تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118822 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بأسهم بينهم شديد ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله :( وقلوبهم شتى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله :( ذلك بأنّهم لا يعقلون ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم( كمثل الذين من قبلهم ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء( ذاقوا وبال أمرهم ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

٢٦١

الحشر

٥٢

التمثيل الثاني والخمسون

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) .(١)

تفسير الآية هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم :( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه :( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم :( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ) .(٢)

ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

__________________

١ ـ الحشر : ١٦.

٢ ـ الحشر : ١٢.

٢٦٢

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ) .(١)

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأوحى له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.(٢)

__________________

١ ـ الأنفال : ٤٨.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٢٦٥.

٢٦٣

الحشر

٥٣

التمثيل الثالث والخمسون

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول :( وخشعت الأصوات ) ،( خاشعة أبصارهم ) ، (أبصارهم خاشعة ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

__________________

١ ـ الحشر : ٢١.

٢٦٤

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه :( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .(١)

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والأصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية الله ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

__________________

١ ـ البقرة : ٧٤.

٢٦٥

الجمعة

٥٤

التمثيل الرابع والخمسون

( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ) .(١)

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار.(٢)

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

__________________

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ مفردات الراغب : مادة «سفر ».

٢٦٦

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال :( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله :( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ) .

٢٦٧

التحريم

٥٥

التمثيل الخامس والخمسون

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) .(١)

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول :( وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ التحريم : ١٠.

٢٦٨

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ) .(١)

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

١. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه :( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

٢. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أخرى ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأت به ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

٣. انّه سبحانه أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ، كما يقول سبحانه :( وأظهره الله عليه ) أي أطلعه الله عليه.

٤. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « مااستقصى كريم قط ».

٥. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأها به

__________________

١ ـ التحريم : ٣.

٢٦٩

قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه :( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن على أنّ

٢٧٠

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (١) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم :( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .(٢)

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

__________________

١ ـ المؤمنون : ١٠١.

٢ ـ الأعراف : ٣٥.

٢٧١

التحريم

٥٦

التمثيل السادس والخمسون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين * وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) .(١)

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله :( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

__________________

١ ـ التحريم : ١١ ـ ١٢.

٢٧٢

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها :( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمن ات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله :( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

١.( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه :( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) (١) وفي سورة الأنبياء قوله :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ) .(٢)

__________________

١ ـ النساء : ١٥٦.

٢ ـ الأنبياء : ٩١.

٢٧٣

٢.( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال :( فنَفخنا فيها من روحنا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً( فنفخنا فيه من روحنا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

٣.( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

٤.( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

٢٧٤

سبحانه :( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) .(١)

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

١. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(٢)

٢. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ) ».(٣)

٣. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى ».

__________________

١ ـ آل عمران : ٤٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٣٢٠.

٣ ـ و ٤. الدر المنثور : ٨ / ٢٢٩.

٢٧٥

الملك

٥٧

التمثيل السابع والخمسون

( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ) .(١)

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه :( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله :( يمشي سوياً ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

__________________

١ ـ الملك : ٢١ ـ ٢٢.

٢٧٦

 التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٩ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٢٧٧

خاتمة المطاف

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَما هِيَ إلاّ ذِكرى لِلبَشر ) .(١)

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وما أدراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي ولا تَذَرُ * لواحَةٌ للبشرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم(٣) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

__________________

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ المدثر : ٢٦ ـ ٣٠.

٣ ـ الدهم : الجماعة الكثيرة.

٢٧٨

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية :( وَما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله :( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) .(١)

فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

١.( فتنة للذين كفروا ) .

٢.( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ) .

٣.( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ) .

٤.( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) .

٥.( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه :( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه :( وَإذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

__________________

١ ـ النجم : ٥ ـ ٦.

٢٧٩

إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون ) .(١)

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله :( ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) (٢) ومن المعلوم

__________________

١ ـ التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥. ٢ ـ القصص : ٨.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

قال الشافعي في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى : لا أعلم شيئاً في الدنيا يكون باطلاً إن لم تكن شركة المفاوضة باطلةً(١) ، يعني لما فيها من أنواع الغرر والجهالات الكثيرة.

مسألة ١٤٤ : شركة الوجوه عندنا باطلة‌ - وبه قال الشافعي ومالك(٢) - لما تقدّم في شركة الأبدان.

وقال أبو حنيفة : إنّها صحيحة ؛ لما تقدّم من أنّها نوع شركةٍ اختصّت باسمٍ(٣) ، وقد سبق(٤) .

____________________

= التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٠ ، البيان ٦ : ٣٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥.

(١) الأُم ٧ : ١٣٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٠ ، البيان ٦ : ٣٣٦.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٦ / ٤٦ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٣ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٨ ، الوسيط ٣ : ٢٦٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٩ ، البيان ٦ : ٣٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٣ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٤ و ٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٥ / ١٠٢٧ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٥ ، الذخيرة ٨ : ٤٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٨١ / ١١٨٥ ، المعونة ٢ : ١١٤٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٥٧ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٧٢ / ٣٣٧٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١١ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥٤.

