نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٩

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار8%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 449

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 449 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200914 / تحميل: 6725
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ١٩

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

في النوع التاسع عشر، من الباب الحادي عشر، من كتابه ( التحفة )، فانظر بماذا يصف كبار العلماء، ومهرة الفنون، وأساطين العلوم!!

التشبيه للمساواة في كلام ( الدهلوي ) نفسه

بل إنّ ما ذكره من الطعن في الذين يفهمون « المساواة » من « التشبيه » من العلماء وغيرهم لينطبق على نفسه، فقد علمتَ أنّ ( الدهلوي ) نفسه قد فهم « المساواة » من « التشبيه » في مقامات عديدة، بل في نفس هذا الكلام الذي وصف فيه من فهم ذلك بما وصف، فقد جاء فيه « النوع التاسع عشر: - جعل تشبيه شيء بشيء موجباً للمساواة بين المشبّه والمشبّه به. وهذا من أوهام الصبيان الصّغار لا الصبيان المميّزين، وقد وقع هذا الوهم من الشيعة بكثرةٍ، مثل أنّهم يقولون بأنّ حضرة الأمير قد شبّه بالأنبياء أولي العزم في الزهد والتقى والحلم ».

فترى أنّه في نفس هذا الكلام يأتي بتشبيه، ويريد منه « المساواة » قطعاً، حيث يقول: « مثل أنّهم يقولون »، فإنّ كلمة « مثل » موضوعة للتشبيه، وهو يذكر بهذه الكلمة موضعاً من مواضع الوهم الواقعة من الشيعة بحسب زعمه.

بل إنّه استعمل « التشبيه » وأراد به « المساواة » و « المطابقة » في مواضع من كلامه - في نفس هذا المقام - في الجواب عن دلالة حديث التشبيه، ألا ترى إلى كلامه في الوجه الرابع حيث يقول: « والتشبيه كما يكون بأدواة التشبيه المتعارفة، مثل: الكاف، وكأنّ ومثل، ونحو، كذلك يكون بهذا الأسلوب، كما تقرر في علم البيان،: من أراد أن ينظر إلى القمر ليلة البدر، فلينظر إلى وجه فلان ».

ففي هذه العبارة استعمل التشبيه وأراد منه المطابقة في ثلاثة مواضع:

٣٤١

الأوّل: قوله: كما يكون فإنّ هذا من ألفاظ التشبيه، ولا ريب أنّه يريد المطابقة، لا كتشبيه الترب بالمسك

والثاني: قوله: مثل الكاف وكأنَّ

والثالث: قوله: كما تقرّر في علم البيان

وأنت إذا تأمّلت في سائر كلامه وقفت على مواضع أخرى.

عدم جواز حمل ألفاظ النبيّ على الكلام الركيك

قوله:

وقد راج واشتهر في الأشعار التشبيه

أقول:

إنّ هذا تعصّب جاء من جرّاء متابعة ( الكابلي ) وتقليده على غير بصيرة، أفيقاس كلام أشرف الخلائق من الأوّلين والآخرين بأشعار الشعراء وتمثيلاتهم الخرافية الجزافية؟!

إنّ مفاد هذا الكلام هو أنْ لا يكون أيّ وجه للشبه بين أمير المؤمنين والأنبياء في صفاتهم، فضلاً عن المساواة، والعياذ بالله

ولو جاز ما ذكره هذا الرجل، لجاز أنْ يقال في حقّ أحدٍ من الناس ولو كان عارياً حتّى عن الإسلام: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى فلان

لكن لا ريب في أنّ قياس كلام أفضل البشر، بتشبيه الترب بالمسك والحصى بالدرر، تعصّب قبيح أو جهل فضيح، فلو لم يدلّ حديث التشبيه على إثبات تلك الصفات لأمير المؤمنين، للحق كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٤٢

بالكلام الركيك والفارغ، وذلك غير جائز.

قال أبو حامد الغزالي: « مسألة - قال القاضي: حمل كلام الشارع على ما يلحق بالكلام الرث محال، ومن هذا الفن قول أصحابنا في قوله تعالى:( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) مكسورة اللام، لقرب الجوار، ردّاً على الشيعة، إذ قالوا: الواجب فيه المسح، وهو كقوله:( وَحُورٌ عِينٌ ) وكقول العرب: جحر ضب خرب، وكقول الشاعر:

كأن ثبيراً في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

معناه: مزمل به، لأنّه من نعت الكبير، وهو مرفوع، لكن كسر لقرب الجوار.

وليس الأمر كما ظنّوه في هذه المواضع، بل سببه: إنّ الرفع أبين من الكسر، فاستثقلوا الإنتقال من حركةٍ خفيفةٍ إلى ثقيلة، فوالوا بين الكسرتين.

وأمّا النصب في قوله:( وَأَرْجُلَكُمْ ) فنصب في المعنى، والنصب أخف الحركات، والإنتقال إليه أولى من الجمع بين الكسرتين الثقيلتين بالنسبة إلى النصب، فلم يبق لقرب الجوار معنى، إلّا مراعاة التسجيع والتقفية، وذلك لا يليق بالقرآن، نعم حسن النظم محبوب من الفصيح، إذا لم يخل بالمقصود. فأمّا الإخلال بالمعنى واتباع التقفية، فمن ركيك الكلام »(١) .

ولو لم يدل التشبيه في الحديث على المساواة، وجاز حمل تشبيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشبيه الترب بالمسك ونحوه، جاز أنْ يقال في حقّ شيخ من شيوخ ( الدهلوي ) أو تلميذٍ من تلامذته: إنّه مثل إبليس، أو يقال في حقّ ( الدهلوي ) نفسه أو والده: « إنّه مثل أبي لهب » أو « مثل أبي جهل » أو يقال ذلك في حقّ كبار أهل السنّة، أو في حقّ الخلفاء الثلاثة وأعوانهم

____________________

(١). المنخول في علم الأصول: ٢٠١ - ٢٠٣.

٣٤٣

النّقض بما وضعوه في حقّ الشيخين

وإذا كان تشبيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت، فقد بطلت مساعي أسلاف ( الدّهلوي ) الوضّاعين وجهود مشايخه المفترين، في اختراع فضائل فيها تشبيه الشيخين بالأنبياء، وذهبت أدراج الرّياح، وكانت هباءً منثوراً، فالعجب من هذا الرجل كيف يحتُّ بمثل هذه الأحاديث ويدّعي كثرتها كما سيأتي؟! إذ من الجائز أنْ تكون تلك التشبيهات - بعد تسليم أسانيدها - من قبيل تشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت، فكما لا مناسبة أصلاً بين المسك والثرى، ولا مماثلة بين اللؤلؤ والحصى، فكذلك حال الشيخين بالنسبة إلى الأنبياء، على نبيّنا وآله وعليهم آلاف التحيّة والثنا، فأين الثريا من الثرى، وأين الدرّ من الحصى؟!

