تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

تذكرة الفقهاء20%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: 392

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118815 / تحميل: 5576
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٦

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٤٣٧-x
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

السُّفْل في تجويز تثقيل السقف.

فعلى هذا فلهم وجهان :

أحدهما : إنّ التعليق الجائز هو الذي لا يحتاج إلى إثبات وتدٍ في السقف.

وأظهرهما : إنّه لا فرق.

فإن قلنا : ليس له إثبات الوتد والتعليق فيه ، فليس لصاحب العلوّ غرز الوتد في الوجه الذي يليه ؛ إذ لا ضرورة إليه.

وإن جوّزنا ذلك لصاحب السُّفْل ، ففي جوازه لصاحب العلوّ وجهان ؛ لندور الحاجة إليه ، بخلاف التعليق(١) .

وأمّا ما لا ثقل له يتأثّر به السقف فعند الشافعيّة قولاً واحداً أنّه لا منع منه(٢) .

مسألة ١٠٨٣ : تصوير اشتراك السقف سهل‌ ، وأمّا خلوصه لأحدهما :

فأمّا لصاحب العلوّ فبأن يبيعه صاحب السُّفْل السقفَ والغرفةَ عندنا ، أو يكون لصاحب السُّفْل جداران متقابلان فيأذن لغيره في وضع الجذوع عليهما والبناء على تلك الجذوع بعوضٍ أو بغير عوضٍ عندنا وعند الشافعي(٣) .

وأمّا لصاحب السُّفْل فبأن يبيعه جدران الغرفة دون سقفها ، عندنا ، أو يأذن لغيره في البناء على سقف ملكه فيبني عليه ، عندنا وعند الشافعي(٤) .

فإذا أذن المالك لغيره في البناء على ملكه بغير عوضٍ ، كان عاريةً.

وإن كان بعوضٍ ، فهو إمّا إجارة بأن يُكري أرضه أو رأس جداره أو‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٣.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٣.

٨١

سقفه مدّةً معلومة بأُجرةٍ معيّنة ، وهو جائز ، وبه قال الشافعي(١) ، وسبيل ذلك سبيل سائر الإجارات ، وإمّا بيعٌ بأن يأذن له فيه بصيغة البيع ويبيّن الثمن ، وهو صحيح عندنا وعند الشافعي(٢) ؛ للأصل ، ولعموم قوله تعالى :( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٣) .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز. وبه قال المزني(٤) .

وطريق ذلك أن يبيعه سطحَ البيت للبناء عليه أو علوَّه بثمنٍ معيّن.

وليس له أن يبيع حقَّ البناء على ملكه - خلافاً لبعض الشافعيّة(٥) - لأنّ البيع إنّما يتناول الأعيان ، وحقّ البناء ليس منها.

قال بعض الشافعيّة : بيع سطح البيت أو علوّه للبناء بثمنٍ معلوم هو بعينه بيع حقّ البناء على ملكه ، فإنّ المراد منهما شي‌ء واحد وإن كان ظاهر اللفظ مشعراً بالمغايرة ؛ لأنّ بيع العلوّ للبناء إمّا أن يراد به جملة السقف ، أو الطبقة العليا منها ، وعلى التقديرين فهو بيع جزءٍ معيّن من البناء أو السقف.

وأيضاً فإنّهم صوّروا فيما إذا اشتراه ليبني عليه ، ومَن اشترى شيئاً انتفع به بحسب الإمكان ، ولم يحتج إلى التعرّض للانتفاع به.

وأيضاً ما حقيقة هذا العقد؟ إن كان بيعاً فليفد ملك عينٍ ، كسائر البيوع ، وإن كان إجارةً فليشترط التأقيت ، كسائر الإجارات.

واختلفت الشافعيّة فيه.

فقال بعضهم : يملك المشتري به مواضع رءوس الجذوع. وهو مشكل عند الباقين.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٣.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٣.

٨٢

والأصحّ عندهم : إنّه لا تُملك به عينٌ ، وحينئذٍ فوجهان :

أحدهما : إنّه إجارة ، وإنّما لم يشترط تقدير المدّة ؛ لأنّ العقد الوارد على المنفعة يتبع فيها الحاجة ، فإذا اقتضت الحاجة التأبيد ، أُبّد على خلاف سائر الإجارات ، وأُلحق بالنكاح.

وأظهرهما : إنّه ليس بإجارةٍ محضة ، بل فيه شائبة الإجارة ، وهي أنّ المستحقّ به منفعة ، وشائبةُ البيع ، وهي أنّ الاستحقاق فيه على التأبيد ، وكأنّ الشرع نظر إلى أنّ الحاجة تمسّ إلى ثبوت الاستحقاق المؤبَّد في مرافق الأملاك وحقوقها ، كما تمسّ إلى ثبوت الاستحقاق المؤبَّد في الأعيان ، فجوّز هذا العقدَ ، وأثبت فيه شبهاً من البيع وشبهاً من الإجارة.

وإذا قلنا : إنّه لا تُملك به عينٌ ، فلو عقد بلفظ الإجارة ولم يتعرّض للمدّة ، فوجهان عندهم ، أشبههما : إنّه ينعقد أيضاً ؛ لأنّه يخالف البيع في قضيّةٍ كما يخالف الإجارة في قضيّةٍ أُخرى(١) .

وهذا كلّه عندنا ليس بشي‌ءٍ ، بل الواجب إن أراد نقل السقف أن يبيعه إيّاه ، أو يؤجره ويعيّن المدّة.

مسألة ١٠٨٤ : إذا جرت هذه المعاملة على ما اخترناه نحن ، أو على ما اختاره الشافعيّة وبنى المشتري‌ ، لم يكن للبائع أن يكلّفه النقض ليغرم له أرش النقصان.

ولو انهدم الجدار أو السقف بعد بناء المشتري عليه فأعاده مالكه ، فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات أو بمثلها.

ولو انهدم قبل البناء ، فللمشتري البناء إذا أعاده.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٤ - ١١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٣.

٨٣

وهل يُجبر على إعادته؟ فيه خلافٌ تقدّم(١) .

ولو هدم صاحب السُّفْل أو غيره السُّفْلَ قبل بناء المشتري ، فعلى الهادم قيمة حقّ البناء ؛ لأنّه حالَ بينه وبين حقّه بالهدم ، فإذا أعاد مالك السُّفْلِ السُّفْلَ ، استرجع الهادم القيمةَ ؛ لارتفاع الحيلولة ، ولا يغرم أُجرة البناء لمدّة الحيلولة.

ولو كان الهدم بعد البناء ، فعلى قول مَنْ يوجب إعادة المهدوم يكون عليه إعادة السُّفْل والعلوّ ، وعلى قول مَنْ يوجب الأرش يكون عليه أرش نقص الآلات ، وقيمة حقّ البناء ؛ للحيلولة.

ولا تنفسخ هذه المعاملة بما يعرض من هَدْمٍ وانهدامٍ ؛ لأنّها ملتحقة بالبيوع.

مسألة ١٠٨٥ : إذا جرى الإذن في البناء بعوضٍ ، وجب معرفة قدر الموضع المبنيّ عليه طولاً وعرضاً.

وكذا إن كان بغير عوضٍ عند الشافعيّة(٢) .

وعندي فيه إشكال ؛ لأنّ ذلك عارية ، فلا يجب فيها ما شُرط في البيوع.

ولو كان البناء على الجدار أو السطح ، وجب مع ذلك بيان سمْك البناء وطوله وعرضه ، وكون الجدران منضّدةً أو خالية الأجواف ، وكيفيّة السقف المحمول عليها ؛ لاختلاف الأغراض في ذلك كلّه ، واختلاف حمل الجدران ، فإنّ الجدار لا يحمل كلّ شي‌ءٍ ، وكذا السقف ، فوجب البيان.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أطلق ذكر البناء كفى ، وحُمل الإطلاق على‌

____________________

(١) في ص ٦٧ ، المسألة ١٠٧٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

٨٤

العادة ، فما يحتمله المبنيّ عليه في العادة انصرف الإطلاق إليه ، وما لا فلا(١) .

وهل يشترط التعرّض لوزن ما يبنيه عليه؟ إشكال ينشأ من أنّ الإعلام في كلّ شي‌ءٍ على ما يليق به ويعتاد فيه من اختلاف المبنيّ بالثقل والخفّة اختلافاً يختلف بسببه الأغراض وحمل الجدران والسقوف.

والأقرب في الخشب ذلك ، دون الآجر واللبن ؛ للعادة.

ولو كانت الآلات حاضرةً ، استغنى بمشاهدتها عن كلّ وصفٍ وتعريفٍ.

ولو كان الإذن في البناء على أرضه ، لم يجب ذكر سمْك البناء وكيفيّته ؛ لأنّ الأرض تحتمل كلّ شي‌ءٍ.

وبعضُ الشافعيّة شَرَطه ؛ لأنّ الإذن إن كان على وجه الإعارة أو الإجارة فإنّ عند الرجوع عن الإعارة أو انقضاء مدّة الإجارة تطول مدّة التفريغ وتقصر بحسب كثرة النقض وقلّته ، ويختلف الغرض بذلك(٢) .

وليس بشي‌ءٍ.

مسألة ١٠٨٦ : لو ادّعى بيتاً في يد غيره فصالحه عليه‌ - إمّا مع إقراره ، عند الشافعي(٣) ، أو مطلقاً عندنا - على أن يبني الـمُقرّ أو المنكر على سطحه ، جاز ، ولم يكن ذلك فرعَ العارية ، خلافاً للشافعيّة ، وعندهم أنّه يكون قد أعاره الـمُقرّ له سطح بيته للبناء(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٥ - ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤ ، وراجع : الهامش (١) من ص ٢٦.

(٤) بحر المذهب ٨ : ٤٤ ، البيان ٦ : ٢٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

٨٥

فلو كان التنازع في سفله والعلوّ للمدّعى عليه فأقرّ للمدّعي بما ادّعاه فتصالحا على أن يبني المدّعي على السطح ويكون السُّفْل للمدّعى عليه جاز ، وكان عند الشافعي بيعَ السُّفْل بحقّ البناء على العلوّ(١) .

مسألة ١٠٨٧ : لا يجب على الجار إجراء ماء المطر من سطح جاره على سطحه‌ ولا إجراء الماء في أرضه عند علمائنا ؛ لأصالة البراءة ، ولتخصيص المالك التامّ ملكه بالانتفاع بملكه ، وهو قول أكثر الشافعيّة ، والجديد للشافعي.

وفي القديم له قول : إنّه يُجبر صاحب السطح والأرض على إجراء الماء من سطح الجار على سطحه وأرضه(٢) .

والحقّ خلافه.

ولو أذن له فيه جاز.

ولو باعه الإجراء لم يصح.

ولو آجره السطح للإجراء أو باعه إيّاه صحّ ، لكن إذا باعه السطح مَلَكه ملكاً مطلقاً يتصرّف فيه كيف شاء بما لا يتضرّر به.

وإن أعاره أو آجره ، جاز.

ويشترط بيان معرفة الموضع الذي يجري عليه الماء في الإعارة والإجارة والبيع ، والسطوح التي ينحدر منها الماء إليه في الإعارة والإجارة خاصّةً ، ولا يضرّ الجهل بقدر ماء المطر في ذلك كلّه ؛ إذ لا يمكن معرفته وضبطه ، وهذا عقدٌ جُوّز للحاجة.

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٤٤ ، البيان ٦ : ٢٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

(٢) البيان ٦ : ٢٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٤.

٨٦

ولو صالحه على إجراء مائه على سطحه جاز ، ولم يكن هذا الصلح فرعَ غيره عندنا ، خلافاً للشافعي(١) .

ويشترط العلم بالسطح الذي يجري ماؤه ؛ لاختلاف الماء قلّةً وكثرةً باختلاف السطوح كبراً وصغراً.

وعند الشافعي أنّ هذا يكون فرعَ الإجارة ، ومع ذلك لا يحتاج إلى ذكر المدّة(٢) .

وإذا أذن له في إجراء الماء على سطحه ثمّ بنى على سطحه بما يمنع الماء من الجريان عليه ، فإن كان عاريةً كان ما فَعَله رجوعاً فيها ، وإن كان بيعاً أو إجارةً كان للمشتري أو المستأجر نقب البناء وإجراء الماء فيه.

مسألة ١٠٨٨ : لو ادّعى عليه مالاً فصالحه منه على مسيل ماءٍ في أرضه ، جاز إذا بيّنا موضعه وعيّناه وعرفا عرضه وطوله.

ولا يحتاجان إلى أن يُبيّنا عمقه إن كان قد عقد بلفظ البيع لذلك الموضع ؛ لأنّ مَنْ مَلَك الموضع كان له النزول فيه إلى تخومه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : يجب بيانه ؛ بناءً على أنّ المشتري يملك موضع الجريان ، أو لا يملك إلّا حقّ الإجراء(٣) .

والحقّ : التفصيل ، فإن باعه مسيل الماء أو مكان إجراء الماء مَلَك موضع الجريان ، وإن باع حقّ مسيل الماء بطل عندنا إن كان بلفظ البيع ، وصحّ إن كان بلفظ الصلح.

ويصحّ عند الشافعيّة على الوجهين ؛ لأنّه كبيع حقّ البناء(٤) .

____________________

(١ و ٢) البيان ٦ : ٢٣٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٥٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٥٤ - ١٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٥.

٨٧

وكذا إن عقد بلفظ الصلح على تلك الأرض ، أمّا لو كان على إجراء الماء فإنّ الأرض باقية لمالكها ، وافتقر حينئذٍ إلى تعيين العمق وتقدير المدّة.

وإذا صالحه على أن يجري الماء في ساقيةٍ في أرض الـمُصالَح ، صحّ ولم يكن إجارةً.

وعند الشافعي أنّه يكون إجارةً(١) ، قال في الأُمّ : ويجب تقدير المدّة(٢) . وهو جيّد على مذهبنا.

وإنّما يصحّ إذا كانت الساقية محفورةً ، وإن لم تكن محفورةً لم يجز ؛ لأنّ المستأجر لا يتمكّن من إجراء الماء إلّا بالحفر ، والمستأجر لا يملك الحفر في ملك غيره ، ولأنّه إجارة لساقيةٍ غير موجودةٍ ، قاله بعض الشافعيّة(٣) .

وفيه نظر ؛ إذ التصرّف في مال الغير بإذنه جائز ، ولـمّا صالحه على الإجراء فقد أذن له فيه ، فيستلزم الإذن فيما هو من ضروراته ، والإجارة وقعت على إجراء الماء ، مع أنّا نمنع كونه إجارةً.

ولو حفر الساقية وصالحه ، جاز قطعاً.

ولو كانت الأرض في يد المدّعى عليه بإجارةٍ ، جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقيةٍ فيها محفورةٍ مدّةً معلومةً لا تجاوز مدّة إجارته.

وإن لم تكن الساقية محفورةً ، لم يجز أن يصالحه على ذلك ؛ لأنّه‌

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ٤٩ ، البيان ٦ : ٢٣٧ ، المغني ٥ : ٢٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠.

(٢) الأُمّ ٣ : ٢٢٧ ، وعنه أيضاً في بحر المذهب ٨ : ٤٩ - ٥٠ ، والبيان ٦ : ٢٣٧.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٥٠ ، البيان ٦ : ٢٣٧.

٨٨

لا يجوز له إحداث ساقيةٍ في أرضٍ في يده بإجارةٍ.

ولو كانت الأرض وقفاً عليه ، جاز أن يصالح على إجراء الماء في ساقيةٍ محفورةٍ مدّةً معلومةً.

وإن أراد أن يحفر ساقيةً ، فالأقرب : الجواز.

ومَنَعه بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يملكها ، وإنّما له أن يستوفي منفعتها ، كالأرض المستأجرة(١) .

والأولى أنّه يجوز له حفر الساقية ؛ لأنّ الأرض له ، وله التصرّف فيها كيف شاء ما لم ينتقل الملك فيها إلى غيره ، بخلاف المستأجر ، فإنّه إنّما يتصرّف فيها بالإذن له فيه.

فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدّة ، فهل لمن انتقل إليه الفسخُ فيما بقي من المدّة؟ مبنيّ على ما إذا آجره مدّةً فمات في الأثناء.

ولو صالحه على أن يسقي أرضه من نهره أو عينه ، جاز مع التعيين.

ومَنَعه الشافعي ؛ لأنّ المعقود عليه هو الماء ، وهو مجهول(٢) .

وليس بجيّدٍ ؛ لانضباطه بالوقت.

ولو صالحه على سهمٍ من العين أو النهر - كالثلث أو الربع أو غير ذلك - وبيّنه ، جاز ، ولا يكون بيعاً وإن أفاد فائدته ، خلافاً للشافعي(٣) .

فروع :

أ - ليس لمستحقّ إجراء الماء بإجارةٍ أو صلحٍ أو بيعٍ الدخولُ إلى أرض الغير الذي تجري فيه الساقية‌ وإن مَلَك الساقية ، إلّا أن يأذن له المالك ؛ لأنّه يستلزم التصرّف في مال الغير ، وهو قبيح عقلاً ، إلّا أن يريد‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٢٣٧.

(٢) الأُمّ ٣ : ٢٢٧ ، البيان ٦ : ٢٣٨.

(٣) الأُمّ ٣ : ٢٢١ و ٢٢٧ ، التنبيه : ١٠٣ ، الوسيط ٤ : ٤٩ ، البيان ٦ : ٢٣٨.

٨٩

تنقية النهر أو الساقية ، فإنّه يجوز ؛ لموضع الضرورة.

ب - إذا نقّى النهرَ أو الساقيةَ‌ ، وجب عليه أن يُخرج ما يخرج من النهر أو الساقية عن أرض المالك.

ج - المأذون له في إجراء ماء المطر على سطح الآذن أو أرضه أو ساقيته ليس له إلقاء الثلج‌ ، ولا أن يترك الثلج حتى يذوب فيسيل إليه ، ولا أن يجري فيه ما يغسل به ثيابه وأوانيه ، بل لو صالح على ترك الثلوج على السطح أو إجراء الغسالات على مالٍ ، فالأقرب عندي : الجواز.

ومَنَع منه بعضُ الشافعيّة ؛ لأنّ الحاجة لا تدعو إلى مثله(١) .

وهو ممنوع.

د - المأذون له في إلقاء الثلج ليس له إجراء الماء‌ ؛ لتغاير المنفعتين ، ولا يلزم من المصالحة على إحدى المنفعتين المصالحة على الأُخرى ، ولأنّه لا يجوز العكس فكذا هنا.

ه - تجوز المصالحة على قضاء [ الحاجة ](٢) في حُشّ الغير على مالٍ‌ ، وكذا على جمع الزبل والقمامة في ملكه ، ولا يكون ذلك إجارةً - خلافاً للشافعيّة - بل هو عقد مستقلّ برأسه.

وعندهم أنّه إجارة ، فيراعى فيه شرائطها(٣) .

و - تجوز المصالحة على البيتوتة على سطح الجار.

ثمّ لو باع مستحقّ البيتوتة منزله ، فليس للمشتري أن يبيت عليه ، بخلاف ما لو باع مستحقّ إجراء الماء على سطح الغير مدّةً دارَه ، فإنّ المشتري يستحقّ الإجراء بقيّة المدّة ؛ لأنّ إجراء الماء من مرافق الدار ، دون‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ ، وروضة الطالبين ٣ : ٤٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٦ - ١١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٥.

٩٠

البيتوتة.

ز - لا يجب على مستحقّ إجراء الماء في ملك غيره مشاركة المالك في عمارة سقف المجرى‌

وإن خرب من الماء ، ولا على المالك إصلاح القناة لو خرب بغير سببه.

ح - لو استحقّ وضع خُشُبه على حائط الغير فسقطت أو وقع الحائط ، استحقّ بعد عوده الوضع ، بخلاف الإعارة.

ولو خِيف على الحائط السقوطُ ، فالأقوى : تحريم الإبقاء ؛ لما فيه من الضرر العظيم.

ط - لو وجد بناءه أو خُشُبه أو مجرى مائه في ملك غيره أو سطحه ولم يعلم السبب ، احتُمل تقديم قول مالك الأرض والحائط في عدم الاستحقاق.

وقال بعض العامّة : يُقدَّم قول صاحب البناء والخشبة والمسيل ؛ لأنّ الظاهر أنّه حقٌّ له ، فجرى مجرى اليد الثابتة. ولو اختلفا في ذلك هل هو بحقٍّ أو عدوان؟ فالقول قول صاحب البناء والخشبة والمسيل ؛ لأنّ الظاهر معه ، ولو زال الحائط أو السطح ثمّ عاد فله إعادته ؛ لأنّ الظاهر أنّ هذا الوضع بحقٍّ من صلحٍ أو غيره(١) .

وفيه نظر.

ي - لا يجوز بيع حقّ الهواء ولا مسيل الماء ولا الاستطراق‌ ، خلافاً للشافعيّة في الأخيرين(٢) .

وفرّق بعضهم بين بيع حقّ الهواء وحقّ البناء بأنّ بيع حقّ الهواء اعتياض عن مجرّد الهواء ، وحقّ البناء يتعلّق بعين الموضع المبنيّ عليه ،

____________________

(١) المغني ٥ : ٤١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤١ - ٤٢.

(٢) الوجيز ١ : ١٨٠.

٩١

حتى لو صالحه عن وضع الجذوع المشرعة على جداره يصحّ ، ولهذا تجوز إجارة الملك للبناء إجماعاً ، ولا تجوز إجارة الهواء ، وكلّ حقٍّ يتعلّق بعينٍ - كمجرى الماء والممرّ - فهو كحقّ البناء.

وبالجملة ، الحقوق المتعلّقة بالأعيان لـمّا كانت عندهم مقصورةً على التأبيد ، أُلحقت بالأعيان حتى استغنى العقد الوارد عليها عن التأقيت(١) .

وهو عندنا باطل.

مسألة ١٠٨٩ : لو خرجت أغصان شجرة الجار إلى هواء داره المختصّة به أو المشتركة بينهما‌ ، أو على هواء جدارٍ له أو بينهما ، أو على بناءٍ أو على نفس الجدار ، كان له المطالبة بإزالة الأغصان عن هواء الدار.

فإن لم يفعل مالك الشجرة من الإزالة لم يُجبر ؛ لأنّه من غير فعله ، فلم يُجبر على إزالته ، كما إذا لم يكن ملكاً له ، وإن تلف بها شي‌ء لم يضمنه ؛ لذلك.

ويحتمل إلزامه ، كما إذا مالَ حائطه.

وعلى التقديرين إذا امتنع فله تحويلها عن ملكه ، فإن لم يمكن عطفها عنه كان له قطعها.

ولا يحتاج فيه إلى إذن القاضي ؛ لأنّه عدوان عليه ، فكان له إزالته عنه وإن لم يأذن القاضي ، وهو أقوى وجهي الشافعيّة(٢) .

فإن صالحه مالك الشجرة على الإبقاء على الجدار بعوضٍ ، صحّ مع تقدير الزيادة أو انتهائها وتعيين المدّة.

وكذا له أن يصالحه على الإبقاء في الهواء ، عندنا.

خلافاً للشافعيّة ؛ فإنّهم قالوا : إن صالحه على الإبقاء من غير أن يستند‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٦.

٩٢

الغصن إلى شي‌ءٍ لم يجز ؛ لأنّه اعتياض عن مجرّد الهواء ، وإن استند إلى جدارٍ فإن كان بعد الجفاف جاز ، وإن كان رطباً لم يجز ؛ لأنّه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وضرره(١) .

وجوّزه بعضهم ؛ لأنّ ما ينمو يكون تابعاً(٢) .

تذنيبان :

أ : لو سرت عروق الشجرة إلى أرض الجار ، كان حكمها حكم سريان الأغصان من جواز عطفها‌ ، فإن تعذّر قَطَعها ؛ لأنّه ليس له التصرّف في ملك غيره إلّا بإذنه ، ولأنّه عِرْق ظالمٍ فله الإزالة ؛ لقولهعليه‌السلام : « ليس لعِرْق ظالمٍ حقٌّ »(٣) .

ب : لو مالَ جداره إلى هواء الجار ، كان له الإزالة‌ ، كالأغصان والعروق ؛ لأنّه شَغَل ملك الغير ومَنَعه من التصرّف فيه بغير حقٍّ.

مسألة ١٠٩٠ : يجوز للرجل التصرّف في ملكه بأيّ أنواع التصرّفات شاء‌ ، سواء حصل به تضرّرٌ للجار أو لا ، فله أن يبني ملكه حمّاماً بين الدور ، وأن يفتح خبّازاً بين العطّارين ، أو يجعله دكّان قصارة بين المساكن وإن أضرّت الحيطان بالدقّ وأخربها ، وأن يحفر بئراً إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها ، أو يحفر بالوعة أو مرتفقاً يجري ماؤه إلى بئر جاره - وبه قال الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين(٤) - لقولهعليه‌السلام : « الناس مسلّطون على أموالهم »(٥) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٦.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ١٧٨ / ٣٠٧٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٦٢ / ١٣٧٨ ، سنن الدارقطني ٤ : ٢١٧ / ٥٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٩ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١٧ : ١٣ - ١٤ / ٤ و ٥ ، الموطّأ ٢ : ٧٤٣ / ٢٦.

(٤) بحر المذهب ٨ : ٥٠ ، البيان ٦ : ٢٤٢ ، المغني ٥ : ٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١.

(٥) أورده الطوسي في الخلاف ٣ : ١٧٦ - ١٧٧ ، المسألة ٢٩٠ من كتاب البيوع.

٩٣

ولأنّه تصرّف في ملكه المختصّ ولم يتعلّق به حقّ غيره ، فلم يُمنع منه ، كما لو طبخ في داره أو خبز فيها ، فإنّه لا يُمنع منهما تحرّزاً من وصول دخانه إلى جاره وإن تأذّى به ، كذا هنا.

وقال أحمد في الرواية الأُخرى : إنّه يُمنع من ذلك كلّه - وهو قول بعض الحنفيّة - لقولهعليه‌السلام : « لا ضرر ولا إضرار »(١) وهذا الفعل يضرّ بجيرانه ، ولأنّ هذا إضرار بالجيران فمُنع منه ، كما يُمنع من إرسال الماء في ملكه بحيث يضرّ بجاره ويتعدّى إلى هدم حيطانه ، ومن إشعال نارٍ تتعدّى إلى احتراق الجيران(٢) .

والجواب : الحديث مشترك ؛ لأنّ منع المالك عن عمل مصلحةٍ له في ملكه يعود نفعها إليه إضرار غير مستحقّ ، فالضرر مشترك ، وليس مراعاة أحدهما أولى من مراعاة الآخَر ، بل مراعاة المالك أولى ، والنار التي أضرمها والماء الذي أرسله تعدّيا فكان مرسلاً لذلك في ملك غيره ، فأشبه ما لو أرسلها إليه قصداً ، ولأنّ ذلك غير عامٍّ ؛ إذ الممنوع منه الإضرام عند هبوب الرياح بحيث يعلم التعدّي ، وليس ذلك دائماً ، فلهذا مُنع. وكذا إرسال الماء على وجه الكثرة.

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٦٨ ، الهامش (١)

(٢) المغني ٥ : ٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١ ، بحر المذهب ٨ : ٥٠ ، البيان ٦ : ٢٤٢.

٩٤

٩٥

الفصل الرابع : في التنازع‌

مسألة ١٠٩١ : إذا تنازعا عيناً في يد أحدهما ، حُكم بها لصاحب اليد مع اليمين وعدم البيّنة‌ ؛ لأنّه منكر.