(٣) تحفة الفقهاء ٣ : ١٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٥٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٥ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٧١ - ٥٧٢ / ٣٣٧٨ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٦٢٣ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٤ / ٧١٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٩ / ١٦٧١ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥٤ ، المحيط البرهاني ٦ : ٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٩ ، البيان ٦ : ٣٣٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٦ / ١٠٢٧ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٥ ، الذخيرة ٨ : ٤٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٨١ / ١١٨٥ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٤ و ٦.

(٤) في ص ٣١٨.

٣٢١

إذا عرفت هذا ، فإن أذن أحدهما للآخَر في الشراء ، فاشترى لهما ، وقع الشراء عنهما ، وكانا شريكين ؛ لأنّه وكيل له اشترى له بإذنه ، ويشترط فيه اعتبار شرائط الوكالة ؛ لما رواه داوُد الأبزاري عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجلٍ اشترى بيعاً ولم يكن عنده نقد فأتى صاحباً له ، فقال : انقد عنّي والربح بيني وبينك ، فقال : « إن كان ربح فهو بينهما ، وإن كان نقصان فعليهما »(١) .

وعن إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح الكاظمعليه‌السلام ، أنّه قال : الرجل يدلّ(٢) الرجل على السلعة فيقول : اشترها ولي نصفها ، فيشتريها الرجل وينقد من ماله ، قال : « له نصف الربح » قلت : فإن وضع يلحقه من الوضيعة شي‌ء؟ قال : « عليه من الوضيعة كما أخذ من الربح »(٣) .

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٦ / ٨٢٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يدخل » بدل « يدلّ ». والمثبت كما في المصدر.

(٣) الفقيه ٣ : ١٣٩ - ١٤٠ / ٦١٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٧ / ٨٢٤.

٣٢٢

٣٢٣

الفصل الثاني : في أركان الشركة‌

وهي ثلاثة :

الأوّل : المتعاقدان.

ويشترط في كلٍّ منهما البلوغ والعقل والاختيار والقصد وجواز التصرّف. والضابط : أهليّة التوكّل والتوكيل ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الشريكين متصرّف في جميع المال ، أمّا فيما يخصّه : فبحقّ الملك ، وأمّا في مال غيره : فبحقّ الإذن من ذلك الغير ، فهو وكيل عن صاحبه وموكّل لصاحبه بالتصرّف في ماله ، فلا تصحّ وكالة الصبي ؛ لعدم اعتبار عبارته في نظر الشرع ، ولا المجنون ؛ لذلك ، ولا السفيه ولا المكره ولا الساهي والغافل والنائم ، ولا المفلس المحجور عليه ؛ لأنّه ممنوع من جهة الشرع من التصرّف في أمواله.

ولا فرق بين أن يأذن مَنْ له الولاية عليهم في ذلك أو لا ، إلّا المفلس ، فإنّه إذا أذن له الحاكم في التوكيل أو التوكّل جاز ، وكذا السفيه.

مسألة ١٤٥ : يكره مشاركة المسلم لأهل الذمّة من اليهود والنصارى والمجوس وغير أهل الذمّة من سائر أصناف الكفّار‌ عند علمائنا - وبه قال الشافعي(١) - لما رواه العامّة عن عبد الله بن عباس أنّه قال : أكره أن يشارك المسلم اليهودي(٢) ، ولم يُعرف له مخالف في الصحابة.

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ابن رئاب - في الصحيح - عن‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٧ / ٤٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، ، الوسيط ٣ : ٢٦٥ ، حلية العلماء ٥ : ٩٢ ، البيان ٦ : ٣٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٠ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١١٠.

(٢) بحر المذهب ٨ : ١٢٠ ، البيان ٦ : ٣٢٧ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١١٠.

٣٢٤

الصادقعليه‌السلام قال : « لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمّي ولا يبضعه بضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه المودّة »(١) .

ولأنّ أموال اليهود والنصارى ليست بطيبةٍ ؛ فإنّهم يبيعون الخمور ويتعاملون بالربا ، فكرهت معاملتهم.

وقال الحسن البصري والثوري وأحمد بن حنبل : لا بأس بمشاركة اليهودي والنصراني ، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه [ و ] يكون هو الذي يليه ؛ لما رواه العامّة عن عطاء قال : نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مشاركة اليهودي والنصراني ، إلّا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم(٢) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه السكوني عن الصادقعليه‌السلام : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي إلّا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها(٣) .

ولأنّ العلّة في كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا وبيع الخمر والخنزير ، وهذا منتفٍ فيما حضره المسلمون أو تولّوه بأنفسهم(٤) .

والخبران ممنوعان بضعف السند ، مع أنّا نقول بموجبهما ، وهو أن يكون المال أصله من المسلم بأن يبيعه في ذمّته ويعامل به بالوكالة من غير أن يباشر الكافر التصرّفَ ، أمّا إذا كان للكافر مال ، فإنّ المعنى الذي استخرجوه في المنع ثابت فيه ؛ لأنّ أصل أموالهم من التصرّفات المحرَّمة.

