تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118823 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولو تركها في دكّانه ولم يحملها إلى بيته مع إمكانه ، ضمنها ؛ لأنّ بيته أحرز لها.

ولو أودعه في بيته وقال له : احفظ هذه الوديعة في بيتك ، فجَعَلها في ثيابه وخرج بها ، ضمن ، سواء ربطها وأحكم شدّها أو لا.

ولو ربطها في كُمّه ولم يخرج بها مع إمكان وضعها في الصندوق ونحوه ، ضمن.

ولو كان ذلك لتعذّر فتح قفل الصندوق وشبهه ، فلا ضمان ؛ لأنّه أحرز من البيت.

ولو أودعه في البيت ولم يقل له شيئاً ، فخرج بها مربوطةً في ثيابه ، احتُمل عدم الضمان ؛ لأنّه أحرز عليها بالشدّ والربط ، وذلك حرز مثلها ، ولم ينصّ الـمُودَع على حرزٍ بعينه.

مسألة ٤٦ : إذا نقل المستودع الوديعةَ من صندوقٍ إلى صندوقٍ غيره أو من خريطةٍ(١) إلى أُخرى أو من ظرفٍ إلى آخَر ، فإن كانت الظروف والصناديق للمالك ضمن ؛ لأنّ المالك بوضعه قد عيّن الحرز ، فإذا خالف المستودع ضمن ، إلّا مع الخوف والحاجة إلى النقل ، وإن كانت للمستودع لم يضمن ؛ لأنّ له تفريغَ ملكه ، ولا يتعيّن الحفظ فيما وضعه فيه ، فجاز له النقل.

واضطرب قول الشافعيّة هنا.

فقال بعضهم : إن كانت الخريطة للمالك ، ضمن المستودع بذلك ؛ لأنّه نقلها عن ملك صاحبها إلى غيره ، فأشبه ما لو أخرجها من صندوقه ، وإن كانت الخريطة للمستودع وقد عيّنها المالك ، فإن نقلها إلى مثلها أو‌

____________________

(١) الخريطة : وعاءٌ من أَدَمٍ وغيره. الصحاح ٣ : ١١٢٣ « خرط ».

٢٠١

أحرز منها فلا ضمان ، وإن كان دونها في الحرز ضمن(١) .

وأطلق بعضهم : إنّه إذا كانت الظروف للمالك لا يضمن(٢) .

وأطلق آخَرون منهم والحالة هذه : إنّه يضمن ، كما لو نقلها من بيته(٣) .

وفصَّل آخَرون : إنّه إن لم يَجْر فتح قفلٍ ولا فضّ ختمٍ ولا خَلْط ولم يعيّن المالك ظرفاً ، فلا يضمن بمجرّد النقل ، سواء كانت الصناديق للمستودع أو للمالك ، وإذا كانت للمالك فحصولها في يد الـمُودَع قد يكون بجهة كونها وديعةً أيضاً إمّا فارغة أو مشغولة بالوديعة ، وقد يكون بجهة العارية ، وإن جرى شي‌ء من ذلك فأمّا الفضّ والفتح والخَلْط فإنّها مضمنة.

وأمّا إذا عيّن ظرفاً ، فإن كانت الظروف للمالك فوجهان :

أحدهما : إنّه يضمن ؛ لأنّ التفتيش عن المتاع الموضوع في الصندوق والتصرّف فيه بالنقل لا يليق بحال المستودع.

وأصحّهما : عدم المنع ؛ لأنّ الظرف والمظروف كلاهما وديعتان ، وليس فيه إلّا حفظ أحدهما في حرزٍ والآخَر في غيره ، فعلى هذا إن نقل إلى المثل أو الأحرز فلا بأس ، وإن نقل إلى الأدون ضمن.

وإن كانت الظروف للمستودع ، فهي كالبيوت إجماعاً(٤) .

مسألة ٤٧ : لو أمره بالحفظ في بيتٍ معيّن ونهاه عن أن يُدخل إليها أحداً وعن الاستعانة بالحارسين‌ ، فخالف ، فإن حصل التلف بسبب المخالفة بأن سرق الذين أدخلهم أو الحارسون ، ضمن قطعاً.

____________________

(١) راجع : البيان ٦ : ٤٣٧.

(٢) الوجيز ١ : ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

٢٠٢

وإن حصل بغير ذلك السبب إمّا بحريقٍ أو بسرقة غير الداخلين أو نهب غير الحارسين وأشباه ذلك ، ففي الضمان إشكال ينشأ : من حصول التفريط بالمخالفة ، ولولاه لم يضمن لو تلف بذلك السبب ، ومن حصول التلف بغير سبب المخالفة. والأوّل أقوى.

وعند الشافعيّة أنّه لا يضمن على التقدير الثاني(١) .

ولو قال : لا تُخبر بوديعتي أحداً ، فخالف وأخبر غيره فسرقها المُخْبَر أو مَنْ أخبره ، ضمن ؛ لإفضاء الإخبار إلى السرقة.

وإن تلفت بسببٍ آخَر ، قال بعض الشافعيّة : لا يضمن(٢) .

وفيه إشكال أقربه : الضمان ؛ لحصول التفريط بالإخبار ، وإلّا لم يضمن لو سرقه الـمُخْبَر.

قال بعض الشافعيّة : لو أنّ رجلاً من عرض الناس سأل المستودعَ : هل لفلان عندك وديعة؟ فأخبره بها ، ضمن ؛ لأنّ كتمانها من حفظها ، فإذا أخبره فقد ترك الحفظ(٣) .