فإن صالحه عنها على شي‌ءٍ منها أو من غيرها جاز ، سواء كان عقيب إقرارٍ أو إنكارٍ ، عند علمائنا ، خلافاً للشافعي(١) ، وقد سبق(٢) .

ولو كانت العين في يد اثنين [ فادّعاها ثالث ](٣) فصدّقه أحدهما وكذّبه الآخَر ، ثبت له النصف بإقرار المصدّق ، وكان على المكذّب اليمين مع عدم البيّنة ؛ لأنّه منكر.

فلو صالح المدّعي [ الـمُقرّ ] ٤ على مالٍ فأراد المكذّب أخذه بالشفعة ، لم يكن له ذلك عندنا ؛ لأنّ الشفعة تتبع البيع خاصّةً ، والصلح عندنا ليس بيعاً وإن كان على مالٍ ، بل هو عقد مستقلّ برأسه.

أمّا مَنْ يعتقده بيعاً كالشافعي(٥) فقد اختلف طُرق الناقلين عنه في الجواب.

قال بعضهم : إن مَلَكاها في الظاهر بسببين مختلفين فله ذلك ؛ لأنّه لا تعلّق لأحد المِلْكين بالآخَر ، وإن مَلَكاها بسببٍ واحد من إرثٍ أو شراءٍ فوجهان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ الدار بزعم المكذّب ليست للمدّعي ، فإنّ في‌

____________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٢٦.

(٢) في ص ٢٦ ، ضمن المسألة ١٠٣٢.

(٣ و ٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٥) راجع الهامش (٣) من ص ٨٨.

٩٦

ضمن إنكاره تكذيبَ المدّعي في نصيب الـمُقرّ أيضاً ، وحينئذٍ يبطل الصلح.

وأظهرهما عندهم : إنّ له الأخذَ ؛ لحُكمنا في الظاهر بصحّة الصلح ، وانتقال الملك إلى الـمُقرّ ، ولا استبعاد في انتقال نصيب أحدهما إلى المدّعي دون الآخَر وإن مَلَكاها بسببٍ واحد(١) .

وأشكل على بعضهم هذه الطريقة : بأنّا لا نحكم بالملك إلّا بظاهر اليد ، ولا دلالة لليد على اختلاف السبب واتّحاده ، فأيّ طريقٍ يعرف به الحاكم الاختلاف والاتّحاد؟ وإلى قول مَنْ يرجع؟ ومَن الذي يُقيم البيّنة عليه؟(٢) .

وقال بعضهم : إن ادّعى عليهما عن جهتين فللمكذّب الأخذ بالشفعة ، وإن ادّعى عن جهةٍ واحدة ففيه الوجهان ، ولا يخلو من إشكالٍ ؛ لأنّه ليس من شرط المدّعي التعرّض لسبب الملك ، وبتقدير تعرّضه له فليس من شرط الإنكار نفي السبب ، بل يكفي نفي الملك ، وبتقدير تعرّضه له فلا يلزم من تكذيبه المدّعي في قوله : « ورثت هذه الدار » زعم أنّه لم يرث نصفها(٣) .

وقال بعضهم : إن اقتصر المكذّب على أنّه لا شي‌ء لك في يدي ، أو : لا يلزمني تسليم شي‌ءٍ إليك ، أخذ بالشفعة ، وإن قال مع ذلك : وهذه الدار ورثناها ، ففيه الوجهان(٤) .

وقد عرفتَ أنّ هذا كلّه لا يتأتّى على مذهبنا من الاقتصار في طلب الشفعة على الانتقال بالبيع خاصّةً.

مسألة ١٠٩٢ : لو ادّعى اثنان داراً في يد رجلٍ ، فأقرّ لأحدهما بنصفها وكذّب الآخَر‌ ، نُظر فإن كانا قد ادّعياها بسببٍ يوجب الشركة - كالإرث ،

____________________

(١ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٦.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٨.

٩٧

وشراء وكيلهما في عقدٍ واحد - تشاركا في النصف الذي دفعه المدّعى عليه إلى الـمُقرّ له ؛ لأنّ الإرث يقتضي إشاعة التركة بين الورثة ، فكلّ ما يخلص يكون بينهما ، وذلك كما لو تلف بعض التركة وحصل البعض ، فإنّ التالف يكون منهما ، والحاصل لهما ، وكذا لو تلف بعض المال المشترك.

هذا إذا لم يتعرّضا لقبض الدار ، أمّا لو قالا : ورثناها وقبضناها ثمّ غصبتَها منّا ، فالأقرب : إنّه كذلك أيضاً يشتركان فيما يقبضه الـمُقرّ له منه ؛ لأنّ إيجاب الإرثِ الشيوعَ(١) لا يختلف ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، ومحكيٌّ عن أبي حنيفة ومالك.

والقول الآخَر لهم : إنّه لا يشاركه ؛ لأنّ التركة إذا حصلت في يد الورثة صار كلّ واحدٍ منهما قابضاً لحقّه ، وانقطع حقّه عمّا في يد الآخَرين ، ولهذا يجوز أن يطرأ الغصب على نصيب أحدهما خاصّةً بأن تزال يده ، فإنّ المغصوب لا يكون مشتركاً بينهما(٢) .

وإن ادّعياها بجهةٍ غير الإرث من شراءٍ وغيره ، فإن لم يقولا : اشترينا معاً ، أو : اتّهبنا وقبضنا معاً ، فالأقرب عندي : عدم الشركة في المقبوض حيث لم تثبت الشركة في السبب ولم يدّعياه.

وإن قالا : اشتريناها معاً ، أو اتّهبناها وقبضنا معاً ، فالأقرب : إنّه كالإرث ؛ لاشتراك السبب ، وهو أحد قولَي الشافعيّة. والثاني : إنّهما لا يشتركان فيما أقرّ به ؛ لأنّ البيع بين اثنين بمنزلة الصفقتين ، فإنّ تعدّد المشتري يقتضي تعدّد العقد ، فكان بمنزلة ما لو مَلَكا بعقدين(٣) .

ولو لم يتعرّضا لسبب الاستحقاق ، فلا شركة بحالٍ.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة زيادة : « وهو ». والظاهر أنّ المناسب للعبارة عدمها.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٨ - ١١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٧.

٩٨

مسألة ١٠٩٣ : كلّ موضعٍ قلنا بالشركة في هذه الصُّور لو صدّق المدّعى عليه أحدهما‌ وكذّب الآخَر وصالح المصدَّق [ المدّعى ](١) عليه عن الـمُقرّ به على مالٍ ، فإن كان بإذن الشريك صحّ ، وتشارك المدّعيان في مال الصلح ، سواء كان بعين النصف أو غيره ، وإن كان بغير إذنه بطل الصلح في نصيب الشريك ، وصحّ في نصيبه.

وللشافعيّة في صحّته في نصيبه قولا تفريق الصفقة(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : يصحّ الصلح في جميع الـمُقرّ به ؛ لتوافق المتعاقدين وتقاربهما(٣) .

وليس بجيّدٍ.

مسألة ١٠٩٤ : لو ادّعيا داراً في يد الغير فأقرّ لأحدهما بجميعها‌ ، فإن كان قد وُجد من الـمُقرّ له في الدعوى ما يتضمّن إقراراً لصاحبه بأن قال : هذه الدار بيننا ، وما أشبه ذلك ، شاركه صاحبه فيها.

وكذا إن كان الـمُقرّ له قد تقدّم إقراره بالنصف لصاحبه.

وإن لم يتلفّظ بما يتضمّن الإقرار ، بل اقتصر على دعوى النصف ، نُظر فإن قال بعد إقرار المدّعى عليه بالكلّ : إنّ الكلّ لي ، سلّم الجميع إليه ، وكان هو والآخَر خصمين في النصف الذي ادّعاه الآخَر ، ويكون القولُ قولَ مدّعي الكلّ مع اليمين ، وعلى الآخَر البيّنة.

ولا يلزم من ادّعائه النصفَ أن ينتفي ملكه عن الباقي ؛ لجواز أن تكون معه بيّنة بالنصف ولا تساعده البيّنة على الجميع في الحال ، بل على النصف ، و(٤) يخاف الجحود الكلّي لو ادّعى الجميع.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٧.

(٤) الظاهر : « أو » بدل « و».

٩٩

ولو قال : النصف الآخَر لصاحبي ، سلّم إليه.

وإن لم يقل شيئاً ولا أثبت النصفَ الآخَر لنفسه ولا لصاحبه ولا نفاه ، فالأقرب : إنّه يُترك في يد المدّعى عليه ؛ لأنّ الآخَر ادّعى خلافَ الظاهر ولا بيّنة له ، وهو أصحّ وجوه الشافعيّة.

والثاني : إنّه ينتزع من يد المدّعى عليه ، ويحفظه الحاكم لمن يثبت له.

والثالث : إنّه يُسلّم إلى المدّعي ؛ لأنّه يدّعي ما لا يدّعيه أحد(١) .

ويُضعّف الثاني : بأنّه يؤدّي إلى إسقاط دعوى هذا المدّعي عن الـمُقرّ بغير حجّةٍ ، والثالث : بأنّه يُثبت حقّاً للمدّعي بغير بيّنةٍ ولا إقرار.

وإذا قلنا : ينتزعه الحاكم ، فإنّه يؤجره ويحفظ الأُجرة ، كالأصل.

وقال بعض الشافعيّة : يصرفه في مصالح المسلمين(٢) .

وليس بصحيحٍ ؛ لأنّ الأصل إذا كان موقوفاً فالنماء كذلك.

مسألة ١٠٩٥ : لو تداعى اثنان حائطاً بين ملكيهما‌ ، فإن كان متّصلاً ببناء أحدهما خاصّةً دون الآخَر اتّصالاً لا يمكن إحداثه بعد بنائه - بأن يكون لأحدهما عليه أزج أو قبّة لا يتصوّر إحداثهما بعد تمام الجدار ، وذلك بأن أُميل البناء من مبدأ ارتفاعه عن الأرض قليلاً قليلاً ، أو كان متّصلاً ببناء أحدهما في تربيعه وعلوّه وسَمْكه دون الآخَر ، أو دخل رَصْف من لَبِنات فيه في جداره الخاصّ ، ورَصْف من جداره الخاصّ في المتنازع فيه ، ويظهر ذلك في الزوايا - كان القولُ قولَه مع يمينه ؛ لأنّ ذلك ظاهر يشهد له.

ويحتمل أن يكون بناء القبّة والأزج ورَصْف اللَّبِن برضا الآخَر أو إجازته ، فلهذا أوجبنا اليمين ، وحُكم له بها ، إلّا أن تقوم البيّنة على خلافه.

ولو كان رَصْف اللَّبِن في مواضع معدودة من طرف الجدار ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٥٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٧.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

أحدهما أنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالله، فهو أحق بها منّا.

والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق، قال الله تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ؛ [الأنعام: ١٥١].

قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا عليّ الجبائي وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة؛ لأنها ثقّلت بالتراب الّذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة: وأدت أئد وأدا، والفاعل وائد، والفاعلة وائدة، ومن الثّقل يقولون: آدني الشيء يئودني؛ إذا أثقلني، أودا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن العزل فقال: (ذاك الوأد الخفي).

وقد روي عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك، وقال قوم في الخبر الّذي ذكرناه: إنه منسوخ بما روي عنه عليه السلام أنه قيل له: إن اليهود يقولون في العزل هي الموءودة الصغرى، فقال: (كذبت يهود، لو أراد الله تعالى أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه).

وقد يجوز أن يكون قوله عليه السلام: (ذاك الوأد الخفي) على طريق تأكيد الترغيب في طلب النسل وكراهية العزل؛ لا على أنه محظور محرّم.

***

وصعصعة بن ناجية بن عقال، جدّ الفرزدق بن غالب؛ كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن. ويقال: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك.

وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:

ومنّا الّذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توءد(١)

وفي قوله:

ومنّا الّذي أحيا الوئيد وغالب

وعمرو، ومنّا حاجب والأقارع(٢)

____________________

(١) ديوانه: ٢٠٣.

(٢) ديوانه: ٥١٧.

٢٨١

وفي ذلك يقول أيضا:

أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب

وفكّاك أغلال الأسير المكفّر(١)

ليلى: أم غالب، وعقال: هو محمد(٢) بن سفيان بن مجاشع، وفكّاك الأغلال: ناجية ابن عقال، والمكفّر: هو الّذي كفّر وكبّل بالحديد -

وكان لنا شيخان ذو القبر منهما

وشيخ أجار النّاس من كلّ مقبر(٣)

ذو القبر، غالب وكان يستجار بقبره، والّذي أجار الناس من المقبر وأحيا الوئيدة صعصعة(٤)   -

على حين لا تحيا البنات وإذ هم

عكوف على الأصنام حول المدوّر(٥)

أنا ابن الّذي ردّ المنيّة فضله

وما حسب دافعت عنه بمعور(٦)

أبي أحد العينين(٧) صعصعة الّذي

متى تخلف الجوزاء والنّجم يمطر

أجار بنات الوائدين ومن يجر

على القبر(٨) يعلم أنّه غير مخفر

وفارق ليل من نساء أتت به(٩)

تعالج ريحا ليلها غير مقمر

فارق، يعني امرأة ماخضا؛ شبهها بالفارق من الإبل، وهي الناقة يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضي على وجهها حتى تضع -

____________________

(١) ديوانه: ٤٧٦ - ٤٧٧.

(٢) حاشية الأصل: (هذا في نسخة ابن الشجري)، وفيها (من نسخة): (هو عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع).

(٣) حاشية الأصل: (من كل مقبر، أي الّذي يدفن البنات أحياء ويجعلهم في القبر).

(٤) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: حقه: والّذي أجار الناس وأحيا الناس من المقبر وأحيا الوليد صعصعة).

(٥) المدور: صنم يدورون حوله.

(٦) حاشية الأصل: (المعور: ذو العورة؛ وهو من قوله تعالى:( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) ؛ أراد أنه حصن لا يتمكن منه أحد).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الغيثين)، وهي رواية الديوان.

(٨) حاشية الأصل (من نسخة): (على الفقر).

(٩) حاشية الأصل (من نسخة): (أبي) وهي رواية الديوان.

٢٨٢

فقالت: أجر لي ما ولدت فإنني

أتيتك من هزلي الحمولة مقتر(١)

رأى الأرض منها راحة فرمى بها

إلى جدد(٢) منها وفي شرّ محفر

فقال لها: يامي إني بذمّتي

لبنتك جار من أبيها القنوّر

القنوّر: السيئ الخلق –

***

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن العباس بن بكار الضبي عن أبي بكر الهذلي. قال الصولي وحدثنا القاسم بن إسماعيل عن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة بطرف منه قال: وفد صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وآله في وفد بني تميم(٣) ؛ وكان صعصعة منع الوئيد في الجاهلية؛ فلم يدع تميما تئد(٤) وهو يقدر على ذلك؛ فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة جارية، وفي الرواية الأخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وآله: بأبي أنت وأمي أوصني! قال: (أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدنانيك)، فقال: زدني يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (احفظ ما بين لحييك ورجليك) ؛ ثم قال صلى الله عليه وآله: (ما شيء بلغني عنك فعلته) ؟

فقال: يارسول الله؛ رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أنّي علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم؛ فعرفت أنّ ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت ما قدرت عليه.

وفي رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وآله، سمع قوله تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ؛ [الزلزلة: ٧، ٨].

قال: حسبي، ما أبالي ألاّ أسمع من القرآن غير هذا!

ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا، فقال الفرزدق:

____________________

(١) مقتر: قليل المال؛ تعني زوجها.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (خدد) ؛ وهي رواية الديوان.

(٣) ف: (في وفد من بني تميم).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فلم يدع تميما يئد).

٢٨٣

أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى! فقال: إن جدي أحيا الموءودة وقد قال الله تعالى:( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) ؛ [المائدة: ٣٢]؛ وقد أحيا، جدي اثنتين وتسعين موءودة. فتبسم سليمان وقال: إنك مع شعرك لفقيه.

تأويل خبر [أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء]

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يروى(١) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء.

الجواب؛ قلنا: الزناء هو الحاقن الّذي قد ضاق ذرعا ببوله؛ يقال: أزنأ الرجل بوله فهو يزنئه إزناء، وزنأ بوله يزنأ زنأ، قال الأخطل:

فإذا دفعت إلى زناء قعرها

غبراء مظلمة من الأحفار(٢)

يعني ضيق القبر، ويقال: لا تأت فلانا فإن منزله زناء، فيجوز أن يكون ضيّقا، ويجوز أن يكون عسر المرتقى؛ وكلاهما يئول إلى المعنى. ويقال: موضع زناء إذا كان ضيّقا صعبا، ومن ذلك قول أبي زبيد(٣) يصف أسدا:

أبنّ عرّيسة عنّابها أشب

ودون غايته مستورد شرع(٤)

____________________

(١) ف: (روي).

(٢) ديوانه: ٨١، واللسان (زنأ).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (ذكر أبو سعيد الضرير، وهو أحمد بن خالد قال: هو أبو زبيد حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعد، وهو من بني هني). والبيتان في شعراء النصرانية بعد الإسلام ١: ٦٧ - ٦٨؛ من قصيدة أولها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شخصوا

أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع

يصف فيها الأسد.

(٤) أبنّ: أقام، والعريسة: مأوى الأسد في الغياض، وعنابها أشب: أي شجر العناب فيها متداخل، والمستورد: موضع الورود. والشرع: الّذي يشرع فيه؛ يعني موارد الوحش، وفي ف: (دون غايتها) وفي حاشيتها (من نسخة): (دون غابتها).

٢٨٤

شأس الهبوط زناء الحاميين متى

يبشع بواردة يحدث لها فزع(١)

يعني (بزناء الحاميين) أنه ضيق جانبي الوادي. وقوله: (متى يبشع بواردة)، أي يضيق بجماعة ممن يرده؛ وإنما يحدث لها فزع من الأسد. والشأس: الغليظ؛ يقال: مكان شأس، إذا كان غليظا؛ ومن ذلك قولهم: زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه؛ وهو يزنأ في الجبل.

وروى أبو زيد:" أن(٢) قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيّا له يرقّصه - وأمّ ذلك الصبي منفوسة، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي، فجعل قيس يقول له:

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل

ولا تكوننّ كهلّوف وكل(٣)

يريد عملي. الوكل: الجبان. والهلّوف: الهرم المسنّ، وهو أيضا الكبير اللحية؛ وإنما أراد به هاهنا الجبان -

* وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل(٤) *

فأخذته أمه وجعلت ترقصه، وتقول:

أشبه أخي أو أشبهن أباكا

أمّا أبي فلن تنال ذاكا

* تقصر عن مناله(٥) يداكا*

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قبلهما:

هذا وقوم غضاب قد أبتّهم

على الكلاكل حوضي عندهم ترع

تبادروني كأنّي في أكفّهم

حتى إذا ما رأوني خاليا نزعوا

واستحدث القوم أمرا غير ما وهموا

وطار أبصارهم شتى وما وقعوا

كأنما يتفادى أهل أمرهم

من ذي زوائد في أرساغه فدع

ضرغامة أهرت الشّدقين ذي لبد

كأنه برنسا في الغاب مدرع

بالثّنى أسفل من حمّاء ليس له

إلا بنيه وإلا أهله شيع

قد أبتهم: أنمتهم وأشخصتهم على صدورهم. وقوله: (حوضي عندهم ترع) أي لم يصنعوا بي شيئا. وقوله: (في أكفهم) أي ظنوا أني في أيديهم فلما رأوني دهشوا ونزعوا عما طمعوا فيه).

(٢) النوادر ٩٢ - ٩٣

(٣) البيتان والخبر في اللسان (زنأ - عمل).

(٤) في اللسان قبل هذا البيت:

* يصبح في مضجعه قد انجدل*

(٥) في اللسان: (أن تناله).

٢٨٥

مجلس آخر

[٨٠]

تأويل آية :( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ) ؛ [البلد ١٠ - ٢٠].

فقال(١) : ما تأويل هذه الآية؟ وما معنى ما تضمنته(١) .

الجواب، أما ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضّل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويستدفعون بها المضارّ عنهم؛ لأن الحاجة ماسّة في أكثر المنافع الدينية والدنيوية إلى العين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب ومسكهما في الفم والنطق أيضا.

فأما النّجد في لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الأرض، والغور الهابط منها؛ وإنما سمّي الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه.

واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين، فذهب قوم إلى أنّ المراد بهما طريقا الخير والشرّ؛ وهذا الوجه يروى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وعن الحسن وجماعة من المفسرين.

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

٢٨٦

وروي أنه قيل لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إن ناسا(١) يقولون في قوله:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) : إنهما الثديان، فقال عليه السلام: لا، إنهما الخير والشر.

وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير).

وروي عن قوم آخرين أنّ المراد بالنّجدين ثديا الأم.

فإن قيل: كيف يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير، ومعلوم أنه لا شرف ولا رفعة في الشر؟

قلنا: يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلّف اجتنابه؛ ومعلوم أن الطريقتين جميعا باديان ظاهران للمكلفين. ويجوز أيضا أن يكون سمّي طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة؛ كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق الخير؛ لأن الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشر كالثواب في سلوك طريق الخير.

وقال قوم: إنما أراد بالنجدين أنا بصّرناه وعرفناه ماله وعليه، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب؛ وثني النجدين على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا في بعض الوجوه، وأجرى لفظة أحدهما على الآخر، كما قيل في الشمس والقمر: القمران، قال الفرزدق:

* لنا قمراها والنّجوم الطّوالع(٢) *

ولذلك نظائر كثيرة.

فأما قوله تعالى:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ؛ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون فَلَا بمعنى الجحد وبمنزلة (لم)، أي فلم يقتحم العقبة؛ وأكثر

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أناسا).

(٢) ديوانه: ٥١٩؛ صدره:

* أخذنا بآفاق السّماء عليكم*

٢٨٧

ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ (لا) ؛ كما قال سبحانه:( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ) ؛ [القيامة: ٣١] أي لم يصدّق ولم يصلّ، وكما قال الحطيئة:

وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها

وإن أنعموا، لا كدّروها ولا كدّوا(١)

وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ؛ لأنهم لا يقولون: لا جئتني وزرتني؛ يريدون: ما جئتني؛ فإن قالوا: لا جئتني ولا زرتني صلح؛ إلا أن في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه، وهو قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ؛ فكأنه قال:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، ولا آمن؛ فمعنى التكرار حاصل.

والوجه الآخر: أن تكون (لا) جارية مجرى الدعاء؛ كقولك: لا نجا ولا سلم، ونحو ذلك.

وقال قوم:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) أي فهلاّ اقتحم العقبة! أو أفلا اقتحم العقبة! قالوا:

ويدل على ذلك قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) ، ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام.

وهذا الوجه ضعيف جدا، لأن قوله تعالى: فَلَا خال من لفظ الاستفهام، وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:

ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا

عدد القطر والحصى والتراب(٢)

فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفي لم يتصل فقد بيّنا أنه متصل، مع أنّ المراد به النفي؛ لأن قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) معطوف على قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، أي فلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين آمنوا. والمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن؛ على ما بينا.

فأما المراد بالعقبة فاختلف فيه، فقال قوم: هي عقبة ملساء في جهنم، واقتحامها فكّ رقبة.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون(٣) ، وأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة) : وروي عن ابن عباس أنه قال: هي عقبة كئود في

____________________

(١) ديوانه: ٢٠.

(٢) ديوانه: ٤٢٣ (مطبعة السعادة)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (عدد الرمل).

(٣) حاشية الأصل: (المثقلون [بالفتح] أي أثقلهم الذنوب، والمثقلون [بالكسر] أصحاب الأثقال).

٢٨٨

جهنم، وروي أيضا أنه قال: العقبة هي النّار نفسها؛ فعلى الوجه الأول يكون التفسير للعقبة بقوله:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) على معنى ما يؤدّي إلى اقتحام هذه العقبة؛ ويكون سببا لجوازها والنجاة منها، لأن فكّ رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا منها.

وقال آخرون: بل العقبة ما ورد مفسّرا لها من فكّ الرقبة والإطعام في يوم المسغبة؛ وإنما سمّي ذلك عقبة لصعوبته على النفوس ومشقته عليها.

وليس يليق بهذا الوجه الجواب الّذي ذكرناه في معنى قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) وأنه على وجه الدعاء؛ لأن الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له؛ ولا يجوز أن يدعى على أحد بأن لا يقع منه ما كلّف وقوعه، وفكّ الرقبة والإطعام المذكور من الطاعات؛ فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه! فهذا الوجه يطابق أن تكون الْعَقَبَةَ هي النّار نفسها أو عقبة فيها.

وقد اختلف الناس في قراءة:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) ، فقرأ أمير المؤمنين عليه السلام، ومجاهد، وأهل مكة، والحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمرو، والكسائي:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) بفتح الكاف ونصب الرقبة، وقرءوا أو أطعم على الفعل دون الاسم. وقرأ أهل المدينة، وأهل الشام، وعاصم، وحمزة، ويحيى بن وثاب، ويعقوب الحضرمي: فَكُ بضم الكاف وبخفض( رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ ) على المصدر وتنوين الميم وضمها.

فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم بالاسم أكثر في كلام العرب، وأحسن من جوابه بالفعل؛ ألا ترى أن المعنى: ما أدراك ما اقتحام العقبة! هو فكّ رقبة، أو إطعام؛ وذلك هو أحسن من أن يقال: هو فكّ رقبة، أو أطعم.

ومال الفرّاء إلى القراءة بلفظ الفعل، ورجّحها بقوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، لأنه فعل؛ والأولى أن يتبع فعلا. وليس يمتنع أن يفسّر اقتحام العقبة - وإن كان اسما - بفعل؛ يدل على الاسم؛ وهذا مثل قول القائل: ما أدراك ما زيد؟ يقول - مفسرا -: يصنع الخير، ويفعل المعروف، وما أشبه ذلك، فيأتي بالأفعال.

والسغب: الجوع؛ وإنما أراد أنه يطعم في يوم مجاعة؛ لأن الإطعام فيه أفضل وأكرم.

٢٨٩

فأما (مقربة) فمعناه يتيما ذا قربى؛ من قرابة النسب والرّحم؛ وهذا حضّ على تقديم ذي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.

والمسكين: الفقير الشديد الفقر. والمتربة: مفعلة، من التراب، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته؛ ويجري مجرى قولهم في الفقير: مدقع؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء؛ وهي الأرض التي لا شيء فيها.

وقال قوم: ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا عيال. والمرحمة: مفعلة من الرحمة؛ وقيل إنه من الرّحم.

وقد يمكن في مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى؛ بل هو من القرب، الّذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر؛ وهذا أعم في المعنى من الأول وأشبه بقوله ذا مَتْرَبَةٍ؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضّرّ؛ وليس من المبالغة في الوصف بالضرّ أن يكون قريب النّسب. والله أعلم بمراده.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر:

وكأنّه من وفده عند القرى

لولا مقام المادح المتكلّم

وكأنّه أحد النّدى ببنائه(١)

لولا مقالته أطب للمؤدم(٢)

ويقارب ذلك في المعنى قول محمد بن خارجة:

سهل الفناء إذا حللت ببابه

طلق اليدين مؤدّب الخدّام

وإذا رأيت صديقه وشقيقه

لم تدر: أيّهما أخو الأرحام!(٣)

ومثله لأبي الهندي:

نزلت على آل المهلّب شاتيا

غريبا عن الأوطان في زمن المحل(٤)

فما زال بي إكرامهم وافتقادهم(٥)

وإنعامهم حتى حسبتهم أهلي

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (أحد الندي ببابه).

(٢) المؤدم: الآكل.

(٣) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (سهل القياد).

(٤) أمالي القالي ١: ٤١؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (في زمن محل).

(٥) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (واقتفاؤهم).

٢٩٠

ولأثال بن الدقعاء يمدح عقبة بن سنان الحارثي:

ألم ترني شكرت أبا سعيد

بنعماه وقد كفر الموالي(١)

ولم أكفر سحائبه اللّواتي

مطرن عليّ واهية العزالي(٢)

فمن يك كافرا نعماه يوما

فإني شاكر أخرى اللّيالي

فتى لم تطلع الشّعرى من افق

ولم تعرض ليمن أو شمال(٣)

على ندّ له إن عدّ مجد

ومكرمة وإتلاف لمال

وأصبر في الحوادث إن ألمّت

وأسعى للمحامد والمعالي

فتى عمّ البريّة بالعطايا

فقد صاروا له أدنى العيال

قال: ولآخر(٤) :

لم أقض من صحبة زيد أربي

فتى إذا أغضبته لم يغضب

موكّل النّفس بحفظ الغيّب

أقصى الفريقين له كالأقرب

فإنه لم يرد أن الضعيف السبب كالقوي السبب، وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب وحقّه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر، وأنه يستوي عنده لكرمه وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت معا؛ وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس؛ من مراعاة أمر الحاضر القريب وإهمال حق البعيد(٥) .

***

هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوّه. ثم تشاغل بأمور الحج(٦) .

الحمد للّه رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا نبيّه محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم كثيرا.

____________________

(١) الموالي: الأقرباء.

(٢) العزالي: جمع عزلاء؛ وهي في الأصل مصب الماء من الراوية ونحوها.

(٣) ف، ومن نسخة بحاشية الأصل:

فتى لم تطلع الشعرى بأفق

ولم تقرض ليمنى أو شمال

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وقال آخر).

(٥) إلى هنا تنتهي النسخة المرموز لها بكلمة (الأصل).

(٦ - ٦) ف: (هذا آخر مجلس أملاه السيد المرتضى ذو المجدين قدس الله روحه ثم تشاغل بأمور الحج).

٢٩١

تكملة أمالي المرتضى

٢٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر(١)

مسألة

قال (*) الشريف الأجلّ المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي رضي الله عنه:

إنّه لا يزال المتكلّمون يخالفون النحويّين في أنّ للفعل ثلاثة أحوال: ماض، وحاضر، ومستقبل. ويقول المتكلّمون: للفعل حالان بغير ثالث؛ لأنّ كلّ معلوم من الأفعال لا يخلو من أن يكون موجودا أو معدوما؛ وبالوجود قد صار ماضيا، والمعدوم هو المنتظر، ولا حال ثالثة.

فلا المتكلّمون يحسنون العبارة عما لحظوه وأرادوه، حتى يزول الخلاف في المعاني التي هي المهمّ - ولا اعتبار بالعبارات - ولا النحويون يفطنون لإفهام ما قصدوه بلفظ غير مشتبه ولا محتمل؛ فكم من معنى كاد يضيع بسوء العبارة عنه، وقصور الإشارة إليه!

واعلم أن المواضعات مختلفة، والعرف يختلف باختلاف أهله بحسب عاداتهم. وقولنا: (فعل) في عرف المتكلمين ليس هو الّذي يعرفه النحويون، لأنّ الفعل في عرف أهل الكلام هو الذات الحادثة بعد أن كانت معدومة بقادر، وهذا الحدّ يقتضي أن يكون كلّ موجود من الذوات غير الله تعالى وحده فعلا؛ فزيد فعل، والسماء كذلك، والحرف أيضا - الّذي فرق النحويون بينه وبين الاسم - فعل أيضا، والفعل أيضا على هذا الحدّ فعل؛ لأنّ الحرف صوت يقطّع على وجه مخصوص، والأصوات كلّها أفعال.

____________________

(*) هذه الزيادات لم ترد إلا في ف، ط من الأصول التي اعتمدت عليها؛ والمثبت هنا نص ف، كما أثبت الفروق والحواشي.

(١) ط: (رب يسر ولا تعسر).

٢٩٣

غير أنّ المحقّق من عرف القوم أنّ النحويين ما فصلوا بين الاسم والفعل والحرف؛ من حيث نفي الاشتراك في الحدوث والفعلية؛ بل فصلوا بينها مع اشتراكها في معنى الفعلية التي يذهب إليها المتكلّمون؛ لما بينها من الفصل في أحكام أخر؛ يختصّ بها بعضها دون بعض؛ فقالوا: الاسم ما دلّ على معنى لا يقترن بزمان، والفعل ما اقتضى معنى مقترنا بزمان غير مخصوص، والحرف ما خلا من هاتين العلامتين؛ فكأنهم قصدوا إلى ما هو فعل حادث على حدّ المتكلمين؛ فصنّفوه ونوّعوه، وسمّوا بعضه اسما، وبعضه فعلا، وبعضه حرفا؛ لاختلاف الأحكام التي عقلوها؛ فلا لوم في ذلك عليهم؛ ولا مناظرة فيه معهم، وبالمناظرة الصحيحة تزول الشّبهات، وتنحسم التّبعات.

والّذي يجب تحصيله، والتعويل عليه أنّ الفعل الحادث في أوّل أحوال وجوده يسمّى فعل الحال؛ فإن تقضّى وعدم صار ماضيا، والفعل المستقبل هو المنتظر المتوقّع الّذي هو الآن معدوم. فإن فرضنا أنّ الفعل الحادث - الّذي فرضنا أنّه متى تقضّى وعدم صار ماضيا - بقي ولم يتقضّ؛ إما على مذهب من يقطع على بقاء الأعراض، أو على مذهب من يتوقّف عن القطع فيها على بقاء أو فناء؛ فالواجب أن يكون استمراره(١) لا يخرجه من استحقاق الوصف بأنه فعل الحال؛ لأنّ من هو عليه لم يتغير الحال التي وجبت له عنه؛ ولا خرج عنها.

ألا ترى أنّا لو فرضنا أنه تقضّى وعدم، وخلفه مثل له لكان ذلك الخالف له يستحقّ الوصف بأنه للحال؛ وكذلك ما قام مقامه؛ وأوجب مثل ما يوجبه، لأنه لا فرق في التّسمية للجلوس بأنه فعل حال؛ بين أن يكون المفتتح بالحدوث من أجزاء الجلوس بقي واستمرّ؛ وبين أن يكون تجدّد أمثاله؛ والأول باق أو معدوم بعد أن تكون الحالة المخصوصة ما تغيّرت ولا تبدّلت؛ ولا فرق أيضا بين أن يكون ذلك الفعل يوجب حالا مخصوصة كالألوان، أو حكما مخصوصا كالاعتمادات وما أشبهها؛ في أن الّذي أتت فيه ولم تخرج عنه هو المنعوت بأنه فعل الحال، وما خرجت عنه فهو الماضي.

____________________

(١) حاشية ط: (قوله: استمراره، أي الحادث).

٢٩٤

فإن قيل: كيف قولكم فيما مضى وتقضّى من الأفعال ووصفتموه بأنه ماض لتقضّيه وعدمه؛ أيجوز أن يكون مستقبلا على وجه من الوجوه، أو لا يكون من الأفعال مستقبلا إلاّ ما لم يدخل في الوجود قطّ؟

قلنا: أمّا ما عدم وتقضّى من الأعراض المقطوع على أنها غير باقية في نفوسها، كالإرادات(١) والأصوات وما أشبه ذلك؛ فلا شبهة في أنّ الماضي منه لا يصحّ أن يكون مستقبلا من فعل قديم أو محدث.

فأما(٢) ما يبقى من أجناس الأعراض عند من قطع على بقائها، أو شكّ في حالها بين جواز البقاء عليها ونفيه فنحن لا نقدر على إعادته؛ والقديم تعالى قادر على إعادته إلى الوجود؛ فهذا الضّرب من فعله تعالى لا يمتنع تسميته بأنه مستقبل، لأنه متوقّع منتظر.

فأما الجواهر المعدومة فلا شبهة في أنّها ماضية من حيث عدمت، ومستقبلة من حيث كان وجودها مستأنفا متوقّعا؛ لأنّ الله تعالى لا بدّ من أن يعيد المكلّفين للثواب أو العقاب، والمكلّف إنما هو مؤلّف من الجواهر.

فإن قيل: هذا يقتضي أن يجتمع في الشيء الواحد أن يكون ماضيا مستقبلا؛ وهذا كالمتناقض.

قلنا: لا تناقض في ذلك؛ لأن الجوهر الماضي يستحق الوصف بأنه ماض إذا عدم، وكذلك العرض الماضي من أفعال الله تعالى إذا عدم؛ وإن جاز من حيث صحّ وجود ذلك مستأنفا أن يوصف بأنه مستقبل، لأن معنى المستقبل هو المعدوم الّذي يصح وجوده، فلا تنافي بين الأمرين.

ولو ثبت بينهما عرف في أنّهما لا يجتمعان - وذلك ليس بثابت - لجاز أن يجعل حدّ المستقبل هو المعدوم الّذي يصحّ وجوده مستقبلا؛ من غير أن يكون الوجود حصل(٣) له في حالة من الأحوال؛ فلا يلزم على ذلك أن يجتمع الوصفان في فعل واحد.

