجر عليها عند أحمد ومالك ؛ لفقد شرط رفع الحجر(٢) .

مسألة ٤١٣ : إذا بلغت المرأة رشيدةً ، صحّ تصرّفها في مالها‌ ، سواء أذن زوجها أو منع ، وسواء كانت متبرّعةً أو لا ، وسواء كان بقدر الثلث أو أزيد ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن المنذر وأحمد‌

____________________

(١) بداية المجتهد ٢ : ٢٨٠ - ٢٨١ ، التلقين ٢ : ٤٢٣ و ٤٢٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٥ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦١.

(٢) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦١.

٢١١

في إحدى الروايتين(١) - لعموم قوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٢) وهو ظاهر في فكّ الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرّف.

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا معشر النساء تصدّقن ولو من حُليّكنّ »(٣) وإنّهنّ تصدّقن ، فقَبِل صدقتهنّ ولم يسأل ولم يستفصل.

وجاءته امرأة عبد الله وامرأة أُخرى يقال لها : زينب ، فسألته عن الصدقة هل يجزئهنّ أن يتصدّقن على أزواجهنّ وأيتامٍ لهنّ؟ فقال : « نعم »(٤) ولم يذكر لهنّ هذا الشرط.

ولأنّ مَنْ وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرّف فيه من غير إذنٍ ، كالغلام. ولأنّ المرأة من أهل التصرّف ، ولا حقّ لزوجها في مالها ، فلم(٥) يملك الحجر عليها في التصرّف بجميعه ، كحُليّها.

وقال مالك وأحمد في الرواية الأُخرى : ليس لها أن تتصرّف في مالها بأزيد من الثلث بغير عوضٍ ، إلّا بإذن زوجها(٦) .

وحكي عن مالك في امرأة أعتقت جارية لها ليس لها غيرها فخشيت - ولها زوج - من ذلك [ أن ] يُقليها(٧) زوجها ، قال : له أن يردّ عليها ، وليس‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٢ و ٣٥٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، المغني ٤ : ٥٦١ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٢) النساء : (٦)

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٢٨ / ٦٣٥.

(٤) المغني ٤ : ٥٦٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « فلا ».

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ٤٢٤ ، التلقين ٢ : ٤٢٤ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٧) القلى : البغض. لسان العرب ١٥ : ١٩٨ « قلا ».

٢١٢

لها عتق ؛ لما روي أنّ امرأة كعب بن مالك أتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحُليٍّ لها ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يجوز للمرأة عطيّة حتى يأذن زوجها ، فهل استأذنتِ كعباً؟ » فقالت : نعم ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كعب ، فقال : « هل أذنتَ لها أن تتصدّق بحُليّها؟ » فقال : نعم ، فقَبِله(١) .

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبةٍ خَطَبها : « لا يجوز لامرأة عطيّة في مالها إلّا بإذن زوجها ، إذ هو مالك عصمتها »(٢) .

ولقولهعليه‌السلام : « تُنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها »(٣) والعادة جارية أنّه(٤) يتبسّط في مالها ، وينتفع بجهازها.

قالوا : وكذا يجب عليها عنده التجهيز ، فلهذا كان له منعها.

ولأنّ العادة تقضي بأنّ الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ، وإذا أعسر بالنفقة أُنظر ، فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلّقة بمال المريض(٥) .

وحديثهم مرسل ، على أنّه محمول على ما هو الظاهر منه ، وهو أنّه لا يجوز عطيّتها بماله بغير إذنه ؛ لأنّه وافق على تجويز عطيّتها من مالها دون الثلث(٦) .

____________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٨ / ٢٣٨٩.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٣ / ٣٥٤٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٨ / ٢٣٨٨ ، سنن النسائي ٦ : ٢٧٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٠.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٧ / ٥٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٩٦ / ١٠٨٦ ، سنن النسائي ٦ : ٦٥ ، مسند أحمد ٤ : ٢٣٣ / ١٣٨٢٥.

(٤) أي الزوج.

(٥) المغني ٤ : ٥٦١ - ٥٦٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٦) راجع الهامش (٦) من ص ٢١١.

٢١٣

وليس معهم حديث يدلّ على تحديد المنع بالثلث ، فيكون التحديد بالثلث تحكّماً لا دليل فيه ولا قياس يدلّ عليه.