قوله:

قال الشاعر:

أرى بارقاً بالأبرق الفرد يومض

فيكشف جلباب الدجى ثمّ يغمض

كأن سليمى من أعاليه أشرفت

تمدّ لنا كفّاً خضيباً وتقبض

أقول:

قد عرفت عدم جواز هذا القياس بين كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصومين، وأشعار الشعراء المتشدّقين لكنّه ينسج على منوال ( الكابلي ) ويقلّده على غير هدى وبصيرة

٣٤٤

دحض المعارضة

بما وضعوه في تشبيه الشيخين بالأنبياء

٣٤٥

٣٤٦

قوله:

وقد روي في الأحاديث الصحيحة لأهل السنّة: تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى، وتشبيه عمر بنوح، وتشبيه أبي ذر بعيسى

أقول:

هذه المعارضة باطلة، فإنّ الإحتجاج بأحاديث أهل السنّة في مقابلة الإماميّة لا يصغى إليه، لمخالفته لقانون المناظرة، أمّا الإماميّة فإنّهم يحتجّون بأحاديث أهل السنّة في الردّ عليهم، من باب الإلزام، طبقاً لقانون المناظرة.

واستدلال أهل السنّة بأحاديثهم في مقابلة الإماميّة، يشبه استدلال أهل الكتاب بكتبهم الموضوعة المكذوبة أو المحرّفة، في الدفاع عن دينهم والجواب على مطاعن المسلمين وإشكالاتهم في مذاهبهم وعقائدهم.

ولعلّ من هنا لم يحتجّ ( الكابلي ) بتلك الأحاديث المزعومة في مقام الجواب على حديث التشبيه

فهذه الفقرة من كلام ( الدهلوي ) في هذا المقام غير مأخوذ من كلام ( الكابلي )، بل أخذ ذلك من كلام والده ولي الله الدهلوي في كتابه ( قرة العينين ) حيث قال في الجواب على استدلالات الشيح نصير الدين الطوسيرحمه‌الله في ( التجريد ):

« ومساواة الأنبياء. إعلم أنّهعليه‌السلام قد شبّه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء، والغرض من هذا التشبيه هو الإشارة إلى وجود وصف من

٣٤٧

أوصاف المشبّه به في المشبّه، كتشبيه أبي ذر بعيسى في الزهد، وتشبيه الصدّيق بعيسى في الرفق بالاُمة، وتشبيه الفاروق بنوحٍ في الشدّة على الاُمة، وتشبيه أبي موسى بداود في حسن الصوت.

عن عبدالله بن مسعود في قصة إستشارة النبي أبا بكر في أسارى بدر، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تقولون في هؤلاء؟ إنّ هؤلاء كمثل إخوةٍ لهم كانوا من قبلهم. قال نوح:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) وقال موسى:( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ) الآية. وقال إبراهيم:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وقال عيسى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أخرجه الحاكم.

وعن أبي موسى: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا موسى، لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود. متفق عليه.

وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجةٍ أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم - يعني في الزهد - أخرجه الترمذي.

وفي الإستيعاب: روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: أبو ذر في أمّتي شبه عيسى بن مريم في زهده.

وروي: من سرّه أنْ ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر. أخرجه أبو عمر ».

هذا كلام والد ( الدهلوي )، وهذه هي الأحاديث، وقد أخذ الولد هذا الكلام وتصرّف فيه من جهاتٍ:

١ - زعم الوالد تشبيه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء. و ( الدهلوي )

٣٤٨

زعم تشبيه الشيخين بهم في أحاديث كثيرة.

٢ - لم يدَّعِ الوالد صحة هذه الأحاديث بصراحة. و ( الدهلوي ) ادّعى صحّة الأحاديث الكثيرة التي شبّه فيها الشيخان بالأنبياء.

٣ - لم يدّع الوالد تصحيح الحاكم حديث ابن مسعود، لكن ( الدهلوي ) زعم ذلك أيضاً.

فهذه تصرّفات ( الدهلوي ) في كلام والده، وإنّما أخذ كلام والده هنا، لأنّ ( الكابلي ) لم يتعرَّض لهذه الأحاديث في هذا المقام، كما أشرنا من قبل، فكلمات ( الدهلوي ) ومناقشاته مع الإماميّة ملفّقة من كلمات ( الكابلي ) ووالده شاه ولي الله الدهلوي.

وليته لم يتعرّض لهذه الأحاديث تبعاً للكابلي، لكنّه الجهل والتعصّب، وذلك لأنّه قد أجاب عن حديث التشبيه بأنّه تشبيه محض، كما يشبّه التراب بالمسك، والحصى بالدر والياقوت، فلو سلّمنا صحّة هذه الأحاديث سنداً، لكفى في الجواب عنها كلام ( الدهلوي ) نفسه، فاستناده إليها تبعاً لوالده في مقابلة الشيعة الإمامية سفاهة منهما على حدّ تعبير ( الدهلوي ) نفسه وشيخه.

قوله:

ولكنْ لما كان لأهل السنّة حظ من العقل من الله لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلاً

أقول:

صريح هذا الكلام: أنّ دعوى المساواة بين الشيخين والأنبياء سفاهة وقلّة عقل، فكيف يدّعي ذلك في نفس الوقت؟ وهل هذا إلّاتناقض وتهافت في

٣٤٩

كلامٍ واحد؟ وهذا من خصائص ( الدهلوي ) إذ تراه يطعن في شيء، ثمّ يستند إليه ويحتج به، وإن وجد هذا في كلام غيره من علمائهم فقليل

أضف إلى ذلك، أنّ تلك الفرقة لو رزقت شيئاً من العقل، لما جوّزت صدور القبائح من الله، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولَما نَفَت الحسن والقبح العقليّين.

ولَما ذهبت إلى الجبر.

ولَما أثبتت وقوع العبث من الله العزيز الحكيم.

ولَما قالت بصدور التكليف بما لا يطاق من الله العظيم.

ولَما اعتقدت الصوفيّة منهم الإتّحاد بين الله وخلقه.

إلى غير ذلك من آرائهم الفاسدة، ومقالاتهم الباطلة.

قوله:

بل إنّ محطّ إشارة التشبيه في هذا القسم من الكلمات وجود وصف في هذا الشخص من الأوصاف المختصة بذاك النبي، وإنْ لم يكن بمرتبته.

أقول:

هذا إعتراف بسقوط دعوى مساواة الشيخين للأنبياء في الصفات المذكورة في الأحاديث المزعومة.

قوله:

عن عبدالله بن مسعود أخرجه الحاكم وصحّحه.

٣٥٠

أقول:

هنا وجوه من النظر:

الوجه الأوّل: نقل هذا الحديث عن الحاكم يدلُّ على الإعتماد على روايته، وإذا كان مقبولاً، فلماذا يبطل ( الدهلوي ) حديث الطير، وحديث الولاية، وحديث مدينة العلم، مع إخراج الحاكم لها، لا سيّما الأخير، إذ صحّحه بعد أنْ أخرجه؟! فهل يختص توثيق الحاكم والإعتماد عليه بفضائل الشيخين، وأمثالهما، ويسقط عن الإعتبار في فضائل أمير المؤمنين؟!

الوجه الثاني: إنّ الحاكم من رواة حديث التشبيه كما عرفت، و ( الدّهلوي ) يبالغ في إبطال هذا الحديث، حتّى أنّه يلتجأ إلى معارضته بالروايات الموضوعة.

أفيجوز أنْ نعتمد على الحاكم في باب فضائل الشيخين، ولا نعتمد عليه في باب فضائل الأمير؟! لماذا هذا التفريق؟ لا سيّما مع موافقة عبدالرزاق الصنعاني، وأحمد، وغيرهما، معه في إخراج حديث التشبيه، وعدم موافقتهما معه في رواية هذا الحديث المزعوم

الوجه الثالث: لم يدّع والد الدهلوي تصحيح الحاكم لهذا الحديث، لكن ولده أضاف تصحيح الحاكم من غير دليلٍ ولا شاهد له على ذلك، ولو كان صادقاً لذكر والده ذلك.

الوجه الرابع: أين تشبيه الشيخين بالأنبياء في هذا الحديث؟ بل لا يشتمل الحديث على مدحٍ لهما أصلاً، كما لا يخفى.

الوجه الخامس: إنّه لم يشبَّه الشيخان في هذا الحديث بالأنبياء في شيء من صفاتهم الكمالية، كالعلم والفهم والتقوى والدعاء على الكافرين أو

٣٥١

الإستغفار لهم، لا يقتضي المساواة بين الأنبياء وغيرهم، فالحديث على فرض صحّته لا يعارض حديث التشبيه أبداً.

ثمّ إنّ بعض الوضّاعين أضاف إلى الحديث جملةً تفيد بعض الشّبه، إلّا أنّه - بعد تسليم سنده - لا يصلح للمعارضة كذلك، فقد نصّ ابن تيميّة على أنّه يفيد الشبه في الشدة في الله واللين في الله فقط، ولا يفيد المماثلة في كلّ شيء، وهذا نصّ عبارته:

« وقول القائل: هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا، هو كتشبيه الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء بحسب ما دلّ عليه السياق لا يقتضي المساواة في كلّ شيء، ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث الأسارى، لمـّا استشار أبا بكر، فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل. قال: ساُخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ومثل عيسى إذ قال:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) ومثل موسى إذ قال:( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) .

فقوله لهذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسى، ولهذا مثلك مثل نوح وموسى، أعظم من قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، فإنّ نوحاً وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرو أنّهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلَّ عليه السياق من الشدّة في الله واللين في الله »(١) .

هذا كلام ابن تيميّة في جواب حديث: « أنت منّي بمنزلة هارون من

____________________

(١). منهاج السنة ٧ / ٣٣٠.

٣٥٢

موسى » وهو صريح فيما قلناه، فلا يليق هذا الحديث - إن صحّ - للمعارضة.

لكن لا يخفى عليك اشتمال هذا الكلام على كذبةٍ، وهي أنّه نسب هذا الحديث أي الصحيحين، والحال أنّه لا أثر له فيهما ولا عين. وكأنّ الغرض من هذه النسبة المكذوبة جعل التساوي بين هذا الحديث، وحديث المنزلة المخرج في الصحيحين على أنّه لو سلّم، فقد ثبت عموم حديث المنزلة، أمّا هذا الحديث فهو لا يفيد المماثلة إلّا في الشدّة واللين كما اعترف هو بذلك. فلا يصلح هذا الحديث للمعارضة مع حديث المنزلة، فلا تغفل.

قوله:

وعن أبي موسى: لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود. رواه البخاري ومسلم.

أقول:

إنّ عمر بن الخطاب لم يقبل من أبي موسى الأشعري حديثه في مسألة الإستيذان - يتعلَّق بأمرٍ من المندوبات الشرعيّة - كما هو صريح البخاري في ( صحيحه )، فكيف تقبل الإماميّة حديثه في فضل نفسه؟!

على أنّ كونه واجداً لمزمارٍ من مزامير آل داود لا يعارض حديث التشبيه، وهل أنّ حسن الصوت كالعلم والحلم والتقى من الصفات الكمالية؟!

قوله:

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سرّه أنْ ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر. كذا في الإستيعاب.

٣٥٣

ورواه الترمذي بلفظٍ آخر قال: ما أظلّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر شبه عيسى بن مريم. يعني: في الزهد.

أقول:

هذا الحديث غير ثابت من طرق الإمامية، فلا يصلح لأنّ يعارض به حديث التشبيه الّذي رواه الفريقان. فهذا أولاً.

وثانياً: إنّ صاحب الإستيعاب يروي حديث الولاية بسندٍ صحيح، و ( الدهلوي ) لا يلتفت إلى روايته، ويدّعي بطلانه، تبعاً لبعض المتعصّبين، فكيف يعتمد على روايته هنا؟!

وأيضاً: روى صاحب الإستيعاب حديث الطير، في كتابه ( بهجة المجالس )، و ( الدهلوي ) لم يعبأ بروايته.

وثالثاً: الترمذي من رواة حديث الولاية وحديث الطير، فكيف لا يعبأ بروايته للحديثين، ويعتمد على روايته لهذا الحديث؟

ورابعاً: لا ريب في أنّ عثمان قد ظلم أبا ذر، وأساء معاملته، ونفاه إلى الربذة - مع ما وصف عثمان من قبل أهل السنّة باللّين والرأفة، ورقّة القلب، ورغم ما ورد في مدح أبي ذر من الأحاديث، كما في ( كنز العمال ) وغيره - فماذا يقولون في حقّ عثمان؟ وبمَ يصحّحون أفعاله تلك؟

٣٥٤

شبهات الدّهلوي

حول دلالة الحديث على الأفضليّة

وإستلزامها للإمامة

٣٥٥

٣٥٦

قوله:

الثالث: إنّ المساواة بالأفضل في صفةٍ لا تكون موجبةً لأفضليّة المساوي، لأنّ ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل.

أقول:

إنّ مماثلة أمير المؤمنينعليه‌السلام للأنبياء المذكورين في الحديث ومساواته لهم في صفاتهم، تدلُّ على أنّهعليه‌السلام يساوي كلّ واحد من الأنبياء في صفته، ويكون أفضل منهم، لجمعه للصفات المتفرّقة فيهم، على غرار ما تقدّم من الإحتجاج بالآية الكريمة على أفضليّة نبيّنا من جميع الأنبياء عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام.

ولمـّا كان كلّ واحدٍ من هؤلاء الأنبياء أفضل من الثلاثة، بالإجماع المحقّق بين جميع المسلمين، فإنّ المساوي للأفضل يكون أفضل بالضّرورة. فأمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل من الثلاثة - ولا يخفى ما في قولنا: أفضل من الثلاثة من المسامحة -، وعليه يندفع جميع شبهات ( الدّهلوي ) حول دلالة الحديث على أفضليّته منهم، وللزيادة في التوضيح والبيان، نذكر الوجوه الآتية:

١ - دلالته على الأفضليّة على غرار دلالة الآية على أفضليّة النبيّ

إنّ منع دلالة مساواة الأفضل - بعد تسليم المساواة بين الإمام والأنبياء في صفاتهم بالحديث - على أفضليّة الإمامعليه‌السلام من الثلاثة، في غاية

٣٥٧

الوهن والسقوط، لما تقدّم عن الرازي من احتجاج العلماء بقوله تعالى:

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) على أفضليّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء المذكورين في الآية، وملخص الإحتجاج هو جامعيّة النبيّ للصّفات المتفرّقة في أولئك الأنبياء، ولا ريب في أنّ الجامع لها أفضل من جميعهم، لأنّ كلّ واحدٍ منهم حصل على واحدة منها أو ثنتين، وهذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحده حصل على جميعها.

