تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118798 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بحقّها ويكون تابعاً مخلصاً لها.

فعلم الفقه - إذن - هو : العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كلِّ واقعة، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده هو ( السلوك الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقّها )، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبِّر عنه ب-( عملية استنباط الحكم الشرعي ) .ولأجل هذا يمكن القول بأنّ علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط بتعبيرٍ آخر.

وتحديد الموقف العملي بدليلٍ يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف يتمّ في علم الفقه بأسلوبين:

أحدهما : الأسلوب غير المباشر، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذي قرّرته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي، وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة.فنحن إذا أقمنا الدليل على أنّ الحكم الشرعي في واقعةٍ مّا هو الوجوب استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتِّم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها، وهو ( أن نفعل ).

والأسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو : الأسلوب المباشر الذي يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي ؛ لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الأسلوب الأوّل - بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرةً، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك، فلم ندرِ ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة ؟ أهو وجوب أو حرمة أو إباحة ؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الأسلوب الأوّل ؛ لعدم توفّر الدليل على نوع الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى

٢١

أدلّةٍ تحدّد الموقف العملي بصورةٍ مباشرةٍ وتوجّهنا كيف نفعل ونتصرّف في هذه الحالة ؟ وأيّ موقفٍ عمليٍّ نتّخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكّن من اكتشافه ؟ وما هو السلوك الذي تحتّم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحقّ التبعية ونكون تابعين مخلصين وغير مقصِّرين ؟

وفي كِلا الأسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي، أي يحدّد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورةٍ غير مباشرةٍ أو مباشرة.

ويتّسع علم الفقه لعمليات استنباطٍ كثيرةٍ بقدر الوقائع والأحداث التي تزخر بها حياة الإنسان، فكلّ واقعةٍ لها عملية استنباطٍ لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الأسلوبين المتقدِّمين.

وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعدّدها وتنوّعها تشترك في عناصر موحّدةٍ وقواعد عامةٍ تدخل فيها على تعدّدها وتنوّعها، ويتشكّل من مجموع تلك العناصر المشتركة الأساس العام لعملية الاستنباط.

وقد تطلّبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علمٍ خاصٍّ بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الأصول.

تعريف علم الأصول :

وعلى هذا الأساس نرى أن يُعرَّف علم الأصول بأنّه :( العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ) .ولكي نستوعب هذا التعريف بفهمٍ يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ؟

ولنذكر لأجل ذلك نماذج بدائيةً من هذه العملية في صيغٍ مختصرة ؛ لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة

٢٢

في عملية الاستنباط.

أفرضوا أنّ فقيهاً واجه هذه الأسئلة :

١ - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء ؟

٢ - هل يجب على الشخص إذا ورث مالاً من أبيه أن يؤدّي خمسه ؟

٣ - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها ؟

وأراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة فإنّه سوف يجيب على السؤال الأول مثلاً : ( نعم، يحرم الارتماس على الصائم ).

ويستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية : قد دلّت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادقعليه‌السلام على حرمة الارتماس على الصائم، قد جاء فيها : أنّ الصادقعليه‌السلام قال : (لا يرتمس المحرِم في الماء ولا الصائم )(١) .والجملة بهذا التركيب تدلّ في العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورةٍ عامةٍ - على الحرمة، وراوي النصّ يعقوب بن شعيب ثقة، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً، ولكنّ الشارع أمرنا بعدم اتّهام الثقة بالخطأ والشذوذ، واعتبر روايته دليلاً وأمرنا باتّباعها، دون أن نُعِير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالاً.

والنتيجة هي : أنّ الارتماس حرام على الصائم، والمكلَّف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة.

ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي : لا يجب على الولد أن يدفع الخمسَ من تَرِكة أبيه ؛ لأنّ رواية علي بن مهزيار التي حدّد فيها الإمام الصادقعليه‌السلام نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها ذكرت : أنّ الخمس ثابت في ( الميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن )(٢) .والعرف العامّ يفهم من

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٥٠٩، الباب ٥٨ من أبواب تروك الإحرام، الحديث ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٢، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث ٥.

٢٣

هذه الجملة أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه، والراوي وإن كان من المحتمل وقوعه في خطأٍ أو شذوذٍ بالرغم من وثاقته، ولكنّ الشارع أمرنا باتّباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخطأ والشذوذ، فالمكلّف إذن غير ملزمٍ بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه.

ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب : ( القهقهة تبطل الصلاة ) ؛ بدليل رواية زُرارة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة )(١) .والعرف العام يفهم من النقض أنّ الصلاة إذا وقعت فيها القهقهة اعتبرت لغواً ووجب استئنافها، وهذا يعني بطلانها.ورواية زُرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتّباعها وجعلها أدلّةً كاشفة، فيتحتّم على المصلِّي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته ؛ لأنّ ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلّبه الشريعة منه.

وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ شتّى، فالحكم الأول يرتبط بالصوم والصائم، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الإسلام، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدّد بعض حدودها.

كما نرى أيضاً أنّ الأدلّة التي استند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زُرارة.ولكلٍّ من الروايات الثلاث نصّها وتركيبها اللفظي الخاصّ الذي يجب أن يدرس بدقّةٍ

____________________

(١) وسائل الشيعة ٧ : ٢٥٠، الباب ٧ من أبواب قواطع الصلاة، الحديث الأوّل.

٢٤

ويحدّد معناه، ولكن توجد في مقابل هذا التنوّع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعاً.

فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النصّ(١) ، فإنّ الفقيه اعتمد في فهمه للنصّ في كلّ موقفٍ على طريقة فهم العرف العام للنصّ، وذلك يعني أنّ العرف العام حجّة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ.وهذا ما يطلق عليه في علم الأصول اسم :( حجية الظهور ) (٢) ، فحجّية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث.

وكذلك أيضاً يوجد عنصر مشترك آخر، وهو أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ؛ لأنّ الفقيه في كلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصّاً يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ والشذوذ ؛ لعدم كونه معصوماً، ولكنّه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه استناداً إلى أمر الشارع باتّباع روايات الثقات، وهو ما نطلق عليه اسم : ( حجّية الخبر ).ومعنى هذا أنّ حجّية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، ولولا هذا العنصر المشترك لَما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأوّل، ولا عدم وجوب الخمس من رواية عليّ بن مهزيار في الموقف الثاني، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.

____________________

(١) نريد بالنصّ هنا : الكلام المنقول عن المعصومعليه‌السلام ( المؤلّف قدس‌سره ).

(٢) الحجّية في مصطلح علم الأصول تعني : كون الدليل صالحاً لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، ولاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخلّص من العقاب إذا عمل به.فكلّ دليلٍ له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجّةً في المصطلح الأصولي، وظهور كلام المولى من هذا القبيل، ولهذا يوصف بالحجّية( المؤلّف قدس‌سره ) .

٢٥

وهكذا نستنتج : أنّ عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصّة، كما تشتمل على عناصر مشتركة، ونعني بالعناصر الخاصّة : تلك العناصر التي تتغيّر من مسألةٍ إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاصّ في عملية استنباط حرمة الارتماس ؛ لأنّها لم تدخل في عمليات الاستنباط الأخرى، بل دخل بدلاً عنها عناصر خاصّة أخرى، كرواية عليّ بن مهزيار ورواية زُرارة.

ونعني بالعناصر المشتركة : القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكامٍ عديدةٍ على مواضيع مختلفة، كعنصر حجّية الظهور، وعنصر حجّية الخبر.

وفي علم الأصول تُدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألةٍ فقهيةٍ خاصّةٍ بالذات.وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة بكلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط في المسألة التى ترتبط بتلك العملية.

وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألةٍ أن يفحص بدقّةٍ الروايات الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات، ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام.بينما يتناول الأصولي البحث عن حجّية العرف العام بالذات والبحث عن حجّية الخبر، ويطرح أسئلة ليجيب عليها، من هذا القبيل : هل العرف العام حجّة ؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام ؟ وبأيِّ دليلٍ نثبت حجّية الخبر ؟ وما هي الشروط العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجّية واعتبره دليلاً ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتّصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الأصول، إذ

٢٦

قلنا : إنّ علم الأصول :( هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط ) ، أي أنّه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباطٍ متعدّدةٍ لأحكام مواضيع متنوعة، كحجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر، العنصرين المشتركين اللذَين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة.

ولا يحدّد علم الأصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدّد أيضاً درجات استعمالها في عملية الاستنباط، والعلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث المقبلة - إن شاء الله تعالى -، وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العامّ الكامل.

ونستخلص من ذلك : أنّ علم الأصول وعلم الفقه مرتبطان معاً باستنباط الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، وعلم الأصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصّة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدّها من علم الأصول.والأصولي يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.

موضوع علم الأصول :

لكلِّ علمٍ - عادةً - موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله، وتستهدف الكشف عمّا يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين، فالفيزياء - مثلاً - موضوعها الطبيعة، وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالتها وقوانينها العامة.والنحو موضوعه الكلمة ؛ لأنّه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها، فما هو موضوع علم الأصول الذي يتوفّر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله ؟

٢٧

ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدّمناه لعلم الأُصول استطعنا أن نعرف أنّ علم الأُصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه، وتتعلّق بحوثه كلّها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة، وعلى هذا الأساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الأصول باعتباره علماً يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية، من قبيل حجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر.

علم الأصول منطق الفقه :

ولا بدّ أنّ معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثالٍ لعلم الأصول، فإنّ علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي، ويحدّد النظام العام الذي يجب أن تتّبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليماً.مثلاً : يعلّمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكيرٍ لكي يكون الاستدلال صحيحاً ؟ كيف نستدلّ على أنّ سقراط فانٍ ؟ وكيف نستدلّ على أنّ نار الموقد الموضوع أمامي محرقة ؟ وكيف نستدلّ على أنّ مجموع زوايا المثلّث تساوي قائمتين ؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخطّ الممتدّ بدون نهايةٍ مستحيل ؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخسوف ينتج عن توسّط الأرض بين الشمس والقمر ؟

كلّ هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال، كالقياس والاستقراء التي تطبّق في مختلف هذه الحقول من المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقاً، إذ يضع المناهج والعناصر العامة فيها.

وعلم الأصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنّه يبحث عن نوعٍ خاصٍّ من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الأحكام ،

٢٨

ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط، وتتكيّف وفقاً لها لكي يكون الاستنباط سليماً والفقيه موفّقاً في استنتاجه.فهو يعلّمنا : كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم ؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكرّ ؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد ؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه ؟ كلّ هذا يوضّحه علم الأصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة.

وعلى هذا الأساس قد نطلق على علم الأصول اسم ( منطق علم الفقه ) ؛ لأنّه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دوراً إيجابياً مماثلاً للدور الإيجابي الذي يؤدّيه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورةٍ عامة، فهو على هذا الأساس( منطق علم الفقه ) ، أو ( منطق عملية الاستنباط) بتعبيرٍ آخر.

ونستخلص من ذلك كلّه : أنّ علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط، وعلم الأصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.

أهمّية علم الأصول في عملية الاستنباط :

ولسنا بعد ذلك بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمّية علم الأصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ؛ لأنّه ما دام يقدِّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجّهة، وبدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسانٍ يواجه أدوات النجارة

٢٩

ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدوات دون أن يملك أفكاراً عامةً عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.

وكما أنّ العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الأصول ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى أخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكِّل العناصر الخاصّة والمتغيّرة في علمية الاستنباط، فإنّها الجزء الضروريّ الآخر فيها الذي لا تتمّ العملية بدونه، ولا يكفي في إنجاحها مجرّد الاطّلاع على العناصر المشتركة التي يمثّلها علم الأصول واستيعابها.

ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطّلاع الأصولي فحسب نظير من يملك معلوماتٍ نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما إليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن صنع سريرٍ خشبيٍّ - مثلاً - فكذلك يعجز الأصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصر الخاصّة المتغيّرة.

وهكذا نعرف أنّ العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط، ولا غنى للعملية عنهما معاً، ولهذا يتحتّم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة ويحدّدها في علم الأصول، ثمّ يضيف إليها في بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة لتكتمل لدية عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.

الأصول والفقه يمثّلان النظرية والتطبيق :

ونخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصوّرٍ خاطئ حين قلنا : إنّ المستنبط يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحدّدها، ويتناول في بحوث علم

٣٠

الفقه العناصر الخاصّة ليكمل بذلك عملية الاستنباط ؛ إذ قد يَتصوّر البعض أنّا إذا درسنا في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعرفنا - مثلاً - حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي وما إليهما من العناصر الأصولية، فلا يبقى علينا بعد ذلك أيّ جهدٍ علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلاّ إلى مجرّد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها، نظير مَن يستخرج تأريخ غزوة خبير أو روايات الهجرة من تأريخ السيرة النبوية، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصراً على مجرّد التفتيش عن العناصر الخاصّة من الروايات والنصوص ؛ لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهدٍ علمي، ونتيجة ذلك أنّ الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثّل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الأصول، لا في جمع العناصر الخاصّة من النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه.

ولكنّ هذا التصوّر خاطئ إلى درجةٍ كبيرة ؛ لأنّ المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحدّدها في علم الأصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصّة.والتطبيق مهمّة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درسٍ وتمحيص، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصولياً في دراسة العناصر المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق.

ولا نستطيع الآن أن نضرب الأمثلة المتنوّعة لتوضيح دقّة التطبيق ؛ لأنّ فهم الأمثلة يتوقّف على اطّلاعٍ مسبقٍ على النظريات الأصولية العامة.ولهذا نكتفي بمثالٍ واحدٍ بسيط، فنفرض أنّ المجتهد آمن في علم الأصول بحجّية الظهور

٣١

العرفي بوصفه عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع إصبعه على رواية عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس - مثلاً -، ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب ؟ أَوَ ليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأماراتٍ داخل إطار النصّ أو خارجه ؛ لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي ؟!

فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك والإيمان بحجّية الظهور مشكلة تعيين نوع الظهور في النصّ ودراسة جميع ملابساته، حتّى إذا تأكّد المجتهد من تعيين الظهور في النصّ ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث طبّق على النصّ النظرية العامة التي يقرّرها العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي، واستنتج من ذلك أنّ الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس.

وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهي عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقرّرها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وتطبيق النظريات العامة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته، ومجرّد الدقّة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها.ألا ترون أنّ مَن يدرس بعمقٍ النظريات العامة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مَرَضيةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه ؟!

فالبحث الأصولي عن العناصر المشتركة وما تقرّره من نظرياتٍ عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطبّ، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصّة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض

٣٢

في مجال تطبيق النظريات العامة في الطبّ عليه، وكما قد يحتاج الطبيب إلى قدرٍ كبيرٍ من الدقّة والجهد لكي يوفَّق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقاً صحيحاً يمكِّنه من شفائه، فكذلك الفقه بعد أن يخرج من دراسة علم الأصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه مسألةً في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما فهو يحتاج أيضاً إلى دقّةٍ وتفكيرٍ في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصّة بالمسألة تطبيقاً صحيحاً.

وهكذا نعرف أنّ علم الأصول الذي يمثّل العناصر المشتركة هو( علم النظريات العامة ) ، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصّة هو( علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصّة ) ، ولكلٍّ منهما دقّته وجهده العلمي الخاصّ.

واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصّة، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، والدقّة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقّة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.

وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمّية التطبيق الفقهي وما يتطلّبه من دقّة، إذ كتب في قواعده يقول : ( نعم، يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات العامة - أن تكون له قوة يتمكّن بها من ردِّ الفروع إلى أصولها واستنباطها منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب...وإنّما تلك القوّة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخلٌ عظيم في تحصيلها )(١) .

____________________

(١) هذه العبارة جاءت نصّاً في الروضة البهيّة ٣ : ٦٦، ولم نعثر عليها في كتابيه فوائد القواعد وتمهيد القواعد.

٣٣

التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي :

عرفنا أنّ علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، والعلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق ؛ لأنّ علم الأصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى أخرى.

وهذا الترابط الوثيق بين علم الأصول وعلم الفقه يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الأصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحيةٍ أخرى ؛ لأنّ توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامة لحلولها.كما أنّ دقّة البحث في النظريات تنعكس على صعيد التطبيق، إذ كلّما كانت النظريات أدقَّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقةً وعمقاً واستيعاباً أكبر.

وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيّتين والمستويين الفكريّين لعلم الأصول وعلم الفقه يؤكّده تأريخ العِلمين على طول الخطّ، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مرّ بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تأريخ العلم.فقد كان علم الأصول يتّسع ويُثري تدريجاً تبعاً لتوسّع البحث الفقهي ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة، وتتّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.

كما أنّ تدقيق العناصر المشتركة في علم الأصول وتحديد حدودها بشكلٍ صارمٍ كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلّما كانت النظريات العامة موضوعةً

٣٤

في صيغٍ أكثر صرامةً وبدقّةٍ أكبر، كانت أكثر غموضاً وتطلّبت في مجال التطبيق التفاتاً أكبر وانتباهاً أكمل.

ولا نستطيع الآن - ونحن في الحلقة الأولى - أن نقدِّم النماذج من العِلمين على هذا التفاعل ؛ لأنّ الطالب لا يملك حتّى الآن خبرةً واسعةً ببحوث علم الأصول، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أنّ التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الأصولي هو مصداق لخطٍّ عريضٍ يعبِّر عن التفاعل المتبادل في كثيرٍ من الأحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها.

أَوَ ليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مَرضاهُ في نطاقٍ واسعٍ يوحي إليه بمشاكل جديدةٍ باستمرار، فيتولّى بحث النظريات العامة العلمية في الطبّ حلّ تلك المشاكل، ويتعمّق تدريجاً وينعكس بالتالي على التطبيق ؟! إذ كلّما ازداد الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملاً واسعاً.وكلّنا نعلم أنّ طبيب الأمس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات، بينما يظلّ طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عمليةٍ معقّدةٍ واسعةِ النطاق.

ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الأصولي - الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه - نجدها بين الفكر العلمي إطلاقاً والفكر المنطقي العام الذي يدرس النظام الأساسي للتفكير البشري، إذ كلّما اتّسع نطاق المعرفة البشرية وتنوّعت مجالاتها تجدّدت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر، فيتولّى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري.

وعلى أيِّ حالٍ فإنّ فكرة التفاعل هذه - سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاصّ المتمثّل في الأصول، أو بين العلوم كلّها ومنطقها العام، أو بين بحث أيِّ

٣٥

نظريةٍ وبحث تطبيقها - تحتاج إلى توضيحٍ وشرحٍ أوسع.ولا نستهدف الآن من الإشارة إلى الفكرة إلاّ أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الإجمال.

نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم الأصول :

ويحسن بنا أن نقدِّم قائمةً تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الأصول ؛ لنجسِّد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرةً ببحوث هذا العلم أهمّية الدور الذي يلعبه علم الأصول في عملية الاستنباط :

١ - ما هو الدليل على حجّية خبر الثقة ؟

٢ - لماذا يجب أن نفسِّر النصّ الشرعي على ضوء العرف العام ؟

٣ - ماذا نصنع في مسألةٍ إذا لم نجد فيها دليلاً يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها ؟

٤ - ما هي قيمة الأكثرية في المسألة الفقهية ؟ وهل يكتسب الرأي طابعاً شرعياً ملزماً بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عدداً ؟

٥ - كيف نتصرّف إذا واجهنا نصَّين لا يتّفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر ؟

٦ - ما هو الموقف إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ شرعيٍّ معيَّنٍ ثمّ شككنا في استمراره ؟

٧ - ما هي الألفاط التي تدلّ مباشرةً على الوجوب والإلزام ؟ وهل يعتبر منها فعل الأمر، من قبيل : ( اغتسل )، ( توضّأ )، ( صلِّ ) ؟

إلى عشراتٍ من الأسئلة التي يتولّى علم الأصول الجواب عليها، ويحدّد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويملأ كلّ الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.

٣٦

جواز عمليّة الاستنباط

في ضوء ما تقدّم عرفنا أنّ علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط ؛ لأنّه يشتمل على عناصرها المشتركة، ويمدّها بقواعدها العامة ونظامها الشامل، ولهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الأصول.

وما دام علم الأصول مرتبطاً بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كلّ شئٍ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها، أوْ لا ؟ فإن كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم ( علم الأصول ) لدارسة عناصرها المشتركة، وأمّا إذا كان الشارع قد حرّمها فيلغو الاستنباط، وبالتالي يلغو علم الأصول رأساً ؛ لأنّ هذا العلم إنّما وُضِع للتمكين من الاستنباط، فحيث لا استنباط لا توجد حاجة إلى علم الأصول ؛ لأنّه يفقد بذلك مبرّرات وجوده، فلا بدّ - إذن - أن تُدرس هذه النقطة بصورةٍ أساسية.

والحقيقة : أنّ هذه النقطة - أي مسألة جواز الاستنباط - حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنّها جديرة بالتأمّل والبحث العلمي ؛ لأنّنا حين نتساءل : هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط، أوْ لا ؟ يجيء الجواب على البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط هي - كما عرفنا سابقاً - عبارة عن ( تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً

٣٧

استدلالياً )، ومن البديهي أنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العملي تحديداً استدلالياً، ويحجر عليهم النظر في الأدلّة التي تحدّد موقفهم تجاه الشريعة، فعلمية الاستنباط إذن ليست جائزةٍ فحسب، بل من الضروري أن تمارس.وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.

ولكن لسوء الحظ اتّفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغةً أخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش، فأصبحت مثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش، فقد استخدمت كلمة( الاجتهاد) للتعبير عن عملية الاستنباط، وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة، أوْ لا ؟ وحينما دخلت كلمة( الاجتهاد ) في السؤال - وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها - أدّت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن تقدَّم جماعة من علمائنا المحدثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، وبالتالي ليشجبوا علم الأصول كلّه ؛ لأنه إنّما يراد لأجل الاجتهاد، فإذا ألغي الاجتهاد لم تعدْ حاجة إلى علم الأصول.

وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة( الاجتهاد ) ؛ لكي نتبيّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي أثيرت ضدّها لم يكن إلاّ نتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي، وغفلة عن التطوّرات التي مرّت بها كلمة( الاجتهاد ) في تأريخ العلم.

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو ( بذل الوسع للقيام بعملٍ ما )، وقد استعملت هذه الكلمة - لأوّل مرّة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قرّرتها بعض مدراس الفقه السنّي وسارت على أساسها، وهي القاعدة القائلة : ( إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدلّ

٣٨

عليه في الكتاب أو السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ ).

والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضاً.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما أنّ الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدل بهما، كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى الاجتهاد الشخصي ويستدلّ به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضةٍ شديدةٍ منّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم، كما سنرى في البحث المقبل.

وتَتَبُّع كلمة( الاجتهاد ) يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة إلى القرن السابع، فالروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تذمّ الاجتهاد(١) ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتّخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة( الاجتهاد ) غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً أسماه ( الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس ) وصنّف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني(٢) كتاباً في الموضوع باسم كتاب ( الردّ على من ردَّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول )(٣) ، وصنّف، في عصر

____________________

(١) راجع : وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) في المصدر : ( الدُّلفي ) بدلاً عن ( المدني ).

(٣) في المصدر : ( واعتمد نتائج العقول ) بدون كلمة ( على ).

٣٩

الغيبة الصغرى أو قريباً منه، إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نصّ على ذلك كلّه النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كلّ واحدٍ من هؤلاء(١) .

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له - على سبيل المثال - تعقيبه في كتابه على قصّة موسى والخضر، إذ كتب يقول : ( إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ،... فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم من الأُمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك...فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الأمّة لاختيار الإمام ؟ وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ؟ )(٢) .

وفي أواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبّر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر، ويكتب كتاباً في ذلك باسم ( النقص على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي )(٣) .

ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ويقول : ( إنّ الاجتهاد باطل، وإنّ الإمامية لا يجور عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد )(٤) .وكتب في كتابه الفقهي

____________________-

(١) رجال النجاشي : ٣١، الرقم ٦٨ و ٢٢٠ الرقم ٥٧٥ و ٤٤٠ الرقم ١١٨٦.

