تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118743 / تحميل: 5575
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بن رئاب ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر رأس الإيمان

_________________________________________

وإن كان في نائبه مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر ، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا ويضاده الإذاعة ، وقد سمي الله تعالى كل ذلك صبرا ونبه عليه بقوله : «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ »(١) «وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ »(٢) «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ »(٣) وسمي الصوم صبرا لكونه كالنوع له.

وقوله : «اصْبِرُوا وَصابِرُوا »(٤) أي احبسوا أنفسكم علي العبادة وجاهدوا أهواءكم ، وقوله عز وجل : «اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ »(٥) أي تحمل الصبر بجهدك ، وقوله : «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا »(٦) أي بما تحملوه من الصبر في الوصول إلى مرضات الله.

قوله : رأس الإيمان ، هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ، ووجه الشبه ما سيأتي في الخبر الآتي ووجهه أن الإنسان ما دام في تلك النشأة هو مورد للمصائب والآفات ومحل للحوادث والنوائب والعاهات ، ومبتلى بتحمل الأذى من بني نوعه في المعاملات ومكلف بفعل الطاعات وترك المنهيات والمشتهيات ، وكل ذلك ثقيل على النفس لا تشتهيها بطبعها ، فلا بد من أن تكون فيه قوة ثابتة وملكة راسخة بها يقتدر على حبس النفس علي هذه الأمور الشاقة ، ورعاية ما يوافق الشرع والعقل فيها ، وترك الجزع والانتقام وسائر ما ينافي الآداب المستحسنة المرضية عقلا وشرعا ، وهي المسماة بالصبر ، ومن البين أن الإيمان الكامل بل نفس التصديق أيضا يبقى ببقائه ، ويفنى بفنائه ، فلذلك هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

(٢) سورة الحجّ : ٣٥.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٥.

(٤) سورة آل عمران : ٢٠٠.

(٥) سورة مريم : ٦٥.

(٦) سورة الفرقان : ٧٥.

١٢١

٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن العلاء بن فضيل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعا ، عن القاسم بن محمد الأصبهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام يا حفص إن من صبر صبر قليلا وإن من جزع جزع قليلا ثم قال عليك بالصبر في جميع أمورك فإن الله عز وجل بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بالصبر والرفق فقال «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ »(١) وقال تبارك وتعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ السَّيِّئَةَ ]

_________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

الحديث الثالث : ضعيف.

« صبر قليلا » نصب قليلا إما على المصدرية أو الظرفية أي صبر صبرا قليلا أو زمانا قليلا ، وهو زمان العمر أو زمان البلية« في جميع أمورك » فإن كل ما يصدر عنه من الفعل والترك والعقد وكل ما يرد عليه من المصائب والنوائب من قبله تعالى ، أو من قبل غيره يحتاج إلى الصبر إذ لا يمكنه تحمل ذلك بدون جهاده مع النفس والشيطان وحبس النفس عليه.

«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » أي من الخرافات والشتم والإيذاء «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً » بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافيهم وتكل أمرهم إلى الله كما قال : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ » أي دعني وإياهم وكل إلى أمرهم فإني أجازيهم في الدنيا والآخرة «أُولِي النَّعْمَةِ » النعمة بالفتح لين الملمس أي المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا ، وهم صناديد قريش وغيرهم.

«ادْفَعْ » أول الآية هكذا : «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ » أي في الجزاء وحسن العاقبة « ولا » الثانية مزيدة لتأكيد النفي «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ » كذا

__________________

(١) سورة المزّمّل : ١٠.

١٢٢

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ »(١) فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها فضاق صدره فأنزل الله عز وجل عليه : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ

_________________________________________

في أكثر نسخ الكتاب وتفسير علي بن إبراهيم ، والسيئة غير مذكورة في المصاحف وكأنهعليه‌السلام زادها تفسيرا وليست في بعض النسخ وهو أظهر ، وقيل : المعنى ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة ، على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، إنما أخرج مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال كيف أصنع؟ للمبالغة ، ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة ، كذا ذكره البيضاوي ، وقيل : اسم التفضيل مجرد عن معناه ، أو أصل الفعل معتبر في المفضل عليه على سبيل الفرض ، أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن من العفو أو المكافاة ، وتلك الحسنة هي الإحسان في مقابل الإساءة ، ومعنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كلا من العفو أو المكافاة أيضا حسنة إلا أن الإحسان أحسن منهما وهذا قريب مما ذكره الزمخشري من أن لا غير مزيدة ، والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته.

«فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق «وَما يُلَقَّاها » أي ما يلقي هذه السجية وهي مقابلة الإساءة بالإحسان «إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا » فإنها تحبس النفس عن الانتقام «وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » من الخير وكمال النفس ، وقيل : الحظ العظيم الجنة ، يقال :

لقاه الشيء أي ألقاه إليه« حتى نالوه بالعظائم » يعني نسبوه إلى الكذب والجنون والسحر وغير ذلك ، وافتروا عليه.

«أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ » كناية عن الغم «بِما يَقُولُونَ » من الشرك أو الطعن فيك

__________________

(١) سورة فصّلت : ٣٥.

١٢٣

رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ »(١) ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل الله عز وجل «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ

_________________________________________

وفي القرآن والاستهزاء بك وبه «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ » أي فنزه ربك عما يقولون مما لا يليق به متلبسا بحمده في توفيقك له أو فافزع إلى الله فيما نابك من الغم بالتسبيح والتحميد فإنهما يكشفان الغم عنك «وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ » للشكر في توفيقك أو رفع غمك أو كن من المصلين فإن في الصلاة قطع العلائق عن الغير «إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ » الضمير للشأن أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك.

«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ » قال الطبرسي (ره) : اختلف في معناه على وجوه : أحدها أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا وهو قول أكثر المفسرين ويؤيده ما روي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك؟ فقال : والله إني لأعلم أنه صادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.

وثانيها : أن المعنى لا يكذبونك بحجة ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان ، ويدل عليه ما روي عن عليعليه‌السلام أنه كان يقرأ : لا يكذبونك ، ويقول : إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.

وثالثها : أن المراد لا يصادفونك كاذبا ، تقول العرب : قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء ، ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف لأن أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه.

ورابعها : أن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صادقا ، وإنما يدفعون ما أتيت به ويقصدون التكذيب بآيات الله ، ويقوي هذا الوجه قوله : ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، وقوله : وكذب به قومك وهو

__________________

(١) سورة الحجر : ٩٧.

١٢٤

يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا »(١) فألزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه الصبر فتعدوا فذكر الله تبارك وتعالى وكذبوه فقال قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل الله عز وجل : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ

_________________________________________

الحق ، ولم يقل : وكذبك قومك ، وما روي أن أبا جهل قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما نتهمك ولا نكذبك ولكننا نتهم الذي جئت به ونكذبه.

وخامسها : أن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلى ولست مختصا به لأنك رسول فمن رد عليك فقد رد على ، وذلك تسلية منه تعالى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

«وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ » أي بالقرآن والمعجزات «يَجْحَدُونَ » بغير حجة سفها وجهلا وعنادا ، ودخلت الباء لتضمين معنى التكذيب وقال أبو علي : الباء تتعلق بالظالمين ، ثم زاد في تسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا » أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة «حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا » إياهم على المكذبين ، وهذا أمر منه تعالى لنبيه بالصبر على أذى كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء ، وبعده «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ » أي لا يقدر أحد على تكذيب خبر الله على الحقيقة ولا على إخلاف وعده «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ » أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم.

قوله عليه‌السلام : فذكروا الله ، أي نسبوا إليه ما لا يليق بجنابة «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ » قيل : هذا إشارة إلى حسن التأني وترك التعجيل في الأمور ، وتمهيد للأمر بالصبر ، وأقول : يحتمل أن يكون توطئة للصبر على وجه آخر ، وهو بيان عظم قدرته وأنه قادر على الانتقام منهم «وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ » أي من تعب وإعياء ، وهو رد لما

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٣.

١٢٥

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ »(١) فصبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع أحواله ثم بشر في عترته

_________________________________________

زعمت اليهود من أنه تعالى بدء خلق العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » أي ما يقول المشركون من إنكارهم البعث ، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه.

قوله عليه‌السلام : ثم بشر ، على بناء المجهول وقبل الآية في سورة التنزيل هكذا ، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً » وفي أكثر نسخ الكتاب وجعلناهم وكأنه تصحيف ، وفي بعضها : جعلنا منهم ، كما في المصاحف.