والذي احتجّوا به - من كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عاملهم ، ورهن درعه عند‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨٦ ( باب مشاركة الذمّي ) ح ١ ، الفقيه ٣ : ١٤٥ / ٦٣٨ ، التهذيب ٧ : ١٨٥ / ٨١٥.

(٢) المغني والشرح الكبير ٥ : ١١٠.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٦ ( باب مشاركة الذمّي ) ح ٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٥ / ٨١٦.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٩٣ ، البيان ٦ : ٣٢٧ ، المغني ٥ : ١٠٩ - ١١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٠.

٣٢٥

يهوديٍّ على شعيرٍ أخذه لأهله(١) ، وأرسل إلى آخَر يطلب منه قرضاً إلى الميسرة(٢) ، وأضافه يهوديٌّ(٣) ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يأكل ما ليس بطيبٍ(٤) - لا حجّة فيه ؛ لجواز أن يكونعليه‌السلام علم الطيب في ذلك خاصّةً ، وهذا المعنى غير ثابتٍ في حقّ غيره.

مسألة ١٤٦ : لو شاركه المسلم فَعَل مكروهاً ، فإذا اشترى شيئاً بمال الشركة كان على أصل الإباحة مع جهالة المسلم بالحال أو علمه بالحلال‌ ، أمّا لو علم أنّه اشترى به أو عامل في الحرام كالربا وبيع المحرَّمات ، فإنّه يقع فاسداً ، وعلى الذمّي الضمان ؛ لأنّ عقد الوكيل يقع عندنا للموكّل ، والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير ، فأشبه ما لو اشتراه المسلم نفسه ، وأمّا ما خفي أمره ولم يعلم حاله فالأصل إباحته وحلّه.

وأمّا المجوس فحكمهم حكم أهل الذمّة في كراهة مشاركتهم.

وقال أحمد : يكره معاملة المجوس ومشاركتهم - وإن نفى كراهة مشاركة أهل الذمّة - لأن المجوس يستحلّون ما لا يستحلّه الذمّي(٥) .

ولا خلاف في أنّه لو عامل المسلم أحد هؤلاء أو شاركهم فإنّه يكون تصرّفاً صحيحاً ؛ للأصل.

إذا عرفت هذا ، فليس بعيداً من الصواب كراهة مشاركة مَنْ لا يتوقّى المحرَّمات - كالربا وشراء الخمور - من المسلمين أيضاً ؛ لوجود المقتضي‌

____________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٨٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨١٥ / ٢٤٣٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٦ ، مسند أحمد ١ : ٥٩٦ / ٣٣٩٩ ، و ٣ : ٥٩١ / ١١٩٥٢.

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٥١٨ / ١٢١٣ ، سنن النسائي ٧ : ٢٩٤ ، سنن البيهقي ٦ : ٢٥ ، مسند أحمد ٤ : ١٣٠ / ١٣١٤٧.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٧٥ / ١٢٧٨٩.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ١١٠.

(٥) المغني ٥ : ١٠٩ و ١١٠ - ١١١ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٠ و ١١١.

٣٢٦

في أهل الذمّة فيهم.

الركن الثاني : الصيغة.

قد بيّنّا أنّ الأصل عصمة الأموال على أربابها وحفظها لهم ، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنهم ، وإنّما يُعلم الرضا والإذن باللفظ الدالّ عليه ، فاشتُرط اللفظ الدالّ على الإذن في التصرّف والتجارة ، فإن أذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه صريحاً فلا خلاف في صحّته.

ولو قال كلٌّ منهما : اشتركنا ، واقتصرا عليه مع قصدهما الشركة بذلك ، فالأقرب : الاكتفاء به في تسلّطهما على التصرّف به من الجانبين ؛ لفهم المقصود عرفاً ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، وبه قال أبو حنيفة.

والثاني : إنّه لا يكفي ؛ لقصور اللفظ عن الإذن ، واحتمال قصد الإخبار عن حصول الشركة في المال عن غير الاختيار بأن يمتزج المالان بغير رضاهما ، ولا يلزم من حصول الشركة جواز التصرّف ، فإنّهما لو ورثا مالاً أو اشترياه صفقةً واحدة فإنّهما يملكانه بالشركة ، وليس لأحدهما أن يتصرّف فيه إلّا بإذن صاحبه ، وبه قال أكثر الشافعيّة(١) .

ولو أذن أحدهما لصاحبه في التصرّف في جميع المال ولم يأذن الآخَر ، تصرّف المأذون في الجميع ، وليس للآخَر أن يتصرّف إلّا في نصيبه مشاعاً.

وكذا لو أذن لصاحبه في التصرّف في الجميع وقال : أنا لا أتصرّف إلّا في نصيبي.

مسألة ١٤٧ : الشركة قد تقع بالاختيار ، وقد تقع بالإجبار‌ ، كما تقدّم ، وكلامنا في الشركة المستندة إلى الاختيار ، وهي قد تحصل بمزج المالين‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٠.

٣٢٧

بالاختيار من غير لفظٍ ، فلو امتزج المالان برضاهما حصلت الشركة الاختياريّة وإن لم يكن هناك لفظ ، وأمّا التصرّف والإذن فيه والمنع منه فذاك حكم زائد على مفهوم الشركة.

ولو شرط أحدهما على الآخَر أن لا يتصرّف إلّا في نصيبه ، لم يصح العقد ؛ لما فيه من الحجر على المالك في ملكه.

ثمّ الإذن قد يكون عامّاً بينهما بأن يأذن كلٌّ منهما لصاحبه في التصرّف في جميع المال والتجارة به في جميع الأجناس أو فيما شاء منهما.

وقد يكون خاصّاً ، كما لو أذن كلٌّ منهما لصاحبه في التجارة في جنسٍ واحد أو في بلدٍ واحد بعينه ، فلا يجوز لأحدهما التخطّي إلى غيره ، إلّا إذا استلزمه عرفاً.

وقد يكون عامّاً لأحدهما وخاصّاً للآخَر ، فلمن عمّم الإذن له التصرّفُ فيما شاء ، وأمّا الآخَر فلا يجوز له أن يتعدّى المأذون.

ولا خلاف في ذلك كلّه ، إلّا في صورة التعميم منهما أو من أحدهما ، فإنّ للشافعيّة وجهاً ضعيفاً فيه : إنّه لا يجوز الإطلاق ، بل لا بدّ من التعيين(١) .

تذنيب : لو استعملا لفظ المفاوضة وقصدا شركة العنان ، جاز‌ - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّ الكناية هنا معتبرة كالصريح.

الركن الثالث : المال.

مسألة ١٤٨ : يشترط في المال المعقود عليه الشركة أن يكون متساويي الجنس‌ بحيث لو مزجا ارتفع الامتياز بينهما وحصل الاشتباه بينهما ، سواء‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٢ - ٥١٣.

٣٢٨

كان المال من الأثمان أو العروض ، كما لو مزجا ذهباً بذهبٍ مثله أو فضّةً بمثلها أو حنطةً بمثلها أو دخناً بمثله ، إلى غير ذلك ممّا يرتفع فيه المائز بينهما.

ولا خلاف في أنّه يجوز جَعْل رأس المال الدراهم والدنانير ؛ لأنّهما أثمان الأموال والبياعات ، ولم يزل الناس يشتركون فيهما من زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وقتنا هذا من غير أن يُنكره أحد في صُقْعٍ من الأصقاع أو عصرٍ من الأعصار ، فكان إجماعاً.

وأمّا العروض فعندنا تجوز الشركة فيها مع الشرط المذكور ، سواء كانت من ذوات الأمثال أو من ذوات القِيَم - وبه قال مالك(١) - لأنّ الغرض من الشركة أن يملك أحدهما نصفَ مال الآخَر ، وتكون أيديهما عليه ، وهذا موجود في العروض ، فصحّت الشركة فيها.

وكره ابن سيرين ويحيى بن أبي كثير والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي الشركةَ في العروض ، ومَنَع الشافعي وأبو حنيفة من الشركة في العروض التي ليست من ذوات الأمثال ؛ لأنّ الشركة لا تخلو إمّا أن تكون واقعةً على الأعيان أو أثمانها أو قيمتها.

والأوّل باطل ؛ لأنّ الشركة توجب أن لا يتميّز مال أحدهما عن الآخَر ، وأن يرجع عند المفاصلة(٢) إلى رأس المال ولا [ مثل ](٣) لهما فيرجع‌

____________________

(١) المدوّنة الكبرى ٥ : ٥٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٣ / ١٠١٩ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٢ ، التفريع ٢ : ٢٠٥ ، الذخيرة ٨ : ٤٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٧٥ / ١١٨١ ، المعونة ٢ : ١١٤٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٩٣ ، البيان ٦ : ٣٢٨ ، المغني ٥ : ١٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٢ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٦ ، بدائع الصنائع ٦ : ٥٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٥ / ١٦٦٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٦٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٦.

(٢) أي : عند فصل الشركة.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مال ». وما أثبتناه من بعض المصادر.

٣٢٩

إليه ، وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخَر فيستوعب بذلك جميع الربح ، أو تنقص قيمته فيؤدّي ذلك إلى أن [ يشاركه ](١) الآخَر في ثمن ملكه الذي ليس بربحٍ [ وأنّ ما يتلف ](٢) من مال الشركة يختصّ به أحدهما ، وهو مالك العين ، فيبطل الرجوع إلى أعيانهما.

والثاني - وهو أن تكون الشركة واقعةً على أثمانها - فهو باطل أيضاً ؛ لأنّ الأثمان معدومة حال العقد ولا يملكانها ، ولأنّه إن أراد ثمنها الذي اشتراها به فقد خرج عن ملكه ، وإن أراد ثمنها الذي يبيعها به فهو باطل أيضاً ؛ لأنّ ذلك يكون مضاربةً معلّقةً بشرطٍ ، وهو بيع الأعيان ، ويكون أيضاً عقد الشركة على ما لا يملكانه حال العقد ، ويكون أيضاً عقد الشركة قد وقع على مالٍ مجهول.

والثالث - وهو أن تكون الشركة واقعةً على القيمة - فإنّه باطل أيضاً ؛ لأنّ القيمة ليست ملكهما ، وهي مجهولة أيضاً ، ولأنّ القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه ، فيشاركه الآخَر في ثمن العين التي هي ملكه(٣) .

وهو غلط ؛ فإنّا نقول : الشركة تقع في الأعيان ، والرجوع في‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يشارك ». والظاهر ما أثبتناه كما في بعض المصادر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطيّة والحجريّة : « وإن تلف ». والظاهر ما أثبتناه من بحر المذهب.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٣ / ٤٣ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٣ - ٤٧٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٩٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٧ ، البيان ٦ : ٣٢٧ - ٣٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٨ و ١٩٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٣ / ١٠١٩ ، المغني ٥ : ١٢٤ - ١٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٢ و ١١٣ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٧ / ٣٣٥٠ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٦٠.

٣٣٠

المفاصلة كالرجوع عند الامتزاج بغير الاختيار.

مسألة ١٤٩ : وتجوز الشركة في العروض التي هي من ذوات الأمثال‌ ، عند علمائنا ، وبه قال مالك(١) .

وللشافعي قولان - وعن أحمد روايتان(٢) - :

أحدهما مثل ما قلناه ؛ لما تقدّم(٣) .

والثاني : المنع ؛ فإنّه لا تصحّ الشركة إلّا على أحد النقدين ، كالمضاربة(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ هذا مالٌ له مثلٌ ، فصحّ عقد الشركة عليه إذا لم يتميّز ، كالنقود ، ولأنّ هذا يؤمن فيه المعاني السابقة المانعة من الشركة فيما لا مثل له ؛ لأنّه متى تغيّرت قيمة أحدهما تغيّرت قيمة الآخَر ، بخلاف المضاربة ؛ لأنّه ربما زادت قيمة جنس رأس المال ، فانفرد ربّ المال بجميع الربح ، ولأنّ حقّ العامل محصور في الربح ، فلا بدّ من تحصيل رأس المال ليوزّع الربح ، وفي الشركة لا حاجة إليه ، بل كلّ المال يُوزّع عليهما على قدر ماليهما.

تذنيب : إذا اشتركا فيما لا مثل له كالثياب ، وحصل المزج الرافع للامتياز ، تحقّقت الشركة‌ ، وكان المال بينهما ، فإن عُلمت قيمة كلّ واحدٍ منهما ، كان الرجوع إلى نسبة تلك القيمة ، وإلّا تساويا ؛ عملاً بأصالة التساوي.

____________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٣٢٨.

(٢) المغني ٥ : ١٢٤ و ١٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٢.

(٣) في المسألة السابقة.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٤ - ١٢٥ ، حلية العلماء ٥ : ٩٣ - ٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٧ - ١٩٨ ، البيان ٦ : ٣٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٦ / ٣٣٤٩.

٣٣١

وقال مالك : يكون رأس المال ثمنهما(١) .

وليس بمعتمدٍ.

مسألة ١٥٠ : لا تصحّ الشركة إلّا بمزج المالين وعدم الامتياز بينهما‌ ، عند علمائنا ، وبه قال زفر(٢) ، فالخلطة شرط في صحّة الشركة ، ومتى لم يخلطاه لم تصحّ ، وبه قال الشافعي(٣) ، حتى لو تلف مال أحدهما لم يكن له نصيب في ربح مال الآخَر ؛ لأنّ مال كلّ واحدٍ منهما يتلف منه دون صاحبه ، فلم تنعقد الشركة عليه ، كما لو كان من المكيل.

وقال أبو حنيفة : ليس من شرط الشركة خلطُ المالين ، بل متى أخرجا المالين وإن لم يمزجاه وقالا : قد اشتركنا ، انعقدت الشركة ؛ لأنّ الشركة إنّما هي عقد على التصرّف ، فلا يكون من شرطها الخلطة ، كالوكالة(٤) .

____________________

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٣ / ١٠١٩ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٩٣ ، البيان ٦ : ٣٢٨.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ٦ ، بدائع الصنائع ٦ : ٦٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢١ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥٢ ، المحيط البرهاني ٦ : ٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦ / ١٦٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦١ / ٣٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٣ و ٤٨١ - ٤٨٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، الوسيط ٣ : ٢٦١ ، حلية العلماء ٥ : ٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٦ ، البيان ٦ : ٣٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٤ / ١٠٢٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٧٨ / ١١٨٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٦٠ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٧ / ٣٣٥٢ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٧ / ١٦٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩ ، المغني ٥ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٧.

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٦ ، بدائع الصنائع ٦ : ٦٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٠ - ٢١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٧ / ٣٣٥١ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٦١٣ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٣ / ٧١٦ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥٢ ، =

٣٣٢

والفرق ظاهر ؛ فإنّ الوكالة ليس من شرطها أن يكون من جهة الوكيل مالٌ ، بخلاف الشركة.

