تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118802 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

- ٥ -

عصمة موسىعليه‌السلام وقتل القبطي ومشاجرته أخاه

إنّ الكليم موسى بن عمران أحد الأنبياء العظام، وصفه سبحانه بأتم الأوصاف وأكملها، قال عزّ من قائل:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيمن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ) (١) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) (٢) .

ووصف كتابه بقوله:( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ) (٣) .

ومع ذلك كلّه: فقد استدلّ المخالف بعدم عصمته بأمرين:

أحدهما: قتله القبطي وتوصيفه بأنّه من عمل الشيطان.

ثانيهما: مشاجرته أخاه مع عدم كونه مقصّ-راً، وإليك البحث عن كل واحد منهما.

____________________

١ - مريم: ٥١ - ٥٣.

٢ - الأنبياء: ٤٨.

٣ - الأحقاف: ١٢.

١٦١

ألف: عصمة موسىعليه‌السلام وقتل القبطي

قال عزّ من قائل:( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُليْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّه فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوّ مُضِلّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفْسِي فَاغْفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) (١) .

ويذكر القرآن تلك القصّة في سورة الشعراء بصورة موجزة ويقول سبحانه:( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُركَ سِنينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) (٢) .

وتدلّ الآيات على أنّ موسىعليه‌السلام ورد المدينة عندما كان أهلها غافلين عنه، إمّا لأنّه ورد نصف النهار والناس قائلون، أو ورد في أوائل الليل، وإمّا لغير ذلك، فوجد فيها رجلين كان أحدهما إسرائيلياً والآخر قبطياً يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته على الآخر، فنصره، فضربه بجمع كفه في صدره فقتله، وبعدما فرغ من أمره ندم ووصف عمله بما يلي:

١ -( هذا من عمل الشيطان ) .

٢ -( ربّ إنّي ظلمت نفسي ) .

٣ -( فاغفر لي فغفر له ) .

٤ -( فعلتها إذاً وأنا من الضّالّين ) .

____________________

١ - القصص: ١٤ - ١٧.

٢ - الشعراء: ١٨ - ٢٠.

١٦٢

وهذه الجمل الأربع تعرب عن كون القتل أمراً غير مشروع؛ ولأجل ذلك وصفه تارة بأنّه من عمل الشيطان، وأُخرى بأنّه كان ظالماً لنفسه، واعترف عند فرعون بأنّه فعل ما فعل وكان عند ذاك من الضالّين ثالثاً، وطلب المغفرة رابعاً.

أقول: قبل توضيح هذه النقاط الأربع نلفت نظر القارئ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الأعمال الإجرامية، ويكفي في ذلك قوله سبحانه:( إِنَّ فِرْعَونَ عَلا فِي الأرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويَسْتَحْي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدينَ ) (١) ، ولم يكن فرعون قائماً بهذه الأعمال إلاّ بعمالة القبطيين الذين كانوا أعضاده وأنصاره، وفي ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالاً ونساءً، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢) ولمّا قال فرعون لموسى:( ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ) (٣) واستعلى عليه بأنّه ربّاه وليداً منذ أن ولد إلى أن كبر أجابه موسى بأنّه هل تمن عليّ بهذا وقد عبدت بني إسرائيل ؟

وعلى ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الأثيمة التي ذبحت مئات بل آلاف الأطفال من بني إسرائيل واستحيوا نساءهم، لا يعد في محكمة العقل والوجدان عملاً قبيحاً غير صحيح، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الإسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله:( يقتتلان ) ، ولو قتله القبطي لم يكن لفعله أيّ ردّ فعل؛ لأنّه كان منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الإنسان الشريف أحد عبيده لأجل تخلّفه عن أمره.

إذا وقفت على ذلك، فلنرجع إلى توضيح الجمل التي توهم المستدل بها

____________________

١ - القصص: ٤.

٢ - الشعراء: ٢٢.

٣ - الشعراء: ١٨.

١٦٣

دلالتها على عدم العصمة فنقول:

١ - إن قوله:( هذا من عمل الشيطان ) يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون لفظ ( هذا ) إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطي والإسرائيلي وانتهت إلى قتل الأوّل، وعلى هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شيء ممّا يتوخّاه المستدل وقد رواه ابن الجهم عن الإمام الرضاعليه‌السلام عندما سأله المأمون عن قوله:( هذا من عمل الشيطان ) فقال: الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله(١) .

الثاني: إنّ لفظ ( هذا ) إشارة إلى قتله القبطي، وإنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان، لوجهين:

ألف: إنّ العمل كان عملاً خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة، فاضطر إلى ترك الدار والوطن بعد ما انتشر سرّه ووقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة، وأتمروا عليه ليقتلوه، ولولا أنّ مؤمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال، لأخذته الجلاوزة وقضوا على حياته، كما قال سبحانه:( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (٢) ، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار وإلقاء الرحل في دار الغربة ( مدين )، والاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيبعليه‌السلام .

فكما أنّ المعاصي تنسب إلى الشيطان، قال سبحانه:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣) ،

____________________

١ - البرهان: ٣/٢٢٤؛ عيون أخبار الرضا: ١/١٩٩.

٢ - القصص: ٢٠.

٣ - المائدة: ٩٠.

١٦٤

فكذلك الأعمال الخاطئة الناجمة من سوء التدبير وضلال السعي، السائقة للإنسان إلى العواقب المرّة، تنسب إليه أيضاً.

فالمعاصي والأعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للإنسان، والعدو لا يرضى بصلاحه وفلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل والعاجل، ولأجل ذلك قال بعدما قضى عليه:( هذا من عمل الشيطان أنّه عدو مضل مبين ) .

ب - إنّ قتل القبطي كان عملاً ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو، ولو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلاً لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة، كما قال سبحانه:( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمينَ ) (١) .

٢ - وبذلك يعلم مفاد الجملة الثانية التي هي من إحدى مستمسكات المستدل أعني قوله:( ربِّ إنّي ظلمت نفسي ) ، فإنّ الكلام ليس مساوقاً للمعصية ومخالفة المولى، بل هو كما صرّح به أئمّة اللغة وقدمنا نصوصهم عند البحث عن عصمة آدم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، وقد عرفت أنّ عمل موسى كان عملاً واقعاً في غير موقعه، وخاطئاً من جهتين: من جهة أنّه ساقه إلى عاقبة مرة، حيث اضطر إلى ترك الأهل والدار والديار، ومن جهة أُخرى أنّه كان عملاً ناشئاً من الاستعجال في إهلاك العدو بلا موجب، ولأجل تينك الجهتين كان عملاً واقعاً في غير محلّه، فصحّ أن يوصف العمل بالظلم، والعامل بالظالم، والذي يعرب عن ذلك أنّه جعله ظلماً لنفسه لا للمولى، ولو كان معصية لكان ظلماً لمولاه وتعدّياً على حقوقه، كما هو الحال في الشرك فإنّه ظلم للمولى وتعدّ

____________________

١ - القصص: ٤٠.

١٦٥

عليه، قال سبحانه:( لا تُشْرِكْ بِاللهِ إنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) .

٣ - وأمّا الجملة الثالثة، أعني قوله:( فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم ) ، فليس طلب المغفرة دليلاً على صدور المعصية؛ لأنّه بمعنى الستر، والمراد منه إلغاء تبعة فعله وإنجاؤه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملئه، وقد عبّر عنه سبحانه:( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ) (٢) ، وقد نجّاه سبحانه بإخبار رجل من آل فرعون عن المؤامرة عليه، فخرج من مصر خائفاً يترقّب إلى أن وصل أرض مدين، فنزل دار شعيب، وقصّ عليه القصص، وقال له شعيب:( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظالِمِين ) (٣) .

وبذلك غفر وستر عمله ونجّاه سبحانه من أعين الفراعنة، ومكّن له الورود إلى ماء مدين والنزول في دار أحد أنبيائهعليهم‌السلام .

أضف إلى ذلك: أنّ قتل القبطي وإن لم يكن معصية ولكن كان المترقّب من موسى تركه وعدم اقترافه، فصدور مثله من موسى يناسب طلب المغفرة، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، إذ ربّ عمل مباح لا يؤاخذ به الإنسان العادي ولكنّه يؤاخذ به الإنسان العارف، فضلاً عن شخصية إلهيّة سوف تبعث لمناضلة طاغية العصر، فكان المناسب لساحتها هو الصبر والاستقامة في حوادث الحياة، حلوها ومرّها، والفصل بين المتخاصمين بكلام ليّ-ن، وقد أمر به عندما بعث إلى فرعون فأمره سبحانه أن يقول له قولاً ليّناً(٤) ، وقد أوضحنا مفاد هذه الكلمة عند

____________________

١ - لقمان: ١٣.

٢ - طه: ٤٠.

٣ - القصص: ٢٥.

٤ - طه: ٤٤.

١٦٦

البحث عن آدم وحواء إذ:( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ ) (١) .

٤ - وأمّا قوله سبحانه:( فعلتها إذاً وأنا من الضالين ) ، فالمراد من الضلال هو الغفلة عمّا يترتّب على العمل من العاقبة الوخيمة، ونسيانها، وليس ذلك أمراً غريباً، فقد استعمل في هذين المعنيين في الذكر الحكيم، قال سبحانه:( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ) (٢) ، فالمراد نسيان أحد الشاهدين وغفلته عمّا شهد به، وقال سبحانه:( ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ءَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٣) أي إذا غبنا فيها.

قال في لسان العرب: الضلال: النسيان وفي التنزيل:( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخرى ) أي يغيب عن حفظها، ومنه قوله تعالى:( فعلتها إذاً وأنا من الضالين ) وضللت الشيء: أنسيته وأصل الضلال: الغيبوبة يقال ضلّ الماء في اللبن إذا غاب، ومنه قوله تعالى:( ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ءَإِنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٤) .

وعلى الجملة: إنّ كليم الله يعترف بتلك الجملة عندما اعترض عليه فرعون بقوله:( وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ) ويعتذر عنها بقوله:( فعلتها إذاً وأنا من الضالين ) ، والمناسب لمقام الاعتذار هو تفسير الضلال بالغفلة عمّا يترتّب على العمل من النتائج ونسيانها.

____________________

١ - الأعراف: ٢٣.

٢ - البقرة: ٢٨٢.

٣ - السجدة: ١٠.

٤ - لسان العرب: ١١/٣٩٢- ٣٩٣، مادة ( ضل ).

١٦٧

وحاصله: أنّه قد استولت علىّ الغفلة حين الاقتراف، وغاب عنّي ما يترتّب عليه من ردّ فعل ومر العاقبة، ففعلت ما فعلت.

ومن اللحن الواضح تفسير الضلالة بضد الهداية، كيف وإنّ الله سبحانه يصفه قبل أن يقترف القتل بقوله:( آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، كما أنّ نفس موسى بعد ما طلب المغفرة واستشعر إجابة دعائه قال:( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) (٢) ، أفيصح بعد هذا تفسير الضلالة بالغواية ضد الهداية ؟! كلا و لا.

هذا كلّه حول المستمسك الأوّل، أعني: قتل القبطي، فهلمّ معي ندرس المستمسك الثاني للخصم من اتهام كليم الله الأعظم - عليه وعلى جميع رسل الله آلاف الثناء والتحيّة - بعدم العصمة.

ب - مشاجرته أخاه هارونعليه‌السلام

إنّ الله سبحانه واعد موسى - بعد أن أغرق فرعون - بأن يأتي جانب الطور الأيمن فيوفيه التوراة التي فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاج إليه، وكانت المواعدة على أن يوافي الميعاد مع جماعة من وجوه قومه، فتعجّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربّه وسبقهم على أن يلحقوا به، ولمّا خاطبه سبحانه بقوله:( وما أعجلك عن قومك يا موسى ) أجابه بأنّهم( على أثري ) وورائي يدركونني عن قريب، وعند ذلك أخبره سبحانه بأنّه امتحن قومه بعد فراقه( وأضلّهم السامري ) ، فرجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل حزيناً مغضباً، فرأى أنّ السامري

____________________

١ - القصص: ١٤.

٢ - القصص: ١٧.

١٦٨

( أخرج لهم عجلاً ) جسداً له صوت، وقال: إنّه إله بني إسرائيل عامة، وتبعه السفلة والعوام، واستقبل موسى هارون فألقى الألواح وأخذ يعاتب هارون ويناقشه، وهذا ما يحكيه سبحانه في سورتين ويقول:( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوْا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) .

ويقول سبحانه:( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفَاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّكُمْ فَأَخَلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (٢) .

فهاهنا يطرح سؤالان:

١- لماذا ألقى الألواح ؟

٢- لماذا ناقش أخاه وقد قام بوظيفته ؟

وإليك تحليل السؤالين بعد بيان مقدّمة وهي:

إنّ موسى قد خلف هارون عندما ذهب إلى الميقات، وقد حكاه سبحانه بقوله:( وَقَالَ مُوسَى لأخيه هَارُونَ اخُلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) وقام هارون بوظيفته في قومه، فعندما أضلّهم السامري ناظرهم بقوله:( يا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) (٤) واكتفى في ذلك بالبيان واللوم ولم يقم في وجههم بالضرب والتأديب وقد بيّنه

____________________

١ - الأعراف: ١٥٠.

٢ - طه: ٨٦، ٩٢ - ٩٤.

٣ - الأعراف: ١٤٢.

٤ - طه: ٩٠.

١٦٩

لأخيه بقوله:( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) .

هذا ما يخصّ هارون، وأمّا ما يرجع إلى موسى، فقد أخبره سبحانه عن إضلال السامري قومه بقوله:( فَإنَّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِريّ ) (١) ، ورجع إلى قومه غضبان أسفاً وخاطبهم بقوله:( بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجَلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكمْ ) وقال أيضاً :( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ ) وفي هذا الظرف العصيب أظهر كليم الله غضبه بإنجاز عملين:

١- إلقاء الألواح جانباً.

٢- مناقشته أخاه بقوله:( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ، فعند ذلك يطرح السؤالان نفسهما :

لماذا ألقى الألواح أوّلاً ؟ ولماذا ناقش أخاه وناظره وقد قام بوظيفته ثانياً ؟ فنقول:

لا شك أنّ ما اقترفه بنو إسرائيل من عبادة العجل كان من أقبح الأعمال وأفظعها كيف ؟! وقد أهلك الله عدوهم وأورثهم أرضهم، فكان المترقّب منهم هو الثبات على طريق التوحيد ومكافحة ألوان الشرك - ومع الأسف - فإنّهم كفروا بعظيم النعمة، وتركوا عبادته سبحانه، وانخرطوا في سلك الثنوية مع الجهل بقبح عملهم وفظاعة فعلهم.

إنّ أُمّة الكليم، وإن كانت غافلة عن مدى قبح عملهم، لكنّ سيّدهم ورسولهم كان واقفاً على خطورة الموقف وتعدّي الأُمّة، فاستشعر بأنّه لو لم يكافحهم بالعنف والشدّة ولم يقم في وجههم بالاستنكار مع إبراز التأسّف

____________________

١ - طه: ٨٥.

١٧٠

والغضب، فربّما تمادى القوم في غيّهم وضلالهم وحسبوا أنّهم لم يقترفوا إلاّ ذنباً خفيفاً أو مخالفة صغيرة ولم يعلموا أنّهم حتى ولو رجعوا إلى الطريق المهيع، واتّبعوا جادة التوحيد ربّما بقيت رواسب الشرك في أغوار أذهانهم، فلأجل إيقافهم على فظاعة العمل، قام في مجال الإصلاح مثل المدير الذي يواجه الفساد فجأة في مديريته ولا يعلم من أين تسرّب إليها.

فأوّل ما يبادر إليه هو مواجهة القائم مقامه الذي خلفه في مكانه، وأدلى إليه مفاتيح الأُمور، فإذا ثبتت براءته ونزاهته وأنّه قام بوظيفته خير قيام حسب تشخيصه ومدى طاقته، تركه حتى يقف على جذور الأمر والأسباب الواقعية التي أدّت إلى الفساد والانهيار.