مسألة ٤٨ : لو أودعه خاتماً وأمره بجَعْله في خِنْصِره ، فجَعَله في البِنْصِر ، لم يضمن‌ ؛ لأنّه زاده حفظاً وحراسةً ، فإنّ البِنْصر أغلظ من الخِنْصِر ، والحفظ فيه أكثر.

ولو انكسر لغلظها ، ضمن.

وكذا يضمن لو ضاق عنها فوضعه في أنملته العليا من البِنْصِر ؛ لأنّه في أصل الخِنْصِر أحرز.

ولو قال : اجعله في البِنْصِر ، فجَعَله في الخِنْصِر ، فإن كان ضيّقاً لا ينتهي إلى أصل البِنْصِر لم يضمن ؛ لأنّ الذي فَعَله أحرز ، وإن كان ينتهي‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ - ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

٢٠٣

إليه ضمن ؛ لأنّ ما يثبت في البِنْصِر إذا جُعل في الخِنْصِر كان في معرض السقوط.

ولو لم يعيّن المالك شيئاً ، فإن جَعَله في الخِنْصِر لم يضمن إن قصد الحفظ ؛ لأنّ الخِنْصِر حرز في مثل الخاتم ، وإن قصد الاستعمال والتزيّن به ضمن ، وهو أحد الاحتمالين عند الشافعيّة.

والثاني : إنّه يضمن - وبه قال أبو حنيفة - لأنّه استعمال(١) .

وقال بعض الشافعيّة : إن جعل فَصَّه إلى ظهر الكفّ ضمن ، وإلّا فلا ؛ لأنّه بجَعْله إلى ظهر الكفّ يكون قد قصد الاستعمال(٢) .

لكن من آداب التختّم جَعْل الفَصّ إلى بطن الكفّ ، وهو يقدح في هذا التعليل.

ولو جعله في البِنْصِر أو غيره غير الخِنْصِر ، لم يضمن إذا انتهى إلى آخر الإصبع ، إلّا أنّ المرأة قد تتختّم في غير الخِنْصِر ، فيكون غير الخِنْصِر في حقّها كالخِنْصِر.

مسألة ٤٩ : إذا عيّن المالك له موضعاً للحفظ ، لم يجز للمستودع التجاوز عنه‌ ، ويضمن لو نقل على ما تقدّم(٣) .

ولو كان الحرز الذي عيّنه بعيداً عنه ، وجبت المبادرة إليه بما جرت العادة ، فإن أخّر متمكّناً ضمن.

ولو لم يعيّن موضعاً للحفظ ، وجب على المستودع حفظها في حرز مثلها ، ولا يضمن بالنقل عنه وإن كان إلى حرزٍ أدون.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١٠ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

(٣) في ص ١٨٣ ، القسم الثاني من أقسام نقل الوديعة ، ضمن المسألة ٣٣.

٢٠٤

البحث السادس : في التضييع.

مسألة ٥٠ : من الأسباب المقتضية للتقصير التضييعُ‌ ، فإنّ المستودع مأمور بحفظ الوديعة في حرز مثلها بالتحرّز عن أسباب التلف ، فلو أخّر إحرازها مع الإمكان ضمن.

ولو جعلها في مضيعةٍ أو في غير حرز مثلها ، فكذلك.

ولو جعلها في حرزٍ أكبر من حرز مثلها ثمّ نقلها إلى حرز مثلها ، لم يضمن ؛ لأنّ الواجب هو الثاني ، والأوّل تبرّعٌ منه.

ولا فرق بين أن يكون التضييع بالنسيان أو غيره ، فلو استودع فضيّع الوديعة بالنسيان ضمن ؛ لأنّه فرّط في حفظها ، ولأنّ التضييع سبب التقصير ، فيستوي فيه الناسي وغيره ، كالإتلاف ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يضمن ؛ لأنّ الناسي غير متعدٍّ ، والمستودع إنّما يضمن بالتعدّي(١) .

والصغرى ممنوعة ، وحكم الخطأ حكم النسيان ، فلو استودع آنيةً فكسرها مخطئاً ضمن ، ولأنّ الناسي مفرّط ، ولهذا لو نسي الماء في رَحْله فتيمّم فصلّى ثمّ ذكر ، وجب عليه القضاء ، ولأنّه لو انتفع بالوديعة ثمّ ادّعى الغلط وقال : ظننته ملكي ، لم يُصدَّق ، مع أنّ هذا الاحتمال قريب ، فعُلم أنّ الغلط غير دافعٍ للضمان.

مسألة ٥١ : لو سعى المستودع بالوديعة إلى مَنْ يصادر المالك ويأخذ أمواله ، كان ضامناً‌ ؛ لأنّه فرّط في الحفظ ، بخلاف ما لو كانت السعاية من غير المستودع ، فإنّه لا يضمن ؛ لأنّه لم يلتزم بالحفظ.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١١ ، الوجيز ١ : ٢٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٣.

٢٠٥

ولو أخبر المستودعُ اللّصَّ بالوديعة فسرقها ، فإن عيّن له الموضعَ ضمن ؛ لأنّه فرّط في حفظها ، ولو لم يُعيّن المكانَ لم يضمن.

أمّا لو علم الظالم بالوديعة من غير إعلام المستودع فأخذها منه قهراً ، فإنّه لا يضمن ، كما لو سُرقت منه.