ثم إنه يرد عليه أن الظاهر من سياق الآية رجوع ضمير منهم إلى بني إسرائيل فكيف تكون بشارة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته وكيف وصفوا بالصبر؟

والجواب ما عرفت أن ذكر القصص في القرآن لإنذار هذه الأمة وتبشيرهم ، مع أنه قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، فذكر قصة موسى وإيتائه الكتاب وجعل الأئمة من بني إسرائيل أي هارون وأولاده ، ذكر نظير لبعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيتائه القرآن وجعل الأئمة من أخيه وابن عمه وأولاده كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وقد يقال : إن قوله : «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ » المراد به لا تكن في تعجب من سقوط الكتاب بعدك وعدم عمل الأمة به فإنا نجعل بعدك أمة يهدون بالكتاب كما جعلنا في بني إسرائيل أئمة يهدون بالتوراة.

والمفسرون ذكروا فيه وجوها : الأول أن المعنى لا تكن في شك من لقائك موسى ليلة الأسرى ، الثاني : من لقاء موسى الكتاب ، الثالث : من لقائك الكتاب ،

__________________

(١) سورة ق : ٣٨.

١٢٦

بالأئمة ووصفوا بالصبر فقال جل ثناؤه «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ »(١) فعند ذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فشكر الله عز وجل ذلك له فأنزل الله عز وجل : «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا

_________________________________________

الرابع : من لقائك الأذى كما لقي موسى الأذى.

« وجعلناه » أي موسى أو المنزل عليه «يَهْدُونَ » أي الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام «بِأَمْرِنا » إياهم أو بتوفيقنا لهم «لَمَّا صَبَرُوا » أي لصبرهم على الطاعة أو على أذى القوم أو عن الدنيا وملاذها كما قيل «وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ » لا يشكون في شيء منها ، ويعرفونها حق المعرفة.

« فشكر الله ذلك له » إشارة إلى الصبر على جميع الأحوال وذلك القول الدال على الرضا بالصبر ، وشكر الله تعالى لعباده عبارة عن قبول العمل ومقابلته بالإحسان والجزاء في الدنيا والآخرة «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ » صدر الآية : «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ » يعني بني إسرائيل في ظهر الآية فإن القبط كانوا يستضعفونهم فأورثهم الله بأن مكنهم وحكم لهم بالتصرف ، وأباح لهم بعد إهلاك فرعون وقومه «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا » أي أرض الشام شرقها وغربها ، أو أرض الشام ومصر ، وقيل : كل الأرض لأن داود وسليمان كانا منهم وملكا الأرض التي باركنا فيها بإخراج الزرع والثمار وضروب المنافع «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ » قال الطبرسي (ره) : معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ، وإنما كان الإنجاز تماما للكلام لتمام النعمة به ، وقيل : إن كلمة الحسنى قوله سبحانه : «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ » إلى قوله : «يَحْذَرُونَ » وقال : الحسنى ، وإن كانت كلمات الله كلها حسنة لأنها وعد بما يحبون ، وقال الحسن : أراد وعد الله لهم بالجنة «بِما صَبَرُوا » على أذى فرعون وقومه «وَدَمَّرْنا ما

__________________

(١) سورة السجدة : ٢٤.

١٢٧

يَعْرِشُونَ »(١) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله إنه بشرى وانتقام فأباح الله عز وجل له قتال المشركين فأنزل [ الله ] «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ »(٢) «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ »(٣) فقتلهم الله على يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

_________________________________________

كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ » أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية والقصور والديار «وَما كانُوا يَعْرِشُونَ » من الأشجار والأعناب والثمار ، وقيل : يعرشون يسقفون من القصور والبيوت«فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشرى» أي لي ولا صحابي«وانتقام» من أعدائي ووجه البشارة ما مر أن ذكر هذه القصة تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأني أنصرك على أعدائك وأهلكهم وأنصر الأئمة من أهل بيتك على الفراعنة الذين غلبوا عليهم وظلموهم في زمن القائمعليه‌السلام وأملكهم جميع الأرض ، فظهر الآية لموسى وبني إسرائيل ، وبطنها لمحمد وآل محمد صلى الله وعليه وآله وسلم.

«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » الآية هكذا : «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » قيل : أي من حل وحرم «وَخُذُوهُمْ » أي وأسروهم والأخيذ الأسير «وَاحْصُرُوهُمْ » أي واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ » أي كل ممر لئلا ينتشروا في البلاد ، وانتصابه على الظرف ، وقال تعالى في سورة البقرة : «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ » يقال ثقفه أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه.

« فقتلهم الله » أي في غزوة بدر وغيرها « وعجل له الثواب ثواب صبره » وفي بعض النسخ وجعل له ثواب صبره والأول أظهر وموافق للتفسير ، والحاصل أن هذه النصرة

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٣٦.

(٢) سورة التوبة : ٦.

(٣) سورة البقرة : ١٩١.

١٢٨

وأحبائه وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه مع ما يدخر له في الآخرة.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي محمد عبد الله السراج رفعه إلى علي بن الحسينعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الحر حر على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها وإن تداكت عليه المصائب

_________________________________________

وقتل الأعداء كان ثوابا عاجلا على صبره منضما مع ما ادخر له في الآخرة من مزيد الزلفى والكرامة« واحتسب » أي كان غرضه القربة إلى الله ليكون محسوبا من أعماله الصالحة« حتى يقر الله عينه » أي يسره في أعدائه بنصره عليهم مع ما يدخر له في الآخرة من الأجر الجميل والثواب الجزيل.

الحديث الرابع : مجهول مرفوع.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح وقد مر بعينه بسند آخر.

الحديث السادس : صحيح.

والحر ضد العبد والمراد هنا من نجا في الدنيا من رق الشهوات النفسانية وأعتق في الآخرة من أغلال العقوبات الربانية فهو كالأحرار عزيز غني في جميع الأحوال.

قال الراغب : الحر خلاف العبد والحرية ضربان : الأول من لم يجر عليه حكم السبي نحو «الْحُرُّ بِالْحُرِّ » والثاني من لم يتملكه قواه الذميمة من الحرص

١٢٩

لم تكسره وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته وما ناله أن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد إذ كان له مالكا

_________________________________________

والشره على المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التي تضاد ذلك ، أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار ، وقول الشاعر : « ورق ذوي الأطماع رق مخلد » ، وقيل : عبد الشهوة أذل من عبد الرق ، انتهى.

وفي القاموس : الحر بالضم خلاف العبد ، وخيار كل شيء والفرس العتيق ، ومن الطين والرمل الطيب.

« إن نابته نائبة صبر لها » أي إن عرض له حادثة أو نازلة أو مصيبة صبر عليها أو حمل عليه مال يؤخذ منه أداه ولا يذل نفسه بالبخل فيه ، قال في النهاية : في حديث خيبر قسمها نصفين نصفا لنوائبه ونصفا بين المسلمين ، النوائب جمع النائبة وهي ما ينوب الإنسان أي ينزل به من المهمات والحوادث ، وقد نابه ينوبه نوبا ومنه الحديث : احتاطوا لأهل الأموال في النائبة والواطية أي الأضياف الذين ينوبونهم.

« وإن تداكت عليه المصائب » أي اجتمعت وازدحمت ، قال في النهاية : وفي حديث عليعليه‌السلام : ثم تداككتم على تداكك الإبل الهيم على حياضها ، أي ازدحمتم وأصل الدك الكسر ، انتهى.

« لم تكسره » أي لم تعجزه عن الصبر ولم تحمله على الجزع وترك الرضا بقضاء الله تعالى« وإن أسر » إن وصلية« واستبدل باليسر عسرا » عطف على أسر ، وفي بعض النسخ واستبدل بالعسر يسرا فهو عطف على قوله لم تكسره فتكون غاية للصبر« إن استبعد » على بناء المجهول فاعل لم يضرر ، والمراد بحريته عزه ورفعته وصبره على تلك المصائب ورضاه بقضاء الله واختياره طاعة الله وعدم تذلله للمخوقين« وما ناله » أي من ظلم الإخوان وسائر الأحزان« أن من الله » أي في أن من الله أو هو بدل اشتمال

١٣٠

...........................................................................

_________________________________________

للضمير في لم تضرره أو بتقدير إلى فالظرف متعلق بلم تضرر في الموضعين على سبيل التنازع.

وأقول : يحتمل أن يكون ما ناله عطفا على الضمير في لم يضرره ، وأن من الله بيانا لما بتقدير من أو بدلا منه ، فيحتمل أن يكون فاعل نال يوسفعليه‌السلام وقيل : اللام فيه مقدر أي لأن من الله فيكون تعليلا لقوله : لم تضرر في الموضعين أو ما ناله مبتدأ وأن من الله خبره ، والجملة معطوفة على لم تضرره أو يكون الواو بمعنى مع ، أي لم تضرره ذلك مع ما ناله وأن من بيان لما.

والعاتي من العتو بمعنى التجبر والتكبر والتجاوز عن الحد ، والجبار بائعه في مصر أو العزيز فالمراد بصيرورته عبدا له أنه صار مطيعا له ، مع أنه قد روى الثعلبي وغيره أن ملك مصر كان ريان بن الوليد والعزيز الذي اشترى يوسفعليه‌السلام كان وزيره وكان اسمه قطفير فلما عبر يوسف رؤيا الملك عزل قطفير عما كان عليه وفوض إلى يوسف أمر مصر وألبسه التاج وأجلسه على سرير الملك وأعطاه خاتمه وهلك قطفير في تلك الليالي فزوج الملك يوسف زليخا امرأة قطفير ، وكان اسمها راعيل فولدت له ابنين أفراثيم وميشا فلما دخلت السنة الأولى من سني الجدب هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه ، وباعهم السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع وباعهم السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أمة في يد أحد ، وباعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها ، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم تبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له ، ثم استأذن الملك وأعتقهم كلهم

١٣١

فأرسله ورحم به أمة وكذلك الصبر يعقب خيرا فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن بكير ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال الجنة محفوفة بالمكاره

_________________________________________

ورد أموالهم إليهم ، فظهر أن الله ملكه جميع أهل مصر وأموالهم عوضا عن مملوكيته صلوات الله عليه لهم ، فهذه ثمرة الصبر والطاعة.

والمراد بإرساله إرساله إلى الخلق بالنبوة وبرحم الأمة به نجاتهم عن العقوبة الأبدية بإيمانهم به أو عن القحط والجوع أو الأعم.

« وكذلك الصبر يعقب خيرا » يعقب على بناء الأفعال قال الراغب : أعقبه كذا أورثه ذلك قال تعالى : «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ »(١) وفلان لم يعقب أي لم يترك ولدا ، انتهى.

أي كما أن صبر يوسفعليه‌السلام أعقب خيرا عظيما له كذلك صبر كل أحد يعقب خيرا له ، ومن ثم قيل : اصبر تظفر ، وقيل :

إني رأيت للأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقل من جد في أمر يطالبه

فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

الحديث السابع : مجهول.

ومضمونه متفق عليه بين الخاصة والعامة ، فقد روى مسلم عن أنس قال : قال رسول اللهعليه‌السلام : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ، وهذا من بديع كلامه ، وقال الراوندي في ضوء الشهاب يقال :حف القوم حول زيد إذا أطافوا به ، واستداروا وحففته بشيء أي أدرته عليه ، يقال : حففت الهودج بالثياب ، ويقال : إنه مشتق من حفا في الشيء أي جانبيه ، يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المكاره مطيفة محدقة بالجنة

__________________

(١) سورة التوبة : ٧٧.

١٣٢

والصبر فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ـ فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن مرحوم ، عن أبي سيار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه

_________________________________________

وهي الطاعات ، والشهوات محدقة مستديرة بالنار وهي المعاصي وهذا مثل يعني أنك لا يمكنك نيل الجنة إلا باحتمال مشاق ومكاره وهي فعل الطاعات والامتناع عن المقبحات ولا التفصي عن النار إلا بترك الشهوات وهي المعاصي التي تتعلق الشهوة بها فكان الجنة محفوفة بمكاره تحتاج أن تقطعها بتكلفها والنار محفوفة بملاذ وشهوات تحتاج أن تتركها.

وروي أن الله تعالى لما خلق الجنة قال لجبرئيلعليه‌السلام : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب لا يتركها أحد إلا دخلها فلما حفها بالمكاره قال : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب أخشى أن لا يدخلها أحد ولما خلق النار قال له : انظر إليها فلما نظر إليها قال : يا رب لا يدخلها أحد فلما حفها بالشهوات قال : انظر إليها فلما نظر إليها قال يا رب أخشى أن يدخلها كل أحد.

وفائدة الحديث إعلام أن الأعمال المفضية إلى الجنة مكروهة قرنا الله بها الكراهة وبالعكس منها الأعمال الموصلة إلى النار قرن بها الشهوة ليجاهد الإنسان نفسه فيحتمل تلك ويجتنب هذه.

الحديث الثامن : كالسابق.

والبر يطلق على مطلق أعمال الخير وعلى مطلق الإحسان إلى الغير وعلى الإحسان إلى الوالدين أو إليهما وإلى ذوي الأرحام ، والمراد هنا أحد المعاني سوى المعنى الأول ، قال الراغب : البر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير وينسب ذلك إلى الله تارة نحو «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ » و

١٣٣

والزكاة عن يساره والبر مطل عليه ويتنحى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه.

٩ ـ علي ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن عبد الله بن ميمون ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال دخل أمير المؤمنين صلوات الله عليه المسجد فإذا هو برجل على باب المسجد كئيب حزين فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام ما لك قال يا أمير المؤمنين أصبت بأبي [ وأمي ] وأخي وأخشى أن أكون قد وجلت فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام عليك بتقوى الله والصبر تقدم عليه غدا والصبر في الأمور بمنزلة الرأس

_________________________________________

إلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة ، وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق« مطل » بالطاء المهملة من قولهم اطل عليهم أي أشرف ، وفي بعض النسخ بالمعجمة وهو قريب المعنى من الأول لكن التعدية بعلى بالأول أنسب« دونكم » اسم فعل بمعنى خذوا ، ويدل ظاهرا على تجسم الأعمال والأخلاق في الآخرة ومن أنكره يأوله وأمثاله بأن الله تعالى يخلق صورا مناسبة للأعمال يريه إياها لتفريحه أو تحزينه ، أو الكلام مبني على الاستعارة التمثيلية وتنحي الصبر وتمكنه في إعانته يناسب ذاته فتفطن.

الحديث التاسع : كالسابق أيضا.

« أصبت » على بناء المجهول« بأبي وأخي » أي ماتا« وأخشى أن أكون قد وجلت » الوجل : استشعار الخوف وكان المعنى أخشى أن يكون حزني بلغ حدا مذموما شرعا فعبر عنه بالوجل أو أخشى أن تنشق مرارتي من شدة الألم أو أخشى الوجل الذي يوجب الجنون« عليك » اسم فعل بمعنى الزم والباء للتقوية« بتقوى الله » أي في الشكاية والجزع وغيرهما مما يوجب نقص الإيمان ، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى : «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ »(١) .

« تقدم » على بناء المعلوم من باب علم بالجزم جزاء للأمر في « عليك » أو

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٨٦.

١٣٤

من الجسد فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال قال لي ما حبسك عن الحج قال قلت جعلت فداك وقع علي دين كثير وذهب مالي وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي فلو لا أن رجلا من أصحابنا أخرجني ما قدرت أن أخرج فقال لي إن تصبر تغتبط وإلا تصبر ينفذ الله مقاديره راضيا كنت أم كارها.

١١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن سنان ، عن أبي الجارود ، عن

_________________________________________

بالرفع استئنافا بيانيا وضمير« عليه » راجع إلى الصبر بتقدير مضاف أي جزاءه ، أو إلى الله أي ثوابه ، وقيل : إلى كل من الأب والأخ ، فإن فوته جزءا خير للعلة أو إلى الأب لأنه الأصل والكل بعيد.

« غدا » أي في القيامة أو عند الموت أو سريعا.

الحديث العاشر : موثق.

والاغتباط مطاوع غبطه ، تقول : غبطه أغبطه غبطا وغبطه فاغتبط هو كمنعته فامتنع ، والغبطة إن تتمنى حال المغبوط لكونها في غاية الحسن من غير أن تريد زوالها عنه ، وهذا هو الفرق بينها وبين الحسد ، وفي القاموس : الغبطة بالكسر حسن الحال والمسرة وقد اغتبط ، وقال : الاغتباط : التبهج بالحال الحسنة ، انتهى.

والاغتباط أما في الآخرة بجزيل الأجر وحسن الجزاء ، وفي الدنيا أيضا بتبديل الضراء بالسراء ، فإن الصبر مفتاح الفرج ، وقد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون الفرج ، مع أن الكاره تزداد مصيبته فإن فوات الأجر مصيبة أخرى ، والكراهة الموجبة لحزن القلب مصيبة عظيمة ، ومن ثم قيل : المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان ، بل له أربع مصيبات الثلاثة المذكورة وشماتة الأعداء ، ومن ثم قيل : الصبر عند المصيبة مصيبة على الشامت.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

١٣٥

الأصبغ قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن جميل وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك والذكر ذكران ذكر الله عز وجل عند المصيبة وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرم عليك فيكون حاجزا.

١٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن العباس بن عامر ، عن العرزمي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى ـ فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر

_________________________________________

« صبر » خبر مبتدإ محذوف أي أحدهما صبر ، وحسن أيضا خبر مبتدإ محذوف ، أي هو حسن ، ويحتمل أن يكون صبر مبتدأ وحسن خبره ، فتكون الجملة استئنافا بيانيا ، وقوله : ذكر الله خبر مبتدإ محذوف ليس إلا« فيكون » أي الذكر والفاء بيانية« حاجزا » أي مانعا عن فعل الحرام.

الحديث الثاني عشر : صحيح.

