تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء10%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118773 / تحميل: 5575
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

واليمين.

ولو كان باب غرفة البيت مفتوحاً إلى الجار فادّعاها كلٌّ من صاحب الأسفل والجار ، حُكم بالغرفة لصاحب الأسفل ؛ لأنّ مَنْ مَلَك القرار مَلَك الهواء ، وفتح الباب يحتمل الإعارة.

أمّا لو كانت الغرفة تحت تصرّف الجار ، فالأقرب : الحكم له بها ؛ قضاءً باليد الدالّة على الملكيّة.

تذنيب : لو بنى مسجداً في أرضٍ اشتراها من غيره ، فادّعاها ثالثٌ‌ ، فإن صدّقه المشتري أو البائع كان على المصدّق القيمة ، ولو كذّباه فصالحه بعض جيران المسجد صحّ الصلح ؛ لأنّه بذْلُ مالٍ على طريق البرّ.

تذنيبٌ آخَر : لو تداعى ذو البابين في المنقطع الدربيّة ، حُكم بينهما لهما من رأس الدربيّة إلى الأوّل‌ ، وما بين البابين للثاني ، والفاصل إلى صدر الدرب يحتمل قويّاً الشركة ، واختصاصُ الأخير.

تمّ الجزء العاشر(١) من كتابتذكرة الفقهاء بحمد الله تعالى ومنّه ، ويتلوه في الجزء الحادي عشر(٢) - بتوفيق الله تعالى - كتاب الأمانات وتوابعها ، وفيه مقاصد.

فرغتُ من تسويده ثامن عشري صفر - خُتم بالخير والظفر - من سنة خمس عشرة وسبعمائة بالسلطانيّة.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن يوسف بن المطهّر ، والحمد لله وحده ، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد النبي وآله الطاهرين.

____________________

(١ و ٢) حسب تجزئة المصنّفرحمه‌الله .

١٤١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب الأمانات وتوابعها‌

وفيه مقاصد :

الأوّل : الوديعة‌

وفيه فصول :

الأوّل : الماهيّة‌

الوديعة مشتقّة من « ودع ، يدع » إذا استقرّ وسكن ، من قولهم : « يدع كذا » أي يتركه ، والوديعة متروكة مستقرّة عند المستودع.

وقيل : إنّها مشتقّة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل فهو وديع ووادع ، لأنّها في دعة عند الـمُودَع لا تتبدّل ولا تستعمل(١) .

والوديعة تُطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع : الودائع. واستودعه الوديعة ، أي : استحفظه إيّاها.

وعن الكسائي : يقال : أودعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة. وأودعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد(٢) .

والمشهور في الاستعمال المعنى الأوّل.

وهي جائزة بالكتاب والسنّة والإجماع.

قال الله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٣)

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦ - ٢٨٧.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٦.

(٣) النساء : ٥٨.

١٤٢

وقال تعالى :( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) (١) .

وما رواه العامّة عن أُبي بن كعب أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك »(٢) .

وروي أنّهعليه‌السلام كان عنده ودائع ، فلـمّا أراد الهجرة أودعها عند أُمّ أيمن ، وأمر عليّاًعليه‌السلام بردّها على أهلها(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ابن أخي الفضيل بن يسار قال : كنتُ عند الصادقعليه‌السلام ودخلَتْ امرأة وكنتُ أقربَ القوم إليها ، فقالت لي : اسأله ، فقلت : عمّا ذا؟ فقالت : إنّ أبي مات وترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرتُه بذلك ، فقال : « لا ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك ، ولا تخُنْ مَنْ خانَك »(٤) .

وعن حسين بن مصعب قال : سمعتُ الصادقَعليه‌السلام يقول : « ثلاثة لا عذر فيها لأحدٍ : أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برَّيْن كانا أو فاجرَيْن ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر »(٥) .

وعن محمّد بن علي الحلبي قال : استودعني رجل من موالي‌

____________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٠ / ٣٥٣٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٣٥ / ١٤١ ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٧٠ ، مسند أحمد ٤ : ٤٢٣ / ١٤٩٩٨.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٥ - ٣٥٦ ، البيان ٦ : ٤٢٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٨٩.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٨ / ٩٨١ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ - ٥٣ / ١٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٨ ، وفي الكافي ٥ : ١٣٢ / ١ بتقديمٍ وتأخير في بعض الجملات.

١٤٣

بني مروان ألف دينار فغاب فلم أدْر ما أصنع بالدنانير ، فأتيت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام فذكرت ذلك له وقلت : أنت أحقّ بها ، فقال : « لا ، لأنّ أبي كان يقول : إنّما نحن فيهم بمنزلة هدنة نؤدّي أمانتهم ونردّ ضالّتهم ونقيم الشهادة لهم وعليهم ، فإذا تفرّقت الأهواء لم يسع أحدٌ المقام »(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « كان أبي يقول : أربع مَنْ كُنّ فيه كمل إيمانه ، ولو كان ما بين قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينتقصه ذلك » قال : « وهي الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق »(٢) .

وقال الكاظمعليه‌السلام : « أهل الأرض مرحومون ما يخافون وأدّوا الأمانة وعملوا بالحقّ »(٣) .

وقال الحسين الشيباني للصادقعليه‌السلام : إنّ رجلاً من مواليك يستحلّ مال بني أُميّة ودماءهم ، وإنّه وقع لهم عنده وديعة ، فقالعليه‌السلام : « أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً(٤) ، فإنّ ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا فيحلّ ويحرّم »(٥) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « اتّقوا الله وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم ، فلو أنّ قاتل عليٍّ ائتمنني على أداء الأمانة لأدّيتُها إليه »(٦) .

وقد أجمع المسلمون كافّةً على جوازها ، وتواترت الأخبار بذلك.

ولأنّ الحكمة تقتضي تسويغها ، فإنّ الحاجة قد تدعو إليها لاحتياج‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٨٩.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩٠.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٥٠ / ٩٩١.

(٤) في « خ » والكافي : « مجوسيّاً ».

(٥) الكافي ٥ : ١٣٢ - ١٣٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٣.

(٦) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٥.

١٤٤

الناس إلى حفظ أموالهم ، وربما تعذّر ذلك عليهم بأنفسهم إمّا لخوفٍ أو سفرٍ أو عدم حرزٍ ، فلو لم يشرع الاستيداع لزم الحرج المنفيّ بقوله تعالى :( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ولأنّه نفعٌ لا ضرر فيه ، فكان مشروعاً.

مسألة ١ : إذا عرفتَ الوديعة في عرف اللغة ، فهي في عرف الفقهاء عبارة عن عقدٍ يفيد الاستنابة في الحفظ‌ ، لكن قد عرفت أنّ العرف اللغوي يقتضي أن تكون هي المال ، وكذا العرف العامّي ، والإيداع هو العقد.

وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، لكلٍّ منهما فسخه.

ولا بدّ فيها من إيجابٍ وقبولٍ.

فالإيجاب هو كلّ لفظٍ دالٍّ على الاستنابة بأيّ عبارةٍ كان ، ولا ينحصر في لغةٍ دون أُخرى ، ولا في عبارةٍ دون عبارةٍ ، ولا يفتقر إلى التصريح ، بل يكفي التلويح والإشارة والاستعطاء.

والقبول قد يكون بالقول ، وهو كلّ لفظٍ يدلّ على الرضا بالنيابة في الحفظ بأيّ عبارةٍ كان ، وقد يكون بالفعل.

وهل الوديعة عقد برأسه ، أو إذن مجرّد؟ الأقرب : الأوّل.

مسألة ٢ : إذا دفع الإنسان إلى غيره وديعةً وكان المدفوع إليه عاجزاً عن حفظها‌ ، لم يجز له قبولها ؛ لما فيه من إضاعة مال الغير ، وقد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(٢) .

وإن كان قادراً لكنّه غير واثقٍ من نفسه بالأمانة ، لم يجز له القبول ؛

____________________

(١) الحجّ : ٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٣٩ ، و ٩ : ١١٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٣١١ ، مسند أحمد ٥ : ٣٠٥ و ٣١٢ / ١٧٧٢٧ و ١٧٧٦٨.

١٤٥

لما فيه من التعريض للتفريط في مال الغير ، وهو محرَّم ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني لهم : إنّه يكره(١) .

ولو كان قادراً على الحفظ واثقاً بأمانة نفسه ، استحبّ له القبول ؛ لما فيه من المعاونة على البرّ وقضاء حوائج الإخوان.

ولو لم يكن هناك غيره ، فالأقوى : إنّه يجب عليه القبول ؛ لأنّه من المصالح العامّة. وبالجملة ، فالقبول واجب على الكفاية.

ولو تضمّن القبول ضرراً في نفسه أو ماله أو خاف على بعض المؤمنين أو تضمّن إتلاف منفعة نفسه أو حرزه في الحفظ من غير عوضٍ ، لم يجب القبول.

مسألة ٣ : الألفاظ المتداولة بين الناس من الإيجاب الذي يتضمّنه عقد الوديعة : استودعتك هذا المال‌ ، أو : أودعتك ، أو : استحفظتك ، أو : أنبتك في حفظه ، أو : استنبتك فيه ، أو : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، وما في معناه من الصيغ الصادرة من جهة المودِع ، الدالّة على الاستحفاظ.

ولا يعتبر القبول لفظاً كما تقدّم(٢) ، بل يكفي القبض [ بكيفيّته ](٣) في العقار والمنقول ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : لا يكفي القبض ، بل لا بدّ من لفظٍ دالٍّ على القبول(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في ص ١٤٤ ، ذيل المسألة ١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يكفيه ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

١٤٦

وقال بعضهم : إن كان المودِع قد قال : أودعتُك ، وشبهه ممّا هو على صيغ العقود ، وجب القبول لفظاً ، وإن قال : احفظه ، أو : هو وديعة عندك ، لم يفتقر إلى لفظٍ يدلّ على القبول ، كما تقدّم في الوكالة(١) .

مسألة ٤ : لا بدّ من التنجيز‌ ، فلو قال : إذا جاء رأس الشهر فقد أودعتك مالي معه(٢) ، لم يصح الإيداع - وهو قول بعض الشافعيّة(٣) - لأصالة العدم.

وقال بعضهم : يصحّ(٤) .

وقال آخَرون منهم : القياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة(٥) .

وقيل : الإيداع عبارة عن الاستنابة في الحفظ ، وهو توكيلٌ خاصٌّ ، و [ الوكيل والموكّل ] يُسمَّيان في هذا التوكيل الـمُودَع والـمُودَع(٦) .

ولو جاء بماله ووضعه بين يدي غيره ولم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يحصل الإيداع ، فإن قبضه الموضوع عنده ضمنه.

وكذا لو كان قد قال من قبلُ : إنّي أُريد أن أُودعك ، ثمّ جاء بالمال.

ولو قال : هذه وديعتي عندك فاحفظه ، ووضعه بين يديه ، فإن أخذه الموضوع عنده تمّت الوديعة ؛ لأنّا لا نعتبر القبول اللفظي ، وإن لم يأخذه فإن لم يتلفّظ بشي‌ءٍ لم يكن وديعةً ، حتى لو ذهب وتركه فلا ضمان عليه ، لكن يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « بعدُ » بدل « معه ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

١٤٧

وإن قال : قبلت ، أو : ضَعْ ، فوضعه ، كان إيداعاً ، كما لو أخذه بيده ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : لا يكون إيداعاً ما لم يقبض(٢) .

وقال آخَرون بالتفصيل ، فإن كان الموضع في يده ، فقال : ضَعْه ، دخل المال في يده ؛ لحصوله في الموضع الذي هو في يده. وإن لم يكن كما لو قال : انظر إلى متاعي في دكّاني ، فقال : نعم ، لم يكن وديعةً(٣) .

وعلى ما اخترناه من أنّه وديعة مطلقاً لو ذهب الموضوع عنده وتركه ، فإن كان المالك حاضراً بَعْدُ فهو ردٌّ للوديعة ، وإن غاب المالك ضمنه.

مسألة ٥ : قد ذكرنا أنّ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها إجماعاً‌ ، وقد تقدّم(٤) أنّه توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة من الطرفين ، فإذا أراد المالك الاستردادَ لم يكن للمُستودِع المنعُ ، ووجب عليه الدفع ، ولو أراد المستودع الردَّ لم يكن للمودِع أن يمتنع من القبول ؛ لأنّه متبرّع بالحفظ.

ولو عزل المستودع نفسه ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مطلقة شرعيّة في يده ، كالثوب الطائر بالهواء إلى داره ، وكاللقطة في يد الملتقط بعد ما عرف المالك ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : إنّ العزل لغو.

والأصل في هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الوديعة مجرّد إذنٍ ، أم عقد؟

إن قلنا : إنّها مجرّد إذنٍ ، فالعزل لغو ، كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان ،

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

(٤) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٤٨

فقال بعضهم : عزلت نفسي ، يلغو قوله ، ويكون له الأكل بالإذن السابق ، فعلى هذا تبقى الوديعة بحالها. وإن قلنا : إنّها عقد ، ارتفعت الوديعة ، وبقي المال أمانةً مجرّدة ، وعليه الردّ عند التمكّن وإن لم يطالب المالك - وهو أظهر وجهي الشافعيّة - ولو لم يفعل ضمن(١) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩١ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩.

١٤٩

الفصل الثاني : في المتعاقدين‌

مسألة ٦ : يشترط في المستودع والـمُودَع التكليف‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلّا من مكلّفٍ ، فلو أودع الصبي أو المجنون غيرَه شيئاً ، لم يجز له قبوله منهما ، فإن قَبِله وأخذه من أحدهما ضمن.

ولا يزول الضمان إلّا بالردّ إلى الناظر في أمرهما ، ولو ردّه إليهما لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّهما محجور عليهما.

ولو خاف هلاكه فأخذه منهما إرفاقاً لهما ونظراً في مصلحتهما على وجه الحسبة صوناً له ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه محسن إليهما ، وقد قال تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه [ ضامن ](٢) كالوجهين - عندهم - فيما إذا أخذ الـمُحْرم صيداً من جارحةٍ [ ليتعهّده ](٣) . والظاهر عندهم : عدم الضمان(٤) .

مسألة ٧ : كما أنّ التكليف شرط في المودِع كذا هو شرط في المستودع‌ ، فلا يصحّ الإيداع إلّا عند مكلّفٍ ؛ لأنّه استحفاظ ، والصبي‌

____________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لا ضمان عليه ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ليتعهّدها ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧.

١٥٠

والمجنون ليسا من أهل الحفظ ، فلو أودع مالاً عند صبيٍّ أو مجنونٍ فتلف فلا ضمان عليهما ؛ إذ ليس على أحدهما حفظه ، فأشبه ما لو تركه عند بالغٍ من غير استحفاظٍ فتلف.

ولو أتلفه الصبي أو المجنون ، فالأقرب عندي : إنّ عليهما الضمان ؛ لأنّهما أتلفا مال الغير بالأكل أو غيره فضمناه ، كغير الوديعة ، وبه قال أحمد والشافعي في أظهر القولين.

والثاني : إنّهما لا يضمنان ؛ لأنّ المالك سلّطهما عليه ، فصار كما لو أقرضه أو باعه منه وأقبضه فأتلفه ، لم يكن عليه ضمان ، ألا ترى أنّه لو دفع إلى صغيرٍ سكّيناً فوقع عليها فتلف ، كان ضمانه على عاقلة الدافع ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وهو ممنوع ؛ للفرق بين الإيداع ، والبيع والإقراض ؛ لأنّ ذلك تمليك وتسليط على التصرّف ، والإيداع تسليط على الحفظ دون الإتلاف والتصرّف ، ويخالف دفع السكّين ؛ لأنّه سبب في الإتلاف ، ودفع الوديعة ليس سبباً في إتلافها.

ولو أودع ماله عند عبدٍ ، فإن تلف عنده من غير تفريطٍ فلا ضمان عليه ، وإن تلف بتفريطه أو أتلفه ضمن ، وكان المال متعلّقاً بذمّته لا برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً.

ولا فرق بين أن يأذن له سيّده في الاستيداع أو يمنعه ، ويتبع ذلك‌

____________________

(١) المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣١٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٧ - ١٦٨ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٨٩ - ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٧ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١١٨ ، طريقة الخلاف بين الأسلاف : ٣٠٣.

١٥١

بعد العتق ، فإن مات عبداً سقط المال ، ولم يتعلّق بالسيّد شي‌ء منه وإن أذن له ؛ لأنّه إنّما أذن له في الاحتفاظ لا في الإتلاف.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : إنّ الضمان يتعلّق برقبته ، كما لو أتلف ابتداءً(١) .

والأصل عندنا ممنوع.

والثاني : إنّه يتعلّق بذمّته دون رقبته - كما قلناه - كما لو باع منه ، فيه الخلاف المذكور في الصبي(٢) .

وإيداع السفيه والإيداع عنده كإيداع الصبي والإيداع عنده.

مسألة ٨ : ولا بُدّ في المتعاقدين من جواز التصرّف‌ ، فلا يصحّ من المحجور عليه للسفه وللفلس الإيداع والاستيداع ، على إشكالٍ في استيداع المفلس ، والأقرب عندي : جوازه.

ولو جنّ المودِع أو المستودِع أو مات أحدهما أو أُغمي عليه ، ارتفعت الوديعة ؛ لأنّها إن كانت مجرّدَ إذنٍ في الحفظ فالمودِع بعرضة التغيّر ، وهذه الأحوال تُبطل إذنه ، والمستودع يخرج عن أهليّة الحفظ ، وإن كانت عقداً فقد سبق(٣) أنّها توكيلٌ خاصّ ، والوكالة جائزة فلا تبقى بعد هذه العوارض.

ولو حُجر على الـمُودَع لسفهٍ ، كان على الـمُودَع ردّ الوديعة إلى وليّه وهو الحاكم ؛ لأنّ إذنه في الإيداع بطل بذلك ، والناظر عليه الحاكم ، فوجب دفعها إليه.

مسألة ٩ : إن قلنا : إنّ الوديعة عقدٌ برأسه ، لم يضمنه الصبي‌ ،

____________________

(١ و ٢) الوجيز ١ : ٢٨٤ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٤٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٣) في ص ١٤٦ ، ضمن المسألة ٤.

١٥٢

ولم يتعلّق برقبة العبد ، وهو قول بعض الشافعيّة(١) .

وإن قلنا : إنّها إذن مجرّد ، ضمنه الصبي ، وتعلّق برقبة العبد ، وهو قول باقي الشافعيّة(٢) .

لكنّا بيّنّا أنّ الحقَّ الأوّلُ ، وأنّ الصبي لا يضمن إلّا بالإتلاف على إشكالٍ ، وأمّا العبد فإنّ الوديعة مع التفريط تتعلّق بذمّته.

إذا عرفت هذا ، فولد الجارية الـمُودَعة ونتاج الدابّة الـمُودَعة وديعة كالأُمّ.

وقال الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً فالولد كالأُمّ يكون وديعةً ، وإلّا لم يكن وديعةً ، بل أمانة شرعيّة مردودة في الحال ، حتى لو لم يردّ مع التمكّن ضمن على أظهر الوجهين عندهم(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : إن جعلنا الوديعة عقداً ، لم يكن الولد وديعةً ، بل أمانة ؛ اعتباراً بعقد الرهن والإجارة ، وإلّا فيتعدّى حكم الأُمّ إلى الولد كما في الوصيّة(٤) ، أو لا يتعدّى كما في العارية؟ للشافعيّة وجهان(٥) .

وعلى الأصل المذكور خرّج بعضُ الشافعيّة اعتبارَ القبول لفظاً ، إن جعلناها عقداً اعتبرناها ، وإلّا اكتفينا بالفعل(٦) .

والموافق لإطلاق العامّة كون الوديعة عقداً ، وذكروها من العقود الجائزة(٧) .

____________________

(١ - ٣) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٤) في المصدر : « الضحيّة » بدل « الوصيّة ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٨.

١٥٣

الفصل الثالث : في موجبات الضمان‌

اعلم أنّ الوديعة تستتبع أمرين : الضمان عند التلف ، والردّ عند البقاء ، لكنّ الضمان لا يجب على الإطلاق ، بل إنّما يجب عند وجود أحد أسبابه ، وينظمها شي‌ء واحد هو : التقصير ، ولو انتفى التقصير فلا ضمان ؛ لأنّ الأصل في الوديعة أنّها أمانة محضة لا تُضمن بدون التعدّي أو التفريط ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ليس على المستودع ضمان »(١) .

وقالعليه‌السلام : « مَنْ أُودع وديعة فلا ضمان عليه »(٢)

ومن طريق الخاصّة : ما رواه إسحاق بن عمّار أنّه سأل الكاظمَعليه‌السلام عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الآخَر : إنّما كانت عليك قرضاً ، قال : « المال لازم له إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة »(٣) والاستثناء يقتضي التناقض بين المستثنى والمستثنى منه ، ولـمّا حكم في الأوّل بالضمان ثبت في الاستثناء عدمه.

وعن زرارة - في الحسن - أنّه سأل الصادقَعليه‌السلام عن وديعة الذهب والفضّة ، قال : فقال : « كلّما كان من وديعةٍ ولم تكن مضمونةً فلا تلزم »(٤) .

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال : « صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان »(٥) .

____________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٩١ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٨ ، المغني ٧ : ٢٨١.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠١.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٨.

(٤) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٩.

(٥) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٩٠.

١٥٤

ولأنّ الله تعالى سمّاها أمانةً(١) ، والضمان ينافي الأمانة.

وهذا الحكم منقول عن عليٍّعليه‌السلام وعن أبي بكر وعمر وابن مسعود وجابر(٢) ، ولم يظهر لهم مخالف ، فكان إجماعاً.

لا يقال : قد روي أنّه كان عند أنس وديعة فذهبت فرفع إلى عمر ، فقال : هل ذهب معها شي‌ء من مالك؟ قال : لا ، قال : اغرمها(٣) .

لأنّا نقول : قول عمر ليس حجّةً ، وربما قال ذلك عند تفريط المستودع في حفظها.

ولأنّ المستودع إنّما يحفظها لصاحبها متبرّعاً بذلك ، فلو ألزمناه الضمان أدّى إلى الامتناع عن قبولها ، وفي ذلك ضرر عظيم ؛ لما بيّنّاه من الحاجة إليها ، ولأنّ يد المستودع يد المالك.

وإذا عرفت أنّ السبب الجامع لموجبات الضمان هو التقصير ، فلا بُدّ من الإشارة إلى ما به يصير المستودع مقصّراً ، وهي سبعة تنظمها مباحث نذكر لكلّ سببٍ بحثاً.

البحث الأوّل : في الانتفاع.

مسألة ١٠ : من الأسباب الموجبة للضمان الانتفاعُ بالوديعة‌ ، فلو استودع ثوباً فلبسه ، أو دابّةً فركبها ، أو جاريةً فاستخدمها ، أو كتاباً فنظر فيه‌

____________________

(١) النساء : ٨٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، البيان ٦ : ٤٢٥ - ٤٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، المغني ٧ : ٢٨٠ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٢ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥١ - ٢٥٢ / ٤٠٥.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٦ ، وفي المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٢ / ١٤٧٩٩ ، وسنن البيهقي ٦ : ٢٨٩ و ٢٩٠ باختصارٍ.

١٥٥

أو نسخ منه ، أو خاتماً فوضعه في إصبعه للتزيّن به لا للحفظ ، فكلّ ذلك وما أشبهه خيانة توجب التضمين عند فقهاء الإسلام لا نعلم فيه خلافاً.

هذا إذا انتفى السبب المبيح للاستعمال ، أمّا إذا وُجد السبب المبيح للاستعمال لم يجب الضمان ، وذلك بأن يلبس الثوب الصوف - الذي يفسده الدود - للحفظ ، فإنّ مثل هذه الثياب يجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، بل يجب لُبْسها إن لم يندفع إلّا بأن يلبسها وتعبق(١) بها رائحة الآدمي.

ولو لم يفعل ففسدت ، كان عليه الضمان ، سواء أذن المالك أو سكت ؛ لأنّ الحفظ واجب عليه ، ولا يتمّ الحفظ إلّا بالاستعمال ، فيكون الاستعمال واجباً ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به وكان مقدوراً للمكلّف فإنّه يكون واجباً.

أمّا لو نهاه المالك عن الاستعمال للحفظ فامتنع حتى فسدت ، لم يكن ضامناً ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة(٢) .

ولهم قولٌ آخَر : إنّه يكون ضامناً(٣) .

والمعتمد : الأوّل.

وهل يكون قد فَعَل حراماً؟ إشكال ، أقربه ذلك ؛ لأنّ إضاعة المال منهيّ عنها(٤) .

وعند الشافعيّة يكره(٥) .

ولو كان الثوب في صندوقٍ مقفلٍ ففتح القفل ليخرجه وينشره ،

____________________

(١) أي : تبقى. لسان العرب ١٠ : ٢٣٤ « عبق ».