وإن أكرهه الظالم حتى دفعها بنفسه ، فكذلك لا ضمان عليه ؛ لانتفاء التفريط منه ، بل يُطالِب المالكُ الظالم بالضمان ، ولا رجوع له إذا غرم.

وهل للمالك مطالبة المستودع بالعين أو البدل؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّه مباشر لتسليم مال الغير إلى غير مالكه ، فإذا رجع المالك عليه رجع هو على الظالم ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، وفي الثاني : ليس له ذلك(١) .

وهذان الوجهان كالوجهين في أنّ الـمُكرَه على إتلاف مال الغير هل يطالَب أم لا؟(٢) .

وعلى كلّ تقديرٍ فقرار الضمان على الظالم.

ومعنى القرار أن لا يرجع الشخص إذا غرم ، ويرجع عليه غيره إذا غرم.

مسألة ٥٢ : إذا خاف المستودع من الظالم إذا منعه من الوديعة وأمكنه مدافعته بالإنكار والاختفاء عنه والامتناع منه ، وجب عليه ذلك‌ على حسب ما يقدر عليه ، فإن ترك الدفع مع القدرة ضمن.

وإن أنكر المستودع الوديعةَ فطلب الظالم إحلافه ، جاز له أن يحلف لمصلحة حفظ الوديعة ، ويورّي إذا كان يُحسنها وجوباً.

ولا كفّارة عليه عندنا ، خلافاً للجمهور ، فإنّهم أوجبوا الكفّارة ؛ لأنّه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٣ - ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

٢٠٦

كاذب(١) .

قال بعض الشافعيّة : وجوب الكفّارة مبنيٌّ على أنّ مَنْ أُكره ليطلّق إحدى امرأتيه فطلّقها ، هل يقع أم لا؟ إن قلنا : لا يقع ، لم تنعقد يمينه(٢) .

ولو أُكره على أن يحلف بالطلاق أو العتاق ، حلف ، ولا يقع أحدهما وإن كان كاذباً ؛ لبطلان اليمين بأحدهما عندنا ، ولا يسلّم الوديعة إلى الظالم.

وقالت العامّة : حاصل هذا الإكراه التخيير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم ، فإن اعترف وسلّم ضمن ؛ لأنّه قد فدى زوجته بالوديعة ، وإن حلف بالطلاق طُلّقت زوجته ؛ لأنّه قدر على الخلاص بتسليم الوديعة ففدى الوديعة بالطلاق(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : إن قلنا : إنّ مَنْ أُكره على طلاق إحدى امرأتيه فطلّق لا يقع ، فهنا إن حلف بالطلاق لم يقع ، وإن اعترف بالوديعة وسلّمها كان كما لو سلّمها مكرهاً(٤) .

البحث السابع : في الجحود‌.

مسألة ٥٣ : إذا طلب المالك الوديعةَ من المستودع فجحدها ، كان ضامناً ؛ لخيانته بالإنكار.

ولو كان الجحود لمصلحة الوديعة ، لم يضمن ؛ لأنّه محسن.

ولو لم يطلبها المالك لكن قال : لي عندك وديعة ، فإن سكت لم يضمن ؛ إذ لم يوجد منه تفريط ولا خيانة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥١٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٤.

٢٠٧

وان أنكر فالأقرب : عدم الضمان ؛ لأنّه لم يمسكها لنفسه ، بخلاف ما لو أنكر بعد الطلب ، وقد يعرض له في الإخفاء والإنكار غرض صحيح.

ويحتمل الضمان ، كما لو أنكر بعد الطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) .

ولو قال بعد الجحود : كنتُ غلطتُ أو نسيتُ الوديعة ، فإن صدّقه المالك لم يضمن ، وإلّا فالأقرب : الضمان.

مسألة ٥٤ : لو قال المستودع ابتداءً من غير سؤال المالك : لا وديعة عندي‌ ، أو قال ذلك في جواب سؤال غير المالك ، لم يضمن بمجرّد الجحود والإنكار ؛ لأنّه لغير المالك ، والوديعة يُسعى في إخفائها ، فإنّه أقرب للحفظ ، سواء كان المالك حاضراً أو غائباً ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٥٥ : لو ادّعي عليه وديعةٌ فأنكر قُدّم قوله مع اليمين‌ ، فإن أقرّ بعد ذلك بها أو قامت عليه بيّنة بها طُولب بها.

فإن ادّعى ردَّها أو تلفها قبل الجحود ، فإن كانت صورة جحوده إنكار أصل الإيداع لم يُصدَّق في دعوى الردّ ؛ لاشتمال كلاميه على التناقض ، وثبوت خيانته ، وأمّا في دعوى التلف فيُصدَّق أيضاً باليمين ، لكنّه يكون ضامناً ، كالغاصب.

والأقوى : إنّ له تحليف المالك على عدم دعواه ؛ لإمكان أن يكون قد نسي الوديعة فجحدها ثمّ ذكر فادّعى التلف لوقوعه ، أو كذب في جحوده ، ولأنّه لو صدّقه المالك في التالف بغير تفريطٍ أو في دعوى الردّ سقط حقّه ، وكان متمكّناً من إحلافه ومن إقامة البيّنة على دعوى الردّ أو التلف ، وهذا كما لو ادّعى حقّاً وقال : لا بيّنة لي ، ثمّ جاء بالبيّنة فإنّها تُسمع منه ، كذا هنا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٤.

٢٠٨

وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : المنع ؛ لأنّه لـمّا أنكر أصل الإيداع كان مكذّباً لدعوى التلف ولبيّنة الردّ ؛ لتوقّفهما على الإيداع(١) .