« لا ينال الملك فيه » أي السلطنة« إلا بالقتل » لعدم إطاعتهم أما الحق فيتسلط عليهم الملوك الجورة فيقتلونهم ويتجبرون عليهم ، وذلك من فساد الزمان وإلا لم يتسلط عليهم هؤلاء« ولا الغناء إلا بالغصب والبخل » وذلك من فساد الزمان وأهله لأنهم لسوء عقائدهم يظنون أن الغناء إنما يحصل بغصب أموال الناس والبخل في حقوق الله والخلق ، مع أنه لا يتوقف على ذلك ، بل الأمانة وأداء الحقوق ادعى إلى الغناء لأنه بيد الله ، ولأنه لفسق أهل الزمان منع الله عنهم البركات ، فلا يحصل الغناء إلا بهما« ولا المحبة » أي جلب محبة الناس« إلا باستخراج الدين » أي طلب خروج الدين من القلب أي بطلب خروجهم من الدين ،« واتباع الهوى » أي الأهواء النفسانية أو أهوائهم الباطلة ، وذلك لأن أهل تلك الأزمنة لفسادهم لا

١٣٦

على الغنى وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي.

١٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن عيسى بن بشير ، عن أبي حمزة قال قال أبو جعفرعليه‌السلام لما حضرت أبي علي بن الحسينعليه‌السلام الوفاة ضمني إلى صدره وقال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به يا بني اصبر على الحق وإن كان مرا

_________________________________________

يحبون أهل الدين والعبادة ، فمن طلب مودتهم لا بد من خروجه من الدين ومتابعتهم في الفسوق.

« وصبر على البغضة » أي بغضة الناس له لعدم اتباعه أهواءهم ، وصبر على الذل كأنه ناظر إلى نيل الملك ، فالنشر ليس على ترتيب اللف فالمراد بالعز هنا الملك والاستيلاء ، أو المراد بالملك هناك مطلق العز والرفعة ، ويحتمل أن تكون الفقرتان الأخيرتان ناظرتين إلى الفقرة الأخيرة ولم يتعرض للأولى لكون الملك عزيز المنال لا يتيسر لكل أحد ، والأول أظهر.

وفي جامع الأخبار الرواية هكذا : وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أنه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والجور ، ولا يستقيم لهم الغناء إلا بالبخل ولا يستقيم لهم الصحبة في الناس إلا باتباع أهوائهم والاستخراج من الدين ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغناء ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز وصبر على بغضة الناس وهو يقدر على المحبة أعطاه الله ثواب خمسين صديقا.

الحديث الثالث عشر : ضعيف.

« اصبر على الحق » أي على فعل الحق ، من ارتكاب الطاعات وترك المنهيات« وإن كان مرا » ثقيلا على الطبع لكونه مخالفا للمشتهيات النفسانية غالبا أو على

١٣٧

١٤ ـ عنه ، عن أبيه ، عن يونس بن عبد الرحمن رفعه ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال الصبر صبران صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبرين الورع عن المحارم.

١٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى قال أخبرني يحيى بن سليم الطائفي قال أخبرني عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى عليعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

_________________________________________

قول الحق وإن كان مرا على الناس ، فالصبر على ما يترتب على هذا القول من بغض الناس وأذيتهم ، أو على سماع الحق الذي إليك وإن كان مرا عليك مكروها لك. كمن واجهك بعيب من عيوبك فتصدقه فتقبله أو اطلعك على خطإ في الاجتهاد أو الرأي فتقبله ويمكن التعميم ليشمل الجميع.

الحديث الرابع عشر : مرفوع ، وضمير عنه راجع إلى أحمد فتنسحب عليه العدةالحديث الخامس عشر : ضعيف.

« حتى يردها » أي المصيبة وشدتها« بحسن عزائها » أي بحسن الصبر اللائق لتلك المصيبة« ثلاثمائة درجة » أي من درجات الجنة أو درجات الكمال فالتشبيه من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وفي الصحاح : التخم منتهى كل قرية أو أرض ، والجمع تخوم كفلس وفلوس ، انتهى.

ويدل على أن ارتفاع الجنة أكثر من تخوم الأرض إلى العرش ، ولا ينافي ذلك كون عرضها كعرض السماء والأرض ، مع أنه قد قيل في الآية وجوه مع بعضها رفع التنافي أظهر.

١٣٨

١٦ ـ عنه ، عن علي بن الحكم ، عن يونس بن يعقوب قال أمرني أبو عبد اللهعليه‌السلام أن آتي المفضل وأعزيه بإسماعيل وقال أقرئ المفضل السلام وقل له إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا فاصبر كما صبرنا إنا أردنا أمرا وأراد الله عز وجل أمرا فسلمنا لأمر الله عز وجل.

١٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي حمزة الثمالي قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.

١٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار

_________________________________________

الحديث السادس عشر : موثق كالصحيح.

والظاهر أنه المفضل بن عمر ويدل على مدح عظيم له ، وأنه كان من خواص أصحابه وأحبائه ، وإسماعيل ولده الأكبر الذي كان يظن الناس أنه الإمام بعدهعليه‌السلام ، فلما مات في حياته علم أنه لم يكن إماما ، وهذا هو المرادبقوله عليه‌السلام :

أردنا أمرا ، أي إمامته بظاهر الحال أو بشهوة الطبع ، أو المراد إرادة الشيعة كالمفضل وأضرابه ، وأدخلعليه‌السلام نفسه تغليبا ومماشاة ، ويدل على لزوم الرضا بقضاء الله والتسليم له ، وقيل : المعنى أردنا طول عمر إسماعيل وأراد الله موته ، وأغرب من ذلك أنه قال : عزى المفضل بابن له مات في ذلك الوقت بذكر فوت إسماعيل.

الحديث السابع عشر : حسن كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : مثل أجر ألف شهيد ، فإن قيل : كيف يستقيم هذا مع أن الشهيد أيضا من الصابرين حيث صبر حتى استشهد؟ قلت : يحتمل أن يكون المراد بهم شهداء سائر الأمم أو المعنى مثل ما يستحق ألف شهيد وإن كان ثوابهم التفضلي أضعاف ذلك ، وقيل : المراد بهم الشهداء الذين لم تكن لهم نية خالصة فلم يستحقوا ثوابا عظيما والأوسط كأنه أظهر.

الحديث الثامن عشر : ضعيف على المشهور.

١٣٩

بن مروان ، عن سماعة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن الله عز وجل أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا وابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة.

١٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبان بن أبي مسافر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله عز وجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا » قال اصبروا على المصائب.

وفي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال صابروا على المصائب.

٢٠ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن عيسى ، عن علي بن محمد بن أبي جميلة ، عن جده أبي جميلة ، عن بعض أصحابه قال لو لا أن الصبر خلق قبل البلاء لتفطر المؤمن كما تتفطر البيضة على الصفا.

_________________________________________

والوبال الشدة والثقل والعذاب ، أي صارت النعمة مع عدم الشكر نكالا وعذابا عليهم في الدنيا والآخرة ، وصار البلاء على الصابر نعمة في الدنيا والآخرة.

الحديث التاسع عشر : مجهول وآخره مرسل.

وكأنه تتمة الخبر الثاني المتقدم في باب أداء الفرائض وقد مر تفسير الآية ولا تنافي بينها فإن للآيات معاني شتى ظهرا وبطنا.

الحديث العشرون : ضعيف.

والتفطر التشقق من الفطر وهو الشق ، والصفا جمع الصفاة وهي الحجر الصلد الضخم لا تنبت ، وفيه إيماء إلى أن الصبر من لوازم الإيمان ومن لم يصبر عند البلاء لا يستحق اسم الإيمان كما مر أنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ويشعر بكثرة ورود البلاء على المؤمن.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني : إنّه لا يعتبر رضا الـمُستعير فيه ، بل يُجبر على ما يختاره الـمُعير منهما(١) .

وله قولان آخَران :

أحدهما : إنّ الـمُعير إن طلب التملّك بالقيمة أُجبر الـمُستعير عليه ، كتملّك الشفيع الشقصَ قهراً ، وإن طلب الإبقاء بالأُجرة اعتبر رضا الـمُستعير فيه.

والثاني : إنّ الـمُعير يتخيّر بين أمرين خاصّة ، أحدهما : القلع مع ضمان الأرش ، والثاني : التملّك بالقيمة(٢) .

والأصل فيه : إنّ العارية مكرمة ومبرّة ، فلا يليق بها منع الـمُعير من الرجوع ولا تضييع مال الـمُستعير ، فأثبتنا الرجوع على وجهٍ لا يتضرّر به الـمُستعير ، وجعلنا الأمر منوطاً باختيار الـمُعير ؛ لأنّه الذي صدرت منه هذه المكرمة ، ولأنّ ملكه الأرض وهي أصل ، وأمّا البناء والغراس فإنّهما تابعان لها ، ولذلك(٣) يتبعانها في البيع(٤) .