والفرق بين الزوجة والمريض من وجوه :

أ : المرض سبب يفضي إلى وصول [ المال ](١) إليهم بالميراث ، والزوجيّة إنّما تجعله من أهل الميراث ، فهي(٢) أحد وصفي العلّة ، فلا يثبت الحكم بمجرّدها ، كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الورّاث بدون المرض.

ب : تبرّع المريض موقوف ، فإن برئ من مرضه ، صحّ تبرّعه ، وهنا أبطلوه على كلّ حال ، والفرع لا يزيد على أصله.

ج : يُنتقض ما ذكروه بالمرأة ، فإنّها تنتفع بمال زوجها ، وتتبسّط فيه عادة ، ولها النفقة منه ، وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه من مالها ، وليس لها الحجر عليه ، على أنّ هذا المعنى ليس موجوداً في الأصل ، ومن شرط صحّة القياس ثبوت الحكم في الأصل ، والمرأة قد ترغب في الرجل لماله ، ولا تعترض عليه في تصرّفه ، فكذا الرجل ، وانتفاعه بمالها لا يستحقّه ، ولا يجب عليها التجهيز له ، ولو كان كذلك(٣) ، لاختصّ بما يستعمل ، دون سائر مالها.

مسألة ٤١٤ : قد بيّنّا أنّ للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشي‌ء اليسير من المأكول والمأدوم بشرط عدم الإضرار‌ ، وعدم المنع منه - وهو إحدى‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « النظر ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فهو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لذلك » بدل « كذلك ». والظاهر ما أثبتناه.

٢١٤

الروايتين عن أحمد(١) - لأنّ عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غيرَ مُفسدةٍ كان لها أجرها(٢) ، وله مثله بما كسب ، ولها بما أنفقت ، وللخازن(٣) مثل ذلك من غير أن ينتقص من أُجورهم شي‌ء »(٤) ولم يذكر إذناً.

وأتت أسماءُ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ليس لي شي‌ء إلّا ما أدخل الزبير ، فهل عليَّ جناح أن أرضخ(٥) ممّا يُدخل عليَّ؟ فقال : « ارضخي بما استطعت ، ولا توعي(٦) [ فيوعى ](٧) عليك »(٨) .

وأتت امرأةٌ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : يا رسول الله إنّا كَلٌّ على أزواجنا وأبنائنا ، فما يحلّ لنا من أموالهم؟ قال : « الرطب تأكلنه »(٩) .

ولأنّ العادة قاضية بالسماح به وطيب النفس عنه ، فجرى مجرى التصريح بالإذن ، كما أنّ تقديم الطعام بين يدي الآكل قائم مقام صريح الإذن في أكله.

____________________

(١) المغني ٤ : ٥٦٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٨٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أجره » والمثبت كما في المصادر ما عدا سنن أبي داوُد ، ففيه : « أجر ما أنفقت ».

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وللجارية » بدل « وللخازن ». وما أثبتناه من المصادر.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٧١٠ / ٨١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٠ / ٢٢٩٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٣١ / ١٦٨٥ ، مسند أحمد ٧ : ٦٧ / ٢٣٦٥١ بتفاوت يسير في بعضها.

(٥) الرضخ : العطيّة القليلة. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٣٢٨ « رضخ ».

(٦) أي لا تجمعي وتشحّي بالنفقة فيشحّ عليك. النهاية - لابن الأثير - ٥ : ٢٠٨ « وعا ».

(٧) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٨) صحيح مسلم ٢ : ٧١٤ / ٨٩ ، سنن البيهقي ٤ : ١٨٧ ، و ٦ : ٦٠.

(٩) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٦ : ٥٨٥ / ٢١٢٦ ، منتخب مسند عبد بن حُميد : ٧٩ / ١٤٧ ، أُسد الغابة ٢ : ٢٢٨ / ٢٠٥٦.

٢١٥

والرواية الثانية عن أحمد : أنّه لا يجوز ؛ لأنّ أبا أُمامة الباهلي(١) قال : سمعت رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلّا بإذن زوجها » قيل : يا رسول الله و [ لا ](٢) الطعام؟ قال : « ذاك أفضل أموالنا »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه »(٤) .

وقال : « إنّ الله حرّم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا »(٥) .

ولأنّه تبرّع بمال غيره بغير إذنه ، فلم يجز ، كغير الزوجة(٦) .