(٢ و ٣ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٤٤ ، الهامش (٢)

١٥٦

فالوجه : إنّه لا يضمن ؛ لأنّه لم يقصد إلّا الحفظ المأمور به ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه يضمن(٢) .

هذا إذا علم المستودع ، أمّا لو لم يعلم بأن كان في صندوقٍ أو كيسٍ مشدود ولم يُعْلمه المالك به ، فلا ضمان على المستودع إجماعاً.

مسألة ١١ : قد بيّنّا أنّ ركوب الدابّة خيانة لا مطلقاً‌ ، ولكن مع عدم احتياج الحفظ إليه ، فلو احتاج حفظ الدابّة المودَعة إلى أن يركبها المستودع إمّا أن يخرج بها إلى السقي أو الرعي وكانت لا تنقاد إلّا بالركوب ، فلا ضمان ؛ لعدم التعدّي والتفريط حينئذٍ.

ولو كانت الدابّة تنقاد بغير ركوبٍ فركب ضمن ، إلّا مع عجزه عن سقيها أو رعيها بدون ركوبها فإنّه يجوز ، ولا ضمان.

مسألة ١٢ : لو أخذ المستودع الدراهم المودَعة عنده ليصرفها إلى حاجته‌ ، أو أخذ الثوب ليلبسه ، أو أخرج الدابّة من مكانها ليركبها ثمّ لم يستعمل ، ضمن - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ الإخراج على هذا القصد خيانة.

وقال أبو حنيفة : لا يضمن حتى يستعمل(٤) .

ولو نوى الأخذ ولم يأخذ أو نوى الاستعمال ولم يستعمل ، ففي‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٣ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، المغني ٧ : ٢٩١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٠.

١٥٧

الضمان إشكال ينشأ : من أنّه لم يُحدث في الوديعة قولاً ولا فعلاً ، فلم يضمن ، كما لو لم يَنْو ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) ، ومن أنّه ممسك لها بحكم نيّته ، كما أنّ الملتقط إذا نوى إمساك اللقطة لصاحبها ، كانت أمانةً ، وإن نوى الإمساك لنفسه ، كانت مضمونةً ، وهو قول ابن سريج من الشافعيّة(٢) .

وفرّق المذكورون بين الوديعة واللقطة بأنّه في الوديعة لم يُحدث فعلاً مع قصد الخيانة ، وفي اللقطة أحدث الأخذ مع قصد الخيانة ، ولأنّ سبب أمانته في اللقطة مجرّد نيّته ، فضمن بمجرّد النيّة ، بخلاف الوديعة(٣) .

فروع :

أ - لو أخذ الوديعة على قصد الخيانة ، فالأقوى : الضمان‌ ؛ لأنّه(٤) لم يقبضها على سبيل الأمانة ، بل على سبيل الخيانة.

وللشافعيّة وجهان(٥) .

ب - قياس ابن سريج في الضمان إذا نوى المستودع الأخذَ والتصرّفَ ولم يفعل على ما إذا أخذ الوديعة من مالكها على قصد الخيانة(٦) (٧) غير تامٍّ.

____________________

(١ و ٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٩ ، البيان ٦ : ٤٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) الوجيز ١ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّها ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة زيادة : « في الضمان ». وهي متكرّرة.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

١٥٨

أمّا أوّلاً : فلأنّ جماعةً من الشافعيّة(١) لم يوافقوه على هذا الأصل.

وأمّا ثانياً : فللفرق ، وهو أنّ الأخذ فعلٌ أحدثه مع قصد الخيانة.

ج - لو نوى أن لا يردّ الوديعة بعد طلب المالك ، ففي الضمان للشافعيّة الوجهان‌(٢) .

وعندي فيه التردّد السابق مع أولويّة عدم الضمان هنا إذا لم يطلب المالك ، وثبوته إذا طلب.

وبعض الشافعيّة قال : إذا نوى الأخذ ولم يأخذ لم يضمن ، وإذا نوى عدم الردّ ضمن قطعاً ؛ لأنّه إذا نوى أن لا يردّ صار ممسكاً لنفسه ، وبنيّة الأخذ لا يصير ممسكاً لنفسه(٣) .

مسألة ١٣ : لو كان الثوب المودَع في صندوق مالك الوديعة فرفع المستودع رأسه ليأخذ الثوب‌

ويتصرّف فيه ثمّ بدا له ، فلا يخلو الصندوق إمّا أن يكون مفتوحاً لا قفل عليه ولا ختم له ، أو يكون عليه شي‌ء من ذلك ، فإن كان لا ختم عليه ولا قفل ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه لم يُحدث في الثوب فعلاً ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّه يضمن(٤) .

وإن كان الصندوق مقفلاً أو الكيس مختوماً ففتح القفلَ وفضّ الختمَ ولم يأخذ ما فيه ، فالأقوى : الضمان لما فيه من الثياب والدراهم - وهو‌ أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه هتك الحرز.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٥٩

والثاني للشافعيّة : إنّه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرّف فيه ، وبه قال أبو حنيفة(٢) .

وعلى الوجه الأوّل فهل يضمن الصندوق والكيس؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه لم يقصد الخيانة في الظرف.

وللشافعيّة وجهان(٣) .

ولو خرق الكيس فإن كان الخرق تحت موضع الختم فهو كفضّ الختم ، وإن كان فوقه لم يضمن إلّا نقصان الخرق.

فروع :

أ - لو أودعه شيئاً مدفوناً فنبشه ، فهو بمنزلة فضّ الختم‌ ، إن قلنا : يضمن هناك ، ضمن هنا ، وإلّا فلا.

ب - لو حلّ الخيط الذي شدّ به رأس الكيس أو رِزْمة الثياب(٤) لم يضمن ما في الكيس والرِّزْمة‌ وإن فَعَل ذلك للأخذ ، بخلاف فضّ الختم وفتح القفل ؛ لأنّ القصد منه المنع من الانتشار ، ولم يقصد به الكتمان عنه.

ج - لو كان عنده دراهم وديعة أو ثياب فوزن الدراهم أو عدّها أو عدّ الثياب أو ذرعها ليعرف طولها وعرضها ، ففي الضمان إشكال‌ ينشأ : من أنّه تصرّف في الوديعة ، ومن أنّه لم يقصد الخيانة.

وللشافعيّة وجهان(٥) ، وكذا الوجهان فيما لو حلّ الشدّ(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ - ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٤) الرِّزمة من الثياب : ما شدّ في ثوبٍ واحد. لسان العرب ١٢ : ٢٣٩ « رزم ».

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٧.

١٦٠

مسألة ١٤ : إذا صارت الوديعة مضمونةً على المستودع‌ إمّا بنقل الوديعة أو إخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابّة ولُبْس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ثمّ إنّه ترك الخيانة وردّ الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب ، لم يبرأ بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ، ولم تَعُدْ أمانته - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه ضمن الوديعة بعدوان ، فوجب أن يبطل الاستئمان ، كما لو جحد الوديعة ثمّ أقرّ بها.

وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ؛ لأنّه إذا ردّها فهو ماسك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن عليه ضمانها ، كما لو لم يخرجها(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّه إذا لم يخرجها لم يضمنها بعدوان ، بخلاف صورة النزاع.

ثمّ يُنقض على أبي حنيفة بما سلّمه من أنّه إذا جحد الوديعة وضمنها بالجحود ثمّ أقرّ بها ، فإنّه لا يبرأ ، وبالقياس على السارق ، فإنّه لو ردّ المسروق إلى موضعه ، لم يبرأ(٣) ، فكذا هنا.

فروع :

أ - لو ردّ الوديعة - بعد أن تعلّق ضمانها به إمّا بالإخراج من الحرز أو بالتصرّف أو بغيرهما من الأسباب‌ - إلى المالك وأعادها عليه ثمّ إنّ المالك‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٦.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٦ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، المغني ٧ : ٢٩٦ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥.

١٦١

أودعه إيّاها ثانياً ، فإنّه يعود أميناً إجماعاً ، ويبرأ من الضمان.

ب - لو لم يسلّمها إلى المالك ولكن أحدث المالك له استئماناً‌ ، فقال : أذنتُ لك في حفظها ، أو أودعتُكها ، أو استأمنتُك ، أو أبرأتُك عن الضمان ، فالأقرب : سقوط الضمان عنه ، وعوده أميناً ؛ لأنّ التضمين لحقّ المالك ، وقد رضي بسقوطه ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يزول الضمان ولا يعود أميناً - وهو قول ابن سريج - لظاهر قولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(١) (٢) .

وكذا الخلاف فيما لو حفر بئراً في ملك غيره عدواناً ثمّ أبرأه المالك عن ضمان الحفر(٣) .

ج - لو قال المالك : أودعتُك كذا - ابتداءً - فإن خُنتَ ثمّ تركتَ الخيانة عُدْتَ أميناً لي‌ ، فخان وضمن ثمّ ترك الخيانة ، لم تزل الخيانة ، ولم يَعُدْ أميناً - وبه قال الشافعي(٤) - لأنّه لا ضمان حينئذٍ حتى يسقط ، وهناك الضمان ثابت فيصحّ إسقاطه ، ولأنّ الاستئمان الثاني معلّق.

د : لو قال : خُذْ هذا وديعةً يوماً وغير وديعةٍ يوماً ، فهو وديعة أبداً. ولو قال : خُذْه وديعةً يوماً وعاريةً يوماً ، فهو وديعة في اليوم الأوّل ، وعارية في اليوم الثاني.

وهل يعود وديعةً؟ مَنَع الشافعيّة منه ، وقالوا : لا يعود وديعةً أبداً(٥) .

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٨ / ١٩٦٢٠ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٧ : ٢٥٢ / ٦٨٦٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٥ - ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

١٦٢

مسألة ١٥ : إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجاً لا يتميّز أحدهما عن صاحبه‌ ، كدراهم مزجها بمثلها ، أو دنانير مزجها بمثلها بحيث لا مائز بين الوديعة وبين مال المستودع ، أو مزج الحنطة بمثلها ، كان ضامناً ، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها أو أزيد منها - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه قد تصرّف في الوديعة تصرّفاً غير مشروعٍ ، وعيّبها بالمزج ، فإنّ الشركة عيب ، فكان عليه الضمان ، ولأنّه خلطها بماله خلطاً لا يتميّزا ، فوجب أن يضمنها ، كما لو خلطها بدونه.

وقال مالك : إن خلطها بمثلها أو الأجود منها لم يضمن ، وإن خلطها بدونها ضمن ؛ لأنّه لا يمكنه ردّها إلّا ناقصةً(٢) .

وهو آتٍ في المساوي والأزيد ؛ فإنّ الشركة عيب ، والوقوف على عين الوديعة غير ممكنٍ ، فاشتمل ذلك على المعاوضة ، وإنّما تصحّ برضا المالك.

ولو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعةً ، فمزج أحدهما بالآخَر بحيث لا يتميّز ، ضمن أيضاً ؛ لأنّه تصرّف تصرّفاً غير مشروعٍ في الوديعة ، وربما ميّز بينهما لغرضٍ دعا إليه ، فالخلط خيانة.

وكذا لو أودعه كيساً وكان في يده له كيسٌ آخَر أمانة مجرّدة بأن وقع عليه اتّفاقاً فمزج أحدهما بالآخَر ، كان ضامناً أيضاً.

وكذا لو كان الكيس الآخَر في يده على سبيل الغصب من مالك‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨ ، المغني ٧ : ٢٨١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٦ - ٣٠٧.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، المغني ٧ : ٢٨١ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٧.

١٦٣

الوديعة ، وبالجملة على أيّ وجهٍ كان.

مسألة ١٦ : لو أودعه عشرة دراهم - مثلاً - في كيسٍ‌ ، فإن كان مشدوداً مختوماً فكسر الختم وحلّ الشدّ أو فَعَل واحداً منهما ، ضمن ؛ لأنّه هتك الحرز على ما تقدّم.

وإن لم يكن الكيس مشدوداً ولا مختوماً فأخرج منه درهماً لنفقته ، ضمنه خاصّةً ؛ لأنّه لم يتعدّ في غيره ، فإن ردّه لم يزل عنه الضمان ، فإن لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي ؛ لأنّه لم يتصرّف فيه.

وكذا إن اختلط وكان متميّزاً لم يلتبس بغيره.

وإن امتزج بالباقي مزجاً ارتفع معه الامتياز ، فالوجه : إنّه كذلك لا يضمن الباقي ، بل الدرهم خاصّةً ؛ لأنّ هذا الاختلاط كان حاصلاً قبل الأخذ ، وهو أصحّ قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّ عليه ضمان الباقي ؛ لخلطه المضمون بغير المضمون(١) .

فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه إلّا درهم واحد ، ولو تلفت منها خمسة لم يلزمه إلّا نصف درهمٍ.

ولو أنفق الدرهم الذي أخذه ثمّ ردّ مثله إلى موضعه ، لم يبرأ من الضمان ، ولا يملكه صاحب الوديعة إلّا بالقبض والدفع إليه.

ثمّ إن كان المردود لا يتميّز عن الباقي ، صار الكلّ مضموناً عليه ؛ لخلطه الوديعةَ بمال نفسه ، وإن كان يتميّز فالباقي غير مضمونٍ عليه.

مسألة ١٧ : لو أتلف بعضَ الوديعة ، فإن كان ذلك البعض منفصلاً عن الباقي‌ - كالثوبين إذا أتلف أحدهما - لم يضمن إلّا الـمُتْلَف ؛ لأنّ العدوان‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٨.

١٦٤

إنّما وقع فيه ، فلا يتعدّى الضمان إلى غيره وإن كان الإيداع واحداً.

وإن كان متّصلاً ، كالثوب الواحد يخرقه ، أو يقطع طرف العبد أو البهيمة ، فإن كان عامداً في الإتلاف فهو جانٍ على الجميع ، فيضمن الكلّ.

وإن كان مخطئاً ، ضمن ما أتلفه خاصّةً ، ولم يضمن الباقي - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه لم يتعدّ في الوديعة ، ولا خان فيها ، وإنّما ضمن الـمُتْلَف ؛ لفواته وصدور الهلاك منه فيه مخطئاً.

وفي الثاني لهم : إنّه يضمنه أيضاً ، ويستوي العمد والخطأ فيه ، كما استويا في القدر التالف(٢) .

البحث الثاني : في الإيداع.

مسألة ١٨ : إذا أودع المستودعُ الوديعةَ غيرَه ، فإن كان بإذن المالك فلا ضمان عليه إجماعاً ؛ لانتفاء العدوان.

وإن لم يكن بإذن المالك ، فلا يخلو إمّا أن يودع من غير عذرٍ أو لعذرٍ ، فإن أودع من غير عذرٍ ضمن إجماعاً ؛ لأنّ المالك لم يرض بيد غيره وأمانته.

ولا فرق بين أن يكون ذلك الغير عبدَه أو جاريتَه(٣) أو زوجتَه أو ولدَه أو أجنبيّاً عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(٤) - وذلك لعموم الدليل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٦ - ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٣) « أو جاريته » لم ترد في النسخ الخطّيّة المعتمدة لدينا.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، الوجيز ١ : ٢٨٤ ، الوسيط ٤ : ٥٠٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ و ١٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، البيان ٦ : ٤٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩ ، المغني ٧ : ٢٨٢ و ٢٨٣ ، الشرح =

١٦٥

في الجميع.

وقال مالك : إنّ له أن يودع زوجته(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة : إذا استعان بزوجته أو خادمه في خباء الوديعة ولم تغب عن نظره جاز ، ولا ضمان عليه(٢) .

وقال أبو حنيفة وأحمد : له أن يودع مَنْ عليه نفقته من ولدٍ ووالدٍ وزوجةٍ وعبدٍ ، ولا ضمان عليه بكلّ حال ؛ لأنّه حفظ الوديعة بمن يحفظ به ماله ، فلم يلزمه الضمان ، كما لو حفظها بنفسه(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّه سلّم الوديعةَ إلى مَنْ لم يرض به صاحبها مع قدرته على صاحبها ، فضمنها ، كما لو سلّمها إلى الأجنبيّ.

والقياس عليه باطل ؛ لأنّه إذا حفظ ماله بخادمه أو زوجته فقد رضي المالك بذلك ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ١٩ : إذا أودع من غير إذن المالك ولا عذر ، ضمن‌ ، وكان لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما إذا تلفت ، فإن رجع على المستودع‌

____________________

= الكبير ٧ : ٢٩٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩ ، روضة القُضاة ٢ : ٦١٨ / ٣٥٦٠٤.

