تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء16%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150596 / تحميل: 5375
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

بحقّها ويكون تابعاً مخلصاً لها.

فعلم الفقه - إذن - هو : العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كلِّ واقعة، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده هو ( السلوك الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعاً مخلصاً لها وقائماً بحقّها )، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبِّر عنه ب-( عملية استنباط الحكم الشرعي ) .ولأجل هذا يمكن القول بأنّ علم الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط بتعبيرٍ آخر.

وتحديد الموقف العملي بدليلٍ يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف يتمّ في علم الفقه بأسلوبين:

أحدهما : الأسلوب غير المباشر، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الإنسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذي قرّرته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي، وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة.فنحن إذا أقمنا الدليل على أنّ الحكم الشرعي في واقعةٍ مّا هو الوجوب استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتِّم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها، وهو ( أن نفعل ).

والأسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو : الأسلوب المباشر الذي يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي ؛ لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الأسلوب الأوّل - بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرةً، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك، فلم ندرِ ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة ؟ أهو وجوب أو حرمة أو إباحة ؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الأسلوب الأوّل ؛ لعدم توفّر الدليل على نوع الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى

٢١

أدلّةٍ تحدّد الموقف العملي بصورةٍ مباشرةٍ وتوجّهنا كيف نفعل ونتصرّف في هذه الحالة ؟ وأيّ موقفٍ عمليٍّ نتّخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكّن من اكتشافه ؟ وما هو السلوك الذي تحتّم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحقّ التبعية ونكون تابعين مخلصين وغير مقصِّرين ؟

وفي كِلا الأسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه استنباط الحكم الشرعي، أي يحدّد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورةٍ غير مباشرةٍ أو مباشرة.

ويتّسع علم الفقه لعمليات استنباطٍ كثيرةٍ بقدر الوقائع والأحداث التي تزخر بها حياة الإنسان، فكلّ واقعةٍ لها عملية استنباطٍ لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الأسلوبين المتقدِّمين.

وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعدّدها وتنوّعها تشترك في عناصر موحّدةٍ وقواعد عامةٍ تدخل فيها على تعدّدها وتنوّعها، ويتشكّل من مجموع تلك العناصر المشتركة الأساس العام لعملية الاستنباط.

وقد تطلّبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علمٍ خاصٍّ بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الأصول.

تعريف علم الأصول :

وعلى هذا الأساس نرى أن يُعرَّف علم الأصول بأنّه :( العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ) .ولكي نستوعب هذا التعريف بفهمٍ يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ؟

ولنذكر لأجل ذلك نماذج بدائيةً من هذه العملية في صيغٍ مختصرة ؛ لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة

٢٢

في عملية الاستنباط.

أفرضوا أنّ فقيهاً واجه هذه الأسئلة :

١ - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء ؟

٢ - هل يجب على الشخص إذا ورث مالاً من أبيه أن يؤدّي خمسه ؟

٣ - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها ؟

وأراد الفقيه أن يجيب على هذه الأسئلة فإنّه سوف يجيب على السؤال الأول مثلاً : ( نعم، يحرم الارتماس على الصائم ).

ويستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية : قد دلّت رواية يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادقعليه‌السلام على حرمة الارتماس على الصائم، قد جاء فيها : أنّ الصادقعليه‌السلام قال : (لا يرتمس المحرِم في الماء ولا الصائم )(١) .والجملة بهذا التركيب تدلّ في العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورةٍ عامةٍ - على الحرمة، وراوي النصّ يعقوب بن شعيب ثقة، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً، ولكنّ الشارع أمرنا بعدم اتّهام الثقة بالخطأ والشذوذ، واعتبر روايته دليلاً وأمرنا باتّباعها، دون أن نُعِير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالاً.

والنتيجة هي : أنّ الارتماس حرام على الصائم، والمكلَّف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة.

ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي : لا يجب على الولد أن يدفع الخمسَ من تَرِكة أبيه ؛ لأنّ رواية علي بن مهزيار التي حدّد فيها الإمام الصادقعليه‌السلام نطاق الأموال التي يجب أداء الخمس منها ذكرت : أنّ الخمس ثابت في ( الميراث الذي لا يحتسب من غير أبٍ ولا ابن )(٢) .والعرف العامّ يفهم من

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٥٠٩، الباب ٥٨ من أبواب تروك الإحرام، الحديث ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٢، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث ٥.

٢٣

هذه الجملة أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل من الأب إلى ابنه، والراوي وإن كان من المحتمل وقوعه في خطأٍ أو شذوذٍ بالرغم من وثاقته، ولكنّ الشارع أمرنا باتّباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخطأ والشذوذ، فالمكلّف إذن غير ملزمٍ بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه.

ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالإيجاب : ( القهقهة تبطل الصلاة ) ؛ بدليل رواية زُرارة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة )(١) .والعرف العام يفهم من النقض أنّ الصلاة إذا وقعت فيها القهقهة اعتبرت لغواً ووجب استئنافها، وهذا يعني بطلانها.ورواية زُرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتّباعها وجعلها أدلّةً كاشفة، فيتحتّم على المصلِّي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته ؛ لأنّ ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلّبه الشريعة منه.

وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبوابٍ شتّى، فالحكم الأول يرتبط بالصوم والصائم، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الإسلام، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدّد بعض حدودها.

كما نرى أيضاً أنّ الأدلّة التي استند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب، وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زُرارة.ولكلٍّ من الروايات الثلاث نصّها وتركيبها اللفظي الخاصّ الذي يجب أن يدرس بدقّةٍ

____________________

(١) وسائل الشيعة ٧ : ٢٥٠، الباب ٧ من أبواب قواطع الصلاة، الحديث الأوّل.

٢٤

ويحدّد معناه، ولكن توجد في مقابل هذا التنوّع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعاً.

فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النصّ(١) ، فإنّ الفقيه اعتمد في فهمه للنصّ في كلّ موقفٍ على طريقة فهم العرف العام للنصّ، وذلك يعني أنّ العرف العام حجّة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ.وهذا ما يطلق عليه في علم الأصول اسم :( حجية الظهور ) (٢) ، فحجّية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث.

وكذلك أيضاً يوجد عنصر مشترك آخر، وهو أمر الشارع باتّباع روايات الثقات ؛ لأنّ الفقيه في كلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصّاً يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ والشذوذ ؛ لعدم كونه معصوماً، ولكنّه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه استناداً إلى أمر الشارع باتّباع روايات الثقات، وهو ما نطلق عليه اسم : ( حجّية الخبر ).ومعنى هذا أنّ حجّية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، ولولا هذا العنصر المشترك لَما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الأوّل، ولا عدم وجوب الخمس من رواية عليّ بن مهزيار في الموقف الثاني، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث.

____________________

(١) نريد بالنصّ هنا : الكلام المنقول عن المعصومعليه‌السلام ( المؤلّف قدس‌سره ).

(٢) الحجّية في مصطلح علم الأصول تعني : كون الدليل صالحاً لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، ولاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخلّص من العقاب إذا عمل به.فكلّ دليلٍ له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجّةً في المصطلح الأصولي، وظهور كلام المولى من هذا القبيل، ولهذا يوصف بالحجّية( المؤلّف قدس‌سره ) .

٢٥

وهكذا نستنتج : أنّ عمليات الاستنباط للأحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصّة، كما تشتمل على عناصر مشتركة، ونعني بالعناصر الخاصّة : تلك العناصر التي تتغيّر من مسألةٍ إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاصّ في عملية استنباط حرمة الارتماس ؛ لأنّها لم تدخل في عمليات الاستنباط الأخرى، بل دخل بدلاً عنها عناصر خاصّة أخرى، كرواية عليّ بن مهزيار ورواية زُرارة.

ونعني بالعناصر المشتركة : القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكامٍ عديدةٍ على مواضيع مختلفة، كعنصر حجّية الظهور، وعنصر حجّية الخبر.

وفي علم الأصول تُدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألةٍ فقهيةٍ خاصّةٍ بالذات.وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة بكلّ عمليةٍ من عمليات الاستنباط في المسألة التى ترتبط بتلك العملية.

وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألةٍ أن يفحص بدقّةٍ الروايات الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات، ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام.بينما يتناول الأصولي البحث عن حجّية العرف العام بالذات والبحث عن حجّية الخبر، ويطرح أسئلة ليجيب عليها، من هذا القبيل : هل العرف العام حجّة ؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام ؟ وبأيِّ دليلٍ نثبت حجّية الخبر ؟ وما هي الشروط العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجّية واعتبره دليلاً ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتّصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الأصول، إذ

٢٦

قلنا : إنّ علم الأصول :( هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط ) ، أي أنّه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباطٍ متعدّدةٍ لأحكام مواضيع متنوعة، كحجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر، العنصرين المشتركين اللذَين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة.

ولا يحدّد علم الأصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدّد أيضاً درجات استعمالها في عملية الاستنباط، والعلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث المقبلة - إن شاء الله تعالى -، وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العامّ الكامل.

ونستخلص من ذلك : أنّ علم الأصول وعلم الفقه مرتبطان معاً باستنباط الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، وعلم الأصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي بإضافة العناصر الخاصّة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدّها من علم الأصول.والأصولي يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.

موضوع علم الأصول :

لكلِّ علمٍ - عادةً - موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله، وتستهدف الكشف عمّا يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين، فالفيزياء - مثلاً - موضوعها الطبيعة، وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالتها وقوانينها العامة.والنحو موضوعه الكلمة ؛ لأنّه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها، فما هو موضوع علم الأصول الذي يتوفّر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله ؟

٢٧

ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدّمناه لعلم الأُصول استطعنا أن نعرف أنّ علم الأُصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه، وتتعلّق بحوثه كلّها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة، وعلى هذا الأساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الأصول باعتباره علماً يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية، من قبيل حجّية الظهور العرفي وحجّية الخبر.

علم الأصول منطق الفقه :

ولا بدّ أنّ معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثالٍ لعلم الأصول، فإنّ علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي، ويحدّد النظام العام الذي يجب أن تتّبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليماً.مثلاً : يعلّمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكيرٍ لكي يكون الاستدلال صحيحاً ؟ كيف نستدلّ على أنّ سقراط فانٍ ؟ وكيف نستدلّ على أنّ نار الموقد الموضوع أمامي محرقة ؟ وكيف نستدلّ على أنّ مجموع زوايا المثلّث تساوي قائمتين ؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخطّ الممتدّ بدون نهايةٍ مستحيل ؟ وكيف نستدلّ على أنّ الخسوف ينتج عن توسّط الأرض بين الشمس والقمر ؟

كلّ هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال، كالقياس والاستقراء التي تطبّق في مختلف هذه الحقول من المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقاً، إذ يضع المناهج والعناصر العامة فيها.

وعلم الأصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنّه يبحث عن نوعٍ خاصٍّ من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الأحكام ،

٢٨

ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط، وتتكيّف وفقاً لها لكي يكون الاستنباط سليماً والفقيه موفّقاً في استنتاجه.فهو يعلّمنا : كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم ؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكرّ ؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد ؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه ؟ كلّ هذا يوضّحه علم الأصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة.

وعلى هذا الأساس قد نطلق على علم الأصول اسم ( منطق علم الفقه ) ؛ لأنّه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دوراً إيجابياً مماثلاً للدور الإيجابي الذي يؤدّيه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورةٍ عامة، فهو على هذا الأساس( منطق علم الفقه ) ، أو ( منطق عملية الاستنباط) بتعبيرٍ آخر.

ونستخلص من ذلك كلّه : أنّ علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط، وعلم الأصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.

أهمّية علم الأصول في عملية الاستنباط :

ولسنا بعد ذلك بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمّية علم الأصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط ؛ لأنّه ما دام يقدِّم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجّهة، وبدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسانٍ يواجه أدوات النجارة

٢٩

ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدوات دون أن يملك أفكاراً عامةً عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.

وكما أنّ العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الأصول ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى أخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكِّل العناصر الخاصّة والمتغيّرة في علمية الاستنباط، فإنّها الجزء الضروريّ الآخر فيها الذي لا تتمّ العملية بدونه، ولا يكفي في إنجاحها مجرّد الاطّلاع على العناصر المشتركة التي يمثّلها علم الأصول واستيعابها.

ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطّلاع الأصولي فحسب نظير من يملك معلوماتٍ نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما إليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن صنع سريرٍ خشبيٍّ - مثلاً - فكذلك يعجز الأصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصر الخاصّة المتغيّرة.

وهكذا نعرف أنّ العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط، ولا غنى للعملية عنهما معاً، ولهذا يتحتّم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة ويحدّدها في علم الأصول، ثمّ يضيف إليها في بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة لتكتمل لدية عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه.

الأصول والفقه يمثّلان النظرية والتطبيق :

ونخشى أن نكون قد أوحينا إليكم بتصوّرٍ خاطئ حين قلنا : إنّ المستنبط يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحدّدها، ويتناول في بحوث علم

٣٠

الفقه العناصر الخاصّة ليكمل بذلك عملية الاستنباط ؛ إذ قد يَتصوّر البعض أنّا إذا درسنا في علم الأصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعرفنا - مثلاً - حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي وما إليهما من العناصر الأصولية، فلا يبقى علينا بعد ذلك أيّ جهدٍ علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلاّ إلى مجرّد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها، نظير مَن يستخرج تأريخ غزوة خبير أو روايات الهجرة من تأريخ السيرة النبوية، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصراً على مجرّد التفتيش عن العناصر الخاصّة من الروايات والنصوص ؛ لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهدٍ علمي، ونتيجة ذلك أنّ الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثّل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الأصول، لا في جمع العناصر الخاصّة من النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه.

ولكنّ هذا التصوّر خاطئ إلى درجةٍ كبيرة ؛ لأنّ المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحدّدها في علم الأصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصّة.والتطبيق مهمّة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درسٍ وتمحيص، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصولياً في دراسة العناصر المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق.

ولا نستطيع الآن أن نضرب الأمثلة المتنوّعة لتوضيح دقّة التطبيق ؛ لأنّ فهم الأمثلة يتوقّف على اطّلاعٍ مسبقٍ على النظريات الأصولية العامة.ولهذا نكتفي بمثالٍ واحدٍ بسيط، فنفرض أنّ المجتهد آمن في علم الأصول بحجّية الظهور

٣١

العرفي بوصفه عنصراً مشتركاً في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع إصبعه على رواية عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس - مثلاً -، ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب ؟ أَوَ ليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأماراتٍ داخل إطار النصّ أو خارجه ؛ لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي ؟!

فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك والإيمان بحجّية الظهور مشكلة تعيين نوع الظهور في النصّ ودراسة جميع ملابساته، حتّى إذا تأكّد المجتهد من تعيين الظهور في النصّ ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث طبّق على النصّ النظرية العامة التي يقرّرها العنصر المشترك القائل بحجّية الظهور العرفي، واستنتج من ذلك أنّ الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس.

وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهي عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقرّرها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وتطبيق النظريات العامة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته، ومجرّد الدقّة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها.ألا ترون أنّ مَن يدرس بعمقٍ النظريات العامة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مَرَضيةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه ؟!

فالبحث الأصولي عن العناصر المشتركة وما تقرّره من نظرياتٍ عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطبّ، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصّة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض

٣٢

في مجال تطبيق النظريات العامة في الطبّ عليه، وكما قد يحتاج الطبيب إلى قدرٍ كبيرٍ من الدقّة والجهد لكي يوفَّق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقاً صحيحاً يمكِّنه من شفائه، فكذلك الفقه بعد أن يخرج من دراسة علم الأصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه مسألةً في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما فهو يحتاج أيضاً إلى دقّةٍ وتفكيرٍ في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصّة بالمسألة تطبيقاً صحيحاً.

وهكذا نعرف أنّ علم الأصول الذي يمثّل العناصر المشتركة هو( علم النظريات العامة ) ، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصّة هو( علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصّة ) ، ولكلٍّ منهما دقّته وجهده العلمي الخاصّ.

واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصّة، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، والدقّة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقّة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط.

وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمّية التطبيق الفقهي وما يتطلّبه من دقّة، إذ كتب في قواعده يقول : ( نعم، يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات العامة - أن تكون له قوة يتمكّن بها من ردِّ الفروع إلى أصولها واستنباطها منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب...وإنّما تلك القوّة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخلٌ عظيم في تحصيلها )(١) .

____________________

(١) هذه العبارة جاءت نصّاً في الروضة البهيّة ٣ : ٦٦، ولم نعثر عليها في كتابيه فوائد القواعد وتمهيد القواعد.

٣٣

التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي :

عرفنا أنّ علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، والعلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق ؛ لأنّ علم الأصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصّة التي تختلف من مسألةٍ إلى أخرى.

وهذا الترابط الوثيق بين علم الأصول وعلم الفقه يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الأصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحيةٍ أخرى ؛ لأنّ توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامة لحلولها.كما أنّ دقّة البحث في النظريات تنعكس على صعيد التطبيق، إذ كلّما كانت النظريات أدقَّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقةً وعمقاً واستيعاباً أكبر.

وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيّتين والمستويين الفكريّين لعلم الأصول وعلم الفقه يؤكّده تأريخ العِلمين على طول الخطّ، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مرّ بها البحث الفقهي والبحث الأصولي في تأريخ العلم.فقد كان علم الأصول يتّسع ويُثري تدريجاً تبعاً لتوسّع البحث الفقهي ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة، وتتّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الأصول.

كما أنّ تدقيق العناصر المشتركة في علم الأصول وتحديد حدودها بشكلٍ صارمٍ كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلّما كانت النظريات العامة موضوعةً

٣٤

في صيغٍ أكثر صرامةً وبدقّةٍ أكبر، كانت أكثر غموضاً وتطلّبت في مجال التطبيق التفاتاً أكبر وانتباهاً أكمل.

ولا نستطيع الآن - ونحن في الحلقة الأولى - أن نقدِّم النماذج من العِلمين على هذا التفاعل ؛ لأنّ الطالب لا يملك حتّى الآن خبرةً واسعةً ببحوث علم الأصول، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أنّ التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الأصولي هو مصداق لخطٍّ عريضٍ يعبِّر عن التفاعل المتبادل في كثيرٍ من الأحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها.

أَوَ ليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مَرضاهُ في نطاقٍ واسعٍ يوحي إليه بمشاكل جديدةٍ باستمرار، فيتولّى بحث النظريات العامة العلمية في الطبّ حلّ تلك المشاكل، ويتعمّق تدريجاً وينعكس بالتالي على التطبيق ؟! إذ كلّما ازداد الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملاً واسعاً.وكلّنا نعلم أنّ طبيب الأمس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات، بينما يظلّ طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عمليةٍ معقّدةٍ واسعةِ النطاق.

ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الأصولي - الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه - نجدها بين الفكر العلمي إطلاقاً والفكر المنطقي العام الذي يدرس النظام الأساسي للتفكير البشري، إذ كلّما اتّسع نطاق المعرفة البشرية وتنوّعت مجالاتها تجدّدت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر، فيتولّى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري.

وعلى أيِّ حالٍ فإنّ فكرة التفاعل هذه - سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاصّ المتمثّل في الأصول، أو بين العلوم كلّها ومنطقها العام، أو بين بحث أيِّ

٣٥

نظريةٍ وبحث تطبيقها - تحتاج إلى توضيحٍ وشرحٍ أوسع.ولا نستهدف الآن من الإشارة إلى الفكرة إلاّ أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الإجمال.

نماذج من الأسئلة التي يجيب عليها علم الأصول :

ويحسن بنا أن نقدِّم قائمةً تشتمل على نماذج من الأسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الأصول ؛ لنجسِّد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرةً ببحوث هذا العلم أهمّية الدور الذي يلعبه علم الأصول في عملية الاستنباط :

١ - ما هو الدليل على حجّية خبر الثقة ؟

٢ - لماذا يجب أن نفسِّر النصّ الشرعي على ضوء العرف العام ؟

٣ - ماذا نصنع في مسألةٍ إذا لم نجد فيها دليلاً يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها ؟

٤ - ما هي قيمة الأكثرية في المسألة الفقهية ؟ وهل يكتسب الرأي طابعاً شرعياً ملزماً بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عدداً ؟

٥ - كيف نتصرّف إذا واجهنا نصَّين لا يتّفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر ؟

٦ - ما هو الموقف إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ شرعيٍّ معيَّنٍ ثمّ شككنا في استمراره ؟

٧ - ما هي الألفاط التي تدلّ مباشرةً على الوجوب والإلزام ؟ وهل يعتبر منها فعل الأمر، من قبيل : ( اغتسل )، ( توضّأ )، ( صلِّ ) ؟

إلى عشراتٍ من الأسئلة التي يتولّى علم الأصول الجواب عليها، ويحدّد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويملأ كلّ الثغرات التي يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.

٣٦

جواز عمليّة الاستنباط

في ضوء ما تقدّم عرفنا أنّ علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط ؛ لأنّه يشتمل على عناصرها المشتركة، ويمدّها بقواعدها العامة ونظامها الشامل، ولهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الأصول.

وما دام علم الأصول مرتبطاً بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كلّ شئٍ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها، أوْ لا ؟ فإن كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم ( علم الأصول ) لدارسة عناصرها المشتركة، وأمّا إذا كان الشارع قد حرّمها فيلغو الاستنباط، وبالتالي يلغو علم الأصول رأساً ؛ لأنّ هذا العلم إنّما وُضِع للتمكين من الاستنباط، فحيث لا استنباط لا توجد حاجة إلى علم الأصول ؛ لأنّه يفقد بذلك مبرّرات وجوده، فلا بدّ - إذن - أن تُدرس هذه النقطة بصورةٍ أساسية.

والحقيقة : أنّ هذه النقطة - أي مسألة جواز الاستنباط - حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنّها جديرة بالتأمّل والبحث العلمي ؛ لأنّنا حين نتساءل : هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط، أوْ لا ؟ يجيء الجواب على البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط هي - كما عرفنا سابقاً - عبارة عن ( تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً

٣٧

استدلالياً )، ومن البديهي أنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العملي تحديداً استدلالياً، ويحجر عليهم النظر في الأدلّة التي تحدّد موقفهم تجاه الشريعة، فعلمية الاستنباط إذن ليست جائزةٍ فحسب، بل من الضروري أن تمارس.وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.

ولكن لسوء الحظ اتّفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغةً أخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش، فأصبحت مثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش، فقد استخدمت كلمة( الاجتهاد) للتعبير عن عملية الاستنباط، وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة، أوْ لا ؟ وحينما دخلت كلمة( الاجتهاد ) في السؤال - وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها - أدّت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن تقدَّم جماعة من علمائنا المحدثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، وبالتالي ليشجبوا علم الأصول كلّه ؛ لأنه إنّما يراد لأجل الاجتهاد، فإذا ألغي الاجتهاد لم تعدْ حاجة إلى علم الأصول.

وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة( الاجتهاد ) ؛ لكي نتبيّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي أثيرت ضدّها لم يكن إلاّ نتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي، وغفلة عن التطوّرات التي مرّت بها كلمة( الاجتهاد ) في تأريخ العلم.

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو ( بذل الوسع للقيام بعملٍ ما )، وقد استعملت هذه الكلمة - لأوّل مرّة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قرّرتها بعض مدراس الفقه السنّي وسارت على أساسها، وهي القاعدة القائلة : ( إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدلّ

٣٨

عليه في الكتاب أو السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ ).

والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبّر عنه بالرأي أيضاً.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما أنّ الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدل بهما، كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى الاجتهاد الشخصي ويستدلّ به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضةٍ شديدةٍ منّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم، كما سنرى في البحث المقبل.