إذا تقرّر هذا ، فإن قامت البيّنة على الردّ أو على الهلاك قبل الجحود برئ المستودع من الضمان ، وإن قامت البيّنة على التلف بعد الجحود ضمن ؛ لخيانته بالجحود ، ومَنْعِ المالك عنها ، إلّا إذا كان له عذر من خوفٍ عليه أو عليها لو اعترف.

هذا كلّه إذا كانت صورة الجحود إنكار أصل الإيداع ، وإن كانت صورة جحوده : إنّه لا يلزمني تسليم شي‌ءٍ إليك ، أو : ما لك عندي وديعة ، أو : ليس لك عندي شي‌ء ، فقامت البيّنة بالوديعة ، فادّعى الردَّ أو التلف قبل الجحود ، سُمعت دعواه ؛ لانتفاء التناقض بين كلاميه.

ولو اعترف أنّه كان باقياً يوم الجحود ، لم يُصدَّق في دعوى الردّ ، إلّا ببيّنةٍ.

وإن ادّعى الهلاك ، فهو كالغاصب إذا ادّعاه ، وهو مصدَّق بيمينه في دعواه ، وضامن ؛ لخيانته ، وهو ظاهر مذهب الشافعي(٢) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٥.

٢٠٩

الفصل الرابع : في وجوب الردّ عند البقاء‌

مسألة ٥٦ : إذا كانت الوديعة باقيةً وطلبها مالكها ، وجب على المستودع ردّها عليه في أوّل أوقات الإمكان‌ ، ولا تجب عليه مباشرة الردّ ولا تحمّل مئونته ، بل ذلك على المالك ، وإنّما يجب على المستودع رفع يده عنها والتخلية بين المالك والوديعة ، فإن أخّر المستودع ذلك مع إمكانه وطلب الردّ ، كان ضامناً ، وكان ذلك من أسباب التقصير ، السالفة.

ولو تعذّر الردّ ، لم يضمن ، وتجب عليه المبادرة في أوّل أوقات زوال العذر ، فلو طالبه بالردّ ليلاً والوديعة في صندوقٍ أو خزانةٍ لا يمكن فتحها في تلك الحال ، لم يكن مفرّطاً.

وكذا لو طالبه وهو مشغول بالصلاة أو بقضاء حاجةٍ أو طهارة أو في حمّامٍ أو على طعامٍ فأخّر حتى يفرغ ، أو كان ملازماً لغريمٍ يخاف فوته ، أو كان يجي‌ء المطر والوديعة في البيت وأخّر حتى ينقطع ويرجع إلى البيت وما أشبه ذلك ، فهو جائز.

ولا يُعدّ ذلك تقصيراً ولا يؤثّر ضماناً لو تلفت الوديعة في تلك الحال ، على إشكالٍ أقربه : التفصيل ، وهو : إنّ التأخير إن كان لتعذّر الوصول إلى الوديعة فلا ضمان ، وكذا لو كان في صلاة فَرْضٍ.

وإن كان لعُسْرٍ يلحقه وغرض يفوته أو كان في صلاة نَفْلٍ ، فالأقرب : إنّه يضمن ؛ لأنّ دفع الوديعة إلى المالك مع المطالبة واجب مضيَّق ، وهذه الأشياء ليست أعذاراً فيه.

وبعض الشافعيّة جوّز له التأخيرَ في هذه الأشياء بشرط التزام خطر‌

٢١٠

الضمان(١) .

مسألة ٥٧ : لو طلب المالك الوديعةَ ، فقال : لا أردّ إليك حتى تُشهد عليك بالقبض‌ ، فالأقرب : إنّ المالك إن كان وقت الدفع أشهد عليه بالإيداع فللمستودع ذلك ؛ ليدفع عن نفسه التهمة ، وإن لم يكن المالك أشهد عليه عند الإيداع لم يكن له ذلك ، ويكون ضامناً ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : إنّه ليس للمستودع ذلك مطلقاً ؛ لأنّ قوله في الردّ مقبول ، فلا حاجة به إلى البيّنة.

والثالث : إنّ له الامتناعَ مطلقاً ؛ لئلّا يحتاج إلى اليمين ، فإنّ الأُمناء يحترزون عنها ما أمكنهم.

والرابع : إنّه إن كان التوقّف إلى الإشهاد يورث تأخيراً وتعويقاً في التسليم ، لم يكن له الامتناع ، وإلّا فله ذلك(٢) .

مسألة ٥٨ : وإنّما يجب عليه الردّ عند الطلب لو كان المردود عليه أهلاً للقبض‌ ، فلو أودع ثمّ حجر الحاكم عليه للسفه لم يجب الدفع إليه ، بل يرفع أمره إلى الحاكم.

وكذا لو كان الحجر للفلس ؛ لتعلّق حقّ الغرماء بعين الوديعة.

ولو كان المالك نائماً فوضع المستودع الوديعةَ في يده ، كان ضامناً ؛ لعدم التكليف على النائم.

ولو كان الـمُودَع جماعةً وذكروا أنّ المال مشترك بينهم ، ثمّ جاء بعضهم يطلبه ، لم يكن للمستودع دفعه إليه ولا قسمته معه ، بل يرفع‌

____________________

(١) الغزالي في الوسيط ٤ : ٥١٤ ، والوجيز ١ : ٢٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦٨ - ٢٦٩ ، و ٧ : ٣١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٧٠ ، و ٥ : ٣٠٦.