(٢) علل الشرائع : ٦٢، الباب ٥٤، ذيل الحديث ١ و ٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٣) ذكره النجاشي في رجاله : ٤٠٢، الرقم ١٠٦٧.

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٣٦ و ٦٤٦، ولم نقف على العبارة نصّاً، ونسب صدر هذه العبارة المحقّق الإصفهاني في هداية المسترشدين ( ص ٤٨٢، س ٨ ) إلى السيد المرتضىقدس‌سره .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إذا كان بعوضٍ سُمّي بيعاً ، وإن خلا عن العوض سُمّي هبةً.

ولو ادّعى على رجلٍ بيتاً ، فصالحه على بعضه أو على بناء غرفةٍ فوقَه أو على أن يُسكنه سنةً ، صحّ عندنا - خلافاً للحنابلة(١) - للأصل.

احتجّوا بأنّه يصالحه عن ملكه ببعضه أو منفعته(٢) .

ونمنع عدم جوازه.

ولو صالحه بخدمة عبده سنةً ، صحّ عندنا وعندهم(٣) .

فإن باع العبد في السنة ، صحّ البيع ، ويكون للمشتري مسلوبَ المنفعة بقيّة السنة ، وللمُصالح منفعته إلى انقضاء السنة.

ولو لم يعلم المشتري بذلك ، كان له الفسخ ؛ لأنّه عيبٌ.

وإن أعتق العبدَ في أثناء المدّة ، صحّ العتق ؛ لأنّه مملوكه يصحّ بيعه فيصحّ عتقه ، وللمُصالح استيفاء منفعته في المدّة ؛ لأنّه أعتقه بعد أن مَلَك منفعته ، فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوّجة بحُرٍّ.

ولا يرجع العبد على سيّده بشي‌ءٍ ؛ لأنّه ما زال ملكه بالعتق إلّا عن الرقبة ، فالمنافع حينئذٍ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلا يرجع بشي‌ءٍ.

ولو أعتق مسلوبَ المنفعة - كمقطوع اليدين ، أو الأمة المزوّجة - لم يرجع عليه بشي‌ءٍ.

وقال الشافعي : يرجع على سيّده بأُجرة مثله ؛ لأنّ العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعاً ، فلـمّا لم تحصل المنفعة للعبد هنا فكأنّه حالَ بينه وبين منفعته(٤) .

ونمنع اقتضاء العتق زوالَ الملك عن المنفعة ؛ لأنّ اقتضاءه إنّما يكون‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩ - ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦.

(٢) المغني ٥ : ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ٢٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٨.

١٢١

لو كانت المنفعة مملوكةً له ، أمّا إذا كانت مملوكةً لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجودٍ.

ولو ظهر أنّ العبد مستحَقٌّ ، تبيّن بطلان الصلح ؛ لفساد العوض ، ويرجع المدّعي فيما أقرّ له به.

ولو ظهر عيب في العبد تنقص به المنفعة ، فله ردّه وفسخ الصلح.

مسألة ١١٠٩ : إذا ادّعى زرعاً في يد رجلٍ ، فأقرّ له به ، ثمّ صالحه منه‌ على الوجه الذي يجوز بيع الزرع فيه ، صحّ ، وكذا لو صالحه على غير الوجه الذي يصحّ بيعه ؛ لأنّ الصلح عقدٌ مستقلّ بنفسه غير فرعٍ على البيع.

ولو كان الزرع في يد رجلين فأقرّ له أحدهما ثمّ صالحه عليه قبل اشتداد الحَبّ ، صحّ عندنا.

خلافاً للشافعي ؛ لأنّه إن صالحه عليه بشرط التبقية أو من غير شرط القطع لم يجز ، لأنّه لا يجوز بيعه كذلك - وقد قلنا : إنّ الصلح عقد قائم برأسه ، فلا يشترط فيه ما يشترط في البيع وغيره - ولو شرط القطع لم يجز ؛ لأنّه لا يمكنه قطع زرع الآخَر ، وقسمته لا تصحّ(١) .

ولو كان الزرع لواحدٍ فأقرّ به للمدّعي وصالحه عليه ، فإن شرط القطع صحّ الصلح عندنا وعند الشافعي(٢) .

وإن شرط التبقية ، صحّ الصلح عندنا ، خلافاً له(٣) .

ولو كانت الأرض للمُصالح ، كان له تبقية الزرع في أرضه.

ولو أطلق صحّ عندنا.

وقال الشافعي : إن كان المشتري(٤) لا يملك الأرض لم يصح ، وإن‌

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢٢٧ ، مختصر المزني : ١٠٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٦.

(٢ و ٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٥ - ٤١٦ ، البيان ٦ : ٢٥١.

(٤) كذا قوله : « المشتري ». والظاهر : « المُصالح ».

١٢٢

كان يملك الأرض فوجهان ، كما إذا باع الثمرة من صاحب النخل بغير شرط القطع(١) .

مسألة ١١١٠ : لو ادّعى رجل على غيره زرعاً في أرضه فأقرّ له بنصفه أو أنكر‌ - عندنا - ثمّ صالحه عن نصفه على نصف الأرض ، جاز عندنا ؛ عملاً بالأصل.

وقال الشافعي : لا يجوز ؛ لأنّ من شرط بيع الزرع قطعه ، ولا يمكن ذلك في المشاع(٢) .

ونحن نمنع من الاشتراط الذي ذكره ، وقد سبق(٣) .

ولو صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلّم إليه الأرض فارغةً ، صحّ ؛ لأنّ قطع جميع الزرع ثابت نصفه بحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض ، فأمكن القطع ، وأشبه مَن اشترى أرضاً وفيها زرع وشَرَط تفريغَ الأرض فإنّه يجوز ، كذا هنا.

وإن كان أقرّ له بجميع الزرع وصالحه من نصفه على نصف الأرض ليكون الأرض والزرع بينهما نصفين ، وشَرَط القطع ، فإن كان الزرع في الأرض بغير حقٍّ جاز الشرط ؛ لأنّ الزرع يجب قطعه بأجمعه ، وإن كان في الأرض بحقٍّ جاز أيضاً ؛ عملاً بالشرط ، وقد قالعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٤) ولأنّهما قد شرطا قطع كلّ الزرع وتسليم الأرض فارغةً ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : لا يجوز الشرط ؛ لأنّه لا يمكن قطع الجميع ، بخلاف ما إذا‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٦ ، البيان ٦ : ٢٥١ - ٢٥٢ ، و ٥ : ٢٣٧.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٤٨ ، البيان ٦ : ٢٥٢.

(٣) في ص ٣٦ ، ضمن المسألة ١٠٤٤.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٧٦ ، الهامش (٣)

١٢٣

شرط على بائع الزرع قطع الباقي ؛ لأنّ باقي الزرع ليس بمبيعٍ ، فلا يصحّ شرط قطعه في العقد ، ويخالف ما إذا أقرّ بنصف الزرع وصالحه على جميع الأرض ؛ لأنّه شرط تفريغ المبيع(١) .

والحقّ : الجواز ؛ لما تقدّم ، ولا يختصّ شرط القطع بالبيع.

مسألة ١١١١ : قد بيّنّا أنّه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار ، كان للجار عطفها وإزالتها عن ملكه.

فإن أمكن ذلك بغير إتلافٍ ولا قطعٍ من غير مشقّةٍ تلزمه ولا غرامة ، لم يجز إتلافها ، كما إذا أمكنه إخراج دابّة الغير من ملكه بغير إتلافٍ ، فإن أتلفها والحال هذه ضمنها.

وإن لم يمكن إزالتها إلّا بالإتلاف ، كان له ذلك ، ولا شي‌ء عليه ؛ لأنّه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه.

فإن صالحه على إقرارها بعوضٍ معلوم ، صحّ.

وللشافعيّة والحنابلة قولان(٢) .

ولا فرق بين أن يكون الغصن رطباً أو يابساً ؛ لأنّ الجهالة في المصالَح عنه لا تمنع الصحّة ؛ لكونها لا تمنع التسليم ، بخلاف العوض ، فإنّه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ، ولأنّ الحاجة تدعو إلى الصلح عنه لكون ذلك [ يكثر ](٣) في الأملاك المتجاورة ، وفي القطع إتلاف وضرر ، والزيادة المتجدّدة يعفى عنها ، كالسمن الحادث في المستأجر للركوب ، والمستأجر للغرفة يتجدّد له الأولاد.