وتَتَبُّع كلمة( الاجتهاد ) يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة إلى القرن السابع، فالروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تذمّ الاجتهاد(١) ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتّخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة( الاجتهاد ) غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً أسماه ( الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس ) وصنّف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني(٢) كتاباً في الموضوع باسم كتاب ( الردّ على من ردَّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول )(٣) ، وصنّف، في عصر

____________________

(١) راجع : وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) في المصدر : ( الدُّلفي ) بدلاً عن ( المدني ).

(٣) في المصدر : ( واعتمد نتائج العقول ) بدون كلمة ( على ).

٣٩

الغيبة الصغرى أو قريباً منه، إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نصّ على ذلك كلّه النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كلّ واحدٍ من هؤلاء(١) .

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له - على سبيل المثال - تعقيبه في كتابه على قصّة موسى والخضر، إذ كتب يقول : ( إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ،... فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم من الأُمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك...فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الأمّة لاختيار الإمام ؟ وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ؟ )(٢) .

وفي أواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبّر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر، ويكتب كتاباً في ذلك باسم ( النقص على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي )(٣) .

ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ويقول : ( إنّ الاجتهاد باطل، وإنّ الإمامية لا يجور عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد )(٤) .وكتب في كتابه الفقهي

____________________-

(١) رجال النجاشي : ٣١، الرقم ٦٨ و ٢٢٠ الرقم ٥٧٥ و ٤٤٠ الرقم ١١٨٦.

(٢) علل الشرائع : ٦٢، الباب ٥٤، ذيل الحديث ١ و ٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٣) ذكره النجاشي في رجاله : ٤٠٢، الرقم ١٠٦٧.

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٣٦ و ٦٤٦، ولم نقف على العبارة نصّاً، ونسب صدر هذه العبارة المحقّق الإصفهاني في هداية المسترشدين ( ص ٤٨٢، س ٨ ) إلى السيد المرتضىقدس‌سره .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

العين السليمة إذا دفعها الملتقط ؛ لأنّ ما خرج عن ملكه تغيّر عمّا كان(١) .

وحينئذٍ هو بالخيار بين البدل والعين الناقصة إمّا مع الأرش - كما ذهبنا إليه وإمّا بدونه ، كما قاله بعض الشافعيّة(٢) .

مسألة ٣٦٤ : إذا كانت اللّقطة موجودةً وكتمها الملتقط ولم يُعرّفها ثمّ ظهر المالك ، كان له أخذها لا غير ؛ لأصالة براءة الذمّة ، والملتقط لم تشتغل ذمّته إلّا بعين اللّقطة ، فلا يجب عليه ردّ ما عداها.

وقد روى صفوان الجمّال عن الصادقعليه‌السلام أنّه سمعه يقول : « مَنْ وجد ضالّةً فلم يُعرّفها ثمّ وجدت عنده فإنّها لربّها ومثلها من مال الذي كتمها »(٣) .

وهو مناسب لقول أحمد في الغنيمة : إنّ مَنْ غلّ منها شيئاً وجب عليه ردّها ومثله(٤) .

والرواية محمولة على الاستحباب ، أو على أنّه قد مضى من الزمان الذي بقيت في يده ما تكون أُجرته مساويةً لها ، فيجب عليه أداء ذلك إذا كان مالكها قد طلبها وكَتَمها عنه.

مسألة ٣٦٥ : لو وجد اللّقطةَ اثنان فالتقطاها معاً دفعةً ، وجب عليهما معاً تعريفها حولاً.

والأقرب : الاكتفاء بتعريف أحدهما إذا فَعَل ما يجب في التعريف ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّه لا يجب على الملتقط مباشرة التعريف ، بل له أن يُعرّفها بنفسه وبغيره.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٩.

(٣) الكافي ٥ : ١٤١ / ١٧ ، الفقيه ٣ : ١٨٧ / ٨٤٣ ، التهذيب ٦ : ٣٩٣ / ١١٨٠.

(٤) المغني ١٠ : ٥٢٦ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٢٧.

٢٦١

إذا عرفت هذا ، فإن عرّفاها حولاً وقلنا : إنّ الملتقط يملك ملكاً قهريّاً ، مَلَكاها معاً بحئول الحول ، وليس لأحدهما نقل حقّه إلى صاحبه ، إلّا بسببٍ ناقلٍ من هبةٍ أو غيرها ، كما لو ورثا معاً مالاً ، وكما أنّه ليس للملتقط نقل حقّه إلى غيره.

وإن قلنا : لا يملك الملتقط إلّا باختياره لو اختارا معاً تملّكها ، مَلَكاها. ولو اختارا حفظها وعدم تملّكها ، لم يملكها أحدهما ، وكانت أمانةً في أيديهما. ولو اختلفا فاختار أحدهما التملّك دون الآخَر ، مَلَك المختار نصفها دون الآخَر.

ولو رأياها معاً فبادر أحدهما فأخذها أو رآها أحدهما فأعلم بها الآخَر فأخذها ، فهي للآخذ خاصّةً ؛ لأنّ استحقاق اللّقطة بالأخذ ؛ لا بالرؤية ، كالاصطياد والاحتطاب.

ولو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه وقال له : هاتها ، أو أعطني إيّاها ، أو ارفعها إلَيَّ ، فإن أخذها المأمور لنفسه ، فهي له دون الآمر ؛ لوجود سبب الملك في حقّه ، دون صاحبه ، وإن أخذها للآمر أو لنفسه وللآمر ، بُني على جواز التوكيل في الاصطياد ونحوه ، إن سوّغنا التوكيل عُمل بمقتضى نيّة الآخذ ، وإلّا كانت للآخذ خاصّةً.

ولو تنازعا في لقطةٍ(١) ، فادّعى كلٌّ منهما أنّه الذي التقطها دون صاحبه وأقام كلٌّ منهما بيّنةً ، فإن شهدت إحداهما بالسبق حُكم له ، وإلّا حُكم بها للخارج عندنا ، وللداخل عند الشافعي(٢) .

مسألة ٣٦٦ : لو ضاعت اللّقطة عن ملتقطها بغير تفريطٍ منه ، فلا ضمان‌

____________________

(١) في النُّسَخ الخطّيّة : « اللّقطة ».

(٢) راجع : العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٤ ، وروضة الطالبين ٤ : ٤٧٩.

٢٦٢

عليه ؛ لأنّها أمانة في يده ، وكما لو تلفت في يده ، فأشبهت الوديعة.

فإن التقطها آخَر فعرف أنّها ضاعت من الأوّل ، فعليه ردّها إليه ؛ لأنّه قد ثبت له حقّ التموّل وولاية التعريف والحفظ ، فلا يزول ذلك بالضياع ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّ الثاني أحقّ بها(١) .

وليس بجيّدٍ.

ولو لم يعلم الثاني بالحال حتى عرّفها حولاً ، مَلَكها الثاني ؛ لأنّ سبب الملك وُجد منه من غير عدوانٍ ، فيثبت الملك فيه ، كالأوّل ، ولا يملك الأوّل انتزاعها ؛ لأنّ الملك مقدَّم على حقّ التملّك ، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني ، وليس له مطالبة الأوّل ؛ لأنّه لم يفرّط.

ولو علم الثاني بالأوّل فردّها إليه فامتنع من أخذها وقال : عرِّفها أنت ، فعرَّفها ، مَلَكها أيضاً ؛ لأنّ الأوّل ترك حقّ اليد وولاية التعريف ، فسقط.

وإن قال : عرِّفها ويكون ملكها لي ، ففَعَل ، فهو مستنيب له في التعريف ، ويملكها الأوّل ؛ لأنّه وكّله في التعريف ، فصحّ ، كما لو كانت في يد الأوّل.

وإن قال : عرِّفها وتكون بيننا ، صحّ أيضاً ، وكانت بينهما ؛ لأنّه أسقط حقّه من نصفها ، ووكّله في الباقي.

ولو قصد الثاني بالتعريف تملّكها لنفسه دون الأوّل ، احتُمل أن يملكها الثاني ؛ لأنّ سبب الملك وُجد منه ، فمَلَكها ، كما لو أذن له الأوّل وعرَّفها لنفسه ، وأن لا يملكها الثاني ؛ لأنّ ولاية التعريف للأوّل ، فأشبه ما‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٤ - ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٠.

٢٦٣

لو غصبها من الملتقط غاصب فعرّفها.