٢١١

الأمر(١) إلى الحاكم ، فيقسمه ويدفع إليه نصيبه ، ويجعل الباقي في يد المستودع.

مسألة ٥٩ : لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى وكيله وردِّها عليه ، فطلبها الوكيلُ ، لم يكن للمستودع الامتناع ولا التأخير مع المكنة‌ ، فإن فَعَل أحدهما كان ضامناً ، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يردّ ، إلّا أنّهما يفترقان في أنّ المستودع له التأخير هنا إلى أن يُشهد المدفوع إليه على القبض ؛ لأنّ المدفوع إليه - وهو الوكيل - لو أنكر الدفع صُدّق بيمينه ، وذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم.

مسألة ٦٠ : لو قال له المالك : ردّ الوديعةَ على فلان وكيلي ، فلم يطلب الوكيلُ الردَّ‌ ، فإن لم يتمكّن المستودع من الردّ فلا ضمان عليه قطعاً ؛ لعدم تقصيره.

وإن تمكّن من الردّ ، احتُمل الضمان ؛ لأنّه لـمّا أمره بالدفع إلى وكيله فكأنّه عزله ، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعيّة.

وللشافعيّة فيه وجهان جاريان في كلّ الأمانات الشرعيّة ، كالثوب تطيّره الريح إلى داره ، وفيه للشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّها تمتدّ إلى المطالبة ، كالودائع.

وأظهرهما : إنّها تنتهي بالتمكّن من الردّ(٢) .

ويجري الوجهان في مَنْ وجد ضالّةً وهو يعرف مالكها(٣) .

ولو قال المالك للمستودع : ردّ الوديعةَ على مَنْ قدرتَ عليه من‌ وكلائي ولا تؤخّر ، فقدر على الردّ على بعضهم وأخّر ليردّه على غيره ، فهو

____________________

(١) في « ث ، ج » : « أمره » بدل « الأمر ».

(٢) الوجيز ١ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

٢١٢

ضامن عاصٍ بالتأخير.

ولو لم يقل : ولا تؤخّر ، فأخّر ضمن بالتأخير.

وفي العصيان للشافعيّة وجهان(١) .

مسألة ٦١ : لو أمره المالك بالدفع إلى وكيله ، أو أمره بالإيداع لـمّا دفعه إليه ابتداءً‌ ، فالأقرب : إنّه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدَّيْن ؛ لأنّ الوديعة أمانة ، وقول المستودع مقبول في الردّ والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأنّ الودائع حقّها الإخفاء ، بخلاف قضاء الدَّيْن ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه يلزمه الإشهاد ، كقضاء الدَّيْن(٢) .

وقد بيّنّا الفرق.

وعلى القول الثاني الحكم فيه كما في الوكالة من أنّه إن دفع في غيبة المالك من غير إشهادٍ ضمن ، وإن دفع وهو حاضر لم يضمن.

مسألة ٦٢ : إذا طلب المالك من المستودع الردَّ فادّعى التلفَ ، فالقول قوله مع اليمين‌ عند علمائنا ، سواء ادّعى التلف بسببٍ ظاهرٍ أو خفيٍّ ؛ لأنّه أمين في كلّ حال ، فكان القولُ قولَه في كلّ حالٍ ، هو أمين فيها.

وقال الشافعي : إمّا أن يذكر المستودع سبب التلف ، أو لا ، فإن ذكر السبب فإن كان خفيّاً كالسرقة ، قُبِل قوله مع اليمين ؛ لأنّه قد ائتمنه ، فليصدّقه.

وإن كان سبباً ظاهراً - كالحريق والغارة والسيل - فإن لم يعرف ما يدّعيه بتلك البقعة لم يُقبل قوله ، بل يُطالَب بالبيّنة على ما يدّعيه ، ثمّ يُقبل قوله مع يمينه في حصول الهلاك به.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧.

٢١٣

وإن عرف ما يدّعيه بالمشاهدة أو الاستفاضة ، فإن عرف عمومه صُدّق بغير يمينٍ ، وإن لم يعرف عمومه واحتمل أنّه لم يصب الوديعة صُدّق باليمين.

وإن لم يذكر سبب التلف صُدّق بيمينه ، ولا يكلَّف بيان سبب التلف ، وإن نكل المستودع عن اليمين حلف المالك على نفي العلم بالتلف واستحقّ(١) .

ولا بأس بهذا القول عندي.

وهل يلحق موت الحيوان والغصب بالأسباب الظاهرة أو الخفيّة؟ إشكال.

مسألة ٦٣ : إذا ادّعى المستودع ردَّ الوديعة ، فإمّا أن يدّعي ردَّها على مَن ائتمنه أو على غيره.

فإن ادّعى ردَّها على مَن ائتمنه - وهو المالك - قُدّم قوله باليمين على إشكالٍ ينشأ : من أنّه أمين يُقبل قوله مع اليمين كالتلف ، ومن كونه مدّعياً فافتقر إلى البيّنة ، فإن قدّمنا قوله باليمين فإن مات قبل أن يحلف ، ناب عنه وارثه ، وانقطع الطلب عنه بحلفه.

وقال الشافعي : إنّه يُقدَّم قول المستودع مع اليمين كالتلف ، ولأنّه أمين له لا منفعة له في قبضه ، وبهذا خالف المرتهن ، فإنّه أمين مع أنّه لا يُقبل قوله ؛ لأنّه قبضه لمنفعته(٢) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧.

(٢) الأُمّ ٤ : ١٣٦ ، مختصر المزني : ١٤٧ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٩ ، الوجيز ١ : ٢٨٧ ، الوسيط ٤ : ٥١٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٧ ، البيان ٦ : ٤٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧ ، الإشراف=

٢١٤

وقال مالك : إنّه إن لم يُشهد عليه بالإيداع صُدّق في دعوى الردّ ، وإن أشهد عليه لم يُصدَّق(١) .

وإن ادّعى [ الردَّ ](٢) على غير مَن ائتمنه ، طُولب بالبيّنة ؛ لأنّ الأصل عدم الردّ ، وهو لم يأتمنه ، فلا يُكلّف تصديقه.

مسألة ٦٤ : لو طلب المالك الوديعةَ ، فقال المستودع : أودعتُها عند وكيلك فلان بإذنك‌ ، فإن أنكر المالك الإذنَ والوكالةَ صُدّق باليمين إذا لم تكن بيّنة ؛ لأنّه منكر.

فإذا حلف نُظر إن كان فلان مُقرّاً بالقبض والوديعة باقية ، رُدّت على المالك ، فإن غاب المدفوع إليه كان للمالك أن يغرم المستودع ، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع وردّها على المالك واستردّ البدل الذي دفعه.

وإن كانت تالفةً ، فللمالك أن يغرم مَنْ شاء منهما ، وليس للغارم منهما أن يرجع على صاحبه ؛ لزعمه أنّ المالك ظالم بما أخذ.

وإن أنكر فلان القبضَ الذي ادّعاه المستودع ، قُدّم قوله مع اليمين وعدم البيّنة ، فحينئذٍ يختصّ الغرم بالمستودع.

وإن اعترف المالك بالإذن وأنكر الدفع إلى فلان ، احتُمل تصديقُ المستودع ، وكان دعوى الردّ على وكيل المالك كدعوى الردّ على المالك‌

____________________

= على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٤ / ١٠٦٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٧ / ١٢١٤ ، المعونة ٢ : ١٢٠٤

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٤ / ١٠٦٥ ، بداية المجتهد ٢ : ٣١٠ ، التفريع ٢ : ٢٧٠ ، التلقين : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، الذخيرة ٩ : ١٤٥ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٧ / ١٢١٤ ، المعونة ٢ : ١٢٠٤ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٨ - ٣١٩.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٢١٥

- وهو وجهٌ للشافعيّة وقول أبي حنيفة(١) - وتصديقُ المالك في عدم الدفع ؛ لأنّ المستودع يدّعي [ الردَّ ](٢) على مَنْ لم يأتمنه ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) .

ولو وافق فلان المدفوع إليه المستودعَ في الدفع وقال : إنّها تلفت في يدي ، لم يُقبل قوله على المالك ، بل يحلف ويضمن المستودع.

ولو اعترف المالك بالإذن والدفع معاً ، لكنّه قال : إنّك لم تُشهد عليه ، والمدفوع إليه ينكر ، كان مبنيّاً على الخلاف السابق في وجوب الإشهاد على الإيداع ، إن أوجبناه ضمن ، وإلّا فلا.

ولو اتّفقوا جميعاً على الدفع إلى الأمين الثاني وادّعى الأمين الثاني الردَّ على المالك أو التلف في يده ، كان حكمه حكم المستودع الأوّل من أنّه يُصدَّق باليمين في دعوى التلف ، وأمّا في الردّ فإشكال.

هذا فيما إذا عيّن المالك الثاني ، فأمّا إذا أمره بأن يودع أميناً ولم يعيّن ، فادّعى الثاني التلفَ ، صُدّق باليمين.

وإن ادّعى الردَّ على المالك وأنكر المالك ، قُدّم قول المالك باليمين ؛ لأنّه يدّعي الردَّ هنا على غير مَن ائتمنه.

ويحتمل مساواته للمعيَّن ؛ لأنّ أمينَ أمينِه أمينُه ، كما يقال عند بعض الشافعيّة : وكيلُ وكيلِه وكيلُه(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٤٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٣٠٩.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٥٤ / ٤١٢ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٨ ، البيان ٦ : ٤٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٣٠٩.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

٢١٦

مسألة ٦٥ : إذا أراد المستودع سفراً فأودعها أميناً ، فادّعى ذلك الأمين التلفَ ، قُبِل قوله مع اليمين.

ولو ادّعى الردَّ على المالك ، لم يُصدَّق إلّا بالبيّنة ؛ لأنّه لم يأتمنه.

وإن ادّعى الردَّ على المستودع ، قُبِل قوله مع اليمين ؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَن ائتمنه إن قلنا بتقديم قول المستودع في الردّ.

ولو عاد المستودع الأوّل من سفره ، فهل له استعادتها من الثاني؟ فيه إشكال ينشأ : من أنّه المستودع بالأصالة ، ومن أنّه بري‌ء من الحفظ المأمور به.

ولا ريب في أنّ للمستودع الاستردادَ من الغاصب.

ولو كان المالك قد عيّن أميناً ، فقال للمستودع : إذا سافرتَ فاجعل الوديعةَ عند فلان ، ففَعَل ثمّ ادّعى فلان الردَّ على المالك ، صُدّق باليمين إن قدّمنا قول المستودع فيه ؛ لأنّه ادّعى [ الردَّ ] على مَن ائتمنه.

وإن ادّعى الردَّ على المستودع الأوّل ، لم يُقبل إلّا بالبيّنة.

