تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء16%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150656 / تحميل: 5376
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وعن القفّال تخريجه من أحد القولين في أنّ مَنْ قذف اللقيط بعد بلوغه لا يُحدّ ، ويُخرَّج من هذا مأخذٌ ثالث ، وهو دَرْء القصاص بشبهة الرقّ والكفر(١) .

ثمّ الأصحّ من القولين عندهم : وجوب القصاص بالاتّفاق(٢) .

فإن كانت الجناية على طرف اللقيط ، فعلى المأخذ الأوّل يُقطع وجوب القصاص ؛ لأنّ الاستحقاق فيه للّقيط وهو متعيّن ، لا للعامّة.

وعلى المأخذ الثاني إذا فرّعنا على قول المنع هناك يُتوقّف في قصاص الطرف ، فإن بلغ وأعرب بالإسلام تبيّنّا وجوبه ، وإلّا تبيّنّا عدمه.

وعلى المأخذ الثالث يجري القولان بلا فرق.

وإذا كان الجاني على النفس أو الطرف كافراً رقيقاً ، جرى القولان على المأخذ الأوّل ، دون الثاني والثالث.

هذا ما يتعلّق بوجوب القصاص.

مسألة ٤٤١ : أمّا استيفاء القصاص إذا قلنا بالوجوب فقصاص النفس يستوفيه الإمام لنفسه عندنا وللمسلمين عند العامّة(٣) إن رأى المصلحة فيه ، وإن رأى في أخذ المال عدل عنه إلى الدية مع رضا الجاني عندنا ، ومطلقاً عند الشافعي(٤) ، ولو لم نجوّز ذلك لالتحق هذا القصاص بالحدود المتحتّمة ، وليس له العفو مجّاناً عندهم(٥) ؛ لأنّه خلاف مصلحة المسلمين ، والحقّ لهم عند العامّة.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩.

(٣) المغني ٦ : ٤٠٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

٣٦١

وأمّا قصاص الطرف فإن كان اللقيط بالغاً عاقلاً فالاستيفاء إليه ، وإن لم يكن بالغاً عاقلاً بل انتفى عنه الوصفان أو أحدهما ، لم يكن للإمام استيفاؤه ؛ لأنّه قد يريد التشفّي ، وقد يريد العفو ، فلا يُفوّت عليه ، قاله بعض الشافعيّة(١) .

والأقوى عندي : إنّ له الاستيفاء ؛ لأنّه حقٌّ للمولّى عليه فكان للولي استيفاؤه ، كحقّ المال ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ؛ لأنّه أحد نوعي القصاص ، فكان للإمام استيفاؤه عن اللقيط ، كالقصاص في النفس(٢) .

وقال القفّال : له الاستيفاء في المجنون ؛ لأنّه لا وقت معيّن ينتظر لإفاقته ، والتأخير لا إلى غايةٍ قريبٌ من التفويت(٣) .

وهو بعيد عند الشافعيّة(٤) .

وأبعد منه عند الشافعيّة قول بعضهم بجواز الاقتصاص حيث يجوز له [ أخذ ](٥) الأرش ؛ لأنّه أحد البدلين ، فله استيفاؤه كالثاني(٦) .

والمشهور عندهم : الأوّل(٧) .

وعلى قول الشافعيّة بالمنع من استيفاء القصاص هل له أخذ أرش الجناية؟ يُنظر إن كان المجنيّ عليه مجنوناً فقيراً فله الأخذ ؛ لأنّه محتاج ، وليس لزوال علّته غاية تُنتظر.

وإن كان صبيّاً غنيّاً ، لم يأخذه ؛ لأنّه لا حاجة في الحال ، ولأنّ زوال‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٢) المغني ٦ : ٤٠٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٨ - ٤١٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣.

(٥) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٣ - ٥٠٤.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٢

الصبوة له غاية منتظرة.

وإن كان مجنوناً غنيّاً أو صبيّاً فقيراً ، فوجهان :

أحدهما : جواز الأخذ ؛ لبُعْد الإفاقة في الصورة الأُولى ، وقيام الحاجة في الثانية.

والثاني : المنع ؛ لعدم الحاجة في الأُولى ، وقرب الانتظار في الثانية(١) .

والظاهر في الصورتين : المنع ، واعتبار الجنون والفقر معاً لجواز الأخذ.

وحيث قلنا : لا يجوز أخذ الأرش أو لم نر المصلحة فيه فيُحبس الجاني إلى أوان البلوغ والإفاقة.

وإذا جوّزناه فأخذه ثمّ بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأراد أن يردّه أو يقتصّ ، فالوجه : إنّه لا يُمكَّن من ذلك - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّ فعل الولي حال الصغر والجنون كفعل البالغ العاقل.

والثاني : إنّه يُمكَّن من ذلك(٣) .

والوجهان شبيهان بالخلاف فيما لو عفا الوليّ عن حقّ شفعة الصبي للمصلحة ثمّ بلغ وأراد أخذه.

والوجهان مبنيّان على أنّ أخذ المال عفو كلّيّ وإسقاط للقصاص ، أم شبيه الحيلولة لتعذّر استيفاء القصاص الواجب؟

وقد يرجّح التقدير الأوّل بأنّ التضمين للحيلولة إنّما ينقدح إذا جاءت الحيلولة من قِبَل الجاني ، كما لو غيّب الغاصب المغصوبَ ، أو أبق العبد من‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٣

يده ، وهنا لم يأت التعذّر من قِبَله ، وأيضاً لو كان الأخذ للحيلولة لجاز الأخذ فيما إذا كان المجنيّ عليه صبيّاً غنيّاً.

وهذا الذي ذكرناه في أخذ الأرش للّقيط آتٍ في كلّ طفلٍ يليه أبوه أو جدّه.

وقال بعض الشافعيّة : ليس للوصي أخذه(١) .

واستحسنه بعضهم على تقدير كونه إسقاطاً ، فلا يجوز الإسقاط إلّا لوالٍ أو وليٍّ(٢) .

أمّا إذا جوّزناه للحيلولة ، جاز للوصي أيضاً.

إذا عرفت هذا ، فكلّ موضعٍ قلنا : ينتظر البلوغ ، فإنّ الجاني يُحبس حتى يبلغ اللقيط فيستوفي لنفسه.

البحث الثالث : في نسب اللقيط.

والنظر في أمرين :

الأوّل : أن يكون المدّعي واحداً.

مسألة ٤٤٢ : كلّ صبيٍّ مجهول النسب - سواء كان لقيطاً أو لا - إذا ادّعى بنوّته حُرٌّ مسلم ، أُلحق به ؛ لأنّه أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه ، وليس في إقراره إضرار بغيره ، فيثبت إقراره.

وإنّما شرطنا الإمكان ؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب مجهول مَنْ هو أكبر منه أو مثله أو أصغر منه بما لم تَجْر العادة بتولّده عنه ، عُلم كذبه ، وأبطلنا إقراره.

وإنّما شرطنا أن لا يعود بالضرر على غيره ؛ لأنّه إذا أقرّ بنسب عبد‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

٣٦٤

غيره لم يُقبل إقراره ؛ لأنّه يضرّ به ، لأنّه يقدّم في الإرث على المولى.

وقد عرفت فيما سبق شرائط الإلحاق ، فإذا حصلت هنا ألحقناه بالمدّعي ، وإلّا فلا.

قال الشافعي : ويستحبّ للحاكم أن يسأله عن سبب نسبه ؛ لئلّا يكون ممّن يعتقد أنّ الالتقاط والتربية يفيد النسب ، فإن لم يسأله فلا بأس(١) .

وقال مالك : إنّه إن استلحقه الملتقط لم يلحق به ؛ لأنّ الإنسان لا ينبذ ولده ثمّ يلتقطه إلّا أن يكون ممّن لا يعيش له ولد فيُلحق به ؛ لأنّه قد يفعل مثل ذلك تفاؤلاً ليعيش الولد(٢) .

ولا خلاف بين أهل العلم أنّ المدّعي الحُرّ المسلم يلحق نسب الولد به إذا أمكن منه ، فكذا في اللقيط ؛ لأنّه أقرّ له بحقٍّ ، فأشبه ما لو أقرّ له بالمال ، ولأنّ الإقرار محض نفعٍ للطفل ؛ لاتّصال نسبه ، والتزامه بتربيته وحضانته ، ولأنّ إقامة البيّنة على النسب ممّا يعسر ، ولو لم نثبته بالاستلحاق لضاع كثير من الأنساب.

مسألة ٤٤٣ : لو ادّعى أجنبيٌّ بنوّته ووُجدت شرائط الإلحاق ، أُلحق به ؛ لما تقدّم ، وينتزع اللقيط من يد الملتقط ، ويُسلَّم إلى الأب ؛ لأنّه لو ثبت أنّه أبوه فيكون أحقَّ بولده في التربية والكفالة من الأجنبيّ ، كما لو قامت به بيّنةٌ.

ولا فرق بين أن يكون المدّعي لبنوّته مسلماً أو كافراً ؛ لأنّ الكافر أقرّ بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه ، وليس في إقراره إضرار بغيره ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، البيان ٨ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤.

(٢) الوسيط ٤ : ٣١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢.

٣٦٥

فيثبت إقراره ، كالمسلم ؛ لاستوائهما في الجهات المثبتة للنسب ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال أبو ثور : لا يلحق بالكافر ؛ لأنّه محكوم بإسلامه(٢) .

ولا نزاع فيه ، فإنّا نقول بموجبه ، ونلحقه به في النسب ، لا في الدين ، ولا حقّ له في حضانته ، ولأنّ الذمّي أقوى من العبد في ثبوت الفراش ، فإنّه يثبت له بالنكاح والوطؤ في الملك ، وسيأتي الإلحاق بالعبد.

إذا عرفت هذا ، فإنّ اللقيط يلتحق بالكافر في النسب ، لا في الدين عندنا وعند أحمد(٣) .

وللشافعي قولان :

أحدهما : قال في باب اللقيط : يلحق به فيه(٤) .

والثاني : قال في الدعوى والبيّنات : لا يلحق به فيه(٥) .

واختلف أصحابه في ذلك على طريقين.

قال أبو إسحاق : ليست المسألة على قولين ، وإنّما هي على اختلاف‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٤ - ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٣) المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٤) مختصر المزني : ١٣٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢ ، المغني ٦ : ٤٢١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٨.

(٥) نفس المصادر ، مضافاً إلى : الأُم ٦ : ٢٤٩.

٣٦٦

حالين ، فالموضع الذي قال : « يلحق به في الدين » أراد به إذا ثبت نسبه بالبيّنة ، والموضع الذي قال : « لا يلحق به في الدين » أراد به إذا ثبت بدعواه(١) .

وقال أبو علي من أصحابه : إنّه يلحقه في الدين إذا أقام البيّنة بنسبه قولاً واحداً ، وإذا ثبت نسبه بدعواه فقولان ، أحدهما : لا يلحق به في الدين ؛ لأنّه يجوز أن يكون ولده وهو مسلم بإسلام أُمّه ، وإذا احتمل ذلك لم يبطل ظاهر الإسلام بالاحتمال ، وإنّما قبلنا إقراره فيما يضرّه في النسب ، دون ما يضرّ غيره(٢) .

فعلى قولنا : « إنّه لا يلحقه في الدين » يفرّق بينه وبينه إذا بلغ ، فإن وصف الكفر لم يقر عليه.

وللشافعي قولان(٣) .

فإن قلنا : يلحق به في الدين - كما هو مذهب الشافعي(٤) - فإنّه يحال أيضاً بينه وبينه لئلّا يعوده الكفر والتردّد إلى البِيَع والكنائس ، إلّا أنّه إذا بلغ ووصف الكفر أُقرّ عليه عنده على هذا القول وجهاً واحداً(٥) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٧ - ٥٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢١.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٥٦٨ ، البيان ٨ : ٢٢ و ٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

(٤) راجع : الهامش (٤) من ص ٣٦٥.

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٥٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٢.

٣٦٧

مسألة ٤٤٤ : لو ادّعى بنوّةَ [ اللقيط ](١) عبدٌ ، صحّ دِعوته ، بكسر الدال ، وهي ادّعاء النسب ، وبضمّها : الطعام الذي يدعى إليه الناس ، وبفتحها : مصدر « دعا ».

وإنّما حكمنا بصحّتها ؛ لأنّ لمائه حرمةً ، فلحقه(٢) نسب ولده ، كالحُرّ ، فصحّت دعوته إذا ادّعى نسب لقيطٍ ، فيلحقه(٣) نسبه ، سواء صدّقه السيّد أو كذّبه ، غير أنّه لا تثبت له حضانته(٤) ؛ لأنّه مشغول بخدمة سيّده.

ولا تجب عليه نفقته ؛ لأنّ العبد فقير لا مال له ، ولا تجب على سيّده ؛ لأنّ اللقيط محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار ، فتكون نفقته في بيت المال ، ويكون حكمه حكم مَنْ لم يثبت نسبه إلّا في ثبوت النسب خاصّةً.

وبه قال الشافعي إن صدّقه السيّد ، وأمّا إن كذّبه ، فله قولان :

أحدهما : قال في باب اللقيط : إنّه يلحق به ، كما قلناه.

والثاني : قال في الدعاوي : إنّ العبد ليس أهلاً للاستلحاق ، فحصل قولان :

أحدهما : المنع ؛ لما فيه من الإضرار بالسيّد بسبب انقطاع الميراث عنه لو أعتقه.

وأصحّهما : اللحوق ؛ لأنّ العبد كالحُرّ في أمر النسب ؛ لإمكان العلوق منه بالنكاح وبوطئ الشبهة ، ولا اعتبار بما ذكر من الإضرار ، فإنّ مَن استلحق ابناً وله أخ يُقبل استلحاقه وإن أضرّ بالأخ(٥) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) في « ث ، ر » : « فيلحقه ».

(٣) في « ث ، ر » : « لحقه ».

(٤) في « ث ، ر » : « حضانة ».

(٥) الحاوي الكبير ٨ : ٥٦ - ٥٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٦٨

وعن الشريف ناصر العمري طريقتان للشافعيّة أُخريان :

إحداهما : القطع بالقول الأوّل.

والثانية : القطع باللحوق إذا كان مأذوناً في النكاح ومضى من الزمان ما يحتمل حصول الولد ، وتخصيص القولين بما إذا لم يكن مأذوناً(١) .

ويجري الخلاف فيما إذا أقرّ العبد بأخٍ أو عمٍّ(٢) .

ولهم طريقة أُخرى قاطعة بالمنع هاهنا ؛ لأنّ لظهور نسبه طريقاً آخَر ، وهو إقرار الأب والجدّ(٣) .

ويجري الخلاف فيما إذا استلحق حُرٌّ عبدَ غيره ؛ لما فيه من قطع الإرث المