تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء15%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118737 / تحميل: 5574
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فالذي أخذ الورثة لهم ، وما بقي فهو للميّت يستوفيه منه في الآخرة ، وإن هو لم يصالحهم على شي‌ءٍ حتى مات ولم يقض عنه ، فهو للميّت يأخذه به »(١) .

وكذا لو ادّعى كاذباً على غيره فصالحه الغير ، لم يستبح الكاذب بذلك الصلح مال الصلح إلّا مع الرضا الباطن.

مسألة ١٠٤٩ : يصحّ الصلح على الأعيان بمثلها وبالمنافع وبأبعاض الأعيان‌ ، وعلى المنافع بمثلها وأبعاضها ، ولا يشترط ما يشترط في البيع ، فلو صالحه عن الدنانير بدراهم أو بالعكس صحّ ، ولم يكن صَرفاً.

ولو صالَح على عينٍ بأُخرى من الربويّات ، ففي إلحاقه بالبيع نظر.

وكذا في الدَّيْن بمثله ، فإن ألحقناه فسد لو صالَح من ألفٍ مؤجَّل بخمسمائة حالّة.

ولو صالَح من ألفٍ حالّ بخمسمائة مؤجَّلة ، ففي كونه إبراءً إشكال ، ويلزم الأجل.

ولو ظهر استحقاق أحد العوضين ، بطل الصلح ؛ لوقوع التراضي على تلك العين.

ولو صالَح على ثوبٍ أتلفه بدرهمٍ على درهمين ، صحّ الصلح ، وقد سبق(٢) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٨٠.

(٢) في ص ٣٧ ، المسألة ١٠٤٥.

٤١

الفصل الثالث : في تزاحم الحقوق‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في الطرق.

مسألة ١٠٥٠ : الطرق نوعان : نافذة وغير نافذة.

الأوّل : النافذة‌ ، والناس كلّهم في السلوك فيها شرعٌ سواء مستحقّون للممرّ فيها(١) ، وليس لأحدٍ أن يتصرّف فيها(٢) بما يبطل المرور فيها(٣) أو ينقصه أو يضرّ بالمارّة من بناء حائطٍ فيها(٤) أو دكّة أو وضع جناح أو ساباط(٥) على جداره إذا أضرّ بالمارّة إجماعاً.

ولو لم يضرّ بالمارّة بأن كان عالياً لا يظلم به الدرب ، جاز وضع الجناح والساباط من غير منعٍ عند بعض علمائنا(٦) - وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد(٧) - لأنّه ارتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه ، فكان جائزاً ، وليس لأحدٍ منعه ، كالاستظلال بحائط الغير والاستطراق في الدرب.

____________________

(١ - ٤) بدل كلمة « فيها » في المواضع الأربعة في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٥) الساباط : سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ. العين ٧ : ٢١٨ « سبط ».

(٦) كالمحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ١٢٣.

(٧) المغني ٥ : ٣٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨ ، الأُم ٣ : ٢٢١ - ٢٢٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤١ ، حلية العلماء ٥ : ١١ - ١٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٠ : ١٤٤.

٤٢

ولأنّ الناس اتّفقوا على إشراع الأجنحة والساباطات في الطرق النافذة والشوارع المسلوكة في جميع الأعصار وفي سائر البقاع من غير إنكارٍ ، فكان سائغاً.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نصب بيده ميزاباً في دار العبّاس(١) ، والجناح مثله ؛ لاشتراكهما في المنفعة الخالية عن الضرر.

وقال الشيخرحمه‌الله وأبو حنيفة : لا عبرة بالضرر وعدمه ، بل إن عارضه فيه رجل من المسلمين ، نزع ، ووجب قلعه وإن لم يكن مضرّاً به ولا بغيره ، وإلّا تُرك ؛ لأنّه بنى في حقّ غيره بغير إذنه ، فكان له مطالبته بقلعه ، كما لو بنى دكّةً في المسلوك ، أو وضع الجناح في سلك غيره(٢) .

والقياس ممنوع ؛ فإنّ الضرر يحصل مع بناء الدكّة ، بخلاف الجناح والساباط والروشن(٣) ؛ لأنّ الأعمى يتعثّر بها ، وكذا في الليل المظلم يحصل تعثّر البصير بها ، ويضيق الطريق بها ، بخلاف الشارع. وملك الغير لا يجوز الممرّ فيه إلّا بإذنه ، بخلاف الطرق ، فافترقا.

فروع :

أ - شرط أحمد في جواز إشراع الجناح إذنَ الإمام فيه‌ ، فإن أذن فيه جاز ، وإلّا فلا(٤) .

وهو ممنوع ؛ لاتّفاق الناس على عمله.

____________________

(١) الطبقات الكبرى - لابن سعد - ٤ : ٢٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٦ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٦ ، المستدرك - للحاكم - ٣ : ٣٣١ - ٣٣٢.

(٢) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٩١ ، الخلاف ٣ : ٢٩٤ ، المسألة ٢ من كتاب الصلح ، المبسوط - للسرخسي - ٢ : ١٤٤ ، المغني ٥ : ٣٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٢ ، البيان ٦ : ٢٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦.

(٣) الروشن : الرفّ والكوّة. لسان العرب ١٣ : ١٨١ « رشن ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٦.

٤٣

ب - الضابط في التضرّر وعدمه العرفُ ، ويختلف بحال الطرق.

فإن كان ضيّقاً لا يمرّ فيه الفُرْسان والقوافل ، وجب رفعه بحيث يمرّ المارّ تحته منتصباً ، والمحمل مع الكنيسة المنصوبة على رأسه على البعير ؛ لأنّه يتّفق ذلك وإن كان نادراً ، ولا تشترط الزيادة عليه.

وقال بعض الشافعيّة : يجب أن يكون بحيث يمرّ الراكب تحته منصوبَ الرمح(١) .

وإن كان متّسعاً تمرّ فيه الجيوش والأحمال ، وجب أن لا يضرّ بالعماريّات والكنائس ، وأن يتمكّن الفارس من الممرّ تحته ورمحه منتصب لا يبلغه ؛ لأنّه قد يزدحم الفُرْسان فيحتاج إلى أن ينصب الرماح.

وقال بعض الشافعيّة : لا يقدّر بذلك ؛ لأنّه يمكنه وضع الرمح على عنقه بحيث لا ينال رمحه أحداً(٢) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ ذلك قد يعسر.

ج - إذا وضع الجناح أو الروشن أو الساباط في الدرب المسلوك على وجهٍ يضرّ بالمارّة ، تجب عليه إزالته‌ ، وعلى السلطان إلزامه بذلك.

ولو صالحه الإمام على وضعه - أو بعض الرعيّة - على شي‌ءٍ ، لم يجز ؛ لأنّ ذلك بيع الهواء منفرداً ، وهو باطل ، والهواء لا يفرد بالعقد ، بل يتبع الدار ، كالحمل مع الأُم.

ولأنّه إن كان مضرّاً لم يجز أخذ العوض عنه ، كبناء الدكّة في‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٧٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤١ ، الوسيط ٤ : ٥٤ ، حلية العلماء ٥ : ١٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٤٨ ، البيان ٦ : ٢٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

٤٤

الطريق ، وإن لم يكن مضرّاً كان جائزاً ، وما يجوز للإنسان فعله في الطريق لا يجوز أن يؤخذ منه عوض عنه كالسلوك ، وأحدٌ من الرعيّة ليس هو المستحقّ ولا نائبَ المستحقّين.

د - لو أظلم الطريق بوضع الجناح أو الروشن أو الساباط ، فإن أذهب الضياء بالكلّيّة مُنع إجماعاً‌ ؛ لأنّه يمنع السلوك فيه.

وإن لم يُذهب الضياء(١) جملةً بل بعضه ، فالوجه : المنع إن تضرّر به المارّة ، وإلّا فلا.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : المنع مطلقاً.

والثاني : الجواز مطلقاً(٢) .

مسألة ١٠٥١ : لو أخرج روشناً في شارعٍ أو دربٍ نافذ ، لم يكن لمقابله الاعتراضُ عليه‌ ، ولا منعه منه ، سواء استوعب عرض الدرب أو لا إذا لم يحصل ضرر لأحدٍ به.

وليس له وضع أطراف خشبه على حائط جاره وإن لم يتضرّر به الجار.

ولو أخرج روشنه إلى بعض الدرب ، كان لمحاذيه إخراج روشنٍ فيما بقي من الهواء ، وليس لصاحب الروشن الأوّل منعه ما لم يضع على خشبه شيئاً.

وإن أراد محاذيه بأن يُخرج روشناً تحت روشن محاذيه ، جاز ذلك.

وإن أراد أن يُخرج روشناً فوق روشن محاذيه ، جاز إذا لم يتضرّر به‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « الضوء ».

(٢) البيان ٦ : ٢٣٣ ، وانظر العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٤٠.

٤٥

بأن يكون عالياً لا يضرّ بالمارّ في الروشن السفلاني.

ولو أظلم الدرب بوضع الروشن الثاني ، أُزيل خاصّةً دون الأوّل ؛ لأنّ الضرر إنّما حصل بالثاني وإن كان لو لا الأوّل لم يحصل.

مسألة ١٠٥٢ : إذا أخرج جناحاً أو روشناً في الشارع النافذ ، فقد بيّنّا أنّه ليس لأحدٍ منعه مع عدم التضرّر به‌ ، فلو تضرّر جاره بالإشراف عليه ، فالأقرب : إنّ له المنعَ ؛ لأنّه قد حصل به الضرر ، بخلاف ما لو كان الوضع في ملكه أو ما له محلّ على جاره ، فإنّه لا يُمنع وإن حصل معه الإشراف ؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه كيف شاء ، بخلاف الروشن الموضوع على شرط عدم تضرّر الغير به ، فإذا فرض تضرّر شخصٍ ما به ، لم يجز وضعه ، ويُمنع في الملك من الإشراف على الجار ، لا من التعلية المقتضية لإمكانه.

ولسْتُ أعرف في هذه المسألة بالخصوصيّة نصّاً من الخاصّة ولا من العامّة ، وإنّما صِرتُ إلى ما قلتُ عن اجتهادٍ ، ولعلّ غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤدّيه اجتهاده إلى خلاف ذلك.

مسألة ١٠٥٣ : لو وضع جناحاً لا ضرر فيه أو روشناً كذلك فانهدم‌ أو هدمه المالك أو جاره قهراً وتعدّياً ثمّ وضع الجار روشناً أو جناحاً في محاذاته ومدّه إلى مكان روشن الأوّل ، جاز ، وصار أحقَّ به ؛ لأنّ الأوّل كان يستحقّ ذلك بسبقه إليه ، فإذا زال وسبقه الثاني إلى مكانه ، كان أولى ، كرجلٍ جلس في مكانٍ مباح - كمسجدٍ أو دربٍ نافذ - ثمّ قام عنه أو أُقيم ، فإنّه يزول حقّه من الجلوس ، ويكون لغيره الجلوسُ في مكانه ، وليس للأوّل إزعاجه وإن أُزعج الأوّل ، فكذا هنا.

ومَنَع منه بعض الشافعيّة ؛ لأنّ الجالس في الطريق المسلوك الواسع إذا ارتفق بالقعود لمعاملة الناس لا يبطل حقّه بمجرّد الزوال عن ذلك‌

٤٦

الموضع ، وإنّما يبطل بالسفر والإعراض عن الحرفة على ما يأتي ، فقياسه أن لا يبطل بمجرّد الانهدام والهدم ، بل يعتبر إعراضه عن ذلك الجناح ورغبته عن إعادته(١) .

ونحن نمنع الحكم في الأصل ، ونمنع أولويّته على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

مسألة ١٠٥٤ : لا يجوز لأحدٍ بناء دكّةٍ ولا غرس شجرةٍ في الطريق المسلوك إن ضيّق الطريق وضرّ بالمارّة إجماعاً‌ ؛ لقولهعليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار(٢) »(٣) .

وإن كان متّسعاً لا يضرّ بالمارّة وَضْعُه ، فالأولى المنع أيضاً ، إلّا فيما زاد على حدّ الطريق النافذ ؛ لأنّ ذلك يوجب اختصاصاً له فيما هو مشترك وشرعٌ بين الناس ، ولأنّ المكان المشغول بالبناء والشجر لا يتأتّى فيه السلوك والاستطراق ، وقد يزدحم المارّة ويعسر عليهم السلوك فيه ، فيتعثّرون بها ، ولأنّه ربما طالت المدّة ، فأشبه مكان البناء والغراس بالأملاك ، فانقطع أثر استحقاق السلوك فيه ، بخلاف الأجنحة والرواشن ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه يجوز ذلك ، كوضع الجناح أو الروشن اللَّذَيْن لا يضرّان‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ - ٩٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٠.

(٢) في « ج ، ر » : « إضرار ».

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، و ٢٩٢ - ٢٩٤ / ٢ و ٨ ، الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، و ١٤٧ / ٦٤٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ - ١٤٧ / ٦٥١ ، و ١٦٤ / ٧٢٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ / ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، سنن الدارقطني ٣ : ٧٧ / ٢٨٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٩ و ٧٠ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٥٧ - ٥٨ ، مسند أحمد ٦ : ٤٤٧ / ٢٢٢٧٢.

٤٧

بالمارّة(١) .

وقد عرفت الفرق.

مسألة ١٠٥٥ : حدّ الطريق المتّخذ في الأرض المباحة إذا تشاحّ أهله في وضعه وسعته وضيقه سبعُ أذرع‌ ؛ لأنّ ذلك قدر ما تدعو الحاجة إليه ، ولا يزيد عليه ؛ لما رواه مسمع بن عبد الملك عن الصادقعليه‌السلام قال : « والطريق إذا تشاحّ عليه أهله فحدّه سبع أذرع »(٢) ومثله روى السكوني عن الصادقعليه‌السلام (٣) ، والخبران موثّقان.

إذا تقرّر هذا ، فهذا الحدّ حدٌّ مع تشاحّ أهل ذلك الدرب ، المتقابلة دُورهم فيه ، ولا عبرة بغيرهم.

ولو اتّفقوا على وضع أضيق منه في الابتداء جاز ، ولم يكن لأحدٍ الاعتراضُ وطلبُ التوسعة فيه.

وإذا وضعوه على حدّ السبع ، لم يكن لهم بعد ذلك تضييقه.

ولو وضعوه أوسع من السبع ، فالأقرب : إنّ لهم ولغيرهم الاختصاصَ ببعضه إلى حيث يبلغ هذا الحدّ ، فلا يجوز بعد ذلك النقصُ عنه.

مسألة ١٠٥٦ : الشوارع لا يجري عليها ملك أحدٍ ، ولا يختصّ بها شخص من الأشخاص‌ ، بل هي بين الناس كافّةً شرعٌ سواء بلا خلافٍ.

ولا فرق في ذلك بين الجوادّ الممتدّة في الصحاري والبلاد.

وإنّما يصير الموضع شارعاً بأُمور : أن يجعل الإنسان ملكه شارعاً وسبيلاً مسبَّلاً ، ويسلك فيه شخصٌ ما ، أو يُحيي جماعةٌ أرضَ قريةٍ أو بلدةٍ‌

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٥ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٤٥ / ٦٤٢.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٦ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٥ / ٦٤٣.

٤٨

ويتركوا مسلكاً نافذاً بين الدور والمساكن ، ويفتحوا إليه الأبواب ، أو يصير موضع من الموات جادّةً يسلكه الناس ، فلا يجوز تغييره ، وكلّ مواتٍ يجوز استطراقه ، لكن لا يُمنع أحد من إحيائه وصرف الممرّ عليه ، فليس له حكم الشوارع.

الثاني : الطرق التي لا تنفذ‌ ، كالسكّة المسدودة المنتهية إلى ملك الغير ، ولا منفذ لها إلى المباح ، وتلك مِلْكٌ لأرباب الأبواب فيها.

وهذه الطرق لا يجوز لأحدٍ إشراع جناحٍ فيها ولا روشن ولا ساباط ، إلّا بإذن أرباب الدرب بأسرهم ، سواء كانوا من أهل الدرب أو من غيرهم ، وسواء أضرّ بالباقين أو لا ؛ لأنّ أربابه محصورون ومُلاّكه معدودون ، فإذا تخصّص به أحد منع الباقين منه ، فلم يجز ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يجوز لغير أهل السكّة مطلقاً ، وأمّا أهل السكّة فيجوز لكلّ واحدٍ منهم إشراع الجناح والروشن وغيرهما إذا لم يضرّ بالمارّة ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ منهم الارتفاقَ بقرارها ، فليكن الارتفاق بهوائها كذلك ، كالشوارع(١) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ السكّة مخصوصة بهم ، فلا يتصرّف فيها أحد دون رضاهم ، كما أنّه لا يجوز إشراع الجناح إلى دار الغير بغير رضاه ، سواء تضرّر أو لا ؛ إذ لا اعتبار بالتضرّر مع إذن المتضرّر.