مسألة ٦٦ : إذا مات المالك ، وجب على المستودع ردّ الوديعة إلى ورثته ؛ لانتقال ملكها إليهم ، فإن أخَّر مع التمكّن من الردّ إليهم كان ضامناً‌ ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولو لم يجد الوارث ، دَفَعها إلى الحاكم ؛ لأنّه وليّ الغائب.

ولا فرق بين أن يعلم الورثة بالوديعة أو لا.

وقال بعض الشافعيّة : إنّما يجب عليه الدفع إلى الورثة أو إلى الحاكم لو لم يعلموا بالوديعة ، أمّا إذا علموا بها فلا يجب الدفع إلّا بعد الطلب(٢) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٧ - ٣٠٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

٢١٧

ولا بأس به.

ولو طالبه الوارث ، فقال : رددتُ الوديعةَ إلى المالك ، أو تلفت في يدي حال حياته ، قُدّم قوله مع اليمين.

أمّا لو قال : رددتُها عليك ، فأنكر الوارث ، قُدّم قول الوارث مع اليمين قطعاً ؛ لأنّه ادّعى الردَّ على مَنْ لم يأتمنه.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أحدهما ، والثاني : إنّ القول قول المستودع ؛ لأصالة براءة ذمّته(١) .

مسألة ٦٧ : لو مات المستودع ، وجب على وارثه ردّ الوديعة إلى مالكها‌ ، فلو أخّر الدفع بعد التمكّن من الردّ فتلفت في يده ضمن ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة ، والثاني : لا يضمن ؛ لأنّه لم يطلب منه(٢) .

ولو كان المالك غائباً ، سلّمها الوارث إلى الحاكم.

فإن اختلفا فادّعى وارث المستودع ردَّ مورّثه على المالك ، أو قال : تلفت في يده ، فالأقرب : تقديم قوله مع اليمين ؛ لأصالة براءة ذمّته ، وعدم حصولها في يده.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أصحّهما ، والثاني : إنّه يُطالَب بالبيّنة ؛ لأنّ المالك لم يأتمنه حتى يصدّقه(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّ الضمان يترتّب على الاستيلاء ولم يثبت.

أمّا لو قال : أنا رددت عليك ، وأنكر المالك ؛ فإنّ القول قول المالك.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨ ، وفيها أنّ الوجهين فيما لو ادّعى المستودع تلف الوديعة في يده قبل تمكّنه من الردّ ، لا فيما إذا ادّعى الردّ على الوارث.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٨.

٢١٨

ولو قال : تلفت في يدي قبل التمكّن ، احتُمل تقديمُ قوله ؛ لأنّه أمين ، وجرى مجرى الثوب تطيّره الريح إلى داره ، وتقديمُ قول المالك ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي »(١) .

ولو قال مَنْ طيَّر الريحُ الثوبَ إلى داره : رددت على المالك ، أو قال الملتقط : رددت على المالك ، لم يُصدَّقا إلّا بالبيّنة.

مسألة ٦٨ : لو كان في يد رجلٍ مالٌ ، فادّعى رجلان الإيداع‌ ، فقال كلّ واحدٍ منهما : إنّ هذا المال لي وديعة عندك ، فإن كذّبهما معاً فالقول قوله مع اليمين ، فيحلف لكلّ واحدٍ منهما ، وتسقط دعواهما ، ويحلف لكلّ واحدٍ منهما أنّها له وملكه ، أو أنّه لا يلزمه تسليمه إليه.

ولو أقرّ به لأحدهما بعينه ، حُكم بها للمُقرّ له ، ودفع إليه ، ويحلف للآخَر ، فإذا حلف سقطت دعوى الآخَر ، وإن نكل حلف الآخَر ، وكان له إلزامه بالمثل إن كان مثليّاً ، وإلّا فالقيمة وقت الحلف أو الإقرار؟ إشكال.

وللشافعيّة في إحلاف الآخَر قولان مبنيّان على أنّ مَنْ أقرّ بعينٍ في يده لزيدٍ ثمّ أقرّ بها لعمرو هل يغرم لعمرو أو لا؟ فإن قلنا : يغرم ، حلف ، وإن قلنا : لا يغرم ، فلا وجه لإحلافه ؛ لعدم الفائدة(٢) .

وعلى القول بالإحلاف للآخَر للشافعيّة قولان في يمين المدّعي مع نكول المدّعى عليه.

أحدهما : إنّ ذلك يجري مجرى البيّنة.

والثاني : إنّه يجري مجرى الإقرار.

فخرّج أبو العباس ابن سريج من الشافعيّة في هذا الموضع ثلاثةَ أوجُه :

____________________

(١) تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦١.

(٢) البيان ٦ : ٤٤٧ - ٤٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

٢١٩

أحدها : إنّه يوقف المدّعى بينهما إلى أن يصطلحا ؛ لأنّ الإقرار للأوّل قد تقدّم ، وقد حصل هنا ما هو أقوى من الإقرار ، فاستويا.

والثاني : إنّه يُقسم بينهما ، كما لو أقرّ لهما.

والثالث - وهو المذهب المشهور عندهم - : إنّه يغرم للثاني ، كما لو اعترف له بعد الإقرار الأوّل(١) (٢) .

وقال بعض الشافعيّة بعبارةٍ أُخرى : إذا أقرّ لأحدهما ، فهل للآخَر دعوى القيمة؟ يبنى على الخلاف في الغُرْم لو أقرّ للثاني ، إن قلنا : يغرم ، فنعم ، وإن قلنا : لا ، فيبنى على أنّ اليمين بعد النكول كالإقرار أو كالبيّنة؟ إن قلنا : كالإقرار ، لم يدّع القيمة ، وإن قلنا : كالبيّنة ، فله دعواها ، فإن حلف برئ ، وإن نكل حلف المدّعي وأخذها ، ولا تنزع العين من الأوّل ؛ لأنّها وإن كانت كالبيّنة فليست كالبيّنة في حقّ غير المتداعيين(٣) .