ولو طلب الـمُستعير تملّك الأرض وقال : أنا أدفع قيمة الأرض إلى الـمُعير ليبقى البناء والغراس ، لم يُجبر الـمُعير على ذلك ، والفرق بينه وبين الـمُستعير ما تقدّم من كون البناء والغرس تابعين(٥) ، وكون الأرض متبوعةً ، فلهذا أُجيب المالك إلى ما طلبه من تملّك البناء والغرس بالقيمة وما طلبه‌ الـمُستعير من تملّك الأرض بالقيمة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ - ٣٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٣) في الطبعة الحجريّة و « العزيز شرح الوجيز » : « كذلك ».

(٤) راجع : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٦.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تابعان ». والمثبت هو الصحيح.

٢٦١

مسألة ١٠٣ : لو لم يختر الـمُستعير قلع غرسه ولا قلع بنائه مع الإذن المطلق فيهما ، لم يُجبر على القلع‌ ، إلّا أن يضمن الـمُعير أرش النقص ، فحينئذٍ يلزمه تفريغ الأرض من بنائه وغرسه وردّها إلى ما كانت عليه.

واعلم أنّ مَنْ جعل الأمر موكولاً إلى اختيار الـمُعير في القلع بالأرش والإبقاء بالأُجرة والتملّك بالقيمة قال : منه الاختيار ومن الـمُستعير الرضا واتّباع مراده ، فإن لم يفعل وامتنع من إبلاغه مراده ألزمناه بتفريغ أرضه.

ومَن اعتبر رضا الـمُستعير في التملّك بالقيمة والإبقاء بالأُجرة فلا يكلّف التفريغ ، بل يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يختر الـمُعير شيئاً ممّا خيّرناه فيه.

ومَنْ قصر خيرة الـمُعير على أمرين : القلع بشرط الضمان ؛ لنقص الأرض ، والتملّك بالقيمة قال : لو امتنع من بَذْل الأرش والقيمة وبَذَل الـمُستعير الأُجرة لم يكن للمُعير القلع مجّاناً ، وإن لم يبذلها فوجهان ، أظهرهما عندهم : إنّه ليس له ذلك أيضاً(١) .

وبه أجاب مَنْ خيَّره بين الخصال الثلاث إذا امتنع منها جميعاً(٢) .

وما الذي يفعل؟ اختلفت الشافعيّة على قولين :

أحدهما : إنّ الحاكم يبيع الأرض مع البناء والغراس لتفاصل الأمر.

والثاني - وهو قول الأكثر - : إنّه يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختارا شيئاً(٣) .

والتحقيق عندي هنا أن نقول : إذا أعاره للبناء أو الغرس أو لهما ففَعَل ثمّ رجع عن الإذن بعد وقوع الفعل ، فإمّا أن يطلب الـمُعير القلع أو‌

____________________

(١ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧.

٢٦٢

الـمُستعير ، فإن طلبه الـمُستعير لم يكن للمُعير ردّه عن ذلك ، وإن طلبه الـمُعير لم يكن للمُستعير ردّه عن ذلك ، ويضمن كلٌّ منهما نقص ما دخل على الآخَر.

مسألة ١٠٤ : يجوز للمُعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر‌ ؛ لأنّه جالس على ملكه ، وليس له الانتفاع بشي‌ءٍ من الشجر بثمر ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك ، ولا بضرب وتدٍ في الحائط ، ولا التسقيف عليه.

وليس للمُستعير دخول الأرض للتفرّج ، إلّا بإذن الـمُعير ؛ لأنّه تصرّف غير مأذونٍ فيه.

نعم ، يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمّة الجدار ؛ حراسةً لملكه عن التلف والضياع ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة. والثاني : المنع ؛ لأنّه يشغل ملك الغير إلى أن ينتهي إلى ملكه(١) .

وعلى ما اخترناه من الجواز لو تعطّلت المنفعة على صاحب الأرض بدخوله ، لم يُمكَّن منه إلّا بالأُجرة ؛ جمعاً بين حفظ المالين.

مسألة ١٠٥ : إذا بنى أو غرس في أرض الـمُعير بإذنه أو بغير إذنه ، جاز لكلٍّ منهما أن يبيع ملكه من الآخَر‌ ، ويجوز للمُعير أن يبيع الأرض من ثالثٍ ، ثمّ يتخيّر المشتري كالـمُعير.

وكذا للمُستعير أن يبيع من ثالثٍ أيضاً - وهو أصحّ وجهي‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، البيان ٦ : ٤٦٤ - ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

٢٦٣

الشافعيّة(١) - لأنّه مملوك له في حال بيعه غير ممنوعٍ من التصرّف فيه.

والثاني : المنع ؛ لأنّه في معرض النقض والهدم ، ولأنّ ملكه عليه غير مستقرٍّ ؛ لأنّ الـمُعير بسبيلٍ من تملّكه(٢) (٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ كونه متزلزلاً لا يمنع من جواز بيعه ؛ فإنّ الحيوان المشرف على التلف في معرض الهلاك ، ويجوز بيعه ، ومستحقّ القتل قصاصاً يجوز بيعه على الأقوى ، وتمكّن الـمُعير من تملّكه لا يوجب منع بيعه ، كالشفيع المتمكّن من تملّك الشقص.

إذا ثبت هذا ، فإنّ المشتري إن كان جاهلاً بالحال كان له خيار الفسخ ؛ لأنّ ذلك عيب ، وإن كان عالماً فلا خيار له ، ثمّ يُنزّل المشتري منزلة الـمُستعير ، وللمُعير الخيار على ما تقدّم.

ولو اتّفق الـمُعير والـمُستعير على بيع الأرض مع البناء أو الغراس بثمنٍ واحد ، صحّ - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٤) - للحاجة.

والثاني : المنع ، كما لو كان لكلّ واحدٍ منهما عبد فباعاهما معاً صفقةً واحدة(٥) .

ونحن نقول بالجواز هنا أيضاً.

إذا تقرّر هذا ، فإنّ الثمن يوزّع عليهما ، فيوزّع على أرضٍ مشغولة بالغراس أو البناء على وجه الإعارة مستحقّ القلع مع الأرش ، أو الإبقاء مع‌

____________________

(١ و ٣) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، البيان ٦ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

(٢) في « ث ، ر ، خ » : « لأنّ للمُعير تسبيل ملكه ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « لأنّ الـمُعير بسبيلٍ من ملكه ». والمثبت كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٥.

٢٦٤

الأُجرة ، أو التملّك بالقيمة إن كان بالإذن ، وعلى ما فيها من بناءٍ أو غرسٍ مستحقٍّ للقلع على أحد الأنحاء ، فحصّة الأرض للمُعير ، وحصّة ما فيها للمُستعير.

مسألة ١٠٦ : إذا أعاره أرضاً للبناء أو الغرس عاريةً موقّتة‌ ، أو أطلق الإعارة مقيّدةً بالمدّة ، كان للمُستعير البناء والغرس في المدّة ، إلّا أن يرجع الـمُعير ، وله أن يجدّد كلّ يومٍ غرساً ، فإذا انقضت المدّة لم يجز له إحداث البناء ولا الغرس إلّا بإذنٍ مستأنف.

ثمّ للمالك الرجوع في العارية قبل انقضاء المدّة بالأرش ، وبعدها مجّاناً إن شرط الـمُعير القلع أو نقض البناء بعد المدّة ، أو شرط عليه القلع متى طالبه بالقلع ؛ عملاً بالشرط ، فإنّ فائدته سقوط الغُرْم ، فلا يجب على صاحب الأرض ضمان ما نقص الغرس بالقلع ، ولا يجب على الـمُستعير طمّ الحُفَر ؛ لأنّه أذن له في القلع بالشرط.

فإن لم يكن قد شرط عليه القلع فإن اختار الـمُستعير قلعه(١) ، كان له ذلك ؛ لأنّه ملكه(٢) .

وهل عليه تسوية الأرض؟ الأقوى ذلك ؛ لأنّه يقلعه باختياره من غير إذن الـمُعير ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : ليس عليه ؛ لأنّ إذنه في الإعارة رضا بقلع ذلك ؛ لأنّه ملك لغيره ، فقلعه إلى اختياره(٣) .

وإن لم يختر صاحب الغرس القلعَ وطالَبه الـمُعير بقلعه ، لم يكن له ذلك ، إلّا بأن يضمن ما ينقص بالقلع.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « قلعها ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطيّة والحجريّة : « ملكها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع الهامش (٢) من ص ٢٥٩.

٢٦٥

وليس للمُستعير دفع قيمة الأرض إلّا باختيار المالك ، وللمالك دفع قيمة الغرس على إشكالٍ أقربه ذلك مع رضا الـمُستعير لا مع سخطه ، وبهذا قال الشافعي ، إلّا أنّه قال : للمالك دفع قيمة الغرس وإن لم يرض الـمُستعير. وروي مثل ذلك عن أحمد(١) .

وقال أبو حنيفة ومالك : له مطالبته بقلعه من غير ضمانٍ عند انقضاء المدّة ، وبه قال المزني - قال أبو حنيفة : إلّا أن يكون أعاره مدّةً معلومة ورجع [ قبل ](٢) انقضائها - لأنّ الـمُعير لم يغرّه ، فإذا طالبه بالقلع كان له ، كما لو شرط عليه القلع(٣) .

وقالت الشافعيّة : ليس له ذلك إلّا بأرش نقص الغرس ؛ لأنّه بنى وغرس في ملك غيره ، فلم يكن له المطالبة من غير ضمانٍ ، كما لو طالبه قبل انقضاء المدّة.

ثمّ منعوا من قول أبي حنيفة : « إنّ المالك لم يغرّه » لأنّ الغراس والبناء يراد للتبقية ، وتقدير المدّة ينصرف إلى ابتدائه ، كأنّه قال : لا تغرس فيما جاوز هذه المدّة ، أو لطلب الأُجرة(٤) .

والأوّل عندي أقرب.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ و ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤ و ٨٦ ، المغني ٥ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع ». والمثبت من المصدر.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٣ ، البيان ٦ : ٤٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٨ ، المغني ٥ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٥ و ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٤ و ٨٦ ، المغني ٥ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٠.

٢٦٦

مسألة ١٠٧ : لو كانت الأرض مشتركةً فبنى أحدهما بإذن الآخَر أو غرس كذلك ، ثمّ رجع صاحبه‌ ، فالأقرب عندي : أن يكون حكمه حكم الأجنبي من جواز القلع بالأرش.

وقالت الشافعيّة : ليس له ذلك ولا أن يتملّك بالقيمة.

أمّا الأوّل : فلأنّ قلعه يتضمّن قلع غرس المالك في(١) ملكه ونقض بنائه عن ملكه ؛ إذ له في الملك نصيب كما للمُعير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الـمُستعير يستحقّ في الأرض مثل حقّ الـمُعير ، فلا يمكننا أن نقول : الأصل للمُعير ، والبناء تابع ، بل له التقرير بالأُجرة خاصّةً ، فإن امتنع من بذلها فإمّا أن يباع أو يعرض عنهما الحاكم(٢) .

وليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ للمُعير تخليصَ ملكه وتفريغه ، وإنّما يحصل بنقض مال الغير ، فوجب أن يكون جائزاً له ، كما في الفصيل(٣) لو لم يمكن إخراجه إلّا بهدم الباب.

مسألة ١٠٨ : يجوز أن يعير الأرض للزراعة‌ ؛ لأنّها منفعة مباحة مطلوبة للعقلاء ، فصحّ في مقابلتها العوض بالإجارة فجازت الإعارة.

فإذا استعار للزرع فزرع ثمّ رجع الـمُعير في العارية قبل أن يدرك الزرع ، فإن كان ممّا يعتاد قطعه كالقصيل قطع ، فإن امتنع الـمُستعير من قطعه أُجبر عليه إن لم ينقص بالقصل ، ولا شي‌ء ؛ إذ لا نقص ، وإن نقص فله القطع أيضاً لكن مع دفع الأرش.

وإن كان ممّا لا يعتاد قطعه ، فالأقرب : إنّ حكمه حكم الرجوع في‌

____________________

(١) في « ث ، خ ، ر » : « من » بدل « في ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٨ - ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦.

(٣) الفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أُمّه. القاموس المحيط ٤ : ٣٠ « فصل ».

٢٦٧

الغرس في القلع والتبقية.

واختلفت الشافعيّة :

فقال بعضهم : إنّ له أن يقطع ، ويغرم أرش القطع ؛ تخريجاً ممّا إذا رجع في العارية الموقّتة للبناء قبل مضيّ المدّة(١) .

وقال بعضهم : إنّه يملكه بالقيمة(٢) .

وقال الباقون - وهو الظاهر من مذهبهم - : إنّه ليس كالبناء في هاتين الخصلتين ؛ لأنّ للزرع أمداً يُنتظر ، والبناء والغرس للتأبيد ، فعلى الـمُعير إبقاؤه للمُستعير إلى أوان الحصاد(٣) .

ثمّ فيه وجهان :

أحدهما : إنّه يُبقيه بلا أُجرة ؛ لأنّ منفعة الأرض إلى الحصاد كالمستوفاة بالزرع.

وأصحّهما عندهم : التبقية بالأُجرة ؛ لأنّه إنّما أباح المنفعة إلى وقت الرجوع ، وصار كما إذا أعاره دابّةً إلى بلدٍ ثمّ رجع في الطريق ، عليه نقل متاعه إلى مأمنٍ بأُجرة المثل(٤) .

ولو قيّد الـمُعير للزرع مدّةً فانقضت ولـمّا يدرك ، فإن كان ذلك لتقصير الـمُستعير ، كالتأخير في الزرع ، قلع مجّاناً ، وإن كان لهبوب الرياح وقصور الماء وغير ذلك ممّا لا يُعدّ تقصيراً للمُستعير ، كان بمنزلة ما لو أعاره مطلقاً.

ولو أعار لزرع الفسيل(٥) ، فإن كان ممّا يُنقل عادةً فهو كالزرع ، وإلّا‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٦ - ٨٧.

(٥) الفسيل جمع فسيلة ، وهي النخلة الصغيرة. القاموس المحيط ٤ : ٢٩ ، لسان العرب ١١ : ٥١٩ « فسل ».

٢٦٨

فكالبناء.

مسألة ١٠٩ : إذا أعار للزراعة مطلقاً ، انصرف الإطلاق إلى الواحدة‌ ، فإذا زرع ثمّ أخذ زرعه لم يكن له أن يزرع ثانياً إلّا بإذنٍ مستأنف ؛ لأصالة عصمة مال الغير. وكذا لو أعار للغرس فغرس ثمّ ماتت الشجرة أو انقلعت ، لم يكن له غرس أُخرى غيرها إلّا بإذنٍ جديد. وكذا في البناء لو أذن له فيه فبنى ثمّ انهدم ، أو أذن له في وضع جذعٍ على حائطه فانكسر - وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) - لأنّ الإذن اختصّ بالأوّلة.

والثاني : إنّ له ذلك ؛ لأنّ الإذن قائم ما لم يرجع فيه(٢) .

أمّا لو انقلع الفسيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد ، أو سقط الجذع كذلك وقصر الزمان جدّاً ، فالأولى أنّ له أن يعيده بغير تجديد الإذن.

مسألة ١١٠ : لو حمل السيل حَبّ الغير أو نواه أو جوزه أو لوزه إلى أرض آخَر ، كان على صاحب الأرض ردّه إلى مالكه إن عرفه ، وإلّا كان لقطةً.

فإن نبت في أرضه وصار زرعاً أو شجراً ، فإنّه يكون لصاحب الحَبّ والنوى والجوز واللوز ؛ لأنّه نماء أصله ، كما أنّ الفرخ لصاحب البيض ، ولا نعلم فيه خلافاً.

ثمّ إن طلب صاحب الحَبّ والنوى والجوز واللوز قلعه عن أرض غيره ، كان له ذلك ؛ لأنّه ملكه ، وعليه تسوية الحُفَر ؛ لأنّها حدثت بفعله‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

٢٦٩

لتخليص ملكه منها ، فأشبه فصيلاً دخل دار إنسانٍ ثمّ كبر فاحتاج صاحبه إلى نقض باب الدار لإخراجه ، فإنّ عليه ردّه ، وإصلاحه ؛ لأنّه فعله لتخليص ملكه.

وإن طلب صاحب الأرض القلعَ ، كان له ذلك ؛ لأنّ العِرْق نبت في أرضه بغير إذنه ، فأشبه الغاصب.

فإن امتنع صاحب الزرع ، أُجبر عليه ، كما لو سرت أغصان شجرته في دار جاره ، فإنّها تُقطع ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : لا يُجبر إن كان زرعاً ؛ لأنّ قلعه إتلاف المال على مالكه ، ولم يوجد منه تفريط ولا عدوان ، ولا يدوم ضرره ، فلم يُجبر على ذلك ، كما لو حصلت دابّته في دار غيره على وجهٍ لا يمكن خروجها إلّا بقلع الباب أو قتلها ، فإنّنا لا نجبره على قتلها ، بخلاف أغصان الشجر ، فإنّه يدوم ضرره ، ولا يعرف قدر ما يشغل من الهواء حتى يؤدّي أجره ، فحينئذٍ يُقرّ في الأرض إلى حين حصاده بأُجرة المثل(١) .

وقال بعض العامّة : ليس عليه أجر ؛ لأنّه حصل في أرض غيره بغير تفريطه ، فأشبه ما لو ماتت(٢) دابّته في أرض إنسانٍ بغير تفريطه(٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ منع المالك من أرضه وإبقاء ما لم يأذن فيه لمصلحة الغير إضرار به ، وليس اعتبار مصلحة صاحب الزرع أولى من‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٢ ، بحر المذهب ٩ : ٩ ، الوسيط ٣ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٩ - ٢٠٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٤ ، البيان ٦ : ٤٦٥ - ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧ ، المغني ٥ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٣.

(٢) في المصدر : « باتت ».

(٣) المغني ٥ : ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٣.

٢٧٠

اعتبار مصلحة صاحب الملك.

ثمّ لو سلّمنا وجوب التبقية ، لكن حرمان صاحب الأرض من الأُجرة إضرار به وشغل لملكه بغير اختياره من غير عوضٍ ، فلم يجز ، كما لو أراد بقاء(١) بهيمته في دار غيره عاماً.

وأمّا إن كان النابت شجراً ، كالنخل والزيتون والجوز واللوز وغير ذلك ، فإنّه لمالك النوى ؛ لأنه نماء ملكه ، فهو كالزرع ، ويُجبر على قلعه هنا ؛ لأنّ ضرره يدوم ، فأُجبر على إزالته ، كأغصان الشجرة السارية في هواء أرض غيره.

ولو حمل السيل أرضاً بشجرها فنبتت في أرض غيره كما كانت ، فهي لمالكها ، ويُجبر على إزالتها كما تقدّم.

وفي كلّ ذلك إذا ترك صاحب البذر والنوى ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها ، لم يلزمه نقله ولا أُجرة ولا غير ذلك ؛ لأنّه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه ، وكان الخيار لصاحب الأرض المشغولة به ، إن شاء أخذه لنفسه ، وإن شاء قلعه.

تذنيب : لو كان المحمول بالسيل ما لا قيمة له كنواةٍ واحدة وحَبّةٍ واحدة فنبتت‌ ، احتُمل أن يكون لمالك الأرض إن قلنا : لا يجب عليه ردّها إلى مالكها لو لم تنبت ؛ لانتفاء حقيقة الماليّة فيها ، والتقويم إنّما حصل في أرضه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) ، وأن يكون لمالكها إن قلنا بتحريم‌

____________________

(١) الظاهر : « إبقاء ».

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٧.

٢٧١

أخذها ووجوب ردّها قبل نباتها ، فعلى هذا في قلع النابت وجهان(١) .

ولو قلع صاحب الشجرة الشجرةَ ، فعليه تسوية الحُفَر ؛ لأنّه قصد تخليص ملكه.

المبحث الثاني : في الضمان.

وأقسامه ثلاثة : ضمانُ الردّ ، وهو واجب على الـمُستعير ، فمئونته عليه ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٢) ، ولأنّ الإعارة نوع من معروف ، فلو كُلّف المالك مئونة الردّ امتنع الناس من الإعارة ، وفي ذلك ضرر عظيم. وضمانُ العين ، وضمانُ الأجزاء.

مسألة ١١١ : العارية أمانة مأذون في الانتفاع بها بغير عوضٍ‌ ، لا تستعقب الضمان - إلّا في مواضع تأتي إن شاء الله تعالى - عند علمائنا أجمع ، فإذا تلفت في يد الـمُستعير بغير تفريطٍ منه ولا عدوان ، لم يكن عليه ضمان ، سواء تلفت بآفةٍ سماويّة أو أرضيّة - وبه قال النخعي والشعبي والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن شبرمة ، وهو قول الشافعي في الأمالي(٣) - لما رواه العامّة‌

____________________

(١) نفس المصادر.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٤٠٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٦٤ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٦ : ١٤٦ / ٦٠٤ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٤٧ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٢ / ١٩٥٨٢ ، و ٦٤١ / ١٩٦٤٣.

(٣) المغني ٥ : ٣٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٠ - ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٦ - ٧ ، الوسيط ٣ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ - ٤٥٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، الاختيار لتعليل =

٢٧٢

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ليس على الـمُستعير غير المُغلّ(١) ضمان »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « ليس على مُستعير عاريةٍ ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن »(٣) .

وعن محمّد بن مسلم - في الصحيح - أنّه سأل الباقرَعليه‌السلام : عن العارية يستعيرها [ الإنسان ] فتهلك أو تُسرق ، فقال : « إذا كان أميناً فلا غُرْم عليه »(٤) .

ولأنّه قبضها بإذن مالكها ، فكانت أمانةً ، كالوديعة.

ولأنّ قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العارية مؤدّاة »(٥) يدلّ على أنّها أمانة ؛ لقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٦) .

____________________

= المختار ٣ : ٧٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٣٤ ، النتف ٢ : ٥٨٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٠ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٥ / ١٨٧٦ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٠ و ١٧٢١ / ١٢١١ ، المعونة ٢ : ١٢٠٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(١) أي : غير خائنٍ في العارية ، والإغلال : الخيانة. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٣٨١ « غلل ».

(٢) سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٩١ ، المغني ٥ : ٣٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٢ / ٧٩٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ / ٤٤١.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩٢ - ١٩٣ / ٨٧٥ ، التهذيب ٧ : ١٨٢ / ٧٩٩ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ / ٤٤٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.

(٥) تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ٢٣٣.

(٦) النساء : ٥٨.

٢٧٣

وقال الشافعي : العارية مضمونة بكلّ حال - وإليه ذهب عطاء وأحمد وإسحاق ، ورواه العامّة عن ابن عباس وأبي هريرة - لما روي في حديث صفوان بن أُميّة : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله استعار منه يوم خيبر(١) أدرعاً ، فقال : أغصباً يا محمّد؟ قال : « بل عارية مضمونة مؤدّاة »(٢) .

وعن سمرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٣) .

ولأنّه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفرداً بنفعه من غير استحقاقٍ ولا إذنٍ في الإتلاف ، فكان مضموناً ، كالغاصب ، والمأخوذ على وجه السوم(٤) .

والجواب : إنّا نقول بموجب الحديث ، فإنّ الـمُعير إذا شرط على الـمُستعير الضمانَ لزمه.

وكذا نقول بموجب الثاني ، فإنّه يجب على الـمُستعير أداء العين إلى‌

____________________

(١) راجع التعليقة (٣) من ص ٢٣٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٣٣ ، الهامش (٥)

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٧١ ، الهامش (٢)

(٤) الأُم ٣ : ٢٤٤ ، مختصر المزني : ١١٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٠ ، بحر المذهب ٩ : ٦ ، الوسيط ٣ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٦ - ٧٧ ، المغني ٥ : ٣٥٥ - ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٥ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٢١٣ - ٢١٤ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٠ / ١٤٧٩٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٨٥ و ١٨٦ / ١٨٧٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١ ، المعونة ٢ : ١٢٠٩ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٠ ، النتف ٢ : ٥٨٣.

٢٧٤

مالكها ، والضمير عائد إلى المأخوذ ، لا إلى القيمة مع التلف.

والقياس على الغاصب غلط ؛ لأنّه ظالم ، فلا يناسب الاستئمان.

والمأخوذ بالسوم إنّما دفعه المالك طالباً للعوض ، بخلاف العارية.

مسألة ١١٢ : لو شرط الـمُعير الضمانَ على الـمُستعير ، لزمه الضمان مع التلف بغير تفريطٍ.

وإن لم يشترط ضمانها ، كانت أمانةً ، عند علمائنا ، وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن العنبري(١) - وهذا أحد المواضع المستثناة - لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه شرط لصفوان بن أُميّة الضمانَ(٢) .

ومن طريق الخاصّة : رواية صفوان ، وقد سلفت(٣) .

وفي الصحيح عن ابن مسكان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قال : « لا تُضمن العارية إلّا أن يكون اشترط فيها ضماناً ، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمان »(٤) .

وفي الحسن عن الحلبي عن الصادقعليه‌السلام قال : « إذا هلكت العارية عند الـمُستعير لم يضمنه إلّا أن يكون قد اشترط عليه »(٥) .

ولأنّ الحاجة تدعو إلى العارية وإلى الاحتياط في الأموال ، فلو‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٢ ، المحلّى ٩ : ١٧٠ ، المصنّف - لعبد الرزّاق - ٨ : ١٨٠ / ١٤٧٩٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١ ، المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦.

(٢) راجع الهامش (٥) من ص ٢٣٣.

(٣) في ص ٢٣٣.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٤٤ ، الهامش (١)

(٥) التهذيب ٧ : ١٨٣ / ٨٠٥.

٢٧٥

لم يشرع الشرط لزم امتناع ذوي الأموال من إعارتها ، وذلك فساد وضرر وحرج وضيق.

ولقولهعليه‌السلام : « المسلمون عند شروطهم »(١) ومَنْ أوجب الضمانَ من غير شرطٍ كان إيجابه معه أولى.

وقال أبو حنيفة : لا يضمن بالشرط كالوديعة(٢) .

والفرق : إنّ الوديعة أمانة لا تستعقب انتفاع الأمين بها ، فلا يليق فيها الضمان وإن شرطه ، بخلاف العارية.