والحقُّ : الأوّل ؛ لما تقدّم من الأدلّة ، والأحاديث من طريق العامّة والخاصّة خاصّةٌ ، فتُقدّم على أحاديث أحمد ، العامّة ، والحديث الخاصّ بهذه الصورة ضعيف. وقياس المرأة على غيرها باطل ؛ لأنّ العادة قاضية بالفرق بينهما ، فإنّ المرأة تتبسّط في مال زوجها ، وتتصرّف بالمأكول منه بالعادة ، والإذن العرفي قائم مقام الإذن الحقيقي.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الكاهلي » بدل « الباهلي ». والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٢) ما بين المعقوفين من المصادر.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٠ / ٢٢٩٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ - ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٧ - ٥٨ / ٦٧٠ ، و ٤ : ٤٣٣ / ٢١٢٠ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٧ - ٣٥٨ / ٢١٧٩١ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٦ : ٥٨٥ / ٢١٢٧.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ١٠٠.

(٥) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٩ / ١٢١٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٥ / ٣٠٧٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٨٥ / ١٩٠٥ ، مسند أحمد ٦ : ٦٩ / ٢٠١٧٢ ، و ٥٧٠ / ٢٢٩٧٨ بتفاوت في أوّله فيما عدا الموضع الثاني من مسند أحمد.

(٦) المغني ٤ : ٥٦٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٨٢.

٢١٦

أمّا لو منعها فقال : لا تتصدّقي من مالي لا بقليل ولا بكثير ولا تتبرّعي بشي‌ء منه ، فإنّها لا يجوز لها التصرّف في شي‌ء إلاّ بإذنه إجماعاً ؛ لأنّ المنع الصريح نفي الإذن العرفي.

ولو كان في بيت الرجل مَنْ يقوم مقام امرأته ، كجارية وأُخت وخادمة وبنت ممّن يتصرّف في مأكول الرجل ، جرى مجرى الزوجة إن لم يعلم الكراهية.

ولو كانت امرأته ممنوعةً من التصرّف في بيت زوجها كالتي يطعمها بالفرض ولا يُمكّنها من طعامه ولا من التصرّف في شي‌ء من ماله ، لم يجز لها الصدقة بشي‌ء من ماله.

مسألة ٤١٥ : إذا بلغ الصبي لم يدفع إليه مالُه إلّا بعد العلم برشده ، ويستديم التصرّفَ في ماله مَنْ كان متصرّفاً فيه قبل بلوغه أباً كان أو جدّاً أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينَ حاكمٍ ، فإن عرف رشده ، انفكّ الحجر عنه ، ودفع إليه المال.

وهل يكفي العلم بالبلوغ والرشد في فكّ الحجر عنه ، أم يفتقر إلى حكم الحاكم وفكّ القاضي؟ الأقرب : الأوّل ؛ لقوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا ) (١) .

ولزوال المقتضي للحجر ، وهو الصبا ، وعدم العلم بالرشد ، فيزول الحجر. ولأنّه حجر لم يثبت بحكم الحاكم ، فلا يتوقّف زواله على إزالة الحاكم ، كحجر المجنون ، فإنّه يزول بمجرّد الإفاقة. ولأنّه لو توقّف على ذلك ، لطلب الناس عند بلوغهم فكّ الحجر عنهم من الحُكّام ، ولكان ذلك‌

____________________

(١) النساء : ٦

٢١٧

عندهم من أهمّ الأشياء ، وهو أصحّ قولي الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : يحتاج إلى فكّ القاضي ؛ لأنّ الرشد يُعلم بنظرٍ واجتهاد(٢) .

قال هؤلاء : فكما ينفكّ الحجر عن الصبي عند البلوغ والرشد بفكّ القاضي ، ينفكّ بفكّ الأب والجدّ(٣) .

وفي الوصي والقيّم لهم وجهان(٤) .

وهو يقتضي بطلان قولهم بحاجة إزالة الفكّ إلى النظر والاجتهاد.

قالوا : وإذا كان الحجر لا يزول حتى يُزيله القاضي أو مَنْ ذكرنا ، فتصرّفه قبل إزالة الحجر كتصرّف مَنْ أُنشئ الحجر عليه بالسفه الطارئ بعد البلوغ ، ويجري الخلاف فيما إذا بلغ غيرَ رشيدٍ ثمّ صار رشيداً(٥) .