وإن قال : هو لكما ، دُفع إليهما معاً ، ويكون بمنزلة مالٍ في يد شخصين يتداعيانه ، فإن حلف أحدهما قضي له بها ، ولا خصومة للآخَر مع المستودع ؛ لنكوله ، وإن نكلا جُعل بينهما ، وكذا لو حلفا ، ويكون حكم كلّ واحدٍ منهما في النصف كالحكم في الكلّ في حقّ غير الـمُقرّ له ، وقد تقدّم.

مسألة ٦٩ : لو قال : المال لأحدكما وقد نسيتُ عينه ، فإن قلنا : إنّ المستودع يضمن بالنسيان ، فهو ضامن.

وإن لم نضمّنه بالنسيان نُظر ، فإن صدّقاه في النسيان فلا خصومة لهما معه ، بل الخصومة بينهما ، فإن اصطلحا على شي‌ءٍ فذاك ، وإلّا جُعل المال كأنّه في أيديهما يتداعيانه ؛ لأنّ صاحب اليد يقول : إنّ اليد لأحدهما ، وليس‌

____________________

(١) الظاهر : « للأوّل ».

(٢) البيان ٦ : ٤٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢١.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بأسهم بينهم شديد ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله :( وقلوبهم شتى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله :( ذلك بأنّهم لا يعقلون ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم( كمثل الذين من قبلهم ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء( ذاقوا وبال أمرهم ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

٢٦١

الحشر

٥٢

التمثيل الثاني والخمسون

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) .(١)

تفسير الآية هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم :( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه :( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم :( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ) .(٢)

ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

__________________

١ ـ الحشر : ١٦.

٢ ـ الحشر : ١٢.

٢٦٢

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ) .(١)

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأوحى له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.(٢)

__________________

١ ـ الأنفال : ٤٨.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٢٦٥.

٢٦٣

الحشر

٥٣

التمثيل الثالث والخمسون

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول :( وخشعت الأصوات ) ،( خاشعة أبصارهم ) ، (أبصارهم خاشعة ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

__________________

١ ـ الحشر : ٢١.

٢٦٤

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه :( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .(١)

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والأصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية الله ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

__________________

١ ـ البقرة : ٧٤.

٢٦٥

الجمعة

٥٤

التمثيل الرابع والخمسون

( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ) .(١)

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار.(٢)

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

__________________

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ مفردات الراغب : مادة «سفر ».

٢٦٦

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال :( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله :( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ) .

٢٦٧

التحريم

٥٥

التمثيل الخامس والخمسون

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) .(١)

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول :( وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ التحريم : ١٠.

٢٦٨

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ) .(١)

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

١. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه :( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

٢. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أخرى ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأت به ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

٣. انّه سبحانه أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ، كما يقول سبحانه :( وأظهره الله عليه ) أي أطلعه الله عليه.

٤. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « مااستقصى كريم قط ».

٥. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأها به

__________________

١ ـ التحريم : ٣.

٢٦٩

قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه :( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن على أنّ

٢٧٠

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (١) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم :( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .(٢)

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

__________________

١ ـ المؤمنون : ١٠١.

٢ ـ الأعراف : ٣٥.

٢٧١

التحريم

٥٦

التمثيل السادس والخمسون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين * وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) .(١)

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله :( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

__________________

١ ـ التحريم : ١١ ـ ١٢.

٢٧٢

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها :( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمن ات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله :( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

١.( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه :( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) (١) وفي سورة الأنبياء قوله :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ) .(٢)

__________________

١ ـ النساء : ١٥٦.

٢ ـ الأنبياء : ٩١.

٢٧٣

٢.( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال :( فنَفخنا فيها من روحنا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً( فنفخنا فيه من روحنا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

٣.( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

٤.( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

٢٧٤

سبحانه :( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) .(١)

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

١. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(٢)

٢. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ) ».(٣)

٣. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى ».

__________________

١ ـ آل عمران : ٤٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٣٢٠.

٣ ـ و ٤. الدر المنثور : ٨ / ٢٢٩.

٢٧٥

الملك

٥٧

التمثيل السابع والخمسون

( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ) .(١)

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه :( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله :( يمشي سوياً ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

__________________

١ ـ الملك : ٢١ ـ ٢٢.

٢٧٦

 التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٩ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٢٧٧

خاتمة المطاف

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَما هِيَ إلاّ ذِكرى لِلبَشر ) .(١)

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وما أدراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي ولا تَذَرُ * لواحَةٌ للبشرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم(٣) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

__________________

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ المدثر : ٢٦ ـ ٣٠.

٣ ـ الدهم : الجماعة الكثيرة.

٢٧٨

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية :( وَما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله :( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) .(١)

فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

١.( فتنة للذين كفروا ) .

٢.( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ) .

٣.( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ) .

٤.( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) .

٥.( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه :( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه :( وَإذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

__________________

١ ـ النجم : ٥ ـ ٦.

٢٧٩

إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون ) .(١)

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله :( ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) (٢) ومن المعلوم

__________________

١ ـ التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥. ٢ ـ القصص : ٨.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392