وقال مالك : ليس من شرط الشركة الخلطةُ والمزجُ ، بل من شرطها أن تكون يدهما على المالين أو يد وكيلهما بأن يجعل في حانوتٍ لهما أو في يد وكيلهما دون الخلط ؛ لأنّ أيديهما على المال ، فصحّت الشركة ، كما لو خلطاه(١) .

والفرق : إنّ المال بالخلط يصير مشتركاً ، فيوجد فيه الاشتراك ، بخلاف ما إذا لم يمتزجا.

مسألة ١٥١ : قد بيّنّا أنّه لا تصحّ الشركة إلّا مع المزج الرافع للامتياز‌ ، فلو أخرج أحد الشريكين دنانير والآخَر دراهم لم تنعقد الشركة وإن خلطاهما ؛ للامتياز بينهما حالة المزج ، ولو تلف أحدهما قبل التصرّف تلف من صاحبه ، وتعذّر إثبات الشركة في الباقي ، وبه قال الشافعي(٢) ، وقد سبق‌

____________________

= المحيط البرهاني ٦ : ٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦ / ١٦٦٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٨٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، حلية العلماء ٥ : ٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣١ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٣ / ١٠٢٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٧٨ / ١١٨٢ ، المغني ٥ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٧.

(١) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٠٣ / ١٠٢٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٣ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٧٨ / ١١٨٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦ / ١٦٦٥ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، حلية العلماء ٥ : ٩٥ ، البيان ٦ : ٣٣١ ، المغني ٥ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٧.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٣ / ٤٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٨١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٣ و ١٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٦ - ١٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٨ - ١٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٧ / ٣٣٥٣ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : =

٣٣٣

دليله.

وقال أبو حنيفة : تنعقد الشركة ؛ لأنّهما يجريان مجرى الجنس الواحد ؛ لأنّهما قِيَم المتلفات وأُروش الجنايات ، ولأنّه لا يوجب المزج ، بل نقول : تنعقد الشركة بالقول وإن لم يخلطا المالين بأن يُعيّنا المال ويُحضراه ويقولا : قد تشاركنا في ذلك(١) .

وهو غلط ؛ لأنّهما مالان لا يختلطان ، وهُما متميّزان ، فلا يصحّ عقد الشركة عليهما كالعروض.

وما ذكروه فليس بصحيحٍ ؛ لأنّهما يجريان في حكم الربا مجرى الجنسين عند جماعةٍ ، ولأنّ الاعتبار بما ذكرناه ، دون الجنس الواحد.

وأحمد وافق أبا حنيفة في عدم اشتراط اتّفاق الجنسين ، بل يجوز أن يُخرج أحدهما دنانير والآخَر دراهم ، وهو منقول عن الحسن وابن سيرين(٢) .

مسألة ١٥٢ : ولا بدّ مع اتّفاق الجنس من اتّفاق الأوصاف‌ بحيث لا يتميّز أحدهما عن الآخَر ، فلو تميّز مال أحدهما من مال الآخَر وأمكن تخليصه منه بعينه بعد المزج ، لم تصح الشركة ، بأن تختلف السكّة أو يُخرج أحدهما صحاحاً والآخَر مكسَّرةً ، أو أحدهما مستويةً والآخَر معوجةً ، أو أخرج أحدهما دراهم عتيقة أو سُوداً والآخَر حديثةً أو بيضاء ؛

____________________

= ١٥٢ - ١٥٣ ، المحيط البرهاني ٦ : ٧ ، المغني ٥ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٨ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٣ - ٤.

(١) الفقه النافع ٣ : ٩٩٣ / ٧١٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٨١ ، بحر المذهب ٨ : ١٢٣ ، البيان ٦ : ٣٣٠ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٣ ، وراجع الهامش (٤) من ص ٣٣١.

(٢) المغني ٥ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٨ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٢ - ٦٣ / ٤٢.

٣٣٤

لعدم حصول شرط الصحّة ، وهو الاشتباه بعد المزج.

وقد وافقنا الشافعي في الصحاح والمكسَّرة(١) .

ولأصحابه في السوداء والبيضاء قول بالجواز مع اختلافهما بالأمرين(٢) .

وقد بيّنّا جواز الشركة في العروض.

وللشافعي في ذوات الأمثال قولان(٣) .

فعلى الجواز يشترط اتّفاق المالين في الجنس والوصف ، فلو مزج الحنطة الحمراء بالبيضاء ، لم تصح الشركة ؛ لإمكان التمييز وإن شقّ وعسر التخليص.

وقال بعض الشافعيّة : تصحّ الشركة هنا ؛ لأنّ الناس يعدّون ذلك خلطاً(٤) .

وهو ممنوع إن أراد المزج الرافع للتمييز وعدم اعتبار غيره.

مسألة ١٥٣ : لا يشترط تقدّم(٥) العقد على الخلط‌ ، بل لو مزجا المالين ثمّ أذن كلٌّ منهما في التصرّف وعقدا الشركةَ صحّت المشاركة بينهما ، سواء وقع الإذن في مجلس المزج أو في غيره - وهو أحد وجوه الشافعي - لأنّ الشركة في الحقيقة توكيل وتوكّل ، ولو حصل ذلك بعد المزج صحّ فكذا هنا.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٨١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٦ - ١٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١ ، منهاج الطالبين : ١٣٢ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٦٧ / ٣٣٥٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩.