وقال ربيعة : كلّ العواريّ مضمونة إلّا موت الحيوان ، وهو منقول ، عن مالك(٣) .

مسألة ١١٣ : لو شرطا في العارية سقوط الضمان سقط ؛ لأنّ العارية لا تستعقب الضمان عندنا ، فوجود الشرط كالعدم.

وروي عن أحمد - مع قوله بأنّ العارية مضمونة(٤) - سقوطه هنا ، وبه قال قتادة والعنبري ؛ لأنّه لو أذن له في إتلافها لم يجب ضمانها ، فكذا إذا أسقط عنه ضمانها(٥) .

وقال الشافعي وأحمد : لا يصحّ هذا الشرط ، ولا يسقط الضمان ؛ لأنّ‌

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٨ ، الهامش (٤)

(٢) فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٤ - ٣٨٥.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٢٢ / ١٠٦١ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٠ / ١٢١١.

(٤) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٥) المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧١ / ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٧ ، البيان ٦ : ٤٥٤ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٢٢ / ١٢١١.

٢٧٦

كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط ، كالمقبوض بالبيع الفاسد أو الصحيح ، وما اقتضى الأمانةَ فكذلك ، كالوديعة والشركة والمضاربة ، وفارق إذن الإتلاف ؛ فإنّ الإتلاف فعل يصحّ الإذن فيه ، ويسقط حكمه ؛ إذ لا ينعقد موجباً للضمان مع الإذن فيه ، وإسقاط الضمان هنا نفي الحكم مع وجود سببه ، وليس ذلك للمالك ، ولا يملك الإذن فيه(١) .

والجواب : المنع من قولهم : « كلّ عقدٍ اقتضى الضمانَ لم يغيّره الشرط » لأنّها قضيّة كلّيّة يكذّبها قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المسلمون عند شروطهم »(٢) وإسقاط الحكم بعد وجود سببه ممكن ؛ لأنّه لو أسقطه بعد وجوده أمكن ، كإسقاط الدَّيْن الثابت في الذمّة ، فإسقاطه بعد سببه أولى.

تذنيب : لو شرط سقوط الضمان في العارية المضمونة ، كالذهب والفضّة وغيرهما‌ ممّا يجب فيه الضمان على مذهبنا ، فالأولى السقوط ؛ عملاً بالشرط ، وقد سبق.

وكذا لو شرط الضمان في العارية صحّ ، فإذا أسقطه بعد ذلك سقط.

مسألة ١١٤ : إذا استعار العين من غير مالكها ، ضمن بالقبض‌ ، سواء فرّط فيها وتعدّى أو لا ، وسواء شرط الـمُعير الضمانَ أو لا ، وسواء كانت يد الـمُعير يدَ أمانةٍ أو يد ضمانٍ ؛ لأنّه استولى باليد على مال الغير بغير إذنه ، فكان عليه الضمان.

ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام أنّهما قالا : « إذا‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧ ، المغني ٥ : ٣٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٦.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٢٥٨.

٢٧٧

استُعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالـمُستعير ضامن »(١) .

مسألة ١١٥ : العارية تُضمن في مواضع :

أ : إذا كانت العارية الدراهم والدنانير وإن لم يشترط الضمان ، وقد سلف(٢) .

وهل يدخل المصوغ منهما؟ فيه إشكال ينشأ : من التنصيص على الدراهم والدنانير في بعض الروايات(٣) ، ومن ورود الذهب والفضّة في بعض الروايات ، ففي رواية زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال : « جميع ما استعرته فتَوى فلا يلزمك تَواه إلّا الذهب والفضّة فإنّهما يلزمان »(٤) .

ب : العارية من غير المالك‌.

ج : عارية الـمُحْرم الصيدَ مضمونةٌ عليه‌ ؛ لأنّ إمساكه عليه حرام ، فيكون متعدّياً فيكون ضامناً.

ولا فرق بين أن يكون الـمُستعير الـمُحْرم في الحلّ أو في الحرم.

وكذا لو استعار الـمُحلّ صيداً في الحرم ضمنه ؛ لأنّه ممنوع منه ، فكان متعدّياً باستيلاء يده عليه.

د : إذا تعدّى الـمُستعير أو فرّط في العارية ضمن‌ ، وهو ظاهرٌ ، ومن جملته ما لو منعها عن المالك بعد طلبه لها متمكّناً من ردّها إليه.

وأمّا ولد العارية - التي اشترط فيها الضمان عندنا ، ومطلقاً عند‌ القائلين بالتضمين - إذا تجدّد بعد الإعارة ، فإنّه أمانة لا يجب ضمانه على

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٣ - ١٨٤ / ٧٠٧ ، الاستبصار ٣ : ١٢٥ / ٤٤٦.

(٢) في ص ٢٤٣ ، المسألة ٨٧.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ و ١٨٤ / ٨٠٤ و ٨٠٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٤٨.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٤٤ ، الهامش (٣)

٢٧٨

الـمُستعير ؛ لأنّه لم يدخل في الإعارة ، فلم يدخل في الضمان ، ولا فائدة للمُستعير فيه ، فأشبه الوديعة ، وأمّا إن كان عند المالك فكذلك عندنا ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والرواية الأُخرى : إنّها تكون مضمونةً ؛ لأنّه ولد عينٍ مضمونة ، فيضمن ، كولد المغصوبة(١) .

والحكم في الأصل ممنوع ؛ فإنّ ولد المغصوبة لا يُضمن إذا لم يكن مغصوباً ، فكذا ولد العارية إذا لم يوجد مع أُمّه ، وإنّما يُضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوباً ، ولا أثر لكونه ولداً لها.

تذنيب : لو استعار من غير المالك عالماً كان أو جاهلاً بالملكيّة ، ضمن‌ ، واستقرّ الضمان عليه ؛ لأنّ التلف حصل في يده ، ولا يرجع على الـمُعير ، ولو رجع المالك على الـمُعير كان للمُعير الرجوعُ على الـمُستعير.

مسألة ١١٦ : إذا تلفت العين ووجب الضمان ، فإن كانت مثليّةً كانت مضمونةً بالمثل ، وإن لم تكن مثليّةً وجبت القيمة.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون قد استعملها الـمُستعير ، أو لا ، فإن كان قد استعملها وتلف بالاستعمال بعض أجزائها ، وجب عليه قيمة العين الناقصة ؛ لأنّ تلك الأجزاء مأذون في إتلافها ، فلا تكون مضمونةً ، إلّا أن يتعدّى فيتلف بعض الأجزاء بالتعدّي فيضمن ، بخلاف ما إذا لم يتعدّ ؛ لأنّ الإذن في الاستعمال تضمّنه ، ولو تلفت قبل الاستعمال وهي مضمونة أو أتلفها وجب عليه قيمة العين تامّةً.

لا يقال : إنّه مأذون له في إتلاف الأجزاء ، وإلّا سقط عنه ضمانها.

____________________

(١) المغني ٥ : ٣٥٧ و ٣٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٨.

٢٧٩

لأنّا نقول : الأجزاء إنّما يسقط ضمانها إذا أتلفها مفردةً عن العين على وجه الاستعمال ، فأمّا إذا أتلفها بتلف العين فإنّه يضمنها ؛ لأنّه لا يمكن تميّزها من العين في الضمان.

مسألة ١١٧ : إذا استعمل العارية المضمونة فنقص بعض أجزائها‌ ثمّ تلفت وهي من ذوات القِيَم ، وجبت القيمة يوم التلف ؛ لأنّها لو كانت باقيةً في تلك الحال وردّها لم يجب عليه شي‌ء ، فإذا تلفت وجب مساويها في تلك الحال ، ولأنّ الأجزاء التي تلفت بالاستعمال تلفت غير مضمونةٍ ؛ لأنّه أذن في إتلافها بالاستعمال ، فلا يجوز تقويمها عليه ، وهو أحد أقوال الشافعي.

والثاني : إنّ عليه أقصى القِيَم من يوم القبض إلى حين التلف ؛ لأنّه لو تلف في حال زيادة القيمة لوجبت القيمة الزائدة ، فأشبه المغصوب.

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه يقتضي إيجاب ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال ، وهي غير مضمونةٍ.

والثالث : إنّه يجب عليه قيمتها يوم القبض ؛ تشبيهاً بالقرض(١) .

والقائل بالثاني يمنع من كون الأجزاء غير مضمونةٍ على الإطلاق ، ويقول : إنّما لا يضمن إذا ردّ العين(٢) .

واعلم أنّه فرقٌ بين المغصوب والمستعار ؛ لأنّ المغصوب يجب ردّه في كلّ حالٍ ، منهيّ عن الإمساك في كلّ وقتٍ ، فلهذا ضمن بأعلى القِيَم ، وأمّا الـمُستعير فإنّ الردّ لا يجب عليه حالة الزيادة ، فافترقا.

ويُبنى على هذا الخلاف أنّ الجارية المستعارة مع الضمان إذا ولدت‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392