وبمثل ما قلناه قال أبو حنيفة(٢) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤١ ، حلية العلماء ٥ : ١٣ ، البيان ٦ : ٢٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤١ - ٤٤٢ ، المغني ٥ : ٣٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩.

٤٩

مسألة ١٠٥٧ : لو صالَح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أربابَ الدرب وأصحابَ السكّة على وضعه‌ ، جاز على الأظهر عندنا ، لكنّ الأولى اشتراط زمانٍ معيّن ؛ لأنّه حقٌّ ماليٌّ متعيّن المالك ، فجاز الصلح عليه وأخذ العوض عنه ، كما في القرار.

ومَنَع منه الشافعيّة ؛ بناءً منهم على أنّ الهواء تابع ، فلا يُفرد بالمال صلحاً ، كما لا يُفرد به بيعاً(١) .

ويُمنع مانعيّة التبعيّة من الانفراد بالصلح ، بخلاف البيع ؛ لأنّه يتناول الأعيان ، والصلح هنا وقع عن الوضع مدّةً.

وكذا الحكم في صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا ، والمنع عندهم(٢) .

مسألة ١٠٥٨ : نعني بأرباب الدرب المقطوع وأصحاب السكّة كلّ مَنْ له بابٌ نافذ إلى تلك السكّة‌ ، دون مَنْ يلاصق حدّ داره السكّة ويكون حائطه إليها من غير نفوذ بابٍ له فيها.

وهل يشترك جميعهم في جميع السكّة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم ، أم شركة كلّ واحدٍ تختصّ بما بين رأس السكّة وباب داره ، ولا تتخطّى عنه؟ المشهور عندنا : اختصاص كلّ واحدٍ بما بين رأس السكّة وباب داره ؛ لأنّ محلّ تردّده هو ذلك المكان خاصّةً ومروره فيه ، دون باقي السكّة ، فحكم ما عدا ذلك حكم غير أهل السكّة ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤١ ، البيان ٦ : ٢٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

٥٠

والثاني لهم : الأوّل ، وهو أنّ الاستحقاق في جميعها لجميعهم ؛ لأنّهم ربما احتاجوا إلى التردّد والارتفاق بجميع الصحن لطرح الأثقال ووضع الأحمال عند الإخراج والإدخال(١) .

وتظهر الفائدة - على أصحّ قولَي الشافعي - في منع إشراع الجناح إلّا برضاهم ، فعلى القول باشتراك الكلّ في الكلّ يجوز لكلّ واحدٍ من أهل السكّة المنع ، وعلى الثاني إنّما يجوز المنع لـمَن موضعُ الجناح بين بابه ورأس السكّة ، دون مَنْ بابه بين موضع الجناح ورأس السكّة(٢) .

إذا تقرّر هذا ، فعلى المشهور عندنا : إنّ الأدخل ينفرد بما بين البابين ، ويتشاركان في الطرفين ، ولكلٍّ منهما الخروج ببابه مع سدّ الأوّل وعدمه ، فإن سدّه فله العود إليه مع الثاني ، وليس لأحدهما الدخول ببابه.

ويحتمله ؛ لأنّه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع فيستصحب ، وله رفع جميع الحائط فالباب أولى.

مسألة ١٠٥٩ : قد بيّنّا أنّ الدرب المقطوع لأربابه المحصورين ، دون الشوارع المسلوكة‌ ، فلهُم التصرّف فيه كيف شاءوا ؛ لأنّ للإنسان التصرّفَ في ملكه بسائر أنواع التصرّفات ، ولهُم سدّ باب السكّة ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٣) .

ومَنَع بعضهم من ذلك ؛ لأنّ أهل الشارع يفزعون إليها إذا عرض لهم سبب من زحمةٍ وشبهها(٤) .

ولو امتنع بعضهم من سدّها ، لم يكن للباقين سدّها إجماعاً. ولو اتّفقوا على السدّ ، لم ينفرد بعضهم بالفتح. ولو اتّفقوا على قسمة صحن‌

____________________

(١ - ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٢.

٥١

السكّة بينهم ، جاز.

ولو أراد أهل رأس السكّة قسمة رأس السكّة بينهم ، مُنعوا ؛ لحقّ مَنْ يليهم.

أمّا لو أراد أهل الأسفل قسمة الأسفل ، فإن قلنا باختصاصهم به ، كان لهم ذلك. وإن قلنا باشتراك الجميع في الأسفل ، لم يكن لهم ذلك ، إلّا بإذن الباقين.

هذا كلّه - أعني سدّ الباب وقسمة الصحن - إنّما هو إذا لم يكن في السكّة مسجد ، فإن كان فيها مسجد قديم أو حديث ، فالمسلمون كلّهم يستحقّون الطروق إليه ، ولا يُمنعون منه.

وكذا لو جعل بعضهم داره رباطاً أو مسجداً أو مدرسةً أو مستراحاً ، لم يكن لأحدٍ منعه ، ولا منع مَنْ له الممرّ فيه ، وحينئذٍ لا يجوز لأحدٍ أن يشرع جناحاً ولا ساباطاً ولا روشناً عند التضرّر به وإن رضي أهل السكّة ؛ لحقّ سائر الناس.

مسألة ١٠٦٠ : قد بيّنّا أنّ الدرب إمّا نافذ وإمّا مقطوع.

أمّا النافذ : فلكلّ أحدٍ فتح بابٍ فيه ، سواء كان له ذلك بحقٍّ قديم أو لا.

وأمّا المقطوع : فليس لمن لا باب له فيه إحداث بابٍ إلّا برضا أهل السكّة بأسرهم ؛ لتضرّرهم إمّا بمرور الفاتح عليهم ، أو بمرورهم على الفاتح.

ولو فتح باباً للاستضاءة دون الاستطراق ، أو قال : أفتحه وأسمره بمسمارٍ لا ينفتح بابه معه ، فالأقرب : منعه من ذلك ؛ لأنّ الباب يشعر بثبوت حقّ الاستطراق ، فربما استدلّ به على الاستحقاق ، وهو أحد قولَي‌

٥٢

الشافعيّة(١) .

ويمكن أن يُمكَّن منه ؛ لأنّه لو رفع جميع الجدار لم يكن لأحدٍ منعه ، فلأن يُمكَّن من رفع بعضه [ كان ] أولى.

وأمّا مَنْ له بابٌ في تلك السكّة لو أراد أن يفتح غيره ، نُظر إن كان [ ما ] يريد به الفتح أقربَ من بابه إلى رأس السكّة ، كان له ذلك ؛ لأنّ له الاستطراقَ فيه وهو شريك ، فإذا فتح باباً كان ذلك بعضَ حقّه.

وإن كان [ ما ] يريد [ به ] الفتح أقربَ من بابه إلى صدر السكّة ، لم يكن له ذلك ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة. والثاني : له ذلك ؛ لأنّ له يداً في الدرب ، فكأنّ الجميع في أيديهما(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإن أراد أن يتقدّم ببابه إلى رأس السكّة ، فإن سدّ بابه الأوّل ، كان له ذلك قطعاً ؛ لأنّه ينقص حقّه.

وإن لم يسدّ بابه ، فكذلك عندنا.

وللشافعيّة فيه قولٌ بالمنع ؛ لأنّ الباب الثاني إذا انضمّ إلى الأوّل أورث زيادة زحمة الناس ووقوف الدوابّ في السكّة فيتضرّرون به(٣) .

وإن أراد أن يتأخّر ببابه عن رأس السكّة ويقرب من صدرها ، فلصاحب الباب المفتوح بين رأس السكّة وداره المنعُ.

وهل لـمَن دارُه بين الباب ورأس السكّة المنعُ؟ وجهان بناءً على كيفيّة الشركة.

ولهم طريقة أُخرى جازمة بأنّه لا منع للّذين يقع الباب المفتوح بين‌

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٥١ ، البيان ٦ : ٢٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

٥٣

دارهم ورأس السكّة ؛ لأنّ الفاتح لا يمرّ عليهم(١) .

وتحويل الميزاب من موضعٍ إلى موضعٍ كفتح بابٍ وسدّ بابٍ.

فروع :

أ - لو كان لرجلين بابان في سدّةٍ أحدهما قريب من باب الزقاق ، وباب الآخَر في وسطه‌ ، فأراد كلّ واحدٍ منهما أن يقدّم بابه إلى أوّل الزقاق ، كان له ذلك ، على ما تقدّم ؛ لأنّ له استطراقَ ذلك ، فقد نقص من استطراقه. وإن أراد أن يؤخّر بابه إلى صدر الزقاق ، لم يكن له ذلك ، على ما سبق - وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّه يقدّم بابه إلى موضعٍ لا استطراق له فيه.

ب - لو كان لأحدهما بابٌ يلي باب الزقاق وللآخَر بابٌ في الصدر‌ ، فأراد الثاني أن يقدّم بابه إلى حدّ باب الأوّل ، فالأقرب : أنّ له ذلك ، على ما سبق.

وعند الشافعيّة يُبنى على الوجهين ، فإن قلنا : لصاحب الباب الذي يلي باب الزقاق أن يؤخّر بابه ، لم يكن له ذلك. وإن قلنا : ليس له ذلك ، كان لصاحب باب الصدر أن يقدّمه إلى باب الثاني. وينبغي أن يكون له أن يقدّمه في فنائه إلى فناء الثاني ؛ لأنّه إنّما يفتح الباب في فناء نفسه ، ولا حقّ له فيما جاوز ذلك(٣) .

ج - لو كان له دار في دربٍ مقطوع فجَعَلها حجرتين وجَعَل لها بابين ، جاز ذلك إذا وضع البابين في موضع استطراقه‌. وإن أخّرهما أو‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٣.

(٢ و ٣) بحر المذهب ٨ : ٥٢ ، البيان ٦ : ٢٤٤.

٥٤

أحدهما لم يجز.

وللشافعيّة فيه الوجهان(١) .

مسألة ١٠٦١ : لو كان له داران ينفذ باب إحداهما إلى الشارع وبابُ الأُخرى إلى سكّة منسدّة فأراد مالكهما فتْحَ بابٍ‌

في إحداهما إلى الأُخرى ، لم يكن لأهل السكّة منعه ؛ لأنّه يستحقّ المرور في السكّة ، ورفع الجدار الحائل بين الدارين تصرّفٌ منه مصادف للملك ، فلا يُمنع منه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّ لهم المنعَ ؛ لأنّه يُثبت للدار الملاصقة للشارع ممرّاً في السكّة ويزيد فيما استحقّه من الانتفاع(٢) .

وليس بشي‌ءٍ.

ولو كان له دار لها باب في زقاقٍ غير نافذٍ ولها حدٌّ في شارعٍ أو زقاقٍ نافذ وأراد أن يفتح في حدّه باباً إلى الشارع ، جاز له ؛ لأنّه يرتفق بما لم يتعيّن ملك أحدٍ عليه.

لا يقال : إنّ في ذلك إضراراً بأهل الدرب ؛ لأنّه كان منقطعاً وبفتح الباب يصير الدرب نافذاً مستطرقاً إليه من الشارع.

لأنّا نقول : إنّه بفتح الباب صيّر داره نافذةً ، وأمّا الدرب فإنّه على حاله غير نافذٍ ؛ إذ ليس لأحدٍ غيره استطراقُ داره.

ولو انعكس الحال فكانت بابه إلى الشارع وله حائط في المنقطع ، فأراد فتح بابٍ للاستطراق ، فقد بيّنّا أنّه ليس له ذلك ؛ إذ لا حقّ له في دربٍ قد تعيّن عليه ملك أربابه ، فلم يكن له الانتفاع به بغير إذنهم.

____________________

(١) لم نعثر عليه في المصادر التي بأيدينا ، وانظر بحر المذهب ٨ : ٥٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

٥٥

ولو كان له داران متلاصقتان باب كلّ واحدةٍ منهما في زقاقٍ غير نافذٍ ، فأراد صاحبهما رفع الحاجز بينهما بالكلّيّة وجَعْلهما داراً واحدة ، جاز قولاً واحداً.

وإن أراد فتح بابٍ من إحداهما إلى الأُخرى ، جاز عندنا أيضاً.

وللشافعيّة قولان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ ذلك يُثبت له حقَّ الاستطراق من الدرب الذي لا ينفذ إلى دارٍ لم يكن لها طريقٌ منه ، ولأنّ ذلك ربما أدّى إلى إثبات الشفعة في قول مَنْ يُثبتها بالطريق لكلّ واحدةٍ من الدارين في زقاق الأُخرى. وهذا قول أكثرهم(١) .

وهو غلط ؛ لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة ، فرفع بعضه أولى ، والمحذور لازمٌ فيما لو رفع الحائط ، مع أنّه لا يبطل به حقّ الشفعة.

والثاني : إنّ له ذلك - كما اخترناه - لأنّ له رفعَ الحاجز بالكلّيّة ، ففتح الباب أولى(٢) .

وقال بعضهم : موضع القولين ما إذا سدّ باب إحدى الدارين وفتح الباب بينهما لغرض الاستطراق ، أمّا إذا قصد اتّساع ملكه أو نحوه ، فلا منع(٣) .

مسألة ١٠٦٢ : لو صالح الممنوع من فتح الباب في الدرب المقطوع أربابه على مالٍ ليفتح الباب ، جاز عندنا‌ ، وبه قال الشافعي(٤) ، بخلاف‌

____________________

(١ و ٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٣ ، بحر المذهب ٨ : ٥١ - ٥٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧ ، البيان ٦ : ٢٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

٥٦

الصلح عن إشراع الأجنحة والساباطات والرواشن ، فإنّهم خالفوا فيه ، وعلّلوا بأنّه بَذْل مالٍ في مقابلة الهواء المجرّد(١) .

قال بعضهم : إن قدّروا مدّةً معيّنة ، كان الصلح إجارةً. وإن أطلقوا أو شرطوا التأبيد ، فهو بيع جزءٍ مشاع من السكّة ، وتنزيلٌ له منزلة أحدهم ، وكان ذلك بمنزلة ما لو صالح غيره عن إجراء نهرٍ في أرضه على مالٍ ، فإنّه يكون ذلك تمليكاً للنهر(٢) .

ولو أراد فتح بابٍ من داره في دار غيره ، فصالحه عنه مالك الدار على مالٍ صحّ ، ويكون ذلك كالصلح عن إجراء الماء على السطح ، ولا يملك شيئاً من الدار والسطح ؛ لأنّ السكّة لا تراد إلّا للاستطراق ، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلاً للملك ، والدار والسطح ليس القصد منهما الاستطراق وإجراء الماء.

مسألة ١٠٦٣ : يجوز فتح الأبواب ونصب الميازيب في الشوارع النافذة‌ ؛ لأنّ الناس بأسرهم اتّفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم قديماً وحديثاً من غير إنكار أحدٍ منهم ، فكان إجماعاً.

هذا إذا لم يتضرّر بوضعها أحدٌ ، فإن تضرّر أحد بوضع ميزابٍ في الدرب المسلوك وجب قلعه.

وأمّا الطرق الخاصّة الغير النافذة فليس لأحدٍ من أربابها(٣) وضع ميزابٍ يقذف فيها إلّا بإذن كلّ مَنْ له حقٌّ فيها.

وليس للمتقدّم بابه في رأس الدرب المسدود منعُ المتأخّر بابه إلى صدر الدرب من وضع ميزابٍ إذا لم نقل بشركته أو لم يصل ضرره إليه.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٤.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أربابه ». والمثبت يقتضيه السياق.

٥٧

وكذا لا يجوز حفر بالوعةٍ فيها إلّا بإذن أربابها وإن كانت أنفع لهم.

أمّا الطرق المسلوكة فكذلك لا يجوز إحداث بالوعةٍ فيها ، بل كلّ بالوعةٍ وُضعت في أصل وضع الدرب فإنّها تستمرّ ليس لأحدٍ إزالتها ، وكلّ بالوعةٍ استُحدثت فإنّ لكلّ أحدٍ من المسلمين إزالتها.

مسألة ١٠٦٤ : إذا كان له باب في شارعٍ وظَهْر داره إلى دربٍ غير نافذٍ ، فأراد أن يُخرج روشناً فيه ، لم يكن له ذلك‌ ؛ لأنّ الدرب مملوكٌ لقومٍ بأعيانهم ، وليس له حقٌّ معهم فيه.

ولو كان له فيه باب ، فكذلك عندنا لا يجوز له الإحداث إلّا بإذن باقي أربابه.

وللشافعيّة قولان تقدّما(١) .

وإذا أذن أرباب الدرب المختصّ بهم في وضع بابٍ أو نصب ميزابٍ أو إشراع جناحٍ أو روشنٍ أو ساباطٍ ، كان هذا الإذن عاريةً يجوز له الرجوع فيه متى شاء ، لكن مع الأرش ؛ لأنّه سبب في إتلاف مال الغير ، على إشكالٍ.

مسألة ١٠٦٥ : يجوز فتح الروازن والشبابيك في الحيطان التي في الدروب المسدودة‌ ، وليس لأحدٍ منعُ ذلك ، سواء كان لصاحب الحائط في ذلك الدرب بابٌ أو لم يكن ؛ لأنّ له رفعَ جميع الحائط وأن يضع مكانه شُبّاكاً فبعضه أولى ، وإنّما مُنع في الباب لمعنىً غير موجودٍ هنا.

وكذا له فتح روزنةٍ وشُبّاكٍ في حائطه الفاصل بينه وبين جاره وإن حرم عليه الاطّلاع إلى دار الغير ، بل ليستفيد الإضاءة في بيته. وللجار أن‌

____________________

(١) في ص ٤٨ ، « الثاني : الطرق غير النافذة ».

٥٨

يبني حائطاً في وجه شُبّاكه وروزنته وأن يمنع الضوء بذلك ، لا سدّ الروزنة والشُّبّاك.

مسألة ١٠٦٦ : يجوز لكلّ أحدٍ الاستطراقُ في الطرق النافذة على أيّ حالٍ شاء‌

من سرعةٍ وبطءٍ وركوبٍ وترجّلٍ ، ولا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ؛ لأنّها موضوعة لذلك.

وأمّا الطرق المقطوعة : فكذلك مع إذن أربابها.

ولو منع واحد أو منعوا بأسرهم ، فالأقرب : عدم المنع ؛ لأنّ لكلّ أحدٍ دخولَ هذا الزقاق ، كدخول الدرب النافذ.

وفيه إشكال أقربه : إنّ جواز دخولها من قبيل الإباحات المستندة إلى قرائن الأحوال ، فإذا عارضه نصّ المنع عُمل به.

وأمّا الجلوس بها وإدخال الدوابّ إليها فالأقوى : المنع ، إلّا مع إذن الجميع فيه.

ولو كان بين داريه طريقٌ نافذ فحفر تحته سرداباً من إحداهما إلى الأُخرى وأحكم الأزج ، قال بعض الشافعيّة : لم يُمنع(١) .

وهو جيّد إن لم يتضرّر به أحد من المارّة.

وليس له أن يحفر على وجه الأرض ثمّ يعمل الأزج.

وكذا لا يجوز عمل السرداب في الطريق المسدود - إلّا بإذن أربابه - وإن أحكم الأزج وحفر تحت الأرض ؛ لأنّ أربابه محصورون ، وسواء حصل لهم ضرر بذلك أو لا ، خلافاً لبعض الشافعيّة(٢) .

ولا يجوز وضع ساقيةٍ مبتكرة في دربٍ مسلوك ، سواء تضرّر بها‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٥.

٥٩

السائرون فيها ، أو لا ، ولو حفرها كان لكلّ أحدٍ إزالتها.

ولو وضع عليها أزجاً محكماً ، فالأقرب : جواز إزالته لكلّ أحدٍ.

ولو سدّ الطريق النافذ ، كان لكلّ أحدٍ إنفاذه كما كان ، وإزالة السدّ وإعادته كما كان.

ولو جعل الطريق المقطوع مسلوكاً بأن جعل الاستطراق في ملكه ورفع الحاجز ، فإن كان سبّله مؤبّداً وسلك فيه أحد لم يكن له بعد ذلك قطعه ، ولو لم يرد تسبيله كان كالعارية يجوز له الرجوع فيه.

ولو غصب ملك غيره فجعله طريقاً ، كان للمالك الرجوعُ إلى عين ملكه وقطع السلوك منه.

البحث الثاني : الجدران‌.

والنظر في أُمور ثلاثة :

الأوّل : التصرّف.

الجدار بين الملكين إمّا أن يكون مختصّاً بمالكٍ واحد ، أو يكون مشتركاً بين صاحبي الملكين.

فإن كان مختصّاً بمالكٍ واحد ، كان له التصرّف فيه كيف شاء بهدمٍ وبناءٍ وغير ذلك ، وليس للآخَر وضع خشبةٍ ولا جذعٍ عليه إلّا بإذن مالكه ، عند علمائنا أجمع - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد(١) - لقولهعليه‌السلام :

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٩١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٢ ، الوسيط ٤ : ٥٦ ، الوجيز ١ : ١٧٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٥١ ، البيان ٦ : ٢٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٠٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤٦ ، المغني ٥ : ٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٧ ، عيون المجالس ٤ : ١٦٥٣ - ١٦٥٤ / ١١٦٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقال: (إن العمامة حاجزة بين الكفر والإيمان)(1) .

وعن ابن شاذان في مشيخته عن علي (عليه‌السلام ): أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عممه بيده، فذنب العمامة من ورائه، ومن بين يديه، ثم قال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أدبر.

فأدبر.

ثم قال له: أقبل.

فأقبل.

وأقبل على أصحابه، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): هكذا تكون تيجان الملائكة(2) .

____________

1- مسند أبي داود ص23 وكنز العمال ج15 ص306 و 482 و 483 والسمط المجيد ص99 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج2 ص42 وفرائد السمطين ج1 ص75 و 76 وعن ابن أبي شيبة، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم ج1 ص301 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص14 والرياض النضرة ج3 ص170 والغدير ج1 ص291 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص234 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج5 ص10 وشرح الأخبار ج1 ص321 والفصول المهمة لابن الصباغ ص41 وعن الصراط السوي.

2- الغدير ج1 ص291 وفرائد السمطين ج1 ص76 ونظم درر السمطين ص112 وكنز العمال ج15 ص484 وراجع: وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج5 ص56 و (ط دار الإسلامية) ج3 ص377. =

= وراجع: كشف اللثام (ط.ج) ج3 ص263 والحدائق الناضرة ج7 ص127 والكافي ج6 ص461 وجواهر الكلام ج8 ص247 وغنائم الأيام ج2 ص353 وبحار الأنوار ج42 ص69 وج80 ص198 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص747 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص120 ورياض المسائل ج3 ص213.

٢٠١

والعمامة التي عممه بها تسمى السحاب(1) .

وقال ابن الأثير: (كان اسم عمامة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) السحاب)(2) .

قال الملطي: (قولهم ـ يعني الروافض ـ: علي في السحاب. فإنما ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي: أقبل، وهو معتم بعمامة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كانت تدعى (السحاب).

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): قد أقبل علي في السحاب، يعني في تلك العمامة التي تسمى (السحاب)، فتأولوه هؤلاء على غير تأويله)(3) .

وقال الغزالي والحلبي والشعراني: (وكانت له عمامة تسمى السحاب،

____________

1- الفردوس ج3 ص87 وفرائد السمطين ج1 ص76 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص236 والغدير ج1 ص290 و 291.

2- النهاية في اللغة ج2 ص345 وراجع: بحار الأنوار ج10 ص5 وج16 ص97 و 121 و 126 وج30 ص94 وشرح السير الكبير للسرخسي ج1 ص71 ونهج الإيمان لابن جبر ص497 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص271 ولسان العرب ج1 ص461 وتاج العروس ج2 ص68.

3- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص19 والغدير ج1 ص292.

٢٠٢

فوهبها من علي، فربما طلع علي فيها، فيقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): طلع علي في السحاب)(1) .

قال الزبيدي: (ومن المجاز: عُمِّمَ ـ بالضم ـ أي سُوِّد، لأن تيجان العرب العمائم، فكلما قيل في العجم: توج، من التاج قيل في العرب: عمم.. وكانوا إذا سودوا رجلاً عمموه عمامة حمراء، وكانت الفُرْسُ تتوج ملوكها، فيقال له: المتوج..)(2) .

وقال: (والعرب تسمي العمائم التاج، وفي الحديث: (العمائم تيجان العرب) جمع تاج، وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر، أراد أن العمائم للعرب بمنزلة التيجان للملوك؛ لأنهم أكثر ما يكونون في البوادي مكشوفي الرؤوس أو بالقلانس، والعمائم فيهم قليلة.. والأكاليل: تيجان

____________

1- إحياء علوم الدين ج2 ص345 والبحر الزخار ج1 ص215 والسيرة الحلبية ج3 ص341 و (ط دار المعرفة) ج3 ص452 والغدير ج1 ص292 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص563 و 564 والإمام علي بن أبي طالب "عليه‌السلام " للهمداني ص 283 وراجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص59 وبحار الأنوار ج16 ص250 وج38 ص297 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص499 وج7 ص380 وسنن النبي للطباطبائي ص174 وتفسير الميزان ج6 ص319.

2- تاج العروس ج8 ص410 و (ط دار الفكر) ج17 ص506 والغدير ج1 ص290 وراجع: لسان العرب ج17 ص506.

٢٠٣

ملوك العجم. وتوّجه: أي سوّده، وعممه)(1) .

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (العمائم تيجان العرب)(2) .

ونقول:

1 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مازج بين حركة الواقع، وبين رمزه المشير إليه، الأمر الذي يجعل الإنسان يعيش الشعور التمثلي الرابط بين الواقع وبين الرمز بصورة واقعية..

2 ـ من أجل ذلك نلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اسبغ على علي (عليه‌السلام ) مقام الرئاسة والسيادة بإعلانه إمامته من بعده، ثم عممه بيده، ولم يطلب منه أن يلبس العمامة، وذلك لتتوافق هذه الحركة العملية الواقعية مع مضمون الموقف النبوي القاضي بنصبه (عليه‌السلام ) من قبل الله تعالى..

وكأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يريد للناس أن يربطوا بأنفسهم بين هذه الحركة

____________

1- تاج العروس ج2 ص12 و (ط دار الفكر) ج3 ص305 والغدير ج1 ص290 ولسان العرب ج2 ص219.

2- راجع بالإضافة إلى تاج العروس ج2 ص12: الجامع الصغير ج2 ص193 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص199 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج5 ص56 و 57 و (ط دار الإسلامية) ج3 ص378 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص119 وأدب الإملاء والإستملاء للسمعاني ص39 ومسند الشهاب لابن سلامة ج1 ص75 والغدير ج1 ص290 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص746 ونور الأبصار ص58 والفردوس للديلمي ج3 ص87 حديث رقم 4246.

٢٠٤

الرمز ـ وهي أنه عممه بيده ـ وبين إنشاء الحاكمية له، لتصبح هذه الحركة بمثابة إنشاء عملي آخر منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. والعمائم تيجان العرب..

3 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يتوِّجه (عليه‌السلام ) بأية عمامة كانت، بل توجه بعمامة تميزت عما سواها، ولها إسم خاص بها، فعرَّف الناس أن العمامة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وذلك ليشير بذلك: أنه إنما يعطيه موقع خلافته، بما له من خصوصية امتاز بها عن كل ما سواه ـ وليفهمهم أنه يريده امتداداً له فيما يمثّله وفيما يوكل إليه من مهام، وبما هو مبلغ لرسالات الله تبارك، وتعالى.

كما أن اسم هذه العمامة (السحاب) ربما يشير إلى رفعة المقام، وصعوبة الوصول إليه من سائر الناس.

4 ـ ثم هو يتجاوز هذا الفعل التعبيري إلى التصريح القولي، بأنه يقصد بهذا التتويج معنى السيادة والحاكمية، فإن العمائم تيجان..

5 ـ ثم انتقل إلى ما هو أوضح وأدل، حين أعطى تصرفه هذا مضموناً دينياً عميقاً ومثيراً بإعلانه أن ما فعله بعلي من تتويجه بعمامته لا يشبه لبس غيره من الحكام والأسياد لعمائم السادة، بل هي سيادة خاصة ومقدسة، تمتد قداستها بعمقها الروحي، وبمضمونها الإيماني لترتبط بالسماء.. من حيث أن الملائكة فقط هم الذين يعتمون بهذه العمامة..

6 ـ ولم يكن فعل الملائكة هذا مجرد ممارسة لأمر يخصهم، ولا كان يريد لعلي أن يتشبه بهم في ذلك، أو أن يكون له شبه بهم، بل هو فعل له امتداداته الواقعية التي ترتبط بفعل جهادي وإيماني تجعل الملائكة يستمدون هذه

٢٠٥

الخصوصية من علي نفسه، وذلك حين ذكر أن الملائكة تعتم بهذه العمامة في خصوص بدر وحنين، المتشابهتين في كثير من خصوصياتهما.

وهاتان الواقعتان هما لخصوص علي (عليه‌السلام )، لأنه هو الذي جاء بالنصر فيهما.. أما غير علي (عليه‌السلام )، فقد فر في إحداهما، ولم يظهر له أثر إيجابي جهادي في الأخرى..

7 ـ ثم جاء التصريح بعد التلميح، بأن هذه العمامة هي الحد الفاصل بين تلويثات الشرك، وبين الإيمان الخالص من دنس الشرك، مهما كان خفيفاً وضئيلاً، ولو كان أخفى من دبيب النمل، فإنه مرفوض بمختلف مظاهره وحالاته، ولو بمستوى أن يراود الخاطر، أو يلوث الوجدان أية استجابة لأي نوع من أنواع إيثار شيء من متاع الدنيا.

8 ـ أما ما نسبه الملطي للروافض، من أنهم قد تأولوا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (طلع علي في السحاب)، فلعله لا يقصد بالروافض الإمامية الاثني عشرية أعزهم الله تعالى.. فإننا لا نشعر أن لديهم أي تأويل يعاني من أية شائبة تذكر..

أما غيرهم، فإن كان الملطي صادقاً فيما ينسبه لهم، فلسنا مسؤولين عن أفعال وأقوال أهل الزيغ، بل سنكون مع من يناوئهم، ويدفع كيدهم، ويسقط أباطيلهم.

أكثر من خطبة:

ويبدو: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد خطب الناس في أيام إقامته في غدير خم أكثر من مرة، فإن النصوص تارة تذكر أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٠٦

خطبهم في حر الهاجرة، بعد صلاة الظهر.. كما تقدم عن قريب، وتارة تقول: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبهم عشية بعد الصلاة(1) .

ويؤيد ذلك أمران:

أحدهما: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بقي في ذلك المكان ثلاثة أيام، واختلاف أوقات الخطب.. في حر الهاجرة بعد صلاة الظهر تارة، وبعد صلاة العشاء أخرى يصبح أمراً طبيعياً..

والثاني: اختلاف نصوص الخطب المنقولة..

وتصرح بعض النصوص: بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان ينادي بأعلى صوته(2) .

____________

1- المستدرك للحاكم ج3 ص109 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص437 وج9 ص321 وج18 ص272 وج21 ص41 وج24 ص189 وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص153 وج7 ص105 و 261 و 339 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص24 والغدير ج1 ص31 والإكمال في أسماء الرجال ص119.

2- راجع: المناقب للخوارزمي ص94 والغدير ج1 ص277 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص235 وكتاب الولاية لابن عقدة ص198 وغاية المرام ج2 ص108 و 244 و 256 وج3 ص336 وكتاب الغيبة للنعماني ص75 وبحار الأنوار ج33 ص47 وراجع ج28 ص98 وكشف الغمة ج1 ص237 وراجع: الكافي ج8 ص27 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص185 وج2 ص42 والدرجات الرفيعة ص297 وتفسير نور الثقلين ج1 ص588.

٢٠٧

هذا وقد تضمنت خطبته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في ذلك المقام أموراً كثيرة، نود أن نشير إلى بعضها، ضمن ما يلي من عناوين..

الضلال والهدى:

استهل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبته يوم الغدير بالحديث عن الهدى والضلال، وكل الناس يحبون ـ ويعتزون بالهدى، وبانتسابهم إليه، حتى لو لم تكن النسبة واقعية، ويربأون بأنفسهم عن الوصف بالضلال حتى لو كانوا من أهل الضلال بالفعل..

فإذا كان المتحدث نبياً، فالكل يحب أن يجد نفسه في عداد الفريق الذي يحبه ذلك النبي..

ولعل الكثيرين منهم قد أشعرتهم هذه البداية بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يريد أن يبين لهم أمراً له مساس بموضوع الهدى والضلال.. وذلك يعني أن كل شخص منهم سيكون معنياً بما سيقوله..

يوشك أن أدعى فأجيب:

وأكد لهم على لزوم التنبه الشديد لما سيقوله لهم، حين ساق كلامه باتجاه مثيرٍ لمشاعر الخوف من المستقبل، الذي لا سبيل إلى معرفته، والرهبة من فقدان ما يرونه ضماناً لهم من كل شر وسوء، وما يشعرون معه بالسكينة والأمان في كل حركة وموقف، حيث قال لهم: (يوشك أن ادعى فأجيب..).

وهذا معناه: أن عليهم أن يهتموا بما سيقوله لهم، لأنه سيكون مفيداً في هدايتهم، وفي حفظهم في خصوص تلك المرحلة المخيفة، وأعني بها مرحلة

٢٠٨

ما بعد موته (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

كما أن ذلك يثير لديهم مشاعر الحب والحنان متمازجة مع الشعور بالحزن لموت الحبيب والطبيب.. ألا وهو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

إني مسؤول، وأنتم مسؤولون:

ثم أكد لهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شدة حساسية هذا الأمر، الذي يريد أن يثيره أمامهم حين قال: إني مسؤول، وأنتم مسؤولون..، فما أنتم قائلون؟!..

فساوى نفسه بهم في المسؤولية عن هذا الأمر، مما دل على أنه أمر بالغ الخطورة، وأن المسؤولية عنه تلاحقهم، والمطالبة به تنتظرهم، ولا سيما في الآخرة..

ثم أفهمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنه لا يريد أن يفرض عليهم أمراً بعينه، بل ترك الخيار لهم، في أن يقبلوا وأن يرفضوا، ولذلك قال: فما أنتم قائلون؟!..

أي أن المطلوب هنا هو إعطاء العهد والإلتزام، والإستجابة إلى الحق.. فمن نكث بعد ذلك، فإنما ينكث على نفسه..

التذكير بالمنطلقات العقائدية:

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذكرهم بالركائز العقائدية، والإيمانية، ووضعهم أمام العقل والضمير لكي يكونا هما الحافز لهم لتقبل القرار الرباني، الذي سيثقل عليهم، بسبب هيمنة الأهواء والعصبيات عليهم، لكي تحميهم

٢٠٩

تلك الركائز الإعتقادية، وحياة الضمير من طغيان الهوى، وجذبات الغرائز.. وارتكاس الجاهلية.. وحدد لهم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيته مرجعاً لهم في ظلمات الجهالة، وعند حيرة الضلالة..

بماذا.. ولماذا قررهم؟!:

ثم واجههم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأسئلة تقريرية تفرض عليه التنبه التام، والوعي لكل كلمة ينطق بها، فالسؤال يتطلب الإجابة، والإجابة مسؤولية وقرار، والتزام يحتاج منهم إلى استنطاق كل حرف ينطق به الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، والتعامل معه بجدية تامة وبمسؤولية بالغة.

وستأتي النتيجة بعد ذلك كله في غاية الوضوح، وذات نتائج دقيقة وصادقة بالنسبة لبراءة ذمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مما هو مسؤول عنه، وهو البلاغ التام لما أنزل عليه من ربه..

وبأسلوب التقرير الذي انتهجه معهم، منع أي تأويل، أو ادعاء لوجوهٍ اجتهادية في المعنى، أو اللجوء إلى التنصل بحجة عدم السماع، أو عدم الفهم، أو عدم الإلتفات أو غير ذلك مما يمكِّن ذوي الأغراض من تمييع القضية، أو الإنتقاص من حيويتها، أو من الشعور بأهميتها وخطورتها..

أما مضمون أسئلته التقريرية، فكان هوالأهم، من حيث أنه يدفع بوضوح القضية، وسلامة وصحة الإلتزام منهم أمام الله، وأمام ضمائرهم إلى أقصى مداه، فقد سألهم أولاً ـ بما هم جماعة ـ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم سألهم عن أولويته بكل فردٍ منهم من نفسه.. ليدلهم بذلك على أن الأمر يعنيهم بما هم جماعة لها شؤونها العامة.. ويعنيهم أيضاً بما هم أفراد

٢١٠

فرداً فرداً، بلحمه ودمه، وبكل وجوده..

ثم سألهم ثالثاً: عن حدود سلطتهم على أنفسهم، ويريد أن يسمع إقرارهم له بأن سلطته وولايته عليهم، وموقعه منهم فوق سلطة وموقعية وولاية حتى أمهاتهم وآبائهم، وحتى أنفسهم على أنفسهم.

وهذا يؤكد لهم: أن القرار الذي يريد أن يتخذه يعنيهم في صميم وجودهم، وينالهم في أخص شؤونهم وحالاتهم.

ولا بد أن يزيد ذلك من اهتمامهم بمعرفة هذا الأمر الخطير، والتعامل معه بإيجابية متناهية.

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يكتف بسؤالهم عن ذلك لمرة واحدة، بل كرر السؤال عن هذه الأمور الأساسية والحساسة عليهم ثلاث مرات، على سبيل التعميم أولاً، ثم على سبيل التحديد والتشخيص بفرد بعينه أخرى، فقد روي أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال: أيها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين.

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: أولى الناس بالمؤمنين أهل بيتي. يقول ذلك ثلاث مرات.

ثم قال في الرابعة، وأخذ بيد علي: اللهم من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ـ يقولها ثلاث مرات ـ ألا فليبلغ الشاهد الغائب(1) .

____________

1- الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص237 ـ 241 وكشف الغمة ج1 ص49 ـ 50 عن الزهري، وينابيع المودة ج1 ص118 ـ 119 وخلاصة عبقات الأنـوار ج7 = = ص229 وج9 ص109 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص234 و 301 وج21 ص93 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص118 وسعد السعود لابن طاووس ص71 وبحار الأنوار ج42 ص156 والغدير ج1 ص11 و 33 و 176 وحياة الإمام الحسين "عليه‌السلام " للقرشي ج1 ص199 وغاية المرام ج1 ص298 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص215 وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص66 وراجع: الإصابة لابن حجر (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص34.

٢١١

وفي نص آخر: كرر ذلك أربع مرات(1) .

وعن البراء بن عازب: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نزل بعد حجته في بعض الطريق، وأمر بالصلاة جامعة، فأخذ بيد علي، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا: بلى.

قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟!

قالوا: بلى.

____________

1- مشكاة المصابيح ج3 ص360 وتذكرة الخواص ص29 وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج2 ص586 وعن مسند أحمد ج5 ص494 وكفاية الطالب ص285 وعن ابن عقدة، والغدير ج1 ص11 و 33 وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص258 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص54 وكتاب الأربعين للماحوزي ص143 و 144 و 145.

٢١٢

قال: فهذا ولي من أنا مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه(1) .

وفي نص آخر عن البراء: خرجنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى نزلنا غدير خم، بعث منادياً ينادي.

فلما اجتمعنا قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: ألست أولى بكم من أمهاتكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

____________

1- الطرائف ص149 وكتاب الأربعين للشيرازي ص116 والعمدة لابن البطريق ص96 و 100 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص236 وبحار الأنوار ج37 ص159 ومسند أحمد ج4 ص281 وسنن ابن ماجة ج1 ص43 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج1 ص442 وج2 ص370 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص80 و 86 و 115 و 122 و 147 و 294 و 301 و 335 وج8 ص117 و 218 و 247 وج9 ص261 والغدير ج1 ص220 و 272 و 274 و 277 و 279 ونظم درر السمطين ص109 وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص89 وتفسير الثعلبي ج4 ص92 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص221 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص632 وبشارة المصطفى ص284 والمناقب للخوارزمي ص155 ونهج الإيمان لابن جبر ص120 وينابيع المودة ج1 ص102 وج2 ص284 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص235 و 238 وج14 ص34 وج20 ص173 و 357 وج21 ص34 و 38 و 39 وج23 ص325 و 554 وج30 ص418 و 419.

٢١٣

قال: ألست أولى بكم من آبائكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: ألست؟! ألست؟! ألست؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه).

فقال عمر بن الخطاب: هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت اليوم ولي كل مؤمن(1) .

التزيين الشيطاني:

وقد بدأ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبته بالإستعاذة بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.. باعتبار أن الإنسان قد لا يبادر إلى بعض المعاصي إلا إذا زينها له الشيطان، وأظهرها له على غير واقعها، وقلب له الحقائق، فجعل له

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ج42 ص220 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج2 ص368 و 441 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص29 و 146 وج9 ص93 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص386 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص361 و 376 والغدير (ط مركز الغدير) ج1 ص50 ـ 53 و (ط دار الكتاب العربي) ج1 ص19 و 20 متناً وهامشاً عن مصادر كثيرة جداً.

٢١٤

القبيح حسناً، والعكس، ولو بإيهامه أن هذا من مصاديق ذلك العمل الحسن مثلاً قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ..(1) .

وقال تعالى: ( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) (2) .

وهناك أمور تكون زينتها ظاهرة فيها، من حيث أنها تلاءم نوازع النفس الأمارة، فيتلهي بزينتها عن التدبر في واقعها السيء، ومثال هذا جميع ما يندفع إليه الإنسان بغرائزه وشهواته، ومنها الإمارة والحكم..

فإن الإندفاع إلى الإمارة لا يحتاج إلى تزيين، بل النفس تشتهيها وتميل إليها، وربما يرتكب الإنسان من أجلها العظائم، والجرائم.

ولأجل ذلك استعاذ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من شرور النفس وسيئات الأعمال..

ولعله يريد بذلك الإلماح إلى ما سيكون بعده من منازعة الأمر أهله، والتحذير منه، لا سيما وأن بوادر ذلك قد ظهرت في عرفة، كما أوضحناه..

الله يعيذهم:

وقد أفهمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أن الله تعالى هو الذي يعيذهم من شرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، من حيث إنه المالك الحقيقي للتصرف،

____________

1- الآية 137 من سورة الأنعام.

2- الآية 37 من سورة التوبة.

٢١٥

فإذا كانوا صادقين في لجوئهم إليه تعالى، بقطعهم أية علاقة أو أمل بغيره، فسيجدون أنفسهم في حصن حصين، وسيعني هذا اللجوء الصادق استحقاقهم أن يعود تعالى عليهم بالفضل، ويفتح لهم أبواب الرحمة.. لتكون استقامتهم على طريق الحق ضماناً للكون في أمانه الدائم..

كما أنه حين يكون الإنسان نفسه هو السبب في أن توصد أبواب الرحمة في وجهه، فلن يستطيع أحد أن يفتحها له، إلا أن يصلح الإنسان نفسه ما أفسده، فإن الله وحده المالك الحقيقي لذلك، ولأجل ذلك قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا هادي لمن أضل إلخ..

وقد قال تعالى:( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .

الإعلان بالشهادتين:

وقد شهد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لله بالوحدانية، ولنفسه بالعبودية لله وبالرسولية، لينال ثواب الجهر بالشهادة، وليتلذذ بهذه العبارة، ولتكون موطئة لإقرار ذلك الحشد العظيم بمثل ذلك، وتسهيلاً لذلك عليهم، ورفعاً لاستهجانهم، وإبعاداً لأي احتمال قد يراود ذهن بعضهم حول مستوى ثقته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بصدق إيمانهم، وحقيقة إسلامهم..

كل ذلك لأنه يريد أن يأخذ منهم عهداً، ويريد أن يغلظ عليهم فيه، ليكون ذلك أدعى لإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، وأقوى وأشد في تعظيم

____________

1- الآية 2 من سورة فاطر.

٢١٦

أمر النكث وتهجينه، واستقباح صدوره منهم، إن لم يكن تديناً، وخوفاً من العقوبة الأخروية، فالتزاماً بالإعتبارات التي يلزمون أنفسهم بها في الحياة الدنيا.

ولصاحب الحق أن يضيق الخناق على الباطل، وأن يؤكد وضوح الحق بكل وسيلة مشروعة، (أي لا تتضمن تمرداً على أمر الله تعالى)، فهو نظير ما فعله من إثارة معاني الغيرة، والحياء في الناس، لأجل ضبط حركة النساء في محيط الرجال، الذي استفاد منه أمير المؤمنين في قوله: أما تستحيون، ولا تغارون؟! نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوج(1) .

وهكذا فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنه ذكرهم بأصل التوحيد، فشهدوا لله تعالى بالوحدانية، وبأصل النبوة، فشهدوا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأنه رسول من الله إليهم، مما يعني أن ما يأتيهم به هو من عند الله؟!

وذكَّرهم بالنار التي يعاقب بها المتمردون على الله، المخالفون لرسوله، وبالجنة التي يثاب بها المطيعون لهما، وبأن الموت حق، والبعث والحساب

____________

1- الكافي ج5 ص537 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص236 و (ط دار الإسلامية) ج14 ص174 ومشكاة الأنوار ص417 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص271 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج8 ص243 ومسند أحمد ج1 ص133 والشرح الكبير لابن قدامة ج8 ص144 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج3 ص780.

٢١٧

حق، فلماذا يتعلقون بالدنيا، ويفسدون آخرتهم من أجلها؟!

ثم ذكَّرهم بالإمامة، وبما يحفظ من الهداية والضلال، وبميزان الأعمال من خلال التأكيد على حديث الثقلين.

كل ذلك توطئة لنصب أمير المؤمنين (عليه الصلاة السلام) ولياً وهادياً، ومرجعاً وإماماً.

فليبلغ الشاهد الغائب:

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يتكل على ما يعرفه من رغبة الناس بنقل ما يصادفونه في أسفارهم، إلى زوارهم بعد عودتهم، فلعل أحداً يكتفي بذكر ذلك مرة واحدة فور عودته، ثم لا يعود لديه دافع إلى ذكره في الفترات اللاحقة، فجاء أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم ليلزمهم بإبلاغ كل من غاب عن هذا المشهد، مهما تطاول الزمن، وجعل ذلك مسؤولية شرعية في أعناقهم، فقال: (فليبلغ الشاهد الغائب)(1) .

____________

1- الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص238 وكتاب الأربعين للماحوزي ص144 وكشف الغمة ج1 ص49 ـ 50 عن الزهري، وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص258 وج7 ص229 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص234 و 301 وج21 ص93 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص118 وسعد السعود لابن طاووس ص71 وبحار الأنوار ج42 ص156 والغدير ج1 ص11 و 33 و 176 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص55 وحياة الإمام الحسين "عليه‌السلام " للقـرشي ج1 ص199 وغـايـة المـرام ج1 ص299 وكشف المهم في = = طريق خبر غدير خم ص147 وراجع: الإصابة لابن حجر (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص34.

٢١٨

وبذلك يكون قد سد باب التعلل من أي كان من الناس بادعاء أن أحداً لم يبلغه هذا الأمر، وأنه إنما كان قضية في واقعة، وقد لا ينشط الكثيرون لذكرها، إن لم يكن ثمة ما يلزمهم بذلك.. ولعلهم قد كانت لديهم اهتمامات أخرى شغلتهم عنها..

الحب والبغض إختياريان:

وإثبات العقوبة الإلهية على الحب والبغض، والعداء والموالاة، يدل على أنهما من الأمور الاختيارية المقدورة للإنسان، ولو بواسطة قدرته على أسبابهما، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب..

وأكثر الأمور لا يقدر الإنسان عليها إلا بعد الإتيان بمقدماتها، فإن من يريد زيارة كربلاء مثلاً، يحتاج إلى قطع المسافة أولاً..

ولأجل ذلك دعا (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في غدير خم، فقال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه..

وأدر الحق معه حيث دار:

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (وأدر الحق معه حيث دار) يدل على أن المولوية المجعولة لعلي (عليه‌السلام ) تختزن معنى الحق، والمسؤولية عنه، علماً، أو عملاً، أو كليهما.. ولولا ذلك لم يحتج إلى هذا الدعاء.

٢١٩

أي مولى الخلق لا بد أن يعرف الحق، وأن يلتزم به، وأن يفرضه في كل الواقع الذي يتحمل مسؤوليته.. ولذلك جاء هذا الدعاء: (وأدر الحق معه حيث دار).

حديث الثقلين:

وهذه المسؤولية عن الحق هي التي فرضت أن يقرن (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين القرآن والعترة لحفظ الأمة من الضلال، وأن يجعل استمرار هذا الاقتران بينهما من مسؤولية الأمة أيضاً.

ولا بد أن يكون اقتراناً متناسباً مع شمولية القرآن، ومع ما تضمنه من حقائق، وما يتوخى من موقف للأمة تجاهه.. ومتناسباً مع مسؤولية العترة تجاه القرآن في مجال العلم والعمل، والتربية، وما يترتب على ذلك من لزوم الطاعة والنصرة، وما إلى ذلك.. ولا يكون ذلك إلا بالتمسك به، وبالعترة، في العلم، وفي العمل والممارسة.. سواء في الأحكام أو في القضاء بين الناس، أو في السياسات، أو الإعتقادات، أو الأخلاق، و في كل ما عدا ذلك من حقائق، لهج وصرح بها القرآن الكريم. وهذا يختزن معنى الإمامة بكل أبعادها وشؤونها..

وانصر من نصره:

ويؤكد هذا المعنى، ويزيده رسوخاً قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (وانصر من نصره، واخذل من خذله..)، فإن إيجاب النصر له على الناس، وتحريم الخذلان إنما هو في صورة التعرض للتحدي، والمواجهة بالمكروه، من أي

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392