(٣) راجع الهامش (٤) من ص ٣٣٠.

(٤) الوسيط ٣ : ٢٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٨.

(٥) في « ث ، ر ، خ » : « تقديم ».

٣٣٥

ولو وجد التوكيل والمِلْكان متميَّزان ثمّ فُرض الاختلاط ، لم تنقطع الوكالة.

نعم ، لو قيّد الإذن بالتصرّف في المال الفرد(١) ، فلا بدّ من تجديد الإذن.

والوجه الثاني له : المنع - وهو الأظهر عندهم - إذ لا اشتراك عند العقد.

والثالث : إنّه يجوز إن وقع المزج في مجلس العقد ؛ لأنّ المجلس كنفس العقد ، فإن تأخّر لم يجز(٢) .

ولو ورثا عروضاً أو اشترياها ، فقد مَلَكاها شائعةً ، وذلك أبلغ من الخلط ، بل الخلط إنّما اكتفي به لإفادته الشيوع ، فإذا انضمّ إليه الإذن في التصرّف صحّ وتمّ العقد.

مسألة ١٥٤ : إذا أراد الشريكان الشركةَ في الأعيان المختلفة الجنس ، باع كلٌّ منهما نصفَ العين التي له بنصف العين التي لصاحبه‌ ، أو نقلها إليه بوجهٍ آخَر شرعيّ ، ثمّ يأذن كلٌّ منهما لصاحبه في التصرّف ، فيصيرا شريكين.

وإنّما احتاج إلى الإذن ؛ لأنّ عقد البيع الذي حصل بينهما لا يفيد الإذنَ في التصرّف.

وكذا تتحقّق الشركة بينهما لو اشتريا معاً سلعةً من ثالثٍ بثمنٍ عليهما ، فيدفع كلّ واحدٍ منهما العينَ التي في يده عوضاً عمّا يخصّه من الثمن ، فيكون كلّ واحدٍ منهما شريكاً في العين ، ثمّ يأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التصرّف.

____________________

(١) الظاهر : « المفرد ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٨.

٣٣٦

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يصير العرضان مشتركين ويملكان التصرّف بحكم الإذن ، إلّا أنّه لا تثبت أحكام الشركة في الثمن حتى يستأنفا عقداً وهو ناضٌّ(١) .

وجمهور الشافعيّة قائلون بثبوت الشركة وأحكامها على الإطلاق(٢) .

ولو لم يتبايعا العرضين ولكن باعاهما بعرضٍ أو نقدٍ ، ففي صحّة البيع للشافعيّة قولان(٣) .

ونحن اخترنا الصحّة على ما تقدّم ، فيكون الثمن مشتركاً بينهما إمّا على التساوي أو التفاوت بحسب قيمة العرضين ، فيأذن كلّ واحدٍ منهما للآخَر في التصرّف.

مسألة ١٥٥ : لا يشترط في الشركة تساوي المالين في القدر‌ ، بل يجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من مال الآخَر - وبه قال الحسن والشعبي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(٤) - لأنّهما مالان إذا خلطا اختلطا ، فجاز عقد الشركة عليهما ، كما لو كانا سواءً.

وقال بعض الشافعيّة : لا تجوز الشركة حتى يستوي المالان في القدر ؛ لأنّ الشافعي شرط أن يُخرج أحدهما مثل ما يُخرج الآخَر ، ولأنّ الربح يحصل بالمال والعمل ، ولا يجوز أن يختلف الربح بينهما مع استوائهما في المال ، فكذا أيضاً لا يجوز أن يختلفا في الربح مع استوائهما‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٨.

(٤) المغني ٥ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٦٢ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٦١٣ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٢ / ٧١٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٥١ - ١٥٢ ، المحيط البرهاني ٦ : ٣٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٧ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٣ و ٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٣ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، الوسيط ٣ : ٢٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٩٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٩ - ١٩٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٨ - ٥٠٩.

٣٣٧

في العمل ، فإذا اختلف المالان اختلف الربحان مع التساوي في العمل(١) .

ونمنع وجوب تساوي الربح مع تساويهما في المال إذا شرطا الاختلافَ على ما يأتي ، ولأنّ العمل لا يشبه المال ، والأصل في هذه الشركة المال ، والعمل يتبع فيه ، فلهذا جاز أن يختلف معه الربح ، يدلّ على صحّة هذا أنّه يجوز أن يعمل أحدهما أكثر من الآخَر ويقتسما الربح ، وكذلك إذا شرط أحدهما عمل الآخَر والربح بينهما ، فاختلفا.

مسألة ١٥٦ : لا يشترط العلم حالة العقد بمقدار النصيبين‌ بأن يعرف هل مال كلّ واحدٍ منهما مساوٍ لمال الآخَر أو أقلّ أو أكثر؟ وهل هو ثُلثه أو ربعه أو غير ذلك من النِّسَب؟ ولا مقدار ماله كم هو؟ - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) - إذا أمكن معرفته من بَعْدُ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما ، فيأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التصرّف وإن جهل مقدار ما أذن له فيه.