وهكذا قام الكليم بمعالجة القضية، وعالج الواقعة المدهشة التي لو بقيت على حالها، لانتهت إلى تسرّب الشرك إلى عامّة بني إسرائيل وذهب جهده طوال السنين سدى، فأوّل رد فعل أبداه، أنّه واجه أخاه القائم مقامه في غيبته، بالشدّة والعنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف، فأخذ بلحيته ورأسه مهيمناً عليه متسائلاً بأنّه لماذا تسرّب الشرك إلى قومه مع كونه فيهم ؟! ولمّا تبيّنت براءته وأنّه أدّى وظيفته كما يحكيه عنه سبحانه بقوله:( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بيَ الأعداءَ وَلا تجعلني مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) اندفع إليه بعطف وحنان ودعا له فقال:( رَبِّ اغْفِرْ لِي ولأخي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (١) إنّ طلب المغفرة لنفسه وأخيه لا يدل على صدور أيّ خلاف منهما، فإنّ الأنبياء والأولياء لاستشعارهم بخطورة الموقف وعظمة المسؤولية، ما زالوا يطلبون غفران الله ورحمته لعلوّ درجاتهم، كما هو واضح لمَن تتبّع أحوالهم، وسيوافيك بيانه عند البحث عن عصمة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

١ - الأعراف: ١٥١.

١٧١

وبعدما تبيّن أنّ السبب الواقعي لتسرّب الشرك إلى قومه هو السامري وتبعه السفلة والعوام، أخذ بتنبيههم بقوارع الخطاب وعواصف الكلام بما هو مذكور في سورتي الأعراف وطه، نكتفي ببعضها حيث خاطب عَبَدَة العجل بقوله:

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) (١) .

ولمّا واجه السامري خاطبه بقوله:( فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرىُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الْرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فِإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفَاً * إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شيءٍ عِلْماً ) (٢) .

وبما ذكرنا يعلم أنّه لماذا ألقى الألواح وتركها جانباً ؟ فلم يكن ذاك العمل إلاّ كردّ فعلٍ على عملهم القبيح وفعلهم الفظيع إلى حد استولى الغضب على موسى فألقى الألواح، التي ظل أربعين يوماً في الميقات لتلقّيها، حتى يحاسب القوم حسابهم ويقفوا على أنّهم أتوا بأعظم الجرائم وأكبر المعاصي.

____________________

١ - الأعراف: ١٥٢.

٢ - طه: ٩٥ - ٩٨.

١٧٢

- ٦ -

عصمة داودعليه‌السلام وقضاؤه في النعجة

قد وصف سبحانه داود النبيعليه‌السلام بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية، قال سبحانه:( واذكر عَبدنا داود ذا الأيدِ إنّه أوّاب ) .

وقد ذكر ملكه وسلطنته على الجبال والطيور على وجه يمثّل أقوى طاقة نالها البشر طيلة استخلافه على الأرض.

قال سبحانه:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيّ وَ الإشراقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (١) .

فقد أخبر في الآية الأخيرة بأنّه أُوتي الحكمة وفصل الخطاب، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه وجزئياته.

ثمّ إنّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في ( نبأ الخصم ) ويقول:

( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوْا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ

____________________

١ - ص: ١٨ - ٢٠.

١٧٣

نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَليلٌ مَا هُمْ وَظَّنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرَنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيَفَةً فِي الأرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيِلِ اللهِ ) (١) .

لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الاَنبياء بقوله تعالى:( فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرَنَا لَهُ ذَلِكَ ) حيث إنّ الاستغفار وغفرانه سبحانه له، آية صدور الذنب.

والإجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية وإيضاح القصة فنقول:

إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدّة أُمور:

١- توضيح مفرداتها.

٢- إيضاح القصة.

٣- هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟

٤- لماذا استغفر داود، وهل كان استغفاره للذنب أو لأجل ترك الأولى ؟

وإليك بيان هذه الأمور:

١- توضيح المفردات

( الخصم ): مصدر ( الخصومة )، أُريد به الشخصان.

____________________

١ - ص: ٢١ - ٢٦.

١٧٤

( التسوّر ): الارتقاء إلى أعلى السور، وهو ما كان حائطاً، ( كالتسنّم ) بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير، و ( التذرّي ) بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبال، والمراد من المحراب في الآية الغرفة.

( الفزع ): انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع.

( الشطط ): الجور.

( النعجة ): الأُنثى من الضأن.

والمراد من قوله: ( اكفلنيها ): اجعلها في كفالتى وتحت سلطتى، ومن قوله ( عزّني في الخطاب): أنّه غلبنى فيه.

هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.

٢- إيضاح القصّة

كان داودعليه‌السلام جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه، وكانا أخوين يملك أحدهما تسعاً وتسعين نعجة ويملك الآخر نعجة واحدة، وطلب الأوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده، مدّعياً كونه محقّاً فيما يقترحه على أخيه، وقد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجهٍ هيّج رحمة النبي داود وعطفه.

فقضىعليه‌السلام طبقاً لكلام المدّعي من دون الاستماع إلى كلام المدّعى عليه، وقال:( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) .

ولما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته، وأنّ رفع الشكوى إليه كان فتنة وامتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه( فاستغفر ربّه وخرّ راكعاً وأناب ) .

١٧٥

٣ - هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟

إنّ القرائن الحافّة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر، وهذه القرائن عبارة عن:

١ - تسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي، مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس، ولا أقل بمَن يطلعه على الأمر، فلو كان الدخول بإذنهم كان داودعليه‌السلام مطّلعاً عليه ولم يكن هناك أيّ فزع.

٢- خطاب الخصمين لداودعليه‌السلام بقولهم:( لا تخف ) مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي، وطبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعيّة.

٣ - إنّ خطابهما لداود بما جاء في الآية، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم لهعليه‌السلام ، يقول سبحانه:( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (١) ، ويقول سبحانه:( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (٢) .

٤ - تنبّههعليه‌السلام بأنّه كان فتنة من الله له وامتحاناً منه، وهي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية، وهذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.

٥ - إنّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته وحكمه بين الناس؛ حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته، ولا يغفل عن التثبت

____________________

١ - الحجر: ٥١ - ٥٣.

٢ - الذاريات: ٢٨.

١٧٦

ولأجل ذلك خاطبه سبحانه بعد قضائه في ذلك المورد بقوله:( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرضِ فاحكم بين الناس بالحق ) كل ذلك يؤيّد كون الخصمين من الملائكة تمثّلوا له بصورة رجلين من الإنس.

نعم كانت القصّة وطرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصّة ضيف إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) لا بصورة الرؤيا وما أشبهها.

٤ - كون الاستغفار لأجل ترك الأولى

استدلت المخطّئة باستغفاره وإنابته إلى الله، على صدور ذنب منه ولكنّه لا يدل على ذلك:

أمّا أوّلاً : إنّ قضاءه لم يكن قضاء باتّاً خاتماً للشكوى، بل كان قضاءً على فرض السؤال، وإنّ مَن يملك تسعاً وتسعين نعجة ولا يقتنع بها ويريد ضمّ نعجة أخيه إليها، ظالم لأخيه، وكان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً وإن كان الأولى والأليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ولا يتسرّع في القضاء ولو بالنحو التقديري.

وإنّما بادر إليه لأنّهعليه‌السلام فوجئ بالقضية ودخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبّت اللائق به.

ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع، كان فتنة وامتحاناً من الله بالنسبة إليه( استغفر ربّه وخرّ راكعاً وأناب ) تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه أوّلاً، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة ثانياً.