(١) بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الذخيرة ٩ : ١٦٢ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٥ - ٤٣٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٧ - ٢٠٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٦١٨ / ٣٥٦٠٣ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٠٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٨ ، الفقه النافع ٣ : ٩٣٩ / ٦٦١ ، المحيط البرهاني ٥ : ٥٢٨ ، المغني ٧ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٩ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٥ / ١٠٦٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الذخيرة ٩ : ١٦٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٧ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩.

١٦٦

الأوّل فلا رجوع له على الثاني ، وإن رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأوّل ؛ لأنّه دخل معه على أن لا يضمن ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : ليس للمالك أن يضمن الثاني ؛ لأنّ قبض الثاني تعلّق به الضمان على الأوّل ، فلا يتعلّق به ضمان على الآخَر(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّه قبض مال غيره ، ولم يكن له قبضه ، فإذا كان من أهل الضمان في حقّه ضمنه ، كما استودعه إيّاه الغاصب.

ودليله ضعيف ؛ لأنّ المستودع الأوّل ضمن بالتسليم ، والثاني بالتسلّم.

مسألة ٢٠ : ولا فرق عندنا بين أن يودع المستودع الوديعةَ عند القاضي أو عند غيره.

وللشافعيّة وجهان - حكاهما [ أبو ](٣) حامد فيما إذا وجد المالك وقدر على الردّ عليه ، وفيما إذا لم يجد - أحدهما : إنّه لا يضمن.

أمّا إذا كان المالك حاضراً : فلأنّ أمانة القاضي أظهر من أمانة المستودع ، فكأنّه جعل الوديعة في مكانٍ أحرز.

وأمّا إذا كان غائباً : فلأنّه لو كان حاضراً لألزمه المودع الردّ ، فإذا كان غائباً ناب عنه القاضي.

والأظهر عند أكثر الشافعيّة : إنّه يضمن.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ ، البيان ٦ : ٤٣٦ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢١ ، المغني ٧ : ٢٨٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠١.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧١ - ١٧٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٨ ، المغني ٧ : ٢٨٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ابن ». والصحيح ما أثبتناه.

١٦٧

أمّا إذا كان المالك حاضراً : فلأنّه لا ولاية للقاضي على الحاضر الرشيد ، فأشبه سائر الناس.

وأمّا إذا كان غائباً : فلأنّه لا ضرورة بالمودع إلى إخراجها من يده ، ولم يرض المالك بيد غيره ، فليحفظه إلى أن يجد المالك أو يتجدّد له عذر(١) .

وعلى تقدير تجويز الدفع إلى القاضي هل يجب على القاضي القبول إذا عرضها المستودع عليه؟

أمّا إذا كان المالك حاضراً والتسليم إليه متيسّراً ، فلا وجه لوجوبه عليه.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، ففي إيجاب القبول للشافعيّة وجهان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّه التزم حفظه ، فيؤمر بالوفاء به.

وأظهرهما : الإيجاب ؛ لأنّه نائب عن الغائب ، ولو كان المالك حاضراً لألزم القبول(٢) .

ولو دفع الغاصبُ الغصبَ إلى القاضي ، ففي وجوب القبول عليه الوجهان(٣) .

لكن هذه الصورة أولى بعدم الوجوب ، ليبقى مضموناً للمالك.

والمديون إذا حمل الدَّيْن إلى القاضي ، فكلّ موضعٍ لا يجب على ربّ الدَّيْن القبول لو كان حاضراً ففي القاضي أولى ، وكلّ موضعٍ يجب على المالك قبوله ففي القاضي الوجهان(٤) .

وهذه الصورة أولى بعدم الوجوب - وهو الأظهر عندهم(٥) - لأنّ الدَّيْن‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٢ - ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٨٩ - ٢٩٠.

(٢ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠.

١٦٨

ثابت في الذمّة لا يتعرّض للتلف ، وإذا تعيّن تعرّض له ، ولأنّ مَنْ في يده العين يثقل عليه حفظها.

وجميع ما ذكرناه فيما إذا استحفظ الغير وأزال يده ونظره على الوديعة ، أمّا إذا استعان به في حملها إلى الحرز فلا بأس ، كما لو استعان في سقي البهيمة وعلفها.

فروع :

أ - لو كانت له خزانة مشتركة بينه وبين أبيه فدفع الوديعة إلى أبيه ليضعها في الخزانة المشتركة ، فالأقرب : الضمان ، إلّا إذا علم المالك بالحال.

ب - لا يجوز أن يضع الوديعة في مكانٍ مشترك بينه وبين غيره‌ ، كدكّانٍ مشترك ودارٍ مشتركة ، فلو وضعها فيه ثمّ أراد الخروج لحاجاته فاستحفظ مَنْ يثق به من متّصليه وكان يلاحظ المحرز في عوداته ، فلا بأس ؛ لأنّه في الحقيقة إيداع مع الحاجة.

ولو فوّض الحفظ إلى بعضهم ولم يلاحظ الوديعة أصلاً ، فالأقرب : الضمان.

ج - لو كان المحرز خارجاً عن داره التي يأوي إليها وكان لا يلاحظه‌ ، فإن كان يشاركه غيره ضمن ، وإلّا فلا.

مسألة ٢١ : لو جعل الوديعة في دار جاره ، فإن كان الموضع محرزاً لا يدخله المالك وكان عاريةً أو مأذوناً فيه فلا ضمان‌ ، وإن لم يكن كذلك ضمن ؛ لأنّه فرّط حيث وضع الوديعة في غير حرزٍ أو في حرزٍ ممنوع منه شرعاً.

ولما رواه محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد‌

١٦٩

العسكريعليه‌السلام : رجل دفع إلى رجلٍ وديعةً فوضعها في منزل جاره فضاعت هل تجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها من ملكه؟ فوقّععليه‌السلام : « هو ضامن لها إن شاء الله »(١) .

مسألة ٢٢ : إذا أراد المستودع ردَّ الوديعة على صاحبها ، كان له ردّها عليه أو على وكيله في قبضها‌ ؛ لأنّ المستودع لا يلزمه إمساكها.

فإن دفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ مع وجود صاحبها أو وكيله ، ضمنها على ما قدّمناه ؛ لأنّ الحاكم والأمين لا ولاية له على الحاضر الرشيد.

وإن لم يقدر على صاحبها ولا وكيله فدفعها إلى الحاكم أو أمينٍ ، فإن كان لغير عذرٍ ضمن ؛ لأنّه لا حاجة به إلى ذلك ، ولا ينوب الحاكم في غير حال الحاجة.

وإن كان به حاجة إلى الإيداع - كأن يخاف حريقاً أو نهباً أو غير ذلك - فدفعها إلى الحاكم أو إلى ثقةٍ ليخلصها من ذلك جاز ، وإن تلفت لا ضمان عليه ؛ لأنّه موضع حاجةٍ ، وقد تقدّم.

مسألة ٢٣ : لو عزم المستودع على السفر ، كان له ذلك‌ ، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة ؛ لأنّه متبرّع بإمساكها ، ويلزمه ردّها إلى صاحبها أو وكيله في استردادها أو في عامّة أشغاله ، فإن لم يظفر بالمالك ؛ لغيبته ، أو تواريه ، أو حبسه وتعذّر الوصول إليه ، ولا ظفر بوكيله ، فإنّه يدفعها إلى الحاكم ، ويجب عليه قبولها ؛ لأنّه موضوع للمصالح ، فإن لم يجد دَفَعها إلى أمينٍ ، ولا يُكلّف تأخير السفر ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت عنده ودائع ، فلـمّا أراد الهجرة سلّمها إلى أُمّ أيمن ، وأمر عليّاًعليه‌السلام بردّها(٢) .

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٠ / ٧٩١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٤٢ ، الهامش (٣)

١٧٠

فإن ترك هذا الترتيب فدفعها إلى الحاكم أو إلى الأمين مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله ، ضمن.

وللشافعيّة خلاف في الحاكم(١) سبق(٢) .

وإن دفع إلى أمينٍ وهو يجد الحاكم ، فللشافعي قولان :

أحدهما - وبه قال علماؤنا ، وأحمد بن حنبل وابن خيران من الشافعيّة والاصطخري منهم - : إنّه يضمنه ؛ لأنّ أمانة الحاكم ظاهرة متّفق عليها ، فلا يُعدل عنها ، كما لا يُعدل عن النصّ إلى الاجتهاد ، ولأنّ الحاكم نائب الغائبين ، فكان كالوكيل ، ولأنّ له ولايةً ، فهو يمسكها بالولاية والعدالة ، بخلاف غيره ، فإنّه ليس له الولاية.