وفي الوجه الثاني : لا يجوز حتى يعلم كلٌّ منهما نسبة ماله من مال الآخَر ، فلا يصحّ في المجهول ولا الجزاف ؛ لأنّه لا يدري في أيّ شي‌ءٍ أذن ، والمأذون لا يدري ما ذا يستفيد بالإذن(٣) .

والوجه : ما قلناه ، فحينئذٍ تكون الأثمان بينهما مشتركةً مجهولةً على الإبهام ، كالمثمنات.

مسألة ١٥٧ : لو أخرج أحد الشريكين دراهم وأخرج الآخَر دنانير ، لم تصح الشركة‌ على ما قدّمناه من وجوب التساوي في المالين في الجنس.

فإن اشتريا بعين الدراهم والدنانير عبداً أو ثوباً وربحا فيه ، كان الثوب‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٢ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٠ ، الوسيط ٣ : ٢٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٩٥ ، البيان ٦ : ٣٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٩ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٤ ، المغني ٥ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٨.

(٢ و ٣) الوسيط ٣ : ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٩.

٣٣٨

بينهما والربح بينهما ، فإذا أرادا القسمة ، نظرا إلى نقد البلد ، فقوّما الثوبَ به ثمّ قوّما مالَ الآخَر به ، ويكون التقويم حين صرف الثمن فيه ، فإن كان مالهما متساوياً تساويا في الثمن والربح ، وإن تفاضلا كان بينهما على النسبة.

وللشافعيّة في صحّة هذا الشراء قولان ، كما لو باعا عبديهما صفقةً واحدة ؛ لأنّ الثمن إذا كان معيّناً كان بمنزلة المبيع(١) .

مسألة ١٥٨ : يجوز أن يكون المال سبائك وتِبْراً وحُليّاً وغير ذلك من المصوغات من النقدين‌ ، وهو ظاهرٌ على مذهبنا حيث جوّزنا الشركةَ في جميع الأموال.

وأمّا المانعون من الشركة في غير النقدين اختلفوا ، فأكثر الشافعيّة على المنع من الشركة فيها ؛ لأنّ قيمتها تزيد وتنقص ، فهي كالعروض(٢) .

والأصل فيه : إنّ التِّبْر هل هو متقوّمٌ أو مثليٌّ؟ فإن جُعل متقوّماً لم تجز الشركة عليه كغيره من الأعيان ، وإلّا ففيه قولان ، كالقولين في المثليّات من الأعواض(٣) .

وأمّا الدراهم المغشوشة : فعندنا تجوز الشركة فيها ، قلّ الغشّ أو كثر.

وللشافعيّة قولان مبنيّان على جواز التعامل بها ، إن جوّزنا التعامل فقد ألحقنا المغشوشَ بالخالص(٤) .

وقال بعضهم : إذا استمرّ رواجها في البلد ، جازت الشركة فيها(٥) .

وقال أبو حنيفة : إن كان الغشّ أقلَّ من النصف جازت الشركة فيها ،

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٠٩.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١١.

٣٣٩

وإن كان أكثر لم تجز ؛ لأنّ الاعتبار بالغالب في كثيرٍ من الأُصول(١) .

وأمّا الفلوس : فإنّها إذا حصل فيها الاشتباه وارتفاع الامتياز مع المزج صحّت الشركة بها - وبه قال مالك ومحمّد بن الحسن وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين(٢) - لأنّها قد تقع أثماناً في العادة ، فجازت الشركة فيها ، كالدراهم.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأُخرى : لا تجوز ؛ لأنّها تنقص مرّةً وتكثر أُخرى ، فأشبهت العروض(٣) .

إذا ثبت هذا ، فإذا صحّت الشركة فيها ، فإن كانت باقيةً كان رأس المال مثلها ، وإن سقطت كانت قيمتها كالعروض.

وإن(٤) كان لهما ثوبان واشتبها عليهما ، لم يكن ذلك كافياً في عقد الشركة ؛ لأنّ المالين متميَّزان ، وإنّما التبس الأمر بينهما.

تذنيب : المثليّات قد تتفاوت قيمتها ، فيقسّط الثمن والربح على القيمتين‌ ، كما لو كان لأحدهما كُرّ حنطةٍ قيمته عشرون ، وللآخَر كُرّ حنطةٍ قيمته عشرة ، فهُما شريكان بالثلث والثلثين.

مسألة ١٥٩ : قد بيّنّا أنّ شركة الوجوه عندنا باطلة‌ حيث لا مال هناك تتحقّق فيه الشركة ، ويرجعان إليه عند المفاصلة. ثمّ ما يشتريه أحدهما يختصّ بربحه وخسرانه لا يشاركه الآخَر فيه ، إلّا أن يكون قد أذن له في الشراء عنه ويقصد المشتري موكّله ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٣.

(٢ و ٣) المغني ٥ : ١٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١١٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٦٠ ، المحيط البرهاني ٦ : ٦ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٦١٢.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « ولو » بدل « وإن ».

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٧٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٣ ، بحر المذهب ٨ : =

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392