وكذا الحكم إذا علم الثاني بالأوّل فعرّفها ولم يُعلِمْه بها ، وهذا يشبه المحجّر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير إذنه.

فأمّا إن غصبها غاصب من الملتقط فعرّفها لم يملكها ؛ لأنّه متعدٍّ بأخذها ، ولم يوجد منه سبب تملّكها ، فإنّ الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه ، بخلاف ما لو التقطها اثنان ، فإنّه وُجد منه الالتقاط والتعريف.

ولو دفعها الثاني إلى الأوّل فامتنع الأوّل من أخذها فمَلَكها الثاني وأتلفها أو تلفت بعد تملّكه مطلقاً أو قبله بالتفريط فجاء المالك فطلبها ، تخيّر في الرجوع على مَنْ شاء منهما.

أمّا الأوّل : فلتمكّنه من أخذ مال الغير الذي استولى عليه ، فكان كالدافع لها إلى الغير ، لكن يستقرّ الضمان على الثاني.

وأمّا الثاني : فلأنّ التلف في يده.

ولو تملّكها الأوّل بعد التعريف حولاً ثمّ ضاعت منه فالتقطها الثاني فعرّفها حولاً ومَلَكها ثمّ جاء المالك ، فإن قلنا : له الرجوع في العين ، كان له مطالبة مَنْ شاء منهما ، ويستقرّ الضمان على الثاني ، وإن قلنا : لا حقّ له في العين ، فالأقوى : إنّه ليس له مطالبة الثاني ، بل الأوّل خاصّةً ، وللأوّل الرجوع على الثاني.

فروع :

أ - لو رأى شيئاً مطروحاً على الأرض فدفعه برِجْله ليعرف جنسه أو قدره ثمّ لم يأخذه حتى ضاع ، قال بعض الشافعيّة : لا يضمنه ؛ لأنّه‌

٢٦٤

لم يحصل في يده(١) .

وفيه نظر.

ب - لو دفع اللّقطة إلى الحاكم وترك التعريف والتملّك ثمّ ندم وأراد أن يُعرّف ويتملّك ، كان له ذلك ، ويُمكّنه الحاكم منه.

وللشافعيّة وجهان(٢) .

ج - لو وجد خمراً أراقها صاحبها ، لم يلزمه تعريفها ؛ لأنّ إراقتها مستحقّة.

فإن صارت عنده خَلاًّ ، مَلَكها ؛ لأنّ الأوّل أسقط حقّه منها ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لمَنْ أراقها ، كما لو غصبها فصارت خَلاًّ عنده(٣) .

والفرق : إنّها في الغصب مأخوذة بغير رضا صاحبها ، وفي المتنازع قد أسقط صاحبها حقّه منها.

وهذا البحث يستمرّ في الخمر المحترمة خاصّةً ، فالقول حينئذٍ بأنّ إراقتها مستحقّة ممنوع.

أمّا في الابتداء فظاهر.

وأمّا عند الوجدان فكذلك ينبغي أن يجوز إمساكها إذا خلا عن قصدٍ فاسد.

ثمّ هذا الحكم مخصوص بما إذا أراقها ؛ لأنّه بالإراقة مُعرض عنها ، فيكون كما لو أعرض عن جلد ميتةٍ فدبغه غيره.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٠.

٢٦٥

وفيه للشافعيّة وجهان(١) .

وأمّا إذا ضاعت الخمر المحترمة من صاحبها ، فلتُعَّرف ، كالكلب.

مسألة ٣٦٧ : وإنّما يجب الدفع إلى المالك ، فإذا جاء مَنْ يدّعيها ، فإن لم يُقِمْ بيّنةً بها ولا وَصَفها ، لم تُدفع إليه ، إلّا أن يعلم الملتقط أنّها له ، فيجب عليه دفعها إليه.

وإن أقام البيّنة ، رُدّت عليه.

وإن لم تكن هناك بيّنة ولكن وَصَفها بصفاتها الخاصّة التي تخفى عن غير المالك ، فإن لم يغلب على ظنّ الملتقط صدقه وأنّها له ، لم تُدفع إليه - وهو المشهور للشافعيّة(٢) - لأصالة عصمة مال الغير.

ولقولهعليه‌السلام : « البيّنة على المدّعي »(٣) .

وحكى الجويني وجهاً آخَر في جواز الدفع(٤) .

وقال مالك وأبو عبيد وداوُد وأحمد وابن المنذر : إذا عرف عفاصها ووكاءها وعددها ، وجب دفعها إليه ، سواء غلب على ظنّه صدقه أو لم يغلب(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٧.

(٣) جامع المسانيد - للخوارزمي - ٢ : ٢٧٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٢٦ / ١٣٤١ ، سنن الدارقطني ٤ : ١٥٧ / ٨ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٧٩ ، و ١٠ : ٢٥٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٧.

(٥) الاستذكار ٢٢ : ٣٣٩ / ٣٣١٠٧ ، التمهيد ٣ : ١٢٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٦ ، الذخيرة ٩ : ١١٧ ، المعونة ٢ : ١٢٦٣ ، المغني ٦ : ٣٦٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٨ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥٨ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٠ ، البيان ٧ : ٤٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢.

٢٦٦

وأمّا الشافعي وأبو حنيفة فإنّهما قالا : لا يُجبر على دفعها إلّا ببيّنةٍ(١) ، كما ذهبنا إليه.

ويجوز له دفعها إليه إذا غلب على ظنّه صدقه ، وبه قالا(٢) .

وقال أصحاب الرأي : إن شاء دفعها إليه ، وأخذ كفيلاً(٣) .

واحتجّ مالك وأحمد : بما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « فإن جاء أحد يُخبرك بعددها ووعائها ووكائها فادفعها إليه »(٤) .

قال ابن المنذر : هذا الثابت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبه أقول(٥) .

ولأنّ إقامة البيّنة بذلك تتعذّر(٦) في اللّقطة ، فاكتفي فيها بالوصف ،

____________________

(١) الأُم ٤ : ٦٦ ، مختصر المزني : ١٣٦ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، الوجيز ١ : ٢٥٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٤ ، البيان ٧ : ٤٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٧ ، مختصر القدوري : ١٣٥ - ١٣٦ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٥ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥٠ ، المغني ٦ : ٣٦٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٨ ، الاستذكار ٢٢ : ٣٣٩ - ٣٤٠ / ٣٣١١٤ و ٣٣١١٥ ، التمهيد ٣ : ١٢٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٣٠٦ ، الذخيرة ٩ : ١١٧ ، المعونة ٢ : ١٢٦٣ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥٨.

(٢) الأُم ٤ : ٦٦ ، مختصر المزني : ١٣٦ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، الوجيز ١ : ٢٥٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٤٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٤ ، البيان ٧ : ٤٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٧ ، مختصر القدوري : ١٣٦ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥٠ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٥٨ ، المغني ٦ : ٣٦٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٨ ، الاستذكار ٢٢ : ٣٣٩ - ٣٤٠ / ٣٣١١٤ و ٣٣١١٥.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٢ ، الاستذكار ٢٢ : ٣٤٠ / ٣٣١١٨ ، المغني ٦ : ٣٦٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٨.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ١٩٢ و ١٩٧.

(٥) المغني ٦ : ٣٦٣.

(٦) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « متعذّر ». والصحيح ما أثبتناه.

٢٦٧

ولهذا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الملتقط بمعرفة العفاص والوكاء(١) (٢) .

والمعتمد ما قلناه ؛ لأنّ وصف الوعاء لا يستحقّ به(٣) ، كالمغصوب ، وتعذّر إقامة البيّنة قائم في المغصوب والمسروق ، وذِكْرُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الصفاتِ ؛ لما قدّمناه من الفوائد ، لا للتسليم إلى مدّعيه بمجرّد ذكرها.

وإن غلب على ظنّ الملتقط صدق المدّعي الواصف لها ، جاز دفعها إليه ولا يجب - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أصحّ القولين(٤) - لما تقدّم من أنّه مُدّعٍ ، فيفتقر إلى البيّنة.

والوجه الثاني للشافعي : إنّه يجب دفعها ، وبه قال مالك وأحمد ؛ لأنّهم أوجبوا الدفع مع وصف العفاص والوعاء والعدد وإن لم يغلب على الظنّ الصدقُ ، فمعه أولى(٥) .

مسألة ٣٦٨ : ولا يكفي في وجوب الدفع الشاهدُ الواحد وإن كان عَدْلا ؛ لأنّ البيّنة لا تثبت به ، والأمر بالإشهاد وقع باثنين ، فلا يكفي الواحد ، والأصل عصمة مال الغير.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : الاكتفاء بالعَدْل الواحد ؛ لحصول الثقة بقوله(٦) .

ويحتمل عندي جواز الدفع إن حصل الظنّ ، كما لو حصل الظنّ بالوصف.

ولو قال الواصف : يلزمك تسليمها إلَيَّ ، فله أن يحلف أنّه لا يلزمه.

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٦٦ ، الهامش (١)

(٢) المغني ٦ : ٣٦٣ - ٣٦٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٨٨ - ٣٨٩.

(٣) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « بها ». والمثبت هو الصحيح.

(٤) راجع : الهامش ( ١ و ٢ ) من ص ٢٦٦.

(٥) راجع : الهامش (٥) من ص ٢٦٥.

(٦) الوسيط ٤ : ٢٩٩ ، الوجيز ١ : ٢٥٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢.

٢٦٨

ولو قال : تعلم أنّها ملكي ، حلف على نفي العلم ، فإن نكل حلف المدّعي ، وحُكم له به.

مسألة ٣٦٩ : إذا حضر طالب اللّقطة ووَصَفَها ولم يُقِم بيّنةً فدفعها الملتقط إليه ثمّ جاء آخَر وأقام البيّنة على أنّها له ، فإن كانت باقيةً انتُزعت منه ودُفعت إلى الثاني.

وإن تلفت عنده ، تخيّر المالك بين أن يُضمّن الملتقطَ ؛ لأنّه حالَ بين المالك وملكه بدفعه إلى غيره ، أو الواصفَ ؛ لفساد القبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) .

فإن ضمّن الواصفَ ، لم يرجع على الملتقط ؛ لأنّ التلف وقع في يده ، ولأنّ الثاني ظالم بزعمه ، فلا يرجع على غير ظالمه ، وإن ضمّن الملتقطَ رجع إن لم يُقرّ للواصف بالملك ، وإن أقرّ لم يرجع ؛ مؤاخذةً له بقوله.

وقال بعض أصحاب مالك ، وأبو عبيد : إنّه لا يضمن الملتقط ؛ لأنّه فَعَل ما أُمر به ، وهو أمين غير مفرّطٍ ولا مقصّرٍ ، فلم يضمن ، كما لو دفعها بأمر الحاكم [ و ](٢) لأنّ الدفع واجب عليه ، فصار الدفع بغير اختياره ، فلم يضمنه ، كما لو أُكره(٣) .

هذا إذا دفع بنفسه ، وأمّا إذا ألزمه الحاكم الدفع إلى الواصف ، لم يكن لمقيم البيّنة تضمينه ؛ لأنّها مأخوذة منه على سبيل القهر ، فلم يضمنها ، كما‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، البيان ٧ : ٤٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٧ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥٠ ، المغني ٦ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٩٣.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني.

(٣) الذخيرة ٩ : ١١٩ : المغني ٦ : ٣٦٥.

٢٦٩

لو غصبها غاصب.

وإذا ضمّن الواصفَ ، لم يرجع على أحدٍ ؛ لأنّ العدوان منه ، والتلف عنده.

ثمّ إن كان رأي الحاكم الدفعَ بالوصف ، كان لمقيم البيّنة تضمين المدفوع إليه خاصّةً.

وإن لم يكن رأيه ذلك ، كان مخيّراً بين أن يرجع على الحاكم ؛ لبطلان الدفع عنده ، وبين أن يرجع على القابض ، ويستقرّ الضمان على القابض.

ولو جاء الواصف بعد ما تملّك الملتقط اللّقطةَ وأتلفها فغرمها الملتقط له لظنّه صدقه ثمّ جاء آخَر وأقام البيّنة بملكيّتها ، كان له مطالبة الملتقط دون الواصف ؛ لأنّ الذي قبضه الواصف ليس عين ماله ، وإنّما هو مال الملتقط.

ثمّ إنّ الملتقط يرجع على الواصف إن لم يكن قد أقرّ له بالملك عند الغرامة ، وإن كان قد أقرّ لم يكن له الرجوعُ ؛ لاعترافه بأنّه المستحقّ ، وأنّ الثاني ظالم.

ولو تعذّر الرجوع على الملتقط ، فالأقوى : إنّ له الرجوعَ على القابض اقتصاصاً للملتقط إن لم يُقم القابض البيّنةَ على الملتقط باعترافه له بالملكيّة.

مسألة ٣٧٠ : لو أقام واحد بيّنةً بها فدُفعت إليه ثمّ أقام آخَر بيّنةً أُخرى بأنّها له أيضا ، فإن لم يكن هناك ترجيح لإحدى البيّنتين على الأُخرى ، أُقرع بينهما ؛ لأنّه مشكل ؛ لانتفاء الأولويّة والحكم بهما ودفعهما معاً.

فإن خرجت للأوّل فلا بحث ، وإن خرجت القرعة للثاني انتُزعت من‌

٢٧٠

الأوّل وسُلّمت إليه.

ولو تلفت ، فإن كان الملتقط قد دفع بإذن الحاكم ، لم يضمن ، وكان الضمان على الأوّل ، وإن كان قد دفعها باجتهاده ضمن ؛ لأنّه ليس له الحكم لنفسه.

أمّا لو قامت البيّنة بعد الحول وتملّك الملتقط ودفع العوض إلى الأوّل ، ضمن الملتقط للثاني على كلّ حالٍ ؛ لأنّ الحقّ ثابت في ذمّته لم يتعيّن بالدفع إلى الأوّل ، ورجع الملتقط على الأوّل ؛ لتحقّق بطلان الحكم.

وعند الشافعي إذا أقام كلّ واحدٍ بيّنةً على أنّها له ، ففيه أقوال التعارض(١) .

تذنيب : لو أقام مدّعي اللّقطة شاهدَيْن عَدْلين عنده وعند الملتقط وفاسقين عند القاضي ، لم يجز للقابض الدفع بشهادة هذين الشاهدين وإن اعترف الغريم بعدالتهما ؛ لأنّه يعرف منهما ما يخفى عن الغريم.

وللشافعيّة وجهان :

أصحّهما عندهم : هذا.

والثاني : إنّ له الدفعَ ؛ لاعترافه بعدالتهما(٢) .

وليس بشي‌ءٍ.

آخَر : لو وصفها اثنان وتداعياها ، فإن قلنا بالدفع بالوصف وجوباً ، أُقرع بينهما ، كما لو أقاما بيّنةً ، وإن قلنا به جوازاً ، جازت القرعة ، والحكم كما تقدّم.

وقال بعض الحنابلة : تقسم بينهما ؛ لتساويهما فيما يستحقّ به الدفع ،

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٧٨.

٢٧١

فتساويا فيها ، كما لو كانت في أيديهما(١) .

وليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّهما لو تداعيا عيناً في يد غيرهما وتساويا في البيّنة أو عدمها ، تكون لمن وقعت له القرعة ، كما لو تداعيا وديعةً في يد إنسانٍ واعترف لأحدهما من غير تعيينٍ ، بخلاف ما لو كانت في يديهما ؛ لأنّ يد كلّ واحدٍ منهما على نصفها ، فيُرجّح قوله فيه.

آخَر : لا تُدفع إلى مَنْ خرجت له القرعة إلّا باليمين ، فإن امتنع منها أُحلف الآخَر ، فإن امتنعا احتُمل إيقافها إمّا عليهما حتى يصطلحا ، أو على غيرهما.

ولا فرق في ذلك بين وجوب القرعة بالوصف أو بالبيّنة.

آخَر : لو وصفها واحد فدُفعت إليه ثمّ جاء آخَر فوصفها وادّعاها ، لم يستحق شيئا ؛ لأنّ الأوّل استحقّها لوصفه إيّاها ، وعدم المنازع فيها ، وتثبت يده عليها ، ولم يوجد ما يقتضي انتزاعها منه ، فيجب بقاؤها له ، كسائر أمواله.

مسألة ٣٧١ : لو جاء مدّعي اللّقطة فادّعاها ولم يُقم بيّنةً ولا وَصَفَها ، لم يجز دفع اللّقطة إليه ، سواء غلب على ظنّه صدقه أو كذبه - وبه قال جمهور العامّة(٢) - لأنّها أمانة ، فلم يجز(٣) دفعها إلى مَنْ لم يثبت أنّه صاحبها ، كالوديعة.

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٦٤ - ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٩٢.

(٢) المغني ٦ : ٣٦٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٩٤.

(٣) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يجب » بدل « لم يجز ». والمثبت يقتضيه السياق.

٢٧٢

فإن دفعها إليه فجاء آخَر فوَصَفَها أو أقام بيّنةً ، لزم الدافع غرامتها ؛ لأنّه فوّتها على مالكها ، وحالَ بينه وبينها بدفعه ، وله الرجوع على مدّعيها ؛ لأنّه أخذ مال غيره ، ولصاحبها تضمين آخذها ، فإذا ضمّنه لم يرجع على أحدٍ.

وإن لم يأت أحد ، فللملتقط مطالبة آخذها بها ؛ لأنّه لا يأمن مجي‌ء صاحبها ، فيغرمه إيّاها ، ولأنّها أمانة في يده ، فمَلَك أخذها من غاصبها ، كالوديعة.

* * *

٢٧٣

المطلب الثالث : في اللواحق.

مسألة ٣٧٢ : قد بيّنّا الخلاف في أنّ الملتقط هل يملك اللّقطة ملكاً مراعىً يزول بمجي‌ء صاحبها ويضمن له بدلها إن تعذّر ردّها ، أو يملكها ملكاً مستقرّاً ويجب عليه دفع العوض إلى صاحبها وإن كانت موجودةً؟

إذا تقرّر هذا ، فهل يملكها الملتقط مجّاناً بغير عوضٍ يثبت في ذمّته ، وإنّما يتجدّد وجوب العوض بمجي‌ء صاحبها ، كما يتجدّد زوال الملك عنها بمجيئه ، وكما يتجدّد وجوب نصف الصداق للزوج أو بدله إن تعذّر ثبوت الملك فيه بالطلاق ، أو لا يملكها إلّا بعوضٍ يثبت في ذمّته لصاحبها؟ إشكال ينشأ : من قولهعليه‌السلام : « فإن جاء صاحبها وإلّا فهي مال الله تعالى يؤتيه مَنْ يشاء »(١) فجَعَلها من المباحات ، رواه العامّة ، ومن أنّه يملك المطالبة ، فأشبه القرض.

والثاني أولى ، والفائدة : وجوب عزلها ، أو عزل بدلها من تركته ، واستحقاق الزكاة بسبب الغرم ، ووجوب الوصيّة بها ، ومنع وجوب الخمس بسبب الدَّيْن على التقدير الثاني.

مسألة ٣٧٣ : ما يوجد في المفاوز أو في خربةٍ قد باد أهلها ، فهو لواجده من غير تعريفٍ إن لم يكن عليه أثر الإسلام ، وإلّا فهو لقطة.

وكذا المدفون في أرضٍ لا مالك لها ، ولو كان لها مالك فهو له ؛ قضاءً لليد.

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٧٤ ، الهامش (١)

٢٧٤

ولو انتقلت عنه بالبيع إليه عرّفه ، فإن عرّفه فهو أحقّ به ، وإلّا عرّفه البائع السابق على بائعه ، وهكذا ، فإن لم يعرفه أحد منهم فهو لواجده ؛ لما رواه محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهماعليهما‌السلام ، قال : وسألته عن الورق يوجد في دارٍ ، فقال : « إن كانت الدار معمورةً فهي لأهلها ، وإن كانت خربةً فأنت أحقّ بما وجدتَ »(١) .

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام ، قال : سألته عن الدار يوجد فيها الورق ، فقال : « إن كانت معمورةً فيها أهلها فهو لهم ، وإن كانت خربةً قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به »(٢) .

ولا ينافي هذا ما رواه محمّد بن قيس عن الباقرعليه‌السلام قال : « قضى عليٌّعليه‌السلام في رجلٍ وجد ورقاً في خربةٍ أن يُعرّفها ، فإن وجد مَنْ يعرفها ، وإلّا تمتّع بها »(٣) لأنّه محمول على ما إذا كان لها مالك معروف ، أو كان على الورق أثر الإسلام.

ولو وجد في داره شيئاً ولم يعرفه ، فإن كان يدخل منزله غيره فهو لقطة يُعرّفه سنةً ، كما يُعرّف اللّقطة ، ويكون حكمه حكم اللّقطة ، وإن كان لا يدخله غيره كان له ؛ بناءً على الظاهر ، وقد يعرض له النسيان عمّا مَلَكه.

ولما رواه جميل بن صالح - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : رجل وجد في بيته ديناراً ، قال : « يدخل منزله غيره؟ » قال : نعم كثير ، قال : « هذه لقطة »(٤) .

ولو وجد في صندوقه شيئاً ولم يعرف أنّه له ، فالحكم كالدار إن كان‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٨ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٩.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٩٨ / ١١٩٩.

(٤) الكافي ٥ : ١٣٧ / ٣ ، الفقيه ٣ : ١٨٧ / ٨٤١ ، التهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٨.

٢٧٥

غيره يشاركه في فتحه ، كان لقطةً ، وإلّا كان لصاحبه ؛ لما رواه جميل بن صالح - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام : قلت : فرجل قد وجد في صندوقه ديناراً ، قال : « يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟ » قلت : لا ، قال : « فهو له »(١) .

مسألة ٣٧٤ : لو وجد شيئاً في جوف دابّةٍ ، فإن كانت الدابّة قد انتقلت إليه من غيره ، عرّفه المالك ، فإن عرفه فهو أحقّ به ، وإلّا كان(٢) ملكاً له.

ويحتمل أن يكون لقطةً يُعرّف البائع وغيره ، ويبدأ بالبائع ، لكن علماؤنا على الأوّل.

وكذا لو لم تنتقل إليه من غيره ، بل تولّدت عنده.

لما رواه عبد الله بن جعفر - في الصحيح - قال : كتبتُ إلى الرجل أسأله عن رجلٍ اشترى جزوراً أو بقرةً للأضاحي فلـمّا ذبحها وجد في جوفها صُرّةً فيها دراهم أو دنانير أو جوهر لمن تكون؟ قال : فوقّععليه‌السلام : « عرّفها البائع ، فإن لم يكن يعرفها فالشي‌ء لك رزقك الله إيّاه »(٣) .

ولو وجد شيئاً في جوف سمكةٍ كالدرّة يجدها في جوف السمكة ، فإن كان قد مَلَكها بالصيد فهو له ، قال الله تعالى :( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) (٤) فيكون لواجدها.

وإن كانت قد انتقلت إليه بالبيع من الصيّاد فوجدها المشتري ولم يعلم الصيّاد بها ، قال أحمد : تكون للصيّاد ؛ لأنّه إذا لم يعلم ما في بطنها لم يبعه ولم يرض بزوال ملكه عنه ، فلم يدخل في المبيع ، كمن باع‌

____________________

(١) نفس المصادر.

(٢) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « كانت » بدل « كان ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) الكافي ٥ : ١٣٩ / ٩ ، التهذيب ٦ : ٣٩٢ / ١١٧٤.

(٤) سورة النحل : ١٤.

٢٧٦

داراً له مال مدفون فيها(١) .

ولو وجد شيئاً غير الدرّة ممّا يكون في البحر ، فهو للصيّاد ، وكان حكمه حكم الجوهرة.

وإن وجد دراهم أو دنانير ، فهي لقطة ؛ لأن ذلك لا يخلق في البحر ، ولا يكون إلّا لآدميٍّ ، فيكون لقطةً ، كما لو وجده في البحر.

وكذا الدرّة إذا كان فيها أثر آدميّ ، كما لو كانت مثقوبةً أو متّصلةً بذهبٍ أو فضّةٍ أو غيرها ، فإنّها تكون لقطةً لا يملكها الصيّاد ؛ لأنّها لم تقع في البحر حتى تثبت اليد عليها ، فهي كالدينار.