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٤٨ ، البيان ٦ : ٢٥٢ - ٢٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٠٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٦ ، المغني ٥ : ٢٢ - ٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٤ - ٢٥.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني ٥ : ٢٢ ، والشرح الكبير ٥ : ٢٥.

١٢٤

وعند أحمد يصحّ الصلح في الرطب وإن زاد أو نقص ؛ لأنّ الجهالة في الـمُصالَح عنه لا تمنع الصحّة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل ؛ لدعاء الحاجة إليه ، وكونه لا يحتاج إلى تسليمه(١) .

ولو صالحه على إقرارها بجزءٍ معلوم من ثمرها أو كلّه ، لم يجز ، وبه قال الشافعي وأكثر العامّة(٢) - وعن أحمد روايتان(٣) - لأنّ العوض مجهول ، والثمرة مجهولة ، وجزؤها مجهول ، ومن شرط الصلح العلمُ بالعوض ، والمصالَح عليه أيضاً مجهول ؛ لتغيّره بالزيادة والنقصان ، كما تقدّم.

واحتجّ أحمد : بأنّه قد تدعو الحاجة إليه(٤) .

وقد عرفت بطلان التعليل بالحاجة.

نعم ، لو أباح كلٌّ منهما لصاحبه حقَّه ، جاز من غير لزومٍ ، بل لكلٍّ منهما الرجوعُ ، فيستبيح صاحب الشجرة إباحة الوضع على الجدار أو الهواء ، ويستبيح صاحب الدار ثمرة الشجرة ، كما لو قال كلٌّ منهما لصاحبه : أُسكن داري وأسكن دارك ، من غير تقدير مدّةٍ ولا ذكر شروط الإجارة.

وكذا حكم العروق إذا سرت إلى أرض الجار ، سواء أثّرت ضرراً ، كما في المصانع وطيّ الآبار وأساسات الحيطان ، أو [ منعت ](٥) من نبات شجرٍ لصاحب الأرض أو الزرع ، أو لم تؤثّر ضرراً ، فإنّ الحكم في قطعه والصلح عليه كالحكم في الزرع ، إلّا أنّ العروق لا ثمر لها.

وكذا لو زلق من أخشابه إلى ملك غيره ، فالحكم كما سبق.

مسألة ١١١٢ : قد بيّنّا أنّه يصحّ أن يصالحه عن المؤجَّل ببعضه حالّاً‌

____________________

(١ و ٣) المغني ٥ : ٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥.

(٢) المغني ٥ : ٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥ - ٢٦.

(٤) المغني ٥ : ٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « منع ». والظاهر ما أثبتناه.

١٢٥

- وبه قال ابن عباس والنخعي وابن سيرين والحسن البصري(١) - لأنّ التعجيل جائز ، والإسقاط وحده جائز ، فجاز الجمع بينهما ، كما لو فعل ذلك من غير مواطأة عليه.

وكرهه زيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيّب والقاسم وسالم والشعبي ، ومَنَعه أيضاً مالك وأحمد والشافعي والثوري وابن عيينة وهيثم وأبو حنيفة وإسحاق(٢) ، وقد تقدّم(٣) .

مسألة ١١١٣ : قد بيّنّا أنّه يصحّ الصلح عن المجهول دَيْناً كان أو عيناً.

خلافاً للشافعي ؛ حيث قال : لا يصحّ ؛ لأنّه بيع ، فلا يصحّ على المجهول(٤) .

ونمنع كونه بيعاً وكونه فرعَ بيعٍ ، وإنّما هو إبراء.

ولو سلّمنا كونه بيعاً ، فإنّه يصحّ في المجهول عند الحاجة ، كأساسات الحيطان وطيّ الآبار.

ولو أتلف رجل صبرةَ طعامٍ لا يعلم قدرها ، فقال صاحب الطعام لـمُتلفها : بعتك الطعام الذي في ذمّتك بهذا الدرهم أو بهذا الثوب ، لم يصح‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٤ - ٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥.

(٢) المغني ٥ : ٢٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥ ، المعونة ٢ : ١١٩٣ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٤٥٢ ، الوجيز ١ : ١٧٨ ، الوسيط ٤ : ٥١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٤٤ ، البيان ٦ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣١ ، منهاج الطالبين : ١٢٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٥٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٤٥ ، المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٣١ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٦٨ / ١٠١٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ١٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٩٧.

(٣) في ص ١٥ - ١٦ ، ذيل المسألة ١٠٢٧.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٨ - ٣٦٩ ، التنبيه : ١٠٣ - ١٠٤ ، البيان ٦ : ٢٢٥ ، المغني ٥ : ٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٣١٧ ، وقد تقدّم في ص ١٩ ، ذيل المسألة ١٠٢٩.

١٢٦

عندنا ؛ لأنّ شرط البيع معلوميّة العوضين.

وقال أحمد : يصحّ(١) .

وعلى قولنا وقوله لو صالحه به عليه صحّ ؛ لأنّ الجهل لا ينافي الصلح.

وإذا كان العوض في الصلح ممّا لا يحتاج إلى تسليمه ولا سبيل إلى معرفته ، كالمواريث الدارسة ، والحقوق التالفة ، والأراضي والأموال التي لا يعلمها أحد من المتخاصمين ولا يعرف قدر حقّه منها ، فإنّ الصلح فيها جائز عندنا وعند أحمد(٢) مع الجهالة من الجانبين ، وقد سبق(٣) .

وأمّا ما يمكنه معرفته - كتركةٍ موجودةٍ يعلمها الذي هي في يده ويجهلها الآخَر - فإنّه لا يصحّ الصلح عليه مع الجهل.

وكذا كلّ مَنْ له نصيب في ميراثٍ أو غيره يظنّ قلّته إذا صُولح عليه ، لا يصحّ مع علم الخصم الآخَر ؛ لأنّ الصلح إنّما جاز مع جهالتهما ؛ للحاجة إليه ، فإنّ إبراء الذمّة أمر مطلوب ، ولا طريق إليه إلّا الصلح.

مسألة ١١١٤ : يجوز الصلح عن كلّ ما يجوز أخذ العوض عنه‌ ، سواء كان ممّا يجوز بيعه أو لا يجوز ، فيصحّ عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع.

ومَنْ صالَح عمّا يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقلّ ، جاز ؛ لأنّ الحسن والحسينعليهما‌السلام وسعيد بن العاص بذلوا للّذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها(٤) .

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٦ - ٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩.

(٢) المغني ٥ : ٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩.

(٣) في ص ١٧ ، المسألة ١٠٢٩.

(٤) المغني ٥ : ٢٧ ، و ٩ : ٤٧٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٧.

١٢٧

وإن صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها ، جاز عندنا ، خلافاً لأحمد(١) .

وكذا لو أتلف عبداً أو غيره فصالَح على أكثر من قيمته أو أقلّ ، سواء كان من جنس القيمة أو من غير جنسها ، جاز عندنا ، وبه قال أبو حنيفة(٢) ، خلافاً للشافعي وأحمد(٣) .

مسألة ١١١٥ : قد بيّنّا أنّه إذا ظهر استحقاق أحد العوضين ، بطل الصلح‌ ، فلو صالحه على دارٍ أو عبدٍ بعوضٍ فوجد العوض مستحقّاً أو كان العبد حُرّاً ، فإنّه يرجع في الدار وما صالَح عن العبد إن كان موجوداً ، وإن كان تالفاً رجع بمثله إن كان مثليّاً ، وإلّا رجع بالقيمة.

ولو اشترى شيئاً فوجده معيباً فصالحه عن عيبه بعبدٍ فبانَ مستحقّاً أو حُرّاً ، رجع بأرش العيب.

ولو ظهر استحقاق المعيب ، رجع بالثمن والعبد معاً.

ولو كان البائع امرأةً فزوّجتْه نفسَها عوضاً عن أرش العيب فزال العيب ، لم يصحّ الصلح عندنا.

ويجوز عند أحمد ، فيرجع بأرشه ، لا بمهر المثل ؛ لأنّها رضيت بذلك مهراً لها(٤) .

ولو صالحه عن القصاص بحُرٍّ يعلمان حُرّيّته أو عبدٍ يعلمان أنّه مستحقّ ، أو تصالحا بذلك عن [ غير ](٥) القصاص ، رجع بالدية والأقربِ بالقصاص أو بما تصالح عنه ؛ لأنّ الصلح هنا باطل يعلمان بطلانه ، فكان‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥.