مسألة ٤١٦ : إذا بلغ رشيداً وزال الحجر عنه ثمّ صار مبذّراً وعاد إلى السفه ، حُجر عليه ثانياً‌ ، عند علمائنا أجمع - وبه قال القاسم بن محمّد ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمّد(٦) - لقوله تعالى :( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا ) (٧) دلّ بمفهومه على تعليل جواز الدفع بعلم الرشد ، فإذا انتفت‌

____________________

(١ و ٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٨ ، التنبيه : ١٠٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، منهاج الطالبين : ١٢٤.

(٣ و ٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤.

(٦) الأُم ٣ : ٢١٨ - ٢١٩ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، التفسير الكبير ٩ : ١٩٠ ، المغني ٤ : ٥٦٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠.

(٧) النساء : ٦

٢١٨

العلّة انتفى الحكم.

واستدلّ الشافعي أيضاً بإجماع الصحابة عليه ؛ لما رواه عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفررحمه‌الله ابتاع بيعاً ، فقال عليّعليه‌السلام : « لآتينّ عثمان ليحجر عليك » فأتى عبد الله بن جعفر الزبيرَ، فقال : قد ابتعت بيعاً وإنّ عليّاًعليه‌السلام يريد أن يأتي عثمان فيسأله الحجر عَلَيَّ ، فقال الزبير : أنا شريكك في البيع ، فأتى عليّعليه‌السلام عثمانَ ، فقال له : « إنّ عبد الله بن جعفر قد ابتاع بيعَ كذا فاحجر عليه » فقال الزبير : أنا شريكه في البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكُه الزبير!؟(١) .

قال أحمد : لم أسمع هذا إلّا من أبي يوسف القاضي ، ولم يخالف عليّعليه‌السلام ذلك ، وهذه قضيّة مشهورة يشتهر مثلها ، ولم يُنقل خلافٌ ، فكانت إجماعاً.

ولأنّ التبذير لو قارن البلوغ ، مَنَع من دفع المال ، فإذا حدث ، أوجب انتزاع المال ، كالجنون. ولأنّ المقتضي للحجر عليه أوّلاً حفظ المال ؛ لأنّ الصبي وإن لم يتلف المال فإنّه غير مأمون عليه ؛ لإمكان صدور الإتلاف عنه ، فإذا كان الإتلاف صادراً عنه حقيقةً ، كان الحجر عليه أولى(٢) .

وقال أبو حنيفة وزفر : لا يُحجر عليه ، وتصرّفه نافذ في ماله - وهو مرويّ عن ابن سيرين والنخعي - لأنّه حُرٌّ مكلّف ، فلا يُحجر عليه ، كالرشيد. ولأنّه يصحّ طلاقه ، فتصحّ عقوده ، كالرشيد(٣) .

____________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٦١.

(٢) المغني ٤ : ٥٦٨ - ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠ - ٥٧١.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، التفسير الكبير ٩ : ١٩٠ ، المغني ٤ : ٥٦٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠.

٢١٩

والقياس باطل ؛ لأنّ الرشيد حافظ لماله ، فدُفع إليه ، بخلاف السفيه.

والطلاق ليس إتلافَ مالٍ ولا يتضمّنه ، فلم يُمنع منه ، ولهذا يملكه العبد ، دون التصرّف في المال بغير إذن سيّده.

مسألة ٤١٧ : إذا عاد مبذّراً مضيّعاً لماله بعد رشده ودفع المال إليه ، فإنّه يُحجر عليه ، ويؤخذ المال منه ، كما تقدّم.

ولا يحجر عليه إلّا الحاكم ، ولا يصير محجوراً عليه إلّا بحكم القاضي - وبه قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف(١) - لأنّ التبذير يختلف ويحتاج إلى الاجتهاد ، فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد ، لم يثبت إلاّ بحكم الحاكم ، كما أنّ ابتداء مدّة العنّة لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم ؛ لموضع الاختلاف فيها والاجتهاد ، فكذا هنا. ولأنّه حجر مختلف فيه ، فلا يثبت إلّا بحكم الحاكم ، كالحجر على المفلس.

وقال محمّد : يصير بالتبذير محجوراً عليه وإن لم يحكم به الحاكم ؛ لأنّ التبذير سبب يثبت معه الحجر ، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم ، كالجنون(٢) .

والفرق : أنّ الجنون لا يفتقر إلى الاجتهاد ، ولا خلاف فيه.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ الحجر يُعيده الأب والجدّ(٣) . وليس مشهوراً.

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني ٤ : ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧١ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥١ - ١٥٢.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٨٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٢ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، المغني ٤ : ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦.

٢٢٠