فإذا كان جمع الصفات المتفرقة في الأنبياء دليلاً على الأفضليّة منهم، فقد جمع أمير المؤمنينعليه‌السلام - كما في حديث التشبيه - جميع صفات الأنبياء المذكورين في الحديث كذلك، فيكون أفضل منهم بنفس الطريق في الإحتجاج - إلّا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الأفضل بإجماع المسلمين - وإذا كان أفضل من الأنبياء فهو أفضل من الثلاثة، بالأولوية القطعية.

٢ - اعتراف ابن روزبهان

ودلالة الحديث على المطلوب - كما ذكرنا - أصبحت من الوضوح بحيث التجأ الفضل بن روزبهان إلى الإعتراف بها، ولم يتجاسر على ما تفوّه به ( الدهلوي ) على ما هو من التعصّب والعناد، ومن هنا تعرف إلى أيّ درجةٍ من الحقد والعناد للحق وأهله وصل ( الدهلوي ).

٣ - الحديث نصّ في الأعلميّة

ثمّ إنّ حديث التشبيه نصٌّ في أعلميّة عليعليه‌السلام من الثلاثة وغيرهم، لأنّه قد ساوى آدمعليه‌السلام في العلم، والأعلم أفضل بالضرورة، والمساوي للأفضل أفضل قطعاً.

٣٥٨

وأيضاً: فإنّه أتقى من الثلاثة، لأنّه قد ساوى نوحاً في تقواه، ونوح أتقى منهم بالضرورة، والأتقى أفضل لقوله تعالى:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١) والمساوي للأفضل أفضل.

وكذا الكلام في كونه « أعبد » و « أحلم » و « أشد بطشاً ».

٤ - جامعية علي لأشرف الصّفات

ثمّ إنّ العلم والحلم والعبادة والتقوى والشجاعة، هي أشرف الصفات الحسنة، وهي تجمع جميع الخصال الحميدة، وقد كان عليعليه‌السلام حائزاً لجميعها في أعلى مراتبها، فهو جامع لجميع الصفات الشّريفة في أعلى مراتبها، ومن كان كذلك، كان أفضل من جميع الخلائق - عدا نبيّنا كما تقدم - فضلاً عن الثلاثة.

٥ - جمعه لتسعين خصلة من خصال الأنبياء

بل إنّهعليه‌السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياءعليهم‌السلام ، كما في رواية السيّد علي الهمداني المتقدمة في الكتاب، فأين من لم يحصل على خصلةٍ من خصال الأنبياء من الذي جمع تسعين؟! وأين الصّفة التي يدّعيها ( الدهلوي ) في الثلاثة ليكونوا أفضل بها من الإمام؟! فليثبت ( الدهلوي ) ذلك، ودونه خرط القتاد.

٦ - إتّصاف الثلاثة بأضداد هذه الصفات

بل إنّ الثلاثة كانوا متّصفين بأضداد هذه الصفات الجليلة، كما لا يخفى على من راجع الكتب المصنّفة في بيان هذا الشأن، ككتاب ( تشييد المطاعن ) وغيره.

٣٥٩

أفلا يكون المساوي للأنبياء في صفاتهم الجميلة، أفضل ممّن اتّصف بأضدادها، فضلاً عن الإتّصاف بشيء منها؟!

قوله:

وأيضاً: ليست الأفضليّة موجبة للزعامة الكبرى.

أقول:

إنّ من الاُصول الأخلاقيّة المتّبعة أنْ لا يكذِّب الخلف سلفه، فكيف بتكذيب الولد لوالده!

لقد كان الأحرى بالرّجل أنْ لا يكذّب أباه، الأب الّذي وصفه هو بكونه معجزةً من معاجز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد أثبت شاه ولي الله الدهلوي في كتابه ( إزالة الخفا ) - الّذي طالما اعتمد عليه ( الدهلوي) أيضاً - أنّ الأفضلية تستلزم الزعامة الكبرى والخلافة العظمى، واستدلّ لذلك بالكتاب والسنّة والآثار عن الصحابة، فراجع كلامه هناك.

قوله:

كما مرّ غير مرّة.

أقول:

نعم مرّ إثبات استلزام الأفضليّة للإمامة غير مرّة.

٣٦٠

دحض مزاعم الدّهلوي

لإثبات مساواة الثلاثة للأنبياء

٣٦١

٣٦٢

ثمّ إنّ ( الدهلوي ) ذكر أنّ تفضيل الإمامعليه‌السلام على الثلاثة عن طريق المساواة للأنبياء في صفاتهم بالحديث الشريف، يتوقّف على عدم مساواة الثلاثة لهم كذلك، فاستنكر هذا النفي، وتشبّث بأشياء واهيةٍ لإثبات المساواة، حتّى لا تثبت الأفضليّة للإمامعليه‌السلام ، ونحن نذكر كلماته ونفنّدها بالتفصيل:

قوله:

الرابع: إنّ تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء في الصفات المذكورة أو في مثلها.

أقول:

لقد أثبتنا دلالة الحديث على أنّ الإمام أفضل من الأنبياء عليه وعليهم‌السلام ، فلا حاجة إلى إثبات دلالته على أفضليته من الثلاثة، الذين لا سبيل إلى إثبات مساواتهم لهم.

وقد مرّ عليك، أنّ أبا بكر لمـّا سمع هذا الكلام من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استغرب ثمّ قال: بخ بخ لك يا أبا الحسن، وأين مثلك يا أبا الحسن!

و ( الدهلوي ) نفسه يعترف بعدم اعتقاد أهل السنّة ذلك في حقّ الشيخين

وإن شئت الوقوف على حلم عمر، فراجع حديث قصّته مع أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في ( البخاري ) و ( المشكاة ). وإنْ شئت الوقوف على

٣٦٣

شجاعة الشيخين فراجع أحاديث وقعة خيبر وغيرها في ( كنز العمّال )، وإن شئت الوقوف على علمهما وتقواهما، فراجع كتاب ( تشييد المطاعن ).

قوله:

ودون هذا النفي خرط القتاد.

أقول:

قد ثبت - والحمد لله أنّ هذا النفي صحيح باعتراف المخاطب، وأنّ زعم مساواة الشيخين للأنبياء دونه خرط القتاد.

قوله:

ولو تتبّعنا الأحاديث الدالّة على تشبيه الشيخين بالأنبياء، لبلغت مبلغاً لم يثبت مثله لمعاصريهما.

خبر واحد موضوع

أقول:

يكذِّب هذا الزعم إعتراف أبي بكر بعدم وجود مثيل للإمامعليه‌السلام ، ثمّ إنّ على ( الدهلوي ):

أولاً: أنْ يثبت للشيخين أكثر من تسعين خصلة من خصال الأنبياء، كما ثبت لعلي بالحديث.

وثانياً: أن يذكر حديثاً واحداً يعارض به حديث اعتراف أبي بكر المذكور، وأنّى له بذلك.

٣٦٤

وثالثاً: أنْ يذكر وجه الإحتجاج بموضوعات طائفته في مقابلة الشيعة الإماميّة.

ومن العجيب أنّ ( الدهلوي ) يدّعي وجود الأحاديث الكثيرة، مع أنّه لم يذكر إلّاحديثاً واحداً قد عرفت مدى دلالته، وليته ذكر حديثاً واحداً اشتمل على الخصال الخمس المذكورة للشيخين، ولو من كتب قومه، ليعارض به حديث التشبيه.

نعم هناك حديث واحد اعترفوا بوضعه، قال السيوطي في ( ذيل الموضوعات ):

« إبن عساكر: أخبرنا أبو محمّد الأكفاني، حدّثنا عبدالعزيز بن أحمد، أنا إسحاق بن إبراهيم بن محمّد القرميني، حدّثنا عمر بن علي بن سعيد، حدّثنا يوسف بن الحسن البغدادي، ثنا محمّد بن القاسم، حدّثنا أبو يعلى أحمد بن علي ابن المثنّى، حدّثنا محمّد بن بكار، حدّثنا أبي، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أحبّ أن ينظر إلى إبراهيم في خلّته، فلينظر إلى أبي بكر في سماحته، ومن أحبّ أن ينظر إلى نوح في شدّته، فلينظر إلى عمر بن الخطّاب في شجاعته، ومن أحبّ أن ينظر إلى إدريس في رفعته، فلينظر إلى عثمان في رحمته، ومن أحبّ أن ينظر إلى يحيى بن زكريّا في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب في طهارته.

قال ابن عساكر: هذا حديث شاذ بمرّة. وفي إسناده غير واحد مجهول ».

٣٦٥

نسبة باطلة إلى الصّوفية

قوله:

ولهذا ذكر المحقّقون من أهل التصوف أنّ الشيخين كانا حاملين لكمالات النبوّة، وكان الأمير حاملاً لكمالات الولاية.

أقول:

لا يخفى على أهل العلم: أنّ الغرض المهم ( للدهلوي ) هو الحطّ من قدر الإمامعليه‌السلام وشأنه، وذكر اختصاص الإمامعليه‌السلام بالكمالات الولويّة - خلافاً لوالده - ليس إلّا لتخديع العوام وتغريرهم.

إنّ أهل الفضل يعلمون بأنّ الشيخ فريد الدين العطّار النيسابوري - وهو من مشايخ الصوفية - ضمّن معنى حديث التشبيه، في شعرٍ له، وأنّ الحكيم السّنائي قد شبّه الإمامعليه‌السلام بنوحٍ، في شعر له كذلك.

وأيضاً، فإنّ بعض أكابر الصوفية - كالسيّد علي الهمداني، وأمير ملّا - يروون حديث التشبيه، بل لقد روى السيّد علي الهمداني حديثاً فيه: إنّ الإمامعليه‌السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياء لم تجمع في غيره.

وأيضاً، فإنّ أبا نعيم الحافظ الإصفهاني - وهو من أئمّة الصوفيّة كما هو معلوم - ممّن أخرج بإسناده حديث التشبيه، وكذا الطالقاني.

فمن الغريب نسبة ( الدهلوي ) هذا الكلام إلى المحقّقين من الصوفيّة، من غير أنْ يذكر اسم لقائل، وهؤلاء مشايخ الصوفية وأئمّتهم قد رووا حديث التشبيه وأثبتوه.

٣٦٦

عدم حجيّة أقوال أهل السنّة على الإماميّة

ولمـّا ثبت وتحقّق جمع الإمامعليه‌السلام للكمالات النبويّة، من العلم، والحلم، والتقوى، والزهد، والشجاعة، وغيرها، برواية أكابر علماء أهل السنّة وأئمّة مشايخ الصوفية منهم، فإنّا لا نصغي إلى ما قاله ( الدهلوي ) من عند نفسه، مع عزوه إلى محقّقي الصوفية.

ثمّ إنّه لا يجوز إلزام الإماميّة بأقوال أحدٍ من أهل السنّة، مفسّراً كان أو محدّثاً، أو متكلّماً أو فقيهاً، صوفيّاً أو عارفاً، وذلك:

أوّلاً: لأنّه إذا كانت أقوال أهل السنّة حجة على الإماميّة، فلا بدّ من أن تكون أقوال الشيعة حجة على أهل السنّة كذلك.

وثانياً: لأنّ احتجاج ( الدهلوي ) بشيء من أقاويل أهل طائفته، يخالف التزامه في أوّل كتابه ( التحفة ) من نقل أقوال الشيعة ورواياتهم، لإلزامهم بها.

وثالثاً: لأنّه صرّح في ديباجة كتابه ( التحفة ) بأنّ لكلّ فرقة أنْ لا تثق بأحاديث الفرقة الأخرى، فلا بدّ من إلزام كلّ فرقة بأحاديث نفس تلك الفرقة المروية في كتبها، بل في خصوص الكتب المعتبرة عندهم منها.

ورابعاً: لتصريح والده في كتاب ( قرة العينين ) بعدم جواز إلزام الشيعة الإماميّة والزيدية، بأحاديث أهل السنّة، حتّى أحاديث الصحيحين.

وخامساً: لتصريح تلميذه رشيد الدين الدهلوي، بأنّ من حقّ كلّ فرقة أن تقدح في أحاديث الفرقة التي ينتمي إليها الخصم، ولا تسلّم بها.

فبناءً على هذا كلّه، لا يجوز الإحتجاج بأقاويل الصوفيّة من أهل السنّة في مقام البحث والمناظرة مع الشيعة الإماميّة.

وعلى هذا الأساس أيضاً، لا مناص لأهل السنّة من قبول الأحاديث التي يتمسّك بها الإماميّة لإثبات مطلوبهم، محتجّين بإخراج علماء أهل السنّة

٣٦٧

لها في كتبهم المعتمدة، كحديث الطير، وحديث الولاية، وحديث أنا مدينة العلم، وحديث التشبيه، وأمثالها ومن هنا يظهر أنّ من لا يقبل هذه الأحاديث ويردّها، ( كالدهلوي ) والكابلي، وابن حجر المكّي، وابن تيميّة، وأمثالهم، يخالف القواعد المقررة للبحث والمناظرة، من غير مجوّز لذلك، فليس إلّا التعصّب الشديد، والتعنّت المقيت، نعوذ بالله منه.

دعوى صدور وظائف الأنبياء من الشيخين وبطلانها

قوله:

ومن ثمة، صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء، كالجهاد مع الكفّار

أقول:

إن أراد من جهاد الشيخين، جهادهما في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالواقع أنّه لم يكن منهما إلّا الفرار المخزي، كما لا يخفى على المطّلع بأخبار خيبر، وحنين، واُحد، بل ذلك كلّه مشهور ولا حاجة إلى بيانه.

وإن أراد ما كان من الفتح في زمانهما - فمع غضّ النظر عن وقوع الفتح في زمن الثالث، بل زمن معاوية، فيثبت لهما ما يدّعي ثبوته للشيخين، بل ليزيد بن معاوية ومن بعده من السّلاطين، لوقوع الفتوح في زمانهم - نقول: بأنّ الفتح لا يدلّ على غرضه، وذلك لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر ». وقوله: « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم » وقوله: « إنّ الله ليؤيّد الإسلام برجالٍ ما هم من أهله » أخرج ذلك البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وغيرهم.

٣٦٨

قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي في ( فيض القدير ):

« إنّ الله ليؤيّد الدين. أي الدين المحمّدي، بدليل قوله في الخبر الآتي: إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر، واللّام للعهد، والمعهود الرجل المذكور، أو للجنس.

ولا يعارضه خبر مسلم الآتي: إنّا لا نستعين بمشرك. إذ هو خاص بذلك الوقت، وحجة النسخ شهود صفوان بن اُميّة حنيناً مشركاً.

قال ابن المنير: فلا يتخيّل في إمامٍ أو سلطانٍ فاجر إذا حمى بيضة الإسلام أنّه مطروح في الدّين لفجوره، فيجوز الخروج عليه وخلعه، لأنّ الله تعالى قد يؤيّد دينه وفجوره على نفسه، فيجب الصّبر عليه وطاعته في غير إثم، ومنه جوّزوا الدّعاء للسّلطان بالنّصر والتأييد مع جوره.

قاله لمـّا رآى في غزوة خيبر رجلاً يدّعي الإسلام يقاتل شديداً، هذا من أهل النّار، فخرج وقتل نفسه من شدّة وجعه، فذكره.

أو المراد الفاسق المجاهد في سبيل الله.

طب عن عمر بن النّعمان بن مقرن بضمّ الميم وفتح القاف وشدّة الواو بالنّون، المزني، قال ابن عبدالبر: له صحبة، وأبوه من جملة الصّحابة، قتل النّعمان شهيداً بوقعة نهاوند، سنة إحدى وعشرين، ولمـّا جاء نعيه خرج عمر فنعاه على المنبر وبكى.

وظاهر صنيع المصنّف أنّ هذا لا يوجد مخرجاً في الصّحيحين، ولا أحدهما، وهو ذهول شنيع وسهو عجيب، فقد قال الحافظ العراقي: إنّه متّفق عليه من حديث أبي هريرة، بلفظ: إنّ الله تعالى يؤيد هذا الدّين بالرّجل الفاجر وقال المناوي: رواه البخاري في القدر وغزوة خيبر، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة مطولا قال:

شهدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنيناً فقال لرجل ممّن يدّعي

٣٦٩

الإسلام: هذا من أهل النّار، فلمـّا حضر القتال قاتل قتالاً شديداً، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرّجل الّذي قتل آنفاً إنّه من أهل النّار، قاتل اليوم قتالاً شديداً، وقد مات فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: في النّار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم كذلك إذ قيل إنّه لم يمت لكن به جرحاً شديداً، فلمـّا كان اللّيل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فاُخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: الله أكبر، أشهد أنّي عبدالله ورسوله، ثمّ أمر بلالاً فنادى في النّاس أنّه لا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة، وإنّ الله يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر.

وممّن رواه التّرمذي في العلل عن أنس مرفوعاً، ثمّ ذكر أنّه سئل عنه البخاري فقال: حديث حسن حدّثناه محمّد بن المثنّى انتهى.

فعزو المصنّف الحديث للطبراني وحده لا يرتضيه المحدّثون فضلاً عمّن يدّعي الإجتهاد »(١) .

وقال: « إنّ الله ليؤيّد، يقوّي وينصر، من الأيد وهو القوة، كأنّه يأخذ معه بيده في الشّيء الّذي يقوى فيه، وذكر اليد مبالغة في تحقّق الوقوع الإسلام برجال ما هم من أهله، أي من أهل الدّين لكونهم كفّاراً أو منافقين أو فجّاراً، على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل، يكون سبباً لكفّ القوي عن الضّعيف، إبقاءً لهذا الوجود على هذا النظام على الحد الّذي حدّه.

وهذا يحتمل أنّه أراد به رجالاً في زمنه، ويحتمل أنّه أخبر بما سيكون، فيكون من معجزاته، فإنّه إخبار عن غيب وقع.

والأوّل هو الملائم للسّبب الآتي، وقد يقال الأقرب الثّاني، لأنّ العبرة بعموم اللّفظ.

طب عن عمرو بن العاص، قال الهيثمي وفيه: عبدالرّحمان بن زياد بن

____________________

(١). فيض القدير - شرح الجامع الصغير ٢ / ٢٥٩.

٣٧٠

أنعم، هو ضعيف بغير كذب فيه »(١) .

وقال الصالحي: « قال محمّد بن عمر: ذكر للنّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلاً كان بحنين قاتل قتالاً شديداً حتّى اشتدّت به الجراح، فقال: إنّه من أهل النّار، فارتاب بعض النّاس من ذلك، ووقع في بعضهم ما الله تعالى به أعلم، فلمـّا آذته جراحته أخذ مشقصاً من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله صلّى الله عليه بلالاً نادى: ألا لا يدخل الجنّة إلّا مؤمن، إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر »(٢) .

وقال ابن حزم في ( المحلّى ): « وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّه ينصر هذا الدّين بقوم لا خلاق لهم، كما أنا عبدالله بن ربيع، نا محمّد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرني عمران بن بكار بن راشد أبو اليمان، أخبرنا شعيب هو ابن أبي حمزة، عن الزّهري، أخبرني سعيد بن المسيّب أنّ أبا هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر.

ونا عبدالله بن ربيع، نا محمّد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمّد بن سهل بن عسكر، نا عبدالرزّاق، أخبرنا رباح بن زيد، عن معمر بن راشد، عن أيّوب السّختياني، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الله ليؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم ».

وقال الغزالي: « فإن قلت: في الرّخصة في المناظرة فائدة، وهي ترغيب النّاس في طلب العلم، إذ لولا حبّ الرّياسة لا ندرس العلم، فقد صدقت فيما ذكرته من وجه، ولكنّه غير مفيد، إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللّعب بالعصافير ما رغب الصّبيان في المكتب، وذلك لا يدلّ على أن الرغبة فيه

____________________

(١). فيض القدير - شرح الجامع الصغير ٢ / ٢٥٩.

(٢). سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٥ / ٣٣٣.

٣٧١

محمودة، ولولا حُبّ الرياسة لا ندرس العلم لا يدلّ ذلك على أنّ طالب الرّياسة ناج من الفتن، بل هو من الّذين قال فيهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الدّين بأقوام لا خلاق لهم، قال صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله تعالى يؤيّد هذا الديّن بالرّجل الفاجر.

فطالب الرياسة في نفسه هالك، وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدّنيا، وذلك فيمن كان حاله في ظاهر الأمر حال علماء السّلف، ولكنّه يضمر قصد الجاه، ومثاله مثال الشّمع الّذي يحترق في نفسه ويستضئ به غيره، فصلاح غيره في هلاكه، وأمّا إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النّار المحرقة تأكل نفسها وغيرها.

فالعلماء ثلاثة، إمّا مهلك نفسه وغيره، وهم المصرّحون بطلب الدّنيا والمقبلون عليها، وإمّا مسعد نفسه وغيره، وهم الدَّاعون إلى الله عزّوجلّ المعرضون عن الدّنيا ظاهراً وباطناً، وإمّا مهلك نفسه ومسعد غيره، وهو الّذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدّنيا في ظاهره وقصده في البواطن إقبال الخلق وإقامة الجاه الخ »(١) .

بل لقد زعم ( الدهلوي ) في كتاب ( التحفة ) أنّ مجرَّد وقوع الفتح في خيبر على يد عليعليه‌السلام ، لا يوجب له فضيلةً وعظمة(٢) .

فإذا كان فتح خيبر لا يوجب فضيلةً لعلي، فهل يكون في فتح الشام في عصر الشيخين فضيلة لهما؟

وقال الواقدي:

« لقد بلغني أنّ أبا بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه كان يخرج كلّ يوم إلى ظاهر

____________________

(١). إحياء العلوم ٤ / ٤٣٣.

(٢). التحفة الإثنا عشرية: ٢١٦.

٣٧٢

المدينة يتجسّس الأخبار، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه عبدالرّحمان بن حميد الجمحي، فلمـّا أشرف عليهم تسابقت إليه الصّحابة وقالوا: من أين؟ فقال: من الشّام، فبشّروا الصدّيق بذلك، وأنّ الله قد نصر المسلمين، فسجد لله شكراً، فأقبل عبدالرّحمان وقال: السّلام عليك يا خليفة رسول الله، إرفع رأسك فقد أقرّ الله عينك بالمسلمين، فرفع أبو بكررضي‌الله‌عنه رأسه وسلّم إليه الكتاب، وكان بخط أبي عبيدةرضي‌الله‌عنه ، فقرأ أبو بكر الكتاب سرّاً، فلمـّا فهم ما فيه قرأه على النّاس جهراً، وتزاحم النّاس وشاع الخبر في المدينة. قال: فأتى النّاس يهرعون إلى باب المسجد، فقرأه أبو بكررضي‌الله‌عنه ثالثةً.

قال: وتسامع النّاس من أهل المدينة بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من الأموال، فتبايعوا للخروج رغبة في الثّواب وسكنى الشام.

وبلغت الأخبار إلى أهل مكّة، فأقبل المدينة من أهل مكّة عظماؤهم وأكابرهم بالخيل والحديد والبأس الشّديد، على أوائلهم أبو سفيان صخر بن حرب، والعيداق بن هاشم، ونظراؤهم، فأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام، ذكّره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشّام وقال لأبي بكر: إنّ هؤلاء القوم لنا في قلوبهم طرائد وحقائد، والحمد لله الّذي كانت كلمة الله هي العليا وكلمتهم هي السّفلى، وهم على كفر، وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره، ونحن نقول إذ ذاك: ليس مع الله آلهة اُخرى، وهم يقولون إنّ معه آلهة اُخرى، فلمـّا أن أعزّ الله ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً للسّيف، ولمـّا سمعوا أنّ جند الله قد نصروا على الرّوم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء، ليقاسموا السابقين المهاجرين والأنصار، والصّواب أن لا ننفذهم. فقال أبو بكررضي‌الله‌عنه : إنّي لا اُخالف لك قولاً ولا أعصي لك أمراً.

قال: وبلغ أهل مكّة ما تكلّم به عمر، فأقبلوا بأجمعهم إلى أبي بكر

٣٧٣

الصدّيقرضي‌الله‌عنه إلى المسجد، فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين، وما أظهرهم على المشركين، وعليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه عن يمينه وعمر بن الخطّاب عن يساره، والنّاس حوله، فأقبلت قريش إلى أبي بكر الصديقرضي‌الله‌عنه ، فسلّموا عليه وجلسوا بين يديه، وتقاولوا من يكون أوّلهم كلاماً.

فكان أوّل من تكلّم أبو سفيان صخر بن حرب، أقبل على عمر بن الخطّاب وقال: يا عمر قد كنت لنا مبغضاً في الجاهليّة وقالياً وكنت تحدّ علينا ونحدّ عليك، فلمـّا هدانا الله إلى الإسلام هدم لك ما في قلوبنا، لأنّ الإيمان هدم الشرك والبغيضة والكياد، وأنت تعلم بعد اليوم تشنانا وتبغّضنا، ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النّسب؟ فما هذه العداوة منك إلينا يا بن الخطّاب قديماّ وحديثاّ؟ إمّا أن تغسل ما بقلبك لنا من الحقد والتباغض، وإنّا نعلم أنّك أفضل منّا وأسبق في الإيمان والجهاد، ونحن بذلك عارفون وله غير منكرين.

فسكت عمر بن الخطّاب واستحيى حتّى كلّله العرق ثمّ قال: وأيم الله ما أردت بقولي إلّا انفصال الشرّ وحقن الدّماء، لأنّ حميّة الجاهليّة في رؤوسكم وأنتم تطاولون في نسبتكم على من سبقكم في الإسلام. فقال أبو سفيان: أنا اُشهدكم واُشهد خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّي قد حبست نفسي في سبيل الله، وكذلك تكلّم سادات مكّة، فرضي الإمام عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه ، وقال أبو بكر: اللّهمّ بلّغهم أفضل ما يؤمنون، وآجرهم بأحسن ما يعملون، وارزقهم النّصر على عدوّهم ولا تمكّنهم من نواصيهم »(١) .

فإذا كان خروج الصحابة من مكة إلى المدينة للإستيذان وذهابهم إلى

____________________

(١). فتوح الشام ١ / ٦١ مع اختلافٍ في بعض الأسامي والألفاظ.

٣٧٤

الجهاد، غير مقبول لدى عمر بن الخطاب، فكيف يكون جهودهم وفتحهم مقبولاً لدى الإمامية؟

هذا كلّه بالنسبة إلى جهاد الشيخين.

وأمّا دعوى قيامهما بترويج أحكام الشرع، وإصلاح اُمور الأمّة، فبغضّ النّظر عن إخراجه ثالثهما من البحث - كان الأحرى ( بالدهلوي ) أنْ لا يتطرّق إلى مثل هذا، لأنّ لازم هذا الكلام سلب ما ذكر عن عليعليه‌السلام ، وكلّ ذلك ينافي الواقع ويصادم الحقيقة، فإنّ رجوع الشيخين وبالأخص الثاني منهما - إلى عليعليه‌السلام في المعضلات، والمسائل المشكلة، ممّا اشتهر وأذعن به المخالفون، فكثيراً ما قال عمر بن الخطاب: « لولا علي لهلك عمر » وطالما قال: « قضيّة ولا أبا حسنٍ لها » ولقد شاع عنه وذاع قوله: « أعوذ بالله من معضلةٍ ليس لها أبو الحسن ».

هذا، على أنّ الشيعة الإمامية لا تعتقد بخلافتهما. وهذا يقتضي أنّ كلّما قام به الشيخان من جهادٍ وترويج وإصلاح، كما يدّعي ( الدهلوي )، كان تصرّفاً غير جائز لا يُستحقُّ المدحُ عليه.

قوله:

وظهر من الأمير ما يتعلّق بالأولياء، من تعليم الطريقة

أقول:

نقل ( الدهلوي ) هذا عن بعض الصوفيّة، إلّا أنّه زعم وجوده في الروايات، كي لا يرد عليه أنّه خالف والده الّذي فضّل الشيخين في ( قرّة العينين ) في تعليم الطريقة، والحثّ على المثل الخلقيّة الكريمة، وترهيب الناس عن الصّفات الرّديئة السيّئة.

٣٧٥

الإستدلال على وجود الملكات بالأفعال الصادرة عنها

قوله:

وفي حكم العقل أنّه يستدلُّ على وجود الملكات النفسانيّة بصدور الأفعال المختصة بتلك الملكات.

أقول:

هذا صحيح، فلننظر إلى الأفعال الصادرة عن الشيخين، لنهتدي بها إلى الملكات النفسانيّة الموجودة فيهما، فهل صدرت منهما أفعال الأنبياء كي يستدلّ على وجود الملكات النبوية فيهما؟ إن كان ( الدهلوي ) يدّعي ذلك فعليه الإثبات، ودونه خرط القتاد.

قوله:

فمثلاً: يستدل من ثبات الشخص في مختلف المعارك في مقابلة الأقران ووقع الرماح والسيوف على شجاعته النفسانيّة.

أقول:

نعم، ولكن قد علم الكلّ عدم ثبات الشيخين - والثالث - في المعارك والغزوات، وقد أصبح فرارهما من القضايا الضروريّة الّتي علم بها حتّى ربّات الخدور فضلاً عن الرجال، بل تضرب بفرارهما عن ميادين القتال الأمثال على مدى الأجيال

٣٧٦

قوله:

وكذلك الحال في الحب والبغض والخوف والرجاء وغيرهما

أقول:

نعم، لقد قاما بأعمال تكشف عن حقائق أحوالهما، ودلَّت قضاياهم مع أهل بيت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغضهما له ولهم، وحبّهما للجاه والرئاسة الدنيويّة

إلّا أنّ ما ذكره ( الدهلوي ) هنا يتنافى مع قوله في بعض المواضع الأخرى بأنّ العزم والنيّة من الاُمور القلبيّة، فلا يمكن لأحدٍ أنْ يطّلع على ذلك سوى الله عزّوجلّ

قال هذا في الجواب عن أحد مطاعن عمر بن الخطّاب ألا وهو جلبه للنار لإحراق باب دار فاطمة الزهراء سلام الله عليها فحمل ( الدهلوي ) فعلة عمر هذه على محض التّهديد، وأنّه لم يكن لينفّذ ما قاله

لكنّ الصحيح ما ذكره هنا، فإنّ النداء بالنار، وجمع الناس على باب الدّار، وغير ذلك من القرائن والآثار ينبىء عن عزمه الباطني وقصده الواقعي

قوله:

فمن هذا الطريق أيضاً يتوصل إلى الكمالات الباطنية في الأشخاص ليعرف أنّها من جنس كمالات الأنبياء أو من جنس كمالات الأولياء.

٣٧٧

أقول:

هذا أيضاً ينافي ما ذكره في مواضع عديدة، وهو الّذي أشرنا إليه قريباً.

الإستدلال بحديثٍ صحيح مع حمله على معنى باطل

قوله:

وقد دلَّ على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم

أقول:

دعوى دلالة هذا الحديث الشريف على التفريق بين من حمل الصفات النبوية الباطنية، ومن حمل الصفات الولويّة الباطنيّة، في غاية الوهن والسقوط، لوضوح دلالة الحديث على عكس هذه الدعوى، فإنّ مفاد هذا الحديث هو المساواة بين حرب النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحرب مولانا عليعليه‌السلام ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبّه حرب علي حربه، وقد تقدّم أنّ التشبيه يفيد المساواة.

فحاصل معنى الحديث هو: إنّه كما أنّ حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر، فكذلك حرب علي كفر، وكما أنّ النبيّ قاتل لإعلاء كلمة الله، فعلي كذلك قاتل لإعلاء كلمة الله، فمن حارب عليّاً فهو كافر كمن حارب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيكون الإمامعليه‌السلام حائزاً للكمالات النبويّة، وأنّه قام بما قام به النبيّ، فناسب أنْ يكون زمن خلافته قطعة من زمن نبوة النبي.

٣٧٨

ولقد اعترف رشيد الدين الدهلوي في ( الإيضاح ) بأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إنّما خاض الحروب، وقاتل أشدّ القتال، لإعلاء كلمة الله ودينه، وفي سبيل الله سبحانه وتعالى.

قوله:

لأنّ مقاتلات الشيخين كانت كلّها على تنزيل القرآن

أقول:

ثبّت العرش ثمّ انقش

فإنّ كون مقاتلات الشيخين على تنزيل القرآن فرع لوقوعها منهما، وقد علم الكلّ من غير خلاف بأنّه لم يكن منهما على عصر النبي إلّا الهزيمة والفرار، وأمّا بعده، فلم يرو حضور أحدٍ منهما - وكذا ثالثهما - حرباً من الحروب، ولا شهدا واقعةً من الوقائع، فضلاً عن الجهاد والقتال.

وإذا كان مجرّد الإعداد، وحثّ الناس على الجهاد جهاداً ومقاتلةً ونصرة للدين، وترويجاً للإسلام فقد مرَّ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الله لينصر هذا الدين ولو بالرجل الكافر.

ولقد بُين في محلّه من هذه الموسوعة، أنّ قتال الخلفاء - على فرض ثبوته ووقوعه - لم يكن لا على التنزيل ولا على التأويل، وذلك لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه النسائي والحاكم وغيرهما:

« إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله.

فقال أبو بكر: هو أنا يا رسول الله؟

قال صلّى الله عليه وسلّم: لا.

٣٧٩

فقال عمر: هو أنا يا رسول الله؟

فقال: لا.

ولكنْ خاصف النعل »(١) .

فلو كان قتالهما - على فرض كونه - على تنزيل القرآن أو تأويله، لما قال في جوابهما: لا.

إنّ المقاتلة على التأويل - كما قاتل هو على التنزيل - مختصّة بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، الّذي كان يخصف نعل النبيّ في ذلك الوقت، مع أنّهعليه‌السلام لم يسأل النبيّ كما سألاه.

قوله:

فكأنّ عهدهما من بقية زمان النبوّة.

أقول:

هذا تنزّل من ( الدهلوي ) عما ادّعاه من كون الشيخين حاملين لصفات النبوّة، وإن لم يرد التنزّل عن ذلك بقوله « فكأنّما »، بل أراد المساواة، فقد سبق منه إنكار فهم المساواة من التشبيه.

ولقد كان الأحرى ( بالدهلوي ) أنْ يثبت أوّلاً: وقوع مقاتلات من الشيخين على تنزيل القرآن، وبرضىً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يقول: إنّ زمان الشيخين امتداد لزمان النبي.

ولو كان مجرّد وقوع الفتح في عصر أحدٍ دليلاً لأنّ يكون زمانه امتداداً لزمان النبيّ وعصر النبوّة، كان اللازم أن يكون زمن معاوية ويزيد، ومن بعدهما

____________________

(١). الخصائص: ١٣١، المستدرك ٣ / ١٣٢، مسند أحمد ٣ / ٣٣، مصادر أخرى كثيرة.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449