وأمّا علماؤنا فقد أطلقوا القول بأنّ ما يجده في جوف السمكة يكون له ، ولم يفصّلوا إلى ما ذكرناه ، وهو يدلّ على أنّ تملّك اللّقطة يشترط فيه النيّة.

وبالجملة ، قول أحمد لا بأس به عندي.

ولم يفرّق علماؤنا بين أن يصطاد السمكة من البحر وغيره.

وأحمد فرَّق بينهما ، فجعل ما يصطاد من السمك في النهر والعين كالشاة في أنّ ما يوجد في بطنها من ذلك يكون لقطةً ، درّةً كانت أو غيرها(٢) .

مسألة ٣٧٥ : لو وجد عنبرةً على ساحل البحر ، فهي له ؛ لإمكان أن يكون البحر قد ألقاها ، والأصل عدم الملك فيها ، فكانت مباحةً لآخذها ، كالصيد.

وقد روي أنّ بحر عدن ألقى عنبرةً مثل البعير فأخذها ناس بعدن ، فكُتب إلى عمر بن عبد العزيز ، فكتب عمر : خُذوا منها الخُمْس وادفعوا إليهم سائرها ، وإن باعوكموها فاشتروها ، فأردنا أن نزنها فلم نجد ميزاناً‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٧٠.

(٢) المغني ٦ : ٣٧٠ - ٣٧١.

٢٧٧

يخرجها ، فقطعناها باثنتين(١) ووزناها فوجدناها ستّمائة رطل ، فأخذنا خُمْسها ودفعنا سائرها إليهم ثمّ اشتريناها بخمسة آلاف دينار وبعثنا بها إلى عمر بن عبد العزيز فلم يلبث إلّا قليلاً حتى باعها بثلاثة وثلاثين ألف دينار(٢) .

وعلماؤنا قالوا : إنّ العنبر إن أُخرج من البحر بالغوص ، أُخرج منه الخُمْس إن بلغ قيمته ديناراً فصاعداً ، وكان الباقي للمُخْرج ، وإن قلّت قيمته عن دينارٍ ، فهو له بأجمعه ، وإن جُبي من وجه الماء أو من الساحل ، كان للواجد يخرج منه خُمْسه إن بلغت قيمته عشرين ديناراً ، والباقي له.

وقيل : لا يشترط النصاب(٣) .

وقد روى الشعيري عن الصادقعليه‌السلام أنّه سئل عن سفينةٍ انكسرت في البحر فأُخرج بعضه بالغوص وأخرج البحر بعضَ ما غرق فيها ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٤) .

مسألة ٣٧٦ : لو اصطاد غزالاً فوجده مخضوباً أو وجد في عنقه خرزاً أو في أُذنه خيطاً أو نحو ذلك ممّا يدلّ على ثبوت اليد عليه ، فهو لقطة ؛ لأنّ ذلك دليل على أنّه كان مملوكاً لغيره.

ولو ألقى شبكةً في البحر فوقع فيها سمكة فجذبت السمكةُ الشبكةَ فمرّت بها في البحر فصادها رجل ، فالسمكة للّذي صادها ، وأمّا الشبكة‌

____________________

(١) في النُّسَخ الخطّيّة والمغني : « باثنين ».

(٢) المغني ٦ : ٣٧١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٦٣.

(٣) لم نتحقّق القائل بذلك.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٩٥ / ٨٢٢.

٢٧٨

فيُعرفها ، فإن وجد صاحبها دفعها إليه ، ولا يملك صاحب الشبكة السمكةَ وإن حصلت في شبكته ؛ لأنّ شبكته لم تثبتها ، فبقيت على الإباحة.

وكذا لو نصب فخّاً(١) أو شَرَكاً(٢) فوقع فيه صيد من صيود البَرّ فأخذه وذهب به وصاده آخَر ، فهو للصائد ، ويردّ الآلة إلى صاحبها ، فإن لم يعرف صاحبها فهي لقطة.

أمّا لو وجد غزالاً أو حمارَ وحشٍ أو غيرهما من الصيود في شَرَكٍ وقد شارف الموت فخلّصه وذبحه ، فهو لصاحب الحبالة ، وما كان من الصيد في الحبالة فهو لناصبها وإن كان صقراً أو عقاباً.

مسألة ٣٧٧ : لو أُخذت ثيابه في الحمّام ووجد بدلها ، أو أُخذ مداسه(٣) وتُرك له بدله ، لم يملكه بذلك ، ولا بأس باستعماله إن علم أنّ صاحبه تركه له عوضاً ، ويعرّفه سنةً ، ثمّ إمّا أن يتملّكه مع الضمان ، أو يحتفظه دائماً ، أو يتصدّق به ويضمن ؛ لأنّ سارق الثياب لم تَجْر بينه وبين مالكها معاوضة توجب زوال ملكه عن ثيابه ، فإذا أخذها فقد أخذ مال غيره ، فلا يعرف مالكه ، فيعرّفه كاللّقطة ، إلّا أن يعلم أنّ السارق قصد المعاوضة بأن يكون الذي له أردأ من الذي سرقه ، وكانت ممّا لا يشتبه على الآخذ بالذي له ، فلا يحتاج حينئذٍ إلى التعريف ؛ لأنّ مالكها تركها قصداً ، والتعريف إنّما جُعل للضائع عن صاحبه ليعلم به ويأخذه ، وتارك هذا عالم به وراضٍ ببدله عوضاً عمّا أخذه ، فلا تحصل من تعريفه فائدة ، وحينئذٍ يباح للواجد‌

____________________

(١) الفخّ : المصيدة التي يصاد بها. لسان العرب ٣ : ٤١ « فخخ ».

(٢) الشَّرَك : حبائل الصائد وما يُنصب للطير. لسان العرب ١٠ : ٤٥٠ « شرك ».

(٣) المداس : الذي ينتعله الإنسان أو ما يُلبَس في الرِّجْل. المصباح المنير : ٢٠٣ ، القاموس المحيط ٢ : ٢١٧ « دوس ».

٢٧٩

استعمالها ؛ لأنّ الظاهر أنّ صاحبها تركها له باذلاً له إيّاها عوضاً عمّا أخذه ، فصار كالمبيح له أخذها بلسانه ، وهو أحد وجوه الحنابلة.

ولهم آخَران :

أحدهما : الصدقة بها.

والثاني : الرفع إلى الحاكم ليبيعها ويدفع ثمنها إليه عوضاً عن ماله(١) .

وما قلناه أولى ؛ لأنّه أرفق بالناس ؛ لأنّ فيه نفعاً لمن سُرقت ثيابه ؛ لحصول عوضها له ، وللسارق بالتخفيف عنه من الإثم وحفظ هذه الثياب المتروكة من الضياع ، وقد أُبيح لمن له على إنسانٍ حقٌّ من دَيْنٍ أو غصبٍ أو غير ذلك أن يأخذ من مال مَنْ عليه الحقّ بقدر ما عليه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك ، فهنا مع رضا مَنْ عليه الحقّ بأخذه أولى.

فإن وجد هناك قرينة تدلّ على اشتباه الحال على الآخذ ، وأنّه إنّما أخذها ظنّاً أنّها ثيابه بأن تكون المتروكة خيراً من المأخوذة أو مساويةً لها وهي ممّا تشتبه ، فينبغي أن يُعرّفها ؛ لأنّ صاحبها لم يتركها عمداً ، فهي بمنزلة الضائعة منه ، والظاهر : إنّه إذا علم بها أخذها ، وردّ ما كان أخذه.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر أنّه يتملّكها باختياره بعد التعريف حولاً ، فإن ظهر المالك قاصّه بماله وترادّ الفضل.

ولو دفعها إلى الحاكم بعد التعريف حولاً ليبيعها ويأخذ ثمنها ، جاز.

مسألة ٣٧٨ : لو كان عنده وديعة قد أتى عليها زمان لا يعرف صاحبها ، يبيعها ويتصدّق بثمنها ، فإذا جاء مالكها بعد ذلك خيّره المستودع بين الغرم ويكون الأجر له ، وبين إجازة ما فَعَله ويكون الأجر للمالك.

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٦٥.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466