وثانياً : إنّ من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدّعى عليه؛ لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق وأنّ الحق مع المدّعي، فقضى بلا استماع

١٧٧

لكلام المدّعى عليه، نعم الأولى له حتى في هذه الصورة ترك التسرّع في إصدار الحكم، والقضاء بعد الاستماع، ولمّا ترك ما هو الأولى بحاله استغفر لذلك، وقد تكرّر منّا، أنّ ترك الأولى من الأنبياء ذنب نسبي وإن لم يكن ذنباً على وجه الإطلاق.

وثالثاً: لمّا كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة، ولم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك، كما أنّ خطيئة آدمعليه‌السلام كانت في الجنّة ولم تكن الجنّة دار تكليف، ومع ذلك كلّه لمّا كان التسرّع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه استغفر داود وأناب إلى الله استشعاراً بخطر المسؤولية بحيث يعد ترك الأولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.

نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية - لا يشك ذو مسكة من العقل - أنّها إسرائيليات تسرّبت إلى الأُمّة الإسلامية عن طريق أحبار اليهود ورهبان المسيحية، فالأولى الضرب عنها صفحاً، وسياق الآيات يكشف عن أنّ زلّته لم تكن إلاّ في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الأحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره؛ ولأجله يقول الإمام عليعليه‌السلام في حق مَن وضع هذه الترّهات أو نسبها إلى النبي داودعليه‌السلام : ( لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة ( أُوريا ) إلاّ جلدته حدّين: حدّاً للنبوّة وحدّاً للإسلام )(١) .

____________________

١ - مجمع البيان: ٤/٤٧٢ ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.

١٧٨

- ٧ -

عصمة سليمانعليه‌السلام

ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك

إنّ سليمان النبيعليه‌السلام أحد الأنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها، وآتاه الله الحكم والحلم والعلم، قال سبحانه:( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ) (١) ، وقال عز من قائل:( وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً ) (٢) ، وعلّمه منطق الطير قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) (٣) ، ووصف الله قدرته بقوله:( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ والإنسِ وَالطَّيْرِ ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه وعلوّ درجاته.

روى أصحاب السِيَر: كان سليمان صلّى الصلاة الأُولى، وقعد على كرسيّه والخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس فقال:( آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي، وأنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر ) فأمر بردّ الخيل فأخذ يضرب سوقها وأعناقها؛ لأنّها كانت سبب فوت صلاته(٥) .

____________________

١ - النمل: ١٥.

٢ - الأنبياء: ٧٩.

٣ - النمل: ١٦.

٤ - النمل: ١٧.

٥ - تفسير الطبري: ٢٣/٩٩ - ١٠٠؛ الدر المنثور: ٥/٣٠٩.

١٧٩

وفي بعض التفاسير أنّ المراد من ( ردّوها ) هو طلب ردّ الشمس عليه، فردّت فصلّى العصر(١) .

ويدّعي بعض هؤلاء أنّ ما ساقوه من القصّة تدل عليه الآيات التالية، أعني قوله سبحانه:( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدِ إِنَّهُ أوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحَاً بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ ) (٢) .

فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمرٍ آخر خفيٍّ على هؤلاء، وأنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب، كما سيوافيك بيانه ؟

ونقد هذه القصّة المزعومة يتوقّف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارئ على أنّ-ها من قبيل التفسير بالرأي، الممنوع، ومن تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن وهو بريء منها.

أقول:

١ -( الصافنات ) : جمع ( الصافنة )، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض حتى يكون على طرف الحافر.

٢ -( الجياد ) : جمع ( الجواد ) ،وهي السراع من الخيل، كأنّها تجود بالركض.

٣ -( الخير ) : ضد ( الشر )، وقد يُطلق على المال كما في قوله سبحانه:( إنْ تَرَكَ خَيراً ) (٣) ، والمراد منه هنا هي ( الخيل )، والعرب تسمّي الخيل خيراً، وسمّى

____________________

١ - مجمع البيان ناسباً إلى ( القيل ) : ٤/٤٧٥.

٢ - ص: ٣٠ - ٣٣.

٣ - البقرة: ١٨٠.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني : إنّه لا يعتبر رضا الـمُستعير فيه ، بل يُجبر على ما يختاره الـمُعير منهما(١) .

وله قولان آخَران :

أحدهما : إنّ الـمُعير إن طلب التملّك بالقيمة أُجبر الـمُستعير عليه ، كتملّك الشفيع الشقصَ قهراً ، وإن طلب الإبقاء بالأُجرة اعتبر رضا الـمُستعير فيه.

والثاني : إنّ الـمُعير يتخيّر بين أمرين خاصّة ، أحدهما : القلع مع ضمان الأرش ، والثاني : التملّك بالقيمة(٢) .

والأصل فيه : إنّ العارية مكرمة ومبرّة ، فلا يليق بها منع الـمُعير من الرجوع ولا تضييع مال الـمُستعير ، فأثبتنا الرجوع على وجهٍ لا يتضرّر به الـمُستعير ، وجعلنا الأمر منوطاً باختيار الـمُعير ؛ لأنّه الذي صدرت منه هذه المكرمة ، ولأنّ ملكه الأرض وهي أصل ، وأمّا البناء والغراس فإنّهما تابعان لها ، ولذلك(٣) يتبعانها في البيع(٤) .

ولو طلب الـمُستعير تملّك الأرض وقال : أنا أدفع قيمة الأرض إلى الـمُعير ليبقى البناء والغراس ، لم يُجبر الـمُعير على ذلك ، والفرق بينه وبين الـمُستعير ما تقدّم من كون البناء والغرس تابعين(٥) ، وكون الأرض متبوعةً ، فلهذا أُجيب المالك إلى ما طلبه من تملّك البناء والغرس بالقيمة وما طلبه‌ الـمُستعير من تملّك الأرض بالقيمة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ - ٣٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٣) في الطبعة الحجريّة و « العزيز شرح الوجيز » : « كذلك ».

(٤) راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تابعان ». والمثبت هو الصحيح.

٢٦١

مسألة ١٠٣ : لو لم يختر الـمُستعير قلع غرسه ولا قلع بنائه مع الإذن المطلق فيهما ، لم يُجبر على القلع‌ ، إلّا أن يضمن الـمُعير أرش النقص ، فحينئذٍ يلزمه تفريغ الأرض من بنائه وغرسه وردّها إلى ما كانت عليه.

واعلم أنّ مَنْ جعل الأمر موكولاً إلى اختيار الـمُعير في القلع بالأرش والإبقاء بالأُجرة والتملّك بالقيمة قال : منه الاختيار ومن الـمُستعير الرضا واتّباع مراده ، فإن لم يفعل وامتنع من إبلاغه مراده ألزمناه بتفريغ أرضه.

ومَن اعتبر رضا الـمُستعير في التملّك بالقيمة والإبقاء بالأُجرة فلا يكلّف التفريغ ، بل يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يختر الـمُعير شيئاً ممّا خيّرناه فيه.

ومَنْ قصر خيرة الـمُعير على أمرين : القلع بشرط الضمان ؛ لنقص الأرض ، والتملّك بالقيمة قال : لو امتنع من بَذْل الأرش والقيمة وبَذَل الـمُستعير الأُجرة لم يكن للمُعير القلع مجّاناً ، وإن لم يبذلها فوجهان ، أظهرهما عندهم : إنّه ليس له ذلك أيضاً(١) .

وبه أجاب مَنْ خيَّره بين الخصال الثلاث إذا امتنع منها جميعاً(٢) .

وما الذي يفعل؟ اختلفت الشافعيّة على قولين :

أحدهما : إنّ الحاكم يبيع الأرض مع البناء والغراس لتفاصل الأمر.

والثاني - وهو قول الأكثر - : إنّه يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختارا شيئاً(٣) .

والتحقيق عندي هنا أن نقول : إذا أعاره للبناء أو الغرس أو لهما ففَعَل ثمّ رجع عن الإذن بعد وقوع الفعل ، فإمّا أن يطلب الـمُعير القلع أو‌

____________________

(١ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧.

٢٦٢

الـمُستعير ، فإن طلبه الـمُستعير لم يكن للمُعير ردّه عن ذلك ، وإن طلبه الـمُعير لم يكن للمُستعير ردّه عن ذلك ، ويضمن كلٌّ منهما نقص ما دخل على الآخَر.

مسألة ١٠٤ : يجوز للمُعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر‌ ؛ لأنّه جالس على ملكه ، وليس له الانتفاع بشي‌ءٍ من الشجر بثمر ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك ، ولا بضرب وتدٍ في الحائط ، ولا التسقيف عليه.

وليس للمُستعير دخول الأرض للتفرّج ، إلّا بإذن الـمُعير ؛ لأنّه تصرّف غير مأذونٍ فيه.

نعم ، يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمّة الجدار ؛ حراسةً لملكه عن التلف والضياع ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة. والثاني : المنع ؛ لأنّه يشغل ملك الغير إلى أن ينتهي إلى ملكه(١) .

وعلى ما اخترناه من الجواز لو تعطّلت المنفعة على صاحب الأرض بدخوله ، لم يُمكَّن منه إلّا بالأُجرة ؛ جمعاً بين حفظ المالين.

مسألة ١٠٥ : إذا بنى أو غرس في أرض الـمُعير بإذنه أو بغير إذنه ، جاز لكلٍّ منهما أن يبيع ملكه من الآخَر‌ ، ويجوز للمُعير أن يبيع الأرض من ثالثٍ ، ثمّ يتخيّر المشتري كالـمُعير.

وكذا للمُستعير أن يبيع من ثالثٍ أيضاً - وهو أصحّ وجهي‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، البيان ٦ : ٤٦٤ - ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

٢٦٣

الشافعيّة(١) - لأنّه مملوك له في حال بيعه غير ممنوعٍ من التصرّف فيه.

والثاني : المنع ؛ لأنّه في معرض النقض والهدم ، ولأنّ ملكه عليه غير مستقرٍّ ؛ لأنّ الـمُعير بسبيلٍ من تملّكه(٢) (٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ كونه متزلزلاً لا يمنع من جواز بيعه ؛ فإنّ الحيوان المشرف على التلف في معرض الهلاك ، ويجوز بيعه ، ومستحقّ القتل قصاصاً يجوز بيعه على الأقوى ، وتمكّن الـمُعير من تملّكه لا يوجب منع بيعه ، كالشفيع المتمكّن من تملّك الشقص.

إذا ثبت هذا ، فإنّ المشتري إن كان جاهلاً بالحال كان له خيار الفسخ ؛ لأنّ ذلك عيب ، وإن كان عالماً فلا خيار له ، ثمّ يُنزّل المشتري منزلة الـمُستعير ، وللمُعير الخيار على ما تقدّم.

ولو اتّفق الـمُعير والـمُستعير على بيع الأرض مع البناء أو الغراس بثمنٍ واحد ، صحّ - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٤) - للحاجة.

والثاني : المنع ، كما لو كان لكلّ واحدٍ منهما عبد فباعاهما معاً صفقةً واحدة(٥) .

ونحن نقول بالجواز هنا أيضاً.

إذا تقرّر هذا ، فإنّ الثمن يوزّع عليهما ، فيوزّع على أرضٍ مشغولة بالغراس أو البناء على وجه الإعارة مستحقّ القلع مع الأرش ، أو الإبقاء مع‌

____________________

(١ و ٣) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، البيان ٦ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

(٢) في « ث ، ر ، خ » : « لأنّ للمُعير تسبيل ملكه ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « لأنّ الـمُعير بسبيلٍ من ملكه ». والمثبت كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

٢٦٤

الأُجرة ، أو التملّك بالقيمة إن كان بالإذن ، وعلى ما فيها من بناءٍ أو غرسٍ مستحقٍّ للقلع على أحد الأنحاء ، فحصّة الأرض للمُعير ، وحصّة ما فيها للمُستعير.

مسألة ١٠٦ : إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغرس عاريةً موقّتة‌ ، أو أطلق الإعارة مقيّدةً بالمدّة ، كان للمُستعير البناء والغرس في المدّة ، إلّا أن يرجع الـمُعير ، وله أن يجدّد كلّ يومٍ غرساً ، فإذا انقضت المدّة لم يجز له إحداث البناء ولا الغرس إلّا بإذنٍ مستأنف.

ثمّ للمالك الرجوع في العارية قبل انقضاء المدّة بالأرش ، وبعدها مجّاناً إن شرط الـمُعير القلع أو نقض البناء بعد المدّة ، أو شرط عليه القلع متى طالبه بالقلع ؛ عملاً بالشرط ، فإنّ فائدته سقوط الغُرْم ، فلا يجب على صاحب الأرض ضمان ما نقص الغرس بالقلع ، ولا يجب على الـمُستعير طمّ الحُفَر ؛ لأنّه أذن له في القلع بالشرط.

فإن لم يكن قد شرط عليه القلع فإن اختار الـمُستعير قلعه(١) ، كان له ذلك ؛ لأنّه ملكه(٢) .

وهل عليه تسوية الأرض؟ الأقوى ذلك ؛ لأنّه يقلعه باختياره من غير إذن الـمُعير ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : ليس عليه ؛ لأنّ إذنه في الإعارة رضا بقلع ذلك ؛ لأنّه ملك لغيره ، فقلعه إلى اختياره(٣) .

وإن لم يختر صاحب الغرس القلعَ وطالَبه الـمُعير بقلعه ، لم يكن له ذلك ، إلّا بأن يضمن ما ينقص بالقلع.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قلعها ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطيّة والحجريّة : « ملكها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع الهامش (٢) من ص ٢٥٩.

٢٦٥

وليس للمُستعير دفع قيمة الأرض إلّا باختيار المالك ، وللمالك دفع قيمة الغرس على إشكالٍ أقربه ذلك مع رضا الـمُستعير لا مع سخطه ، وبهذا قال الشافعي ، إلّا أنّه قال : للمالك دفع قيمة الغرس وإن لم يرض الـمُستعير. وروي مثل ذلك عن أحمد(١) .

وقال أبو حنيفة ومالك : له مطالبته بقلعه من غير ضمانٍ عند انقضاء المدّة ، وبه قال المزني - قال أبو حنيفة : إلّا أن يكون أعاره مدّةً معلومة ورجع [ قبل ](٢) انقضائها - لأنّ الـمُعير لم يغرّه ، فإذا طالبه بالقلع كان له ، كما لو شرط عليه القلع(٣) .

وقالت الشافعيّة : ليس له ذلك إلّا بأرش نقص الغرس ؛ لأنّه بنى وغرس في ملك غيره ، فلم يكن له المطالبة من غير ضمانٍ ، كما لو طالبه قبل انقضاء المدّة.

ثمّ منعوا من قول أبي حنيفة : « إنّ المالك لم يغرّه » لأنّ الغراس والبناء يراد للتبقية ، وتقدير المدّة ينصرف إلى ابتدائه ، كأنّه قال : لا تغرس فيما جاوز هذه المدّة ، أو لطلب الأُجرة(٤) .

والأوّل عندي أقرب.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ و ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤ و ٨٦ ، المغني ٥ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع ». والمثبت من المصدر.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، البيان ٦ : ٤٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٨ ، المغني ٥ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ و ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤ و ٨٦ ، المغني ٥ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

٢٦٦

مسألة ١٠٧ : لو كانت الأرض مشتركةً فبنى أحدهما بإذن الآخَر أو غرس كذلك ، ثمّ رجع صاحبه‌ ، فالأقرب عندي : أن يكون حكمه حكم الأجنبي من جواز القلع بالأرش.

وقالت الشافعيّة : ليس له ذلك ولا أن يتملّك بالقيمة.

أمّا الأوّل : فلأنّ قلعه يتضمّن قلع غرس المالك في(١) ملكه ونقض بنائه عن ملكه ؛ إذ له في الملك نصيب كما للمُعير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الـمُستعير يستحقّ في الأرض مثل حقّ الـمُعير ، فلا يمكننا أن نقول : الأصل للمُعير ، والبناء تابع ، بل له التقرير بالأُجرة خاصّةً ، فإن امتنع من بذلها فإمّا أن يباع أو يعرض عنهما الحاكم(٢) .

وليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ للمُعير تخليصَ ملكه وتفريغه ، وإنّما يحصل بنقض مال الغير ، فوجب أن يكون جائزاً له ، كما في الفصيل(٣) لو لم يمكن إخراجه إلّا بهدم الباب.

مسألة ١٠٨ : يجوز أن يعير الأرض للزراعة‌ ؛ لأنّها منفعة مباحة مطلوبة للعقلاء ، فصحّ في مقابلتها العوض بالإجارة فجازت الإعارة.

فإذا استعار للزرع فزرع ثمّ رجع الـمُعير في العارية قبل أن يدرك الزرع ، فإن كان ممّا يعتاد قطعه كالقصيل قطع ، فإن امتنع الـمُستعير من قطعه أُجبر عليه إن لم ينقص بالقصل ، ولا شي‌ء ؛ إذ لا نقص ، وإن نقص فله القطع أيضاً لكن مع دفع الأرش.

وإن كان ممّا لا يعتاد قطعه ، فالأقرب : إنّ حكمه حكم الرجوع في‌

____________________

(١) في « ث ، خ ، ر » : « من » بدل « في ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٨ - ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦.

(٣) الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أُمّه. القاموس المحيط ٤ : ٣٠ « فصل ».

٢٦٧

الغرس في القلع والتبقية.

واختلفت الشافعيّة :

فقال بعضهم : إنّ له أن يقطع ، ويغرم أرش القطع ؛ تخريجاً ممّا إذا رجع في العارية الموقّتة للبناء قبل مضيّ المدّة(١) .

وقال بعضهم : إنّه يملكه بالقيمة(٢) .

وقال الباقون - وهو الظاهر من مذهبهم - : إنّه ليس كالبناء في هاتين الخصلتين ؛ لأنّ للزرع أمداً يُنتظر ، والبناء والغرس للتأبيد ، فعلى الـمُعير إبقاؤه للمُستعير إلى أوان الحصاد(٣) .

ثمّ فيه وجهان :

أحدهما : إنّه يُبقيه بلا أُجرة ؛ لأنّ منفعة الأرض إلى الحصاد كالمستوفاة بالزرع.

وأصحّهما عندهم : التبقية بالأُجرة ؛ لأنّه إنّما أباح المنفعة إلى وقت الرجوع ، وصار كما إذا أعاره دابّةً إلى بلدٍ ثمّ رجع في الطريق ، عليه نقل متاعه إلى مأمنٍ بأُجرة المثل(٤) .

ولو قيّد الـمُعير للزرع مدّةً فانقضت ولـمّا يدرك ، فإن كان ذلك لتقصير الـمُستعير ، كالتأخير في الزرع ، قلع مجّاناً ، وإن كان لهبوب الرياح وقصور الماء وغير ذلك ممّا لا يُعدّ تقصيراً للمُستعير ، كان بمنزلة ما لو أعاره مطلقاً.

ولو أعار لزرع الفسيل(٥) ، فإن كان ممّا يُنقل عادةً فهو كالزرع ، وإلّا‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦ - ٨٧.

(٥) الفسيل جمع فسيلة ، وهي النخلة الصغيرة. القاموس المحيط ٤ : ٢٩ ، لسان العرب ١١ : ٥١٩ « فسل ».

٢٦٨

فكالبناء.

مسألة ١٠٩ : إذا أعار للزراعة مطلقاً ، انصرف الإطلاق إلى الواحدة‌ ، فإذا زرع ثمّ أخذ زرعه لم يكن له أن يزرع ثانياً إلّا بإذنٍ مستأنف ؛ لأصالة عصمة مال الغير. وكذا لو أعار للغرس فغرس ثمّ ماتت الشجرة أو انقلعت ، لم يكن له غرس أُخرى غيرها إلّا بإذنٍ جديد. وكذا في البناء لو أذن له فيه فبنى ثمّ انهدم ، أو أذن له في وضع جذعٍ على حائطه فانكسر - وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) - لأنّ الإذن اختصّ بالأوّلة.

والثاني : إنّ له ذلك ؛ لأنّ الإذن قائم ما لم يرجع فيه(٢) .

أمّا لو انقلع الفسيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد ، أو سقط الجذع كذلك وقصر الزمان جدّاً ، فالأولى أنّ له أن يعيده بغير تجديد الإذن.

مسألة ١١٠ : لو حمل السيل حَبّ الغير أو نواه أو جوزه أو لوزه إلى أرض آخَر ، كان على صاحب الأرض ردّه إلى مالكه إن عرفه ، وإلّا كان لقطةً.

فإن نبت في أرضه وصار زرعاً أو شجراً ، فإنّه يكون لصاحب الحَبّ والنوى والجوز واللوز ؛ لأنّه نماء أصله ، كما أنّ الفرخ لصاحب البيض ، ولا نعلم فيه خلافاً.

ثمّ إن طلب صاحب الحَبّ والنوى والجوز واللوز قلعه عن أرض غيره ، كان له ذلك ؛ لأنّه ملكه ، وعليه تسوية الحُفَر ؛ لأنّها حدثت بفعله‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

٢٦٩

لتخليص ملكه منها ، فأشبه فصيلاً دخل دار إنسانٍ ثمّ كبر فاحتاج صاحبه إلى نقض باب الدار لإخراجه ، فإنّ عليه ردّه ، وإصلاحه ؛ لأنّه فعله لتخليص ملكه.

وإن طلب صاحب الأرض القلعَ ، كان له ذلك ؛ لأنّ العِرْق نبت في أرضه بغير إذنه ، فأشبه الغاصب.

فإن امتنع صاحب الزرع ، أُجبر عليه ، كما لو سرت أغصان شجرته في دار جاره ، فإنّها تُقطع ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : لا يُجبر إن كان زرعاً ؛ لأنّ قلعه إتلاف المال على مالكه ، ولم يوجد منه تفريط ولا عدوان ، ولا يدوم ضرره ، فلم يُجبر على ذلك ، كما لو حصلت دابّته في دار غيره على وجهٍ لا يمكن خروجها إلّا بقلع الباب أو قتلها ، فإنّنا لا نجبره على قتلها ، بخلاف أغصان الشجر ، فإنّه يدوم ضرره ، ولا يعرف قدر ما يشغل من الهواء حتى يؤدّي أجره ، فحينئذٍ يُقرّ في الأرض إلى حين حصاده بأُجرة المثل(١) .

وقال بعض العامّة : ليس عليه أجر ؛ لأنّه حصل في أرض غيره بغير تفريطه ، فأشبه ما لو ماتت(٢) دابّته في أرض إنسانٍ بغير تفريطه(٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ منع المالك من أرضه وإبقاء ما لم يأذن فيه لمصلحة الغير إضرار به ، وليس اعتبار مصلحة صاحب الزرع أولى من‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، بحر المذهب ٩ : ٩ ، الوسيط ٣ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ - ٢٠٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، البيان ٦ : ٤٦٥ - ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧ ، المغني ٥ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٣.

(٢) في المصدر : « باتت ».

(٣) المغني ٥ : ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٣.

٢٧٠

اعتبار مصلحة صاحب الملك.

ثمّ لو سلّمنا وجوب التبقية ، لكن حرمان صاحب الأرض من الأُجرة إضرار به وشغل لملكه بغير اختياره من غير عوضٍ ، فلم يجز ، كما لو أراد بقاء(١) بهيمته في دار غيره عاماً.

وأمّا إن كان النابت شجراً ، كالنخل والزيتون والجوز واللوز وغير ذلك ، فإنّه لمالك النوى ؛ لأنه نماء ملكه ، فهو كالزرع ، ويُجبر على قلعه هنا ؛ لأنّ ضرره يدوم ، فأُجبر على إزالته ، كأغصان الشجرة السارية في هواء أرض غيره.

ولو حمل السيل أرضاً بشجرها فنبتت في أرض غيره كما كانت ، فهي لمالكها ، ويُجبر على إزالتها كما تقدّم.