والثاني : إنّه لا يضمن - وبه قال مالك - لأنّه أودع بالعذر أميناً ، فأشبه الحاكم ، ولأنّ مَنْ جاز له دفعها إليه مع عدم الحاكم جاز دفعها إليه مع وجوده ، كوكيل صاحبها(٣) .

وقد نقل أصحاب الشافعي عنه اضطراباً في القول ، فقالوا : هذان القولان للشافعي.

قال في باب الرهن فيما إذا أراد العَدْل ردّ الرهن أو الوديعة - يعني إلى عَدْلٍ - بغير أمر الحاكم : ضمن.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠.

(٢) في ص ١٦٦ ، المسألة ٢٠.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٤٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٠ ، المغني ٧ : ٢٨٣ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٥ / ١٠٦٩ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٩ - ٢٠.

١٧١

وقال هنا في ردّ الوديعة : ولو لم يكن حاضراً - يعني ربّ الوديعة - فأودعها أميناً يودعه ماله، لم يضمن. فلم يفرّق بين أن يجد الحاكم أو لا يجد(١) .

ونقل عنه طريقة قاطعة بأنّه يضمن(٢) .

ونقل عنه أيضاً طريقة قاطعة أنّه لا يضمن(٣) .

وحكى بعض الشافعيّة وجهاً : إنّه يشترط أن يكون الأمين الذي يودعه بحيث يأتمنه ويودع ماله عنده(٤) .

لكنّ الظاهر عندهم خلافه ، وقول الشافعي : « يودعه ماله » على سبيل التأكيد والإيضاح(٥) .

مسألة ٢٤ : ولا يجوز للمستودع إذا عزم على السفر أن يسافر بالوديعة‌ ، بل يجب عليه دفعها إلى صاحبها أو وكيله الخاصّ في الاسترداد أو العامّ في الجميع ، فإن لم يوجد أحدهما دفعها إلى الحاكم ، فإن تعذّر الحاكم دفعها إلى أمينٍ ، ولا يسافر بها ، فإن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ، ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفاً أو غير مخوفٍ - وبه قال الشافعي(٦) - لأنّه سافر بالوديعة من غير ضرورةٍ بغير إذن مالكها فضمن ، كما لو كان الطريق مخوفاً ، ولأنّ حرز‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٤ - ٢٩٥.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥.

(٦) الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، الوسيط ٤ : ٥٠١ ، حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٨ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١ ، المغني ٧ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢٠.

١٧٢

السفر دون حرز الحضر ، وفي الحديث : « إنّ المسافر ومتاعه لعلى قَلَتٍ(١) إلّا ما وقى الله »(٢) .

وقال أبو حنيفة : إذا كان السفر آمناً ، لم يضمن ؛ لأنّه نقل الوديعة إلى موضعٍ مأمون فلم يضمن ، كما لو نقلها في البلد من موضعٍ إلى موضعٍ(٣) .

وهو وجهٌ للشافعيّة ، وكذا إذا كان السفر في البحر إذا كان الغالب فيه السلامة(٤) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ البلد يؤمن أن يطرأ عليه الخوف ، والسفر لا يؤمن فيه مثل ذلك ، ولأنّ البلد في حكم المنزل الواحد وقد رضي مالك الوديعة به ، بخلاف السفر.

مسألة ٢٥ : لو اضطرّ المستودع إلى السفر بالوديعة بأن يضطرّ إلى السفر وليس في البلد حاكم‌ ولا ثقة ولم يجد المالك ولا وكيله ، أو اتّفق جلاءٌ لأهل البلد ، أو وقع حريق أو غارة ونهب ولم يجد المالك ولا وكيله ولا الحاكم ولا العَدْل ، سافر بها ، ولا ضمان عليه إجماعاً ؛ لأنّ حفظها حينئذٍ في السفر بها ، والحفظ واجب ، وإذا لم يتمّ إلّا بالسفر بها كان السفر بها واجباً ، ولا نعلم فيه خلافاً.

____________________

(١) القلت : الهلاك. راجع الهامش التالي.

(٢) غريب الحديث - لابن قتيبة - ٢ : ٥٦٤.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٢٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٧ ، المحيط البرهاني ٥ : ٥٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٧ ، الوسيط ٤ : ٥٠٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ - ٢٩٦ ، المغني ٧ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢٠.

(٤) حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩ (١)

١٧٣

أمّا لو عزم على السفر من غير ضرورةٍ في وقت السلامة وأمن البلد وعجز عن المالك ووكيله وعن الحاكم والأمين فسافر بها ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّه التزم الحفظ في الحضر ، فليؤخّر السفر ، أو ليلتزم خطر الضمان ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا ضمان عليه ، وإلّا لزم أن ينقطع عن السفر ، وتتعطّل مصالحه ، وفيه تنفير عن قبول الودائع(١) .

وشرطوا لجواز السفر بها أمن الطريق ، وإلّا فيضمن(٢) .

أمّا عند وقوع الحريق ونحوه فإنّا نقول : إذا كان احتمال الهلاك في الحضر أقرب منه في السفر ، فله أن يسافر بها ، ولو كان الطريق آمناً فحدث خوفٌ أقام.

ولو هجم القطّاع فألقى المال في مضيعة إخفاءً له فضاع ، فعليه الضمان.

مسألة ٢٦ : لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثمّ سافر ، ضمنها إن كان قد دفن في غير حرزٍ.

وإن دفنها في منزله في حرزٍ ولم يُعلمْ بها أحداً ، ضمنها أيضاً ؛ لأنّه غرّر بها ، لأنّه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها ، ولأنّه ربما يخرب المكان أو يغرق فلا يعلم أحد بمكانها لينقلها فتتلف.

وإن أعلم بها غيره ، فإن كان غير أمينٍ ضمن ؛ لأنّه قد زادها تضييعاً ، لأنّه قد يخون فيها ويطمع.

وإن كان أميناً فإن لم يكن ساكناً في الموضع ، ضمنها ؛ لأنّه لم يودعها‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٢.

١٧٤

عنده.

وإن كان ساكناً في الموضع ، فإن كان ذلك مع عدم صاحبها والحاكم جاز ؛ لأنّ الموضع وما فيه في يد الأمين ، فالإعلام كالإيداع ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، والثاني : إنّه يضمن ؛ لأنّه إعلام لا إيداع(١) .

وإن كان مع القدرة على صاحبها أو وكيله ضمن.

وإن كان مع القدرة على الحاكم ، فعلى الوجهين السابقين.

ولو جعلها في بيت المال ، ضمن ، قاله الشافعي في الأُمّ(٢) .

واختلف أصحابه في معناه.

فمنهم مَنْ قال : أراد بذلك إذا تركها في بيت المال مع القدرة على صاحبها.

ومنهم مَنْ قال : أراد إذا جعلها في بيت المال بنفسه ولم يسلّمها إلى الحاكم(٣) .

ولو خاف المعاجلة عليها فدفنها فلا ضمان.

فروع :

أ - لو راقبها من الجوانب أو من فوق مراقبة الحارس‌ ، فهو كالسكنى في الموضع الذي دُفنت فيه.

ب - قال بعض الشافعيّة : الإعلام كالإيداع‌ من غير فرقٍ بين أن يسكن الموضع أو لا يسكنه(٤) .

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

(٢) الأُمّ ٤ : ١٣٥ ، وعنه في البيان ٦ : ٤٣٤.

(٣) البيان ٦ : ٤٣٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

١٧٥

وإذا دفن الوديعة في غير حرزٍ عند إرادة السفر ، ضمن على ما تقدّم ، إلّا أن يخاف عليها المعاجلة.

وكذا يضمن لو دفنها في حرزٍ ولم يُعلِمْ بها أميناً ، أو أعلم أميناً حيث لا يجوز الإيداع عند الأمين.

ج - هل سبيل هذا الإعلام الإشهاد أو الائتمان؟ إشكال.

وللشافعيّة وجهان(١) .

فعلى الأوّل لا بدّ من إعلام رجلين أو رجل وامرأتين. والظاهر الثاني.

د - كما يجوز إيداع الغير لعذر السفر كذا يجوز لسائر الأعذار‌ ، كما لو وقع في البقعة حريق أو غارة أو خاف الغرق.

وفي معناها ما إذا أشرف الحرز على الخراب ولم يجد حرزاً ينقلها إليه.