____________________

(١) ط: (كالإدراكات).

(٢) ط: (وأما).

(٣) ط. (مستحصل له).

٢٩٥

وقد كنّا قديما أملينا مسألة في تحقيق الفرق بين الفعل الحال والماضي والمستقبل؛ وهذا التلخيص الّذي ذكرناه هاهنا أشرح وأسبغ منها، وتكلمنا هناك على ما كان أبو عليّ الفارسي اعتمده وعوّل عليه؛ من قوله تعالى:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) [مريم: ٦٤]، وقول الشاعر:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم(١)

ومن طريقة أخرى في اعتبار تأثير الحروف في الأحوال المختلفة، واستوفينا الكلام على هذه الشبهة؛ فلا طائل في إعادة ذلك هاهنا؛ والجمع بين المسألتين يغني عنه، وما التوفيق إلا بالله تعالى.

____________________

(١) البيت لزهير بن ابي سلمى، ديوانه: ٢٩.

٢٩٦

مسألة

قال رضي الله عنه: لا معنى لقوله تعالى:( وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) ؛ [يونس: ٦١] على ما قاله النحويون: إنه للتأكيد؛ لما بيّنا أن التأكيد إذا لم يفد غير ما يفيده المؤكّد لم يصحّ، وقد علمنا بقوله تعالى: مِنْ قُرْآنٍ أنّه من جملة القرآن، فأي معنى لقوله مِنْهُ وتكراره!

قال رضي الله عنه: والصحيح أن معنى مِنْهُ أي من أجل الشّأن والقصة، مِنْ قُرْآنٍ؛ فيحمل على الشأن والقصّة ليفيد معنى آخر.

وقال أيضا في قوله تعالى:( قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ؛ [يونس: ٥٨]؛ قال: لا يجوز أن يحمل قوله:( فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) على ما تقدم من فضل الله ورحمته؛ ولا معنى له على ما يقوله النحويون إنّه للتأكيد؛ كما لا معنى لقول قائل:

زيد وعمرو لهما؛ يريد زيدا وعمرا؛ فالصحيح أن نقول في هذا: إن معناه: قل بفضل الله ومعونة الله ورحمته؛ لأنّ معونة الله وفضل الله ورحمته تؤثر في القول، ويقول: بفضل الله ومعونته يفرح، فيردّ قوله: بِفَضْلِ الله إلى القول، أي قل: بفضله ومعونته هذا القول؛ فإنّ بهذا القول ومعونته ورحمته يفرحون؛ فيكون قوله: فَبِذلِكَ راجعا إلى الفرح بالفضل والرحمة؛ حتى يكون قد أفاد كلّ واحد من اللفظين فائدة.

٢٩٧

مسألة

رسمت الحضرة العالية الوزيرية؛ أدام الله سلطانها، وأعلى أبدا شأنها ومكانها أن أذكر ما عندي في إدخال لفظة (كان) في كونه تعالى عالما في مواضع كثيرة من القرآن.

وقالت حرس الله عزّها: لفظة (كان) إذا كانت للماضي؛ فكيف دخلت على ما هو ثابت في الحال ومستمرّ دائم! وما الوجه في حسن ذلك؟

والجواب المزيل للشّبهة أنّ الكلام قد تدخله الحقيقة والمجاز؛ ويحذف بعضه وإن كان مرادا، ويختصر حتى يفسّر؛ ولو بسط لكان طويلا. وفي هذه الوجوه التي ذكرناها تظهر فصاحته، وتقوى بلاغته؛ وكلّ كلام خلا من مجاز وحذف واختصار واقتصار بعد عن الفصاحة، وخرج عن قانون البلاغة. والأدلّة لا يجوز فيها مجاز، ولا ما يخالف الحقيقة؛ وهي القاضية على الكلام، والتي يجب بناؤه عليها؛ والفروع أبدا تبنى على الأصول.

فإذا ورد عن الله تعالى كلام ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول وجب صرفه عن ظاهره - إن كان له ظاهر - وحمله على ما يوافق الأدلة العقلية ويطابقها؛ ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه، أو ما لا يجوز عليه تعالى.

ولو سلّمنا تبرّعا وتطوّعا أن دخول (كان) على العلم أو القدرة يقتضي ظاهرها الماضي دون المستقبل لحملنا ذلك على أنّ المراد به الأحوال كلّها؛ لأنّ الأدلة العقلية تقضي على ما يطلق من الكلام، ولا يقضي الكلام على الأدلة.

غير أنّا نبيّن أنّ دخول (كان) على العلم أو القدرة لا يقتضي ظاهرها الاختصاص بالماضي دون المستقبل؛ فإنّ لأهل العربية في ذلك مذهبا معروفا مشهورا؛ لأن أحدهم يقول: كنت العالم؛ وما كنت إلا عالما، وعليما خبيرا؛ وما كنت إلا الشجاع، وإلا الجواد؛ ويريدون بذلك كلّه الإخبار عن الأحوال كلّها؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ ولا يفهم من كلامهم سوى

٢٩٨

ذلك؛ وإذا كانت هذه عبارة عما ذكرناه فصيحة بليغة - والقرآن نزل بأفصح اللغات وأبلغها وأبرعها - وجب حمل لفظة (كان) إذا دخلت في كونه تعالى عالما وقادرا على ما ذكرنا.

ومما يستشهد به على ذلك قول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلّب بن أبي صفرة:

مات المغيرة بعد طول تعرّض

للقتل بين أسنّة وصفائح(١)

ألاّ ليالي فوقه بزّاته

يغشي الأسنة فوق نهد قارح!(٢)

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم المطي وكلّ طرف سابح(٣)

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

فقال في ميت قد مضى لسبيله: (فلقد يكون)، وإنما أراد: (فلقد كان)، فعبّر بيكون عن (كان) ؛ كذلك جاز أن يراد بلفظة (كان) الأحوال المستقبلة.

ووجه آخر وهو أنه تعالى لما أراد أن يخبر عن كونه عالما في الأحوال كلّها لم يجز أن يقول:

هو عالم في الحال أو في المستقبل؛ لأن ذلك لا ينبئ عن كونه عالما فيما مضى؛ فعدل عن ذلك إلى إدخال لفظة: (كان) الدالة على الأزمان الماضية كلها، ومن كان عالما فيما لم يزل من الأحوال فلا بدّ من كونه عالما لنفسه وذاته؛ لأن الصفات الواجبة فيما لم يزل لا تكون إلاّ نفسية، والصفات النفسية يجب ثبوتها في الأحوال كلّها: الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ فصار دخول (كان) في العلم أو القدرة مطابقا للغرض، وموجبا لثبوت هذه الصفة في جميع هذه الأحوال، وليس كذلك لو علّق العلم بالحال أو المستقبل؛ وهذا وجه جليل الموقع.

ووجه آجر وهو أنا إذا سلّمنا أن لفظة (كان) تختص الماضي ولا تتعدّاه لم يكن في

____________________

(١) من قصيدة عدتها ٥٧ بيتا؛ وهي في أمالي اليزيدي ١ - ٧، وأمالي القالي ٣: ٨ - ١١؛ وأبيات منها في معجم الأدباء ١١: ١٧٠ - ١٧١، والشعراء ٣٩٧.

(٢) البزات: جمع بزة؛ وهي السلاح؛ والنهد من الخيل: الجسيم المشرف. والقارع: الفرس إذا استتم الخامسة ودخل في السادسة.

(٣) الكوم: جمع كوماء؛ وهي الناقة العظيمة السنام. والطرف: الكريم من الخيل والسابح:

الفرس الّذي يسبح بيديه في سيره.

٢٩٩

إدخالها في العلم إلا أنه تعالى عالم فيما مضى من الأحوال؛ وهو كذلك لا محالة؛ اللهم إلا أن يدّعي أن تعليقها بالماضي يقتضي نفي كونه تعالى عالما في المستقبل؛ وليس الأمر على ذلك؛ لأن هذا قول بدليل الخطاب؛ وهو غير صحيح على ما بيّنا في مواضع من كتبنا؛ لأن تعليق الحكم بصفة أو اسم لا يدل على انتفائه مع انتفاء تلك الصفة أو الاسم، وبيّنا أن قوله عليه السلام: (في سائمة(١) الإبل الزكاة) لا يدل على أن العاملة(٢) والمعلوفة(٣) لا زكاة فيهما.

وقد يقول القائل: كان زيد عندي بالأمس، وإن كان عنده في الحال؛ وضربت من غلماني فلانا، وإن كان قد ضرب سواه، فكأنه تعالى - إذا سلّمنا هذا الأصل الّذي قد بينا أنه غير صحيح - أراد أن يثبت بهذا القول كونه تعالى عالما، فيما لم يزل؛ ووكلنا في أنه عز وجل عالم في جميع الأحوال إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ وإلى إخباره تعالى عن كونه عالما في سائر الأوقات بقوله عز وجل:( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: ١٠١]؛ وما شاكل ذلك من الألفاظ الدالة على الحال والاستقبال

____________________

(١) السائمة من الإبل: الراعية؛ يقال: سامت تسوم سوما، وأسمتها أنا.

(٢) العاملة: التي تعمل في الحرث والدياسة.

(٣) العلوفة والمعلوفة من الإبل: الناقة التي تعلف للسمن ولا ترسل للرعي.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392