(٢) روضة القُضاة ٢ : ٧٧١ / ٥١٩٥ ، المغني ٥ : ٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥.

(٣) المغني ٥ : ٢٧ - ٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥ ، روضة القُضاة ٢ : ٧٧١ / ٥١٩٦ و ٥١٩٧.

(٤) المغني ٥ : ٢٩.

(٥) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني ٥ : ٢٩.

١٢٨

وجوده كالعدم.

ولو صالَح عن القصاص بعبدٍ فخرج مستحقّاً ، رجع بقيمة العبد ، وكذا إن خرج حُرّاً - ويحتمل قويّاً الرجوع إلى القصاص فيهما - وبه قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمّد(١) .

وقال أبو حنيفة : إن خرج مستحقّاً رجع بقيمته ، وإن خرج حُرّاً رجع بما صالَح عنه ، وهو الدية(٢) .

مسألة ١١١٦ : قد بيّنّا أنّه يجوز أن يصالحه على إجراء ماء المطر على سطحه مع العلم بالمشاهدة للسطح أو بالمساحة‌ ؛ لاختلاف الماء بكبر السطح وصغره.

وهل يفتقر إلى ذكر المدّة؟ مَنَع منه الحنابلة ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه(٣) .

ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة من غير تقديرٍ كما في النكاح.

ولا يملك صاحب الماء مجراه ؛ لأنّ هذا لا يستوفى به منافع المجرى دائماً ولا في أكثر المدّة ، بخلاف الساقية. وفيه نظر.

ولا يحتاج في إجراء الماء في الساقية إلى ما يُقدّر به ؛ لأنّ تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية ، فإنّه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مائها ، والماء الذي يجري على السطح يحتاج إلى معرفة مقدار السطح ؛ لأنّه يجري فيه القليل والكثير.

ولو كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجَراً أو عاريةً مع إنسانٍ ، لم يجز له أن يصالح على إجراء الماء عليه ؛ لأنّه يتضرّر بذلك ولم يؤذن له‌

____________________

(١ و ٢) المغني ٥ : ٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٧.

(٣) المغني ٥ : ٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢١.

١٢٩

فيه ، فلم يكن له أن يتصرّف(١) فيه.

وأمّا الساقية المحصورة فإن مَنَع المالك أو لم يعلم بالعرف إباحته ، فكذلك ، وإلّا جاز ؛ لأنّ الأرض لا تتضرّر به.

ولو كان ماء السطح يجري على الأرض ، جاز الصلح أيضاً على ذلك ، سواء احتاج إلى حفرٍ أو لا ؛ لأنّه بمنزلة إجراء الماء إلى ساقيةٍ. ويشترط المدّة المعيّنة.

ومَنَع أحمد - في إحدى الروايتين - منه(٢) .

مسألة ١١١٧ : لا يجوز للإنسان أن يجري الماء في أرض غيره‌ ، سواء اضطرّ إلى ذلك أو لا ، إلّا بإذنه - وهو إحدى الروايتين عن أحمد(٣) - لأنّه تصرّف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز ، كما لو لم تَدْعُ إليه ضرورة ، ولأنّ مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره ، كما أنّه لا يباح له الزرع في أرض الغير ولا البناء ولا الانتفاع بسائر وجوه الانتفاعات وإن احتاج إليها.

وفي الرواية الأُخرى عن أحمد : إنّه يجوز له إجراء الماء في أرض الغير عند الحاجة بأن تكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلّا أرض جاره ، فإنّه يجوز له إجراء الماء فيها وإن كره المالك ؛ لما روي أنّ الضحّاك ابن خليفة ساق خليجاً من العريض ، فأراد أن يجريه في أرض محمّد بن مسلمة فأبى ، فقال له الضحّاك : لِمَ تمنعني وهو منفعة لك تشربه أوّلاً وآخراً ولا يضرّك؟ فأبى محمّد ، فكلّم فيه الضحّاك عمر ، فدعا عمر محمّد بن مسلمة فأمره أن يخلّي سبيله ، فقال محمّد : لا والله ، فقال له عمر : لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشربه أوّلاً وآخراً؟ فقال محمّد : لا والله ، فقال‌

____________________

(١) في « ث ، خ ، ر » والطبعة الحجريّة : « له التصرّف » بدل « أن يتصرّف ».

(٢) المغني ٥ : ٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢.

(٣) المغني ٥ : ٣٠ - ٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢.

١٣٠

عمر : ليمرّن به ولو على بطنك ، فأمره عمر أن يمرّ به ، ففعل. رواه مالك في موطّئه ، وسعيد في سننه(١) .

وهو خطأ ؛ لتطابق العقل والنقل على قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه. وقول عمر وفعله ليس حجّةً فيما لا يخالف العقل والنقل ، فكيف فيما يخالفهما.

مسألة ١١١٨ : يصحّ الصلح عن كلّ ما يجوز أخذ العوض عنه ، عيناً كان كالدار والعبد‌ ، أو دَيْناً ، أو حقّاً كالشفعة والقصاص ، ولا يجوز على ما ليس بمالٍ ممّا لا يصحّ أخذ العوض عنه.

فلو صالحته المرأة على أن تقرّ له بالزوجيّة ، لم يصح ؛ لأنّها لو أرادت بذل نفسها بعوضٍ لم يجز.

ولو دفعت إليه عوضاً عن دعوى الزوجيّة ليكفّ عنها ، فالأقرب : الجواز - وللحنابلة وجهان(٢) - لأنّ المدّعي يأخذ عوضاً عن حقّه من النكاح فجاز ، كعوض الخلع ، والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شرّه فجاز.

فإن صالحته ثمّ ثبتت الزوجيّة بإقرارها أو بالبيّنة ، فإن قلنا : الصلح باطل ، فالنكاح باقٍ بحاله ؛ لأنّه لم يوجد من الزوج سبب الفرقة من طلاقٍ ولا خلع.

وإن قلنا : يصحّ الصلح ، فكذلك أيضاً.

وعند الحنابلة أنّها تبين منه بأخذ العوض ؛ لأنّه أخذه عمّا يستحقّه من نكاحها ، فكان خلعاً ، كما لو أقرّت له بالزوجيّة فخالعها(٣) .

وليس بشي‌ءٍ.

____________________

(١) المغني ٥ : ٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢ ، وانظر : الموطّأ ٢ : ٧٤٦ / ٣٣.

(٢) المغني ٥ : ٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٦ - ٧.

(٣) المغني ٥ : ٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٧.

١٣١

ولو ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً فصالحها على مالٍ لترك دعواها ، لم يجز ؛ لأنّه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلّقها بعوضٍ ولا بغيره.

ولو دفعت إليه مالاً ليُقرّ بطلاقها ، لم يجز.

وللحنابلة وجهان ، أحدهما : الجواز ، كما لو بذلت له مالاً ليطلّقها(١) .

مسألة ١١١٩ : لو ادّعى على غيره أنّه عبده فأنكره ، فصالحه على مالٍ ليُقرّ له بالعبوديّة ، لم يجز‌ ؛ لأنّه يحلّ حراماً ، فإنّ إرقاق الحُرّ نفسه لا يحلّ بعوضٍ ولا بغيره.

ولو دفع المدّعى عليه مالاً صلحاً عن دعواه جاز ؛ لأنّه يجوز أن يعتق عبده بمالٍ ، ولأنّه يقصد بالدفع إليه دفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجّهة إليه.

ولو ادّعى على غيره ألفاً فأنكره فدفع إليه شيئاً ليُقرّ له بالألف ، لم يصح ، فإن أقرّ لزمه ما أقرّ به ، ويردّ ما أخذه ؛ لأنّا نتبيّن بإقراره كذبه في إنكاره ، وأنّ الألف عليه ، فيلزمه أداؤه بغير عوضٍ ، ولا يحلّ له [ أخذ ] العوض عن أداء الواجب عليه ، فإن دفع إليه المنكر مالاً صلحاً عن دعواه جاز.

مسألة ١١٢٠ : لو صالَح شاهداً على أن لا يشهد عليه ، لم يصح‌ ؛ لأنّ المشهود به إن كان حقّاً لآدميٍّ - كالدَّيْن - أو لله تعالى - كالزكاة - فإن كان الشاهد يعرف ذلك ، لم يجز له أخذ العوض على تركه ، كما لا يجوز له أخذ العوض على ترك الصلاة ، وإن كان كذباً لم يجز له أخذ العوض على تركه ، كما لا يجوز أخذ العوض على ترك شرب الخمر.

وإن صالحه على أن لا يشهد عليه بالزور ، لم يصح ؛ لأنّ ترك ذلك واجب عليه ، ويحرم عليه فعله ، فلا يجوز أخذ العوض عنه ، كما لا يجوز‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٧.

١٣٢

أن يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله.

وإن صالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب الحدّ كالزنا والسرقة ، لم يجز أخذ العوض عنه ؛ لأنّ ذلك ليس بحقٍّ له ، فلا يجوز له أخذ عوضه ، كسائر ما ليس بحقٍّ له.

ولو صالَح السارق والزاني والشارب بمالٍ على أن لا يرفعه إلى السلطان ، لم يصح كذلك ، ولم يجز له أخذ العوض.

ولو صالحه عن حدّ القذف ، لم يصح ؛ لأنّه إن كان لله تعالى لم يجز(١) له أن يأخذ عوضه ؛ لكونه ليس بحقٍّ له ، فأشبه حدّ الزنا ، وإن كان حقّاً له لم يصحّ الصلح ؛ لأنّه لا يجوز الاعتياض عنه ؛ لأنّه ليس من الحقوق الماليّة ، ولهذا لا يسقط إلى بدلٍ ، بخلاف القصاص ، ولأنّه شُرّع لتنزيه العِرْض ، فلا يجوز أن يعاوض عن عِرْضه بمالٍ.

والأقرب : عدم سقوط الحدّ بالصلح.

وللحنابلة وجهان مبنيّان على كونه حقّاً لله تعالى فلا يصحّ الصلح عنه ، كحدّ الزنا ، وكونه حقّاً للآدميّ فيسقط ، كالقصاص(٢) .

ولو صالَح عن حقّ الشفعة ، جاز عندنا ؛ لأنّه حقٌّ تعلّق بالمال ، فجاز الاعتياض عنه به ، كغيره من الحقوق الماليّة.

ومَنَع منه الحنابلة ؛ لأنّ الشفعة حقٌّ شُرّع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة ، فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحقّ من غير بدلٍ(٣) .

وهو ممنوع.

مسألة ١١٢١ : لا يجوز أن يحفر في الطرق النافذة بئراً لنفسه‌ ، سواء‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « لم يكن » بدل « لم يجز ».

(٢) المغني ٥ : ٣٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٩.

(٣) المغني ٥ : ٣٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٩.

١٣٣

جعلها لماء المطر أو يستخرج منها ماء ينتفع به ، ولا غير ذلك.

ولو أراد حفرها للمسلمين ونفعهم أو لينتفع بها الطريق بأن يحفرها ليستقي الناس من مائها ويشرب منه المارّة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق ، فإن تضرّر بها المسلمون أو كان الدرب ضيّقاً أو يحفرها في ممرّ الناس بحيث يخاف سقوط إنسانٍ فيها أو دابّة أو يضيق عليهم ممرّهم ، لم يجز ذلك ؛ لأنّ ضررها أكثر من نفعها.

وإن حفرها في زاويةٍ من طريقٍ واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّه نفع لا ضرر فيه ، لكن مع الضمان.

وإن كان الدرب غير نافذٍ ، لم يجز شي‌ء من ذلك مطلقاً إلّا بإذن أربابه ؛ لأنّه ملكٌ لقومٍ معيّنين ، فلا يجوز فعله إلّا بإذنهم ، كما لو فعله في بستان غيره.

ولو صالَح أهل الدرب على ذلك جاز ، سواء حفرها لنفسه أو لينزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماءً لنفسه ، أو حفرها للسبيل ونفع الطريق.

وكذا إن فَعَل ذلك في ملك إنسانٍ معيّن.

مسألة ١١٢٢ : قد بيّنّا أنّه يجوز إخراج الميازيب في الطرق النافذة إذا لم يمنع منه أحد يتضرّر به - وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي(١) - لأنّ عمر بن الخطّاب اجتاز على دار العبّاس وقد نصب ميزاباً إلى الطريق ، فقلعه ، فقال العبّاس : تقلعه وقد نصبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده(٢) ، وما فَعَله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله جاز لغيره فعله ؛ عملاً بالتأسّي ما لم يقم دليل على اختصاصه ، ولأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، ولا يمكنه ردّ مائه إلى داره.

____________________

(١) المغني ٥ : ٣٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٩.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٤٢ ، الهامش (١)

١٣٤

وقال أحمد : لا يجوز ؛ لأنّه تصرّف في هواءٍ مشتركٍ بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز ، كغير النافذ(١) .

وعدم الإذن ممنوع بوضع عامّة الناس في الأمصار بأسرها على استمرار الدهور.

مسألة ١١٢٣ : قد بيّنّا أنّه لا يجوز وضع الجذوع على حائط الجار إلّا بإذنه ، وبيّنّا الخلافَ.

وكذا في جدار المسجد.

وعن أحمد روايتان ، إحداهما : الجواز ؛ لأنّه إذا جاز في ملك الجار مع أنّ [ حقّه ](٢) مبنيّ على الشحّ والتضييق ، ففي حقّ الله تعالى المبنيّ على المسامحة والمساهلة أولى(٣) .

وكلتا المقدّمتين ممنوعة.

فرعٌ : على قول أحمد إذا كان له وضع خشبٍ على جدار غيره ، لم يملك إعارته ولا إجارته‌ ؛ لأنّه إنّما كان له ذلك لحاجته الماسّة إلى وضع خشبه ، ولا حاجة له إلى وضع خشبة غيره ، فلم يملكه.

وكذلك لا يملك بيع حقّه من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره ؛ لأنّه أُبيح له لحاجته إليه ، فلا يجوز [ التخطّي ](٤) كطعام غيره إذا أُبيح له للضرورة لم يملك إباحة غيره(٥) .

ولو تنازعا مسنّاةً بين نهر أحدهما وأرض الآخَر أو بين أرضيهما أو‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٣٦ - ٣٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حائطه ». والمثبت كما في المصدر.

(٣) المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٨.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « التخطئة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) المغني ٥ : ٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٩ - ٤٠.

١٣٥

نهريهما ، تحالفا ، وكانت بينهما ؛ لأنّها حاجز بين ملكيهما ، كالحائط بين الملكين.

مسألة ١١٢٤ : لو كان السُّفْل لرجلٍ والعلوّ لآخَر ، فانهدم السقف الذي بينهما ، لم يُجبر أحدهما على عمارته لو امتنع‌ - وللشافعي قولان ، وعن أحمد روايتان(١) - للأصل.

ولو انهدمت حيطان السُّفْل وأراد صاحب العلوّ بناءه ، لم يُمنع من ذلك ؛ توصّلاً إلى تحصيل ملكه.

فإن بناه بآلته ، فهو على ما كان.

وإن بناه بآلةٍ من عنده ، لم يكن له منع صاحب السُّفْل من السكنى - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّ ملكه لم يخرج عن السُّفْل ، والسكنى إنّما هي إقامته في فناء الحيطان من غير تصرّفٍ فيها ، فأشبه الاستظلال بها من خارجٍ.

ومَنَع أبو حنيفة من السكنى ؛ لأنّ البيت إنّما يُبنى للسكنى فلم يملكه ، كغيره(٣) .

وليس بشي‌ءٍ ؛ إذ لا يمنع من التصرّف في ملكه المختصّ به.

وعن أحمد روايتان(٤) .

مسألة ١١٢٥ : لو كان الحائط بينهما نصفين فاتّفقا على بنائه أثلاثاً أو بالعكس ، جاز‌ ، كما لو تبرّع أحدهما ببنائه.

ومَنَع الحنابلة من تساويهما في البناء لو اختلفا في الاستحقاق ؛ لأنّه يصالح على بعض ملكه ببعضٍ فلم يصحّ ، كما لو أقرّ له بدارٍ فصالحه على‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٤٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧.

(٢ - ٤) المغني ٥ : ٤٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧.

١٣٦

سكناها(١) .

والملازمة ممنوعة ، وكذا الحكم في الأصل ممنوع.

ولو اتّفقا على أن يحمله كلّ واحدٍ منهما ما شاء ، لم يجز ؛ لجهالة الحمل ، وإنّه يحمله من الأثقال ما لا طاقة له بحمله.

مسألة ١١٢٦ : لو كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخَر ، لم يُمنع صاحب الأعلى من الصعود على سطحه‌ ، ولا يحلّ له الإشراف على سطح جاره.

وقال أحمد : ليس لصاحب العلوّ الصعودُ على سطحه على وجهٍ يشرف على سطح جاره إلّا أن يبني سترةً تستره(٢) .

ومذهبنا أنّه لا يجب بناء السترة - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّه حاجز بين ملكيهما فلا يُجبر عليه ، كالأسفل.

احتجّ أحمد بأنّه يحرم عليه الاطّلاع والإشراف على جاره ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لو أنّ رجلاً اطّلع عليك فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح »(٤) (٥) .

ونحن نقول بموجبه ، فإنّ الاطّلاع حرام عندنا ، أمّا العلوّ بالسطح فلا.

مسألة ١١٢٧ : لو تنازع اثنان جملاً ، فإن كان لأحدهما عليه حمْلٌ كان صاحب الحمل أولى‌ ، وبه قال الشافعي وإن لم يحكم بالجدار لصاحب الجذوع التي عليه ، وفرَّق بأنّ الحائط ينتفع به كلّ واحدٍ منهما وإن كان‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٤١ ، المغني ٥ : ٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢ - ٥٣.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٤١ ، المغني ٥ : ٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣.

(٤) صحيح البخاري ٩ : ٨ - ٩ ، صحيح مسلم ٣ : ١٦٩٩ / ٤٤.

(٥) المغني ٥ : ٥٢ - ٥٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣.

١٣٧

صاحب الجذوع أكثر منفعةً ، وأمّا الجمل فالانتفاع لصاحب الحمل ، دون الآخَر(١) .

وهذا الفرق ليس بشي‌ءٍ ، بل انتفاع صاحب الجذوع بالجدار أدوم.

ولو تنازعا عبداً ولأحدهما عليه ثوبٌ لابسه ، تساويا فيه ، بخلاف الحمل ؛ لأنّ صاحب الثوب لا ينتفع بلُبْس العبد له ، بخلاف الحمل ، ولأنّ الحمل لا يجوز أن يحمله على الجمل إلّا بحقٍّ ، ويجوز أن يجبر العبد على لُبْس قميص غير مالكه إذا كان عرياناً وبذله ، فافترقا.

مسألة ١١٢٨ : لو كان في يد شخصين درهمان فادّعاهما أحدهما وادّعى الآخَر واحداً منهما ، أُعطي مدّعيهما معاً درهماً‌ ، وكان الدرهم الآخَر بينهما نصفين ؛ لأنّ مدّعي أحدهما غير منازعٍ في الدرهم الآخَر ، فنحكم به لمدّعيهما ، وقد تساويا في دعوى أحدهما يداً ودعوى ، فيُحكم به لهما.

هذا إذا لم توجد بيّنة.

والأقرب : إنّه لا بدّ من اليمين ، فيحلف كلّ واحدٍ منهما على استحقاق نصف الآخَر الذي تصادمت دعواهما فيه ، فمَنْ نكل منهما قُضي به للآخَر.

ولو نكلا معاً أو حلفا معاً ، قُسّم بينهما نصفين ؛ لما رواه عبد الله بن المغيرة عن غير واحدٍ من أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام : في رجلين كان معهما درهمان ، فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الآخَر : هُما بيني وبينك ، قال : فقال الصادقعليه‌السلام : « أمّا أحد الدرهمين ليس له فيه شي‌ء ، وإنّه لصاحبه ، ويُقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين »(٢) .

مسألة ١١٢٩ : لو أودع رجل عند آخَر دينارين وأودعه آخَر ديناراً وامتزجا ثمّ ضاع دينار منهما‌ ، فإن كان بغير تفريطٍ منه في الحفظ ولا في‌

____________________

(١) البيان ١٣ : ١٩٦ ، المغني ١٢ : ٢٢٨ ، وراجع الهامش (٣) من ص ٥٨٣.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٨١.

١٣٨

المزج بأن أذنا له في المزج أو حصل المزج بغير فعله ولا اختياره ، فلا ضمان عليه ؛ لأصالة البراءة ، ولو فرّط ضمن التالف.

هذا بالنظر إلى المستودع ، وأمّا المال الباقي فإنّه يعطى صاحب الدينارين ديناراً ؛ لأنّ خصمه يسلّم له أنّه لا يستحقّ منه شيئاً ، ويبقى الدينار الآخَر تتصادم دعواهما فيه ، فيُقسم بينهما نصفين ؛ لما رواه السكوني عن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام : في رجلٍ استودع رجلاً دينارين واستودعه آخَر ديناراً فضاع دينار منهما ، فقال : « يعطى صاحب الدينارين ديناراً ، ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين »(١) .

ولو كان ذلك في متساوي الأجزاء الممتزج مزجاً يرفع الامتياز ، كما لو استودعه أحدهما قفيزين من حنطةٍ أو شعير أو دخن وشبهه ، واستودعه الآخَر قفيزاً مثلهما ثمّ امتزج المالان وتلف قفيز من الممتزج ، فإنّ الأقوى هنا أن يقسم المال التالف بينهما على نسبة المالين ، فيكون لصاحب القفيزين قفيز وثلث قفيزٍ ، ولصاحب القفيز ثلثا قفيزٍ.

والفرق ظاهر ؛ لأنّ عين أحد الدينارين غير مستحقٍّ لصاحب الدينار.

مسألة ١١٣٠ : لو اشترى العامل في البضاعة ثوباً بثلاثين درهماً‌ ، واشترى من مال المباضع الآخَر ثوباً بعشرين درهماً ، ثمّ امتزج الثوبان ، فإن خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه ، وإن تعاسرا بِيعا معاً ، وبسط الثمن على القيمتين ، فيأخذ صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن ، ويأخذ صاحب العشرين خُمْسي الثمن ؛ إذ الظاهر عدم التغابن ، وأنّ كلّ واحدٍ منهما اشترى بقيمته وباع بالنسبة.

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٨٣.

١٣٩

ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهماً في ثوبٍ وآخَر عشرين درهماً في ثوبٍ ، فبعث الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه ، قال : « يُباع الثوبان فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن ، والآخَر خُمْسي الثمن » قال : قلت : فإنّ صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين : اختر أيّهما شئت ، قال : « قد أنصفه »(١) .

ولو بِيعا منفردين ، فإن تساويا في الثمن فلكلٍّ مثل صاحبه ؛ ليميّز حقّ كلّ واحدٍ منهما عن حقّ الآخَر ، وإن تفاوتا كان أقلّ الثمنين لصاحب العشرين وأكثرهما لصاحب الثلاثين ؛ قضاءً بالظاهر من عدم الغبن.

مسألة ١١٣١ : لو تنازعا في دابّةٍ فادّعاها كلّ واحدٍ منهما وكان أحدهما راكبَها والآخَر قابض لجامها ولا بيّنة‌ ، قال الشيخرحمه‌الله : يُحكم بها لهما ، وتُجعل بينهما نصفين(٢) ، وبه قال أبو إسحاق المروزي(٣) ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهما يداً عليها.

وقال باقي العامّة : يُحكم بها للراكب ؛ لبُعْد تمكين صاحب الدابّة غيرَه من ركوبها ، وإمكان أخذ اللجام من صاحب الدابّة(٤) . وهو الأقوى عندي.

ولو تنازعا ثوباً في يدهما ، قضي لهما معاً به بالسويّة وإن كان في يد أحدهما أكثر ؛ لتساويهما في اليد والدعوى ، وكلّ ذلك مع عدم البيّنة‌

____________________

(١) الكافي ٧ : ٤٢١ - ٤٢٢ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢٣ / ٦٢ ، التهذيب ٤ : ٢٠٨ / ٤٨٢.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٩٦ ، المسألة ٥ من كتاب الصلح.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٨ : ٢١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣١٨ ، الوجيز ١ : ١٨٠ - ١٨١ ، الوسيط ٤ : ٦٤ ، حلية العلماء ٨ : ٢١١ ، البيان ١٣ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392