ه- لو أودعه حالة السفر فسافر بها أو كان المستودع منتجعاً(٢) فانتجع بها ، فلا ضمان‌ ، لأنّ المالك رضي به حيث أودعه ، فكان له إدامة السفر والسير بالوديعة.

مسألة ٢٧ : إذا مرض المستودع مرضاً مخوفاً أو حُبس ليُقتل ، وجب عليه الإيصاء بالوديعة‌ ، وإن تمكّن من صاحبها أو وكيله ، وجب عليه ردّها إليه ، وإن لم يقدر على صاحبها ولا على وكيله ، ردّها إلى الحاكم.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩١.

(٢) النجعة : طلب الكلأ في موضعه. الصحاح ٣ : ١٢٨٨ « نجع ».

١٧٦

ولو أودعها عند ثقةٍ مع عدم الحاكم جاز ، وإن كان مع القدرة عليه ضمن.

وللشافعيّة وجهان(١) .

ولو لم يوص بها لكن سكت عنها وتركها بحالها حتى مات ، ضمن ؛ لأنّه غرّر بها وعرّضها للفوات ، فإنّ الورثة يقتسمونها ويعتمدون على ظاهر اليد ولا يحسبونها وديعةً ، ويدّعونها لأنفسهم ، فكان ذلك تقصيراً منه يوجب التضمين.

فروع :

أ - التقصير هنا إنّما يتحقّق بترك الوصاية إلى الموت‌ ، فلا يحصل التقصير إلّا إذا مات ، لكن نتبيّن عند الموت أنّه كان مقصّراً من أوّل ما مرض ، فضمّناه ، أو يلحق التلف إذا حصل بعد الموت بالتردّي بعد الموت في بئرٍ حفرها متعدٍّ.

ب - قد توهّم بعض الناس أنّ المراد من الوصيّة بها تسليمها إلى الوصي‌ ليدفعها إلى المالك ، وهو الإيداع بعينه(٢) .

وليس كذلك ، بل المراد الأمر بالردّ من غير أن يخرجها من يده ، فإنّه والحالة هذه مخيّر بين أن يودع للحاجة ، وبين أن يقتصر على الإعلام والأمر بالردّ ؛ لأنّ وقت الموت غير معلومٍ ، ويده مستمرّة على الوديعة ما دام حيّاً.

ج - الأقرب : الاكتفاء بالوصيّة وإن أمكنه الردّ إلى المالك‌ ؛ لأنّه‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٣٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٦.

١٧٧

مستودع لا يدري متى يموت ، فيستصحب الحكم.

ويحتمل أنّه يجب عليه الردّ إلى المالك أو وكيله عند المرض ، فإن تعذّر أودع عند الحاكم أو أوصى إليه ، كما إذا عزم على السفر ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

د - يجب الإيصاء إلى الأمين‌ ، فإن أوصى إلى غير ثقةٍ ، فهو كما لو لم يوص ، ويجب عليه الضمان ؛ لأنّه غرّر بالوديعة.

ولا يجب أن يكون أجنبيّاً ، بل يجوز أن يوصي بها إلى وارثه ، ويُشهد عليه ؛ صوناً لها عن الإنكار.

وكذا الإيداع حيث يجوز أن يودع أميناً.

مسألة ٢٨ : إذا أوصى بالوديعة ، وجب عليه أن يبيّنها ويميّزها عن غيرها‌ بالإشارة إلى عينها أو بيان جنسها ووصفها ، فلو لم يبيّن الجنس ولا أشار إليها بل قال : عندي وديعة ، فهو كما لو لم يوص.

ولو ذكر الجنس فقال : عندي ثوب لفلان ، ولم يصفه ، فإن لم يوجد في تركته جنس الثوب ، فأكثر علمائنا على أنّ المالك يضارب ، فيضارب ربّ الوديعة الغرماء بقيمة الوديعة ؛ لتقصيره بترك البيان ، وهو قول بعض الشافعيّة ، وهو ظاهر مذهبهم(٢) أيضاً.

وقال بعضهم : لا يضمن ؛ لأنّها ربما تلفت قبل الموت ، والوديعة أمانة ، فلا تُضمن بالشكّ(٣) .

وإن وُجد في تركته جنس الثوب ، فإمّا أن يوجد أثواب أو ثوب واحد ، فإن وُجد أثواب ضمن ؛ لأنّه إذا لم يميّز كان بمنزلة ما لو خلط الوديعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٣.

١٧٨

بغيرها ، وذلك سبب موجب للضمان ، فكذا ما ساواه ، وهو عدم تنصيصه على التخصيص.

وإن وُجد ثوبٌ واحد ، ففي تنزيل كلامه عليه إشكال.

قال بعض الشافعيّة : إنّه ينزّل عليه ، ويدفع إليه(١) .

ومنهم مَنْ أطلق القول بأنّه إذا وجد جنس الثوب ضمن ، ولا يدفع إليه عين الموجود.

أمّا الضمان : فللتقصير بترك البيان.

وأمّا أنّه لا يدفع إليه عين الموجود : فلاحتمال أن تكون الوديعة قد تلفت ، والموجود غيرها(٢) . وهو جيّد.

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه إنّما يضمن إذا قال : عندي ثوب لفلان ، وذكر معه ما يقتضي الضمان ، أمّا إذا اقتصر عليه فلا ضمان(٣) .

مسألة ٢٩ : لو مات ولم يذكر عنده وديعة ولكن وُجد في تركته كيس‌ مختوم أو غير مختومٍ مكتوب عليه : إنّه وديعة فلان ، أو وُجد في جريدته : إنّ لفلان عندي كذا وكذا وديعة ، لم يجب على الوارث التسليم بهذا القدر ؛ لأنّه ربما كتبه عبثاً ولهواً أو تلقّناً(٤) أو ربما اشترى الكيس بعد تلك الكتابة فلم يمحها ، أو ردّ الوديعة بعد ما أثبت في الجريدة ولم يمحه.

وبالجملة ، إنّما يثبت كونها وديعةً بأن يُقرّ أنّ هذه وديعة ، ثمّ يموت ، ولا يكون متّهماً في إقراره عندنا ومطلقاً عند جماعةٍ من علمائنا ، أو يُقرّ الورثة بأنّها وديعة ، أو تقوم البيّنة بذلك ، فإذا ثبتت الوديعة بأحد‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٣.

(٤) كذا قوله : « تلقّناً » ، وبدله في العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٨ ، وروضة الطالبين ٥ : ٢٩٤ : « تلبيساً ».

١٧٩

هذه الوجوه وجب على الورثة دفعها إلى مالكها ، فإن أخّروا الدفع مع الإمكان ضمنوا.

ولو لم يعلم صاحبها بموت المستودع ، وجب على الورثة إعلامه ذلك ، ولم يكن لهم إمساك الوديعة إلى أن يطلبها المالك منهم ؛ لأنّ المالك لم يأمنهم عليها ، وذلك كما لو أطارت الريح ثوباً إلى دار إنسانٍ وعلم صاحبها فإنّ عليه إعلامه ، فإن أخّر ذلك مع إمكانه ضمن.

تذنيب : لو لم يوص المستودع بالوديعة فادّعى ربّ الوديعة أنّه قصّر‌ ، وقال الورثة : لعلّها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير ، فالظاهر براءة الذمّة.

ويحتمل الضمان.

تذنيبٌ آخَر : جميع ما قلناه ثابت فيما إذا وجد فرصةً للإيداع أو الوصيّة‌ ، أمّا إذا لم يجد بأن مات فجأةً أو قُتل غيلةً ، فلا ضمان ؛ لأنّه لم يقصّر.

مسألة ٣٠ : قد بيّنّا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ثمّ مات ولم توجد في تركته ، وأنّ الذي يقتضيه النظر عدم الضمان.

والذي عليه فتوى أكثر العلماء منّا ومن الشافعيّة(١) وجوب الضمان.

وقد قال الشافعي : إذا لم توجد بعينها حاصّ المالك الغرماء(٢) .

واختلف أصحابه في هذه المسألة على ثلاث طُرق :

منهم مَنْ قال : إنّما يحاصّ الغرماء بها إذا كان الميّت قد أقرّ قبل موته ، فقال : عندي أو علَيَّ وديعة لفلان ، فإذا لم تُوجد ، كان الظاهر أنّه أقرّ‌

____________________

(١) راجع الهامش (٢) من ص ١٧٧.

(٢) الأُم ٤ : ١٣٨ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٦ - ١٧٧.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392