وفي كلّ ذلك إذا ترك صاحب البذر والنوى ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها ، لم يلزمه نقله ولا أُجرة ولا غير ذلك ؛ لأنّه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه ، وكان الخيار لصاحب الأرض المشغولة به ، إن شاء أخذه لنفسه ، وإن شاء قلعه.

تذنيب : لو كان المحمول بالسيل ما لا قيمة له كنواةٍ واحدة وحَبّةٍ واحدة فنبتت‌ ، احتُمل أن يكون لمالك الأرض إن قلنا : لا يجب عليه ردّها إلى مالكها لو لم تنبت ؛ لانتفاء حقيقة الماليّة فيها ، والتقويم إنّما حصل في أرضه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) ، وأن يكون لمالكها إن قلنا بتحريم‌

____________________

(١) الظاهر : « إبقاء ».

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

٢٧١

أخذها ووجوب ردّها قبل نباتها ، فعلى هذا في قلع النابت وجهان(١) .

ولو قلع صاحب الشجرة الشجرةَ ، فعليه تسوية الحُفَر ؛ لأنّه قصد تخليص ملكه.

المبحث الثاني : في الضمان.

وأقسامه ثلاثة : ضمانُ الردّ ، وهو واجب على الـمُستعير ، فمئونته عليه ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٢) ، ولأنّ الإعارة نوع من معروف ، فلو كُلّف المالك مئونة الردّ امتنع الناس من الإعارة ، وفي ذلك ضرر عظيم. وضمانُ العين ، وضمانُ الأجزاء.

مسألة ١١١ : العارية أمانة مأذون في الانتفاع بها بغير عوضٍ‌ ، لا تستعقب الضمان - إلّا في مواضع تأتي إن شاء الله تعالى - عند علمائنا أجمع ، فإذا تلفت في يد الـمُستعير بغير تفريطٍ منه ولا عدوان ، لم يكن عليه ضمان ، سواء تلفت بآفةٍ سماويّة أو أرضيّة - وبه قال النخعي والشعبي والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن شبرمة ، وهو قول الشافعي في الأمالي(٣) - لما رواه العامّة‌

____________________

(١) نفس المصادر.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٦٤ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٦ : ١٤٦ / ٦٠٤ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٤٧ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٢ / ١٩٥٨٢ ، و ٦٤١ / ١٩٦٤٣.

(٣) المغني ٥ : ٣٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٠ - ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٦ - ٧ ، الوسيط ٣ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ - ٤٥٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، الاختيار لتعليل =

٢٧٢

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ليس على الـمُستعير غير المُغلّ(١) ضمان »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « ليس على مُستعير عاريةٍ ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن »(٣) .

وعن محمّد بن مسلم - في الصحيح - أنّه سأل الباقرَعليه‌السلام : عن العارية يستعيرها [ الإنسان ] فتهلك أو تُسرق ، فقال : « إذا كان أميناً فلا غُرْم عليه »(٤) .

ولأنّه قبضها بإذن مالكها ، فكانت أمانةً ، كالوديعة.

ولأنّ قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العارية مؤدّاة »(٥) يدلّ على أنّها أمانة ؛ لقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٦) .

____________________

= المختار ٣ : ٧٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٣٤ ، النتف ٢ : ٥٨٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٥ / ١٨٧٦ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٠ و ١٧٢١ / ١٢١١ ، المعونة ٢ : ١٢٠٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(١) أي : غير خائنٍ في العارية ، والإغلال : الخيانة. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٣٨١ « غلل ».

(٢) سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٩١ ، المغني ٥ : ٣٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٢ / ٧٩٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ / ٤٤١.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩٢ - ١٩٣ / ٨٧٥ ، التهذيب ٧ : ١٨٢ / ٧٩٩ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ / ٤٤٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.

(٥) تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ٢٣٣.

(٦) النساء : ٥٨.

٢٧٣

وقال الشافعي : العارية مضمونة بكلّ حال - وإليه ذهب عطاء وأحمد وإسحاق ، ورواه العامّة عن ابن عباس وأبي هريرة - لما روي في حديث صفوان بن أُميّة : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استعار منه يوم خيبر(١) أدرعاً ، فقال : أغصباً يا محمّد؟ قال : « بل عارية مضمونة مؤدّاة »(٢) .

وعن سمرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٣) .

ولأنّه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفرداً بنفعه من غير استحقاقٍ ولا إذنٍ في الإتلاف ، فكان مضموناً ، كالغاصب ، والمأخوذ على وجه السوم(٤) .

والجواب : إنّا نقول بموجب الحديث ، فإنّ الـمُعير إذا شرط على الـمُستعير الضمانَ لزمه.

وكذا نقول بموجب الثاني ، فإنّه يجب على الـمُستعير أداء العين إلى‌

____________________

(١) راجع التعليقة (٣) من ص ٢٣٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٣٣ ، الهامش (٥)

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٧١ ، الهامش (٢)

(٤) الأُم ٣ : ٢٤٤ ، مختصر المزني : ١١٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٠ ، بحر المذهب ٩ : ٦ ، الوسيط ٣ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦ - ٧٧ ، المغني ٥ : ٣٥٥ - ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٢١٣ - ٢١٤ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٠ / ١٤٧٩٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٥ و ١٨٦ / ١٨٧٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١ ، المعونة ٢ : ١٢٠٩ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٠ ، النتف ٢ : ٥٨٣.

٢٧٤

مالكها ، والضمير عائد إلى المأخوذ ، لا إلى القيمة مع التلف.

والقياس على الغاصب غلط ؛ لأنّه ظالم ، فلا يناسب الاستئمان.

والمأخوذ بالسوم إنّما دفعه المالك طالباً للعوض ، بخلاف العارية.

مسألة ١١٢ : لو شرط الـمُعير الضمانَ على الـمُستعير ، لزمه الضمان مع التلف بغير تفريطٍ.

وإن لم يشترط ضمانها ، كانت أمانةً ، عند علمائنا ، وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن العنبري(١) - وهذا أحد المواضع المستثناة - لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه شرط لصفوان بن أُميّة الضمانَ(٢) .

ومن طريق الخاصّة : رواية صفوان ، وقد سلفت(٣) .

وفي الصحيح عن ابن مسكان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قال : « لا تُضمن العارية إلّا أن يكون اشترط فيها ضماناً ، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمان »(٤) .

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال : « إذا هلكت العارية عند الـمُستعير لم يضمنه إلّا أن يكون قد اشترط عليه »(٥) .

ولأنّ الحاجة تدعو إلى العارية وإلى الاحتياط في الأموال ، فلو‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٢ ، المحلّى ٩ : ١٧٠ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٠ / ١٤٧٩٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١ ، المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦.

(٢) راجع الهامش (٥) من ص ٢٣٣.

(٣) في ص ٢٣٣.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٤٤ ، الهامش (١)

(٥) التهذيب ٧ : ١٨٣ / ٨٠٥.

٢٧٥

لم يشرع الشرط لزم امتناع ذوي الأموال من إعارتها ، وذلك فساد وضرر وحرج وضيق.

ولقولهعليه‌السلام : « المسلمون عند شروطهم »(١) ومَنْ أوجب الضمانَ من غير شرطٍ كان إيجابه معه أولى.

وقال أبو حنيفة : لا يضمن بالشرط كالوديعة(٢) .

والفرق : إنّ الوديعة أمانة لا تستعقب انتفاع الأمين بها ، فلا يليق فيها الضمان وإن شرطه ، بخلاف العارية.

وقال ربيعة : كلّ العواريّ مضمونة إلّا موت الحيوان ، وهو منقول ، عن مالك(٣) .

مسألة ١١٣ : لو شرطا في العارية سقوط الضمان سقط ؛ لأنّ العارية لا تستعقب الضمان عندنا ، فوجود الشرط كالعدم.

وروي عن أحمد - مع قوله بأنّ العارية مضمونة(٤) - سقوطه هنا ، وبه قال قتادة والعنبري ؛ لأنّه لو أذن له في إتلافها لم يجب ضمانها ، فكذا إذا أسقط عنه ضمانها(٥) .

وقال الشافعي وأحمد : لا يصحّ هذا الشرط ، ولا يسقط الضمان ؛ لأنّ‌

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٨ ، الهامش (٤)

(٢) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٤ - ٣٨٥.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٠ / ١٢١١.

(٤) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٥) المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١.

٢٧٦

كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط ، كالمقبوض بالبيع الفاسد أو الصحيح ، وما اقتضى الأمانةَ فكذلك ، كالوديعة والشركة والمضاربة ، وفارق إذن الإتلاف ؛ فإنّ الإتلاف فعل يصحّ الإذن فيه ، ويسقط حكمه ؛ إذ لا ينعقد موجباً للضمان مع الإذن فيه ، وإسقاط الضمان هنا نفي الحكم مع وجود سببه ، وليس ذلك للمالك ، ولا يملك الإذن فيه(١) .

والجواب : المنع من قولهم : « كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط » لأنّها قضيّة كلّيّة يكذّبها قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المسلمون عند شروطهم »(٢) وإسقاط الحكم بعد وجود سببه ممكن ؛ لأنّه لو أسقطه بعد وجوده أمكن ، كإسقاط الدَّيْن الثابت في الذمّة ، فإسقاطه بعد سببه أولى.

تذنيب : لو شرط سقوط الضمان في العارية المضمونة ، كالذهب والفضّة وغيرهما‌ ممّا يجب فيه الضمان على مذهبنا ، فالأولى السقوط ؛ عملاً بالشرط ، وقد سبق.

وكذا لو شرط الضمان في العارية صحّ ، فإذا أسقطه بعد ذلك سقط.

مسألة ١١٤ : إذا استعار العين من غير مالكها ، ضمن بالقبض‌ ، سواء فرّط فيها وتعدّى أو لا ، وسواء شرط الـمُعير الضمانَ أو لا ، وسواء كانت يد الـمُعير يدَ أمانةٍ أو يد ضمانٍ ؛ لأنّه استولى باليد على مال الغير بغير إذنه ، فكان عليه الضمان.

ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام أنّهما قالا : « إذا‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧ ، المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٢٥٨.

٢٧٧

استُعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالـمُستعير ضامن »(١) .

مسألة ١١٥ : العارية تُضمن في مواضع :

أ : إذا كانت العارية الدراهم والدنانير وإن لم يشترط الضمان ، وقد سلف(٢) .

وهل يدخل المصوغ منهما؟ فيه إشكال ينشأ : من التنصيص على الدراهم والدنانير في بعض الروايات(٣) ، ومن ورود الذهب والفضّة في بعض الروايات ، ففي رواية زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال : « جميع ما استعرته فتَوى فلا يلزمك تَواه إلّا الذهب والفضّة فإنّهما يلزمان »(٤) .

ب : العارية من غير المالك‌.

ج : عارية الـمُحْرم الصيدَ مضمونةٌ عليه‌ ؛ لأنّ إمساكه عليه حرام ، فيكون متعدّياً فيكون ضامناً.

ولا فرق بين أن يكون الـمُستعير الـمُحْرم في الحلّ أو في الحرم.

وكذا لو استعار الـمُحلّ صيداً في الحرم ضمنه ؛ لأنّه ممنوع منه ، فكان متعدّياً باستيلاء يده عليه.

د : إذا تعدّى الـمُستعير أو فرّط في العارية ضمن‌ ، وهو ظاهرٌ ، ومن جملته ما لو منعها عن المالك بعد طلبه لها متمكّناً من ردّها إليه.

وأمّا ولد العارية - التي اشترط فيها الضمان عندنا ، ومطلقاً عند‌ القائلين بالتضمين - إذا تجدّد بعد الإعارة ، فإنّه أمانة لا يجب ضمانه على

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٣ - ١٨٤ / ٧٠٧ ، الاستبصار ٣ : ١٢٥ / ٤٤٦.

(٢) في ص ٢٤٣ ، المسألة ٨٧.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ و ١٨٤ / ٨٠٤ و ٨٠٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٤٨.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٤٤ ، الهامش (٣)

٢٧٨

الـمُستعير ؛ لأنّه لم يدخل في الإعارة ، فلم يدخل في الضمان ، ولا فائدة للمُستعير فيه ، فأشبه الوديعة ، وأمّا إن كان عند المالك فكذلك عندنا ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والرواية الأُخرى : إنّها تكون مضمونةً ؛ لأنّه ولد عينٍ مضمونة ، فيضمن ، كولد المغصوبة(١) .

والحكم في الأصل ممنوع ؛ فإنّ ولد المغصوبة لا يُضمن إذا لم يكن مغصوباً ، فكذا ولد العارية إذا لم يوجد مع أُمّه ، وإنّما يُضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوباً ، ولا أثر لكونه ولداً لها.

تذنيب : لو استعار من غير المالك عالماً كان أو جاهلاً بالملكيّة ، ضمن‌ ، واستقرّ الضمان عليه ؛ لأنّ التلف حصل في يده ، ولا يرجع على الـمُعير ، ولو رجع المالك على الـمُعير كان للمُعير الرجوعُ على الـمُستعير.

مسألة ١١٦ : إذا تلفت العين ووجب الضمان ، فإن كانت مثليّةً كانت مضمونةً بالمثل ، وإن لم تكن مثليّةً وجبت القيمة.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون قد استعملها الـمُستعير ، أو لا ، فإن كان قد استعملها وتلف بالاستعمال بعض أجزائها ، وجب عليه قيمة العين الناقصة ؛ لأنّ تلك الأجزاء مأذون في إتلافها ، فلا تكون مضمونةً ، إلّا أن يتعدّى فيتلف بعض الأجزاء بالتعدّي فيضمن ، بخلاف ما إذا لم يتعدّ ؛ لأنّ الإذن في الاستعمال تضمّنه ، ولو تلفت قبل الاستعمال وهي مضمونة أو أتلفها وجب عليه قيمة العين تامّةً.

لا يقال : إنّه مأذون له في إتلاف الأجزاء ، وإلّا سقط عنه ضمانها.

____________________

(١) المغني ٥ : ٣٥٧ و ٣٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٨.

٢٧٩

لأنّا نقول : الأجزاء إنّما يسقط ضمانها إذا أتلفها مفردةً عن العين على وجه الاستعمال ، فأمّا إذا أتلفها بتلف العين فإنّه يضمنها ؛ لأنّه لا يمكن تميّزها من العين في الضمان.

مسألة ١١٧ : إذا استعمل العارية المضمونة فنقص بعض أجزائها‌ ثمّ تلفت وهي من ذوات القِيَم ، وجبت القيمة يوم التلف ؛ لأنّها لو كانت باقيةً في تلك الحال وردّها لم يجب عليه شي‌ء ، فإذا تلفت وجب مساويها في تلك الحال ، ولأنّ الأجزاء التي تلفت بالاستعمال تلفت غير مضمونةٍ ؛ لأنّه أذن في إتلافها بالاستعمال ، فلا يجوز تقويمها عليه ، وهو أحد أقوال الشافعي.

والثاني : إنّ عليه أقصى القِيَم من يوم القبض إلى حين التلف ؛ لأنّه لو تلف في حال زيادة القيمة لوجبت القيمة الزائدة ، فأشبه المغصوب.

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه يقتضي إيجاب ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال ، وهي غير مضمونةٍ.

والثالث : إنّه يجب عليه قيمتها يوم القبض ؛ تشبيهاً بالقرض(١) .

والقائل بالثاني يمنع من كون الأجزاء غير مضمونةٍ على الإطلاق ، ويقول : إنّما لا يضمن إذا ردّ العين(٢) .

واعلم أنّه فرقٌ بين المغصوب والمستعار ؛ لأنّ المغصوب يجب ردّه في كلّ حالٍ ، منهيّ عن الإمساك في كلّ وقتٍ ، فلهذا ضمن بأعلى القِيَم ، وأمّا الـمُستعير فإنّ الردّ لا يجب عليه حالة الزيادة ، فافترقا.

ويُبنى على هذا الخلاف أنّ الجارية المستعارة مع الضمان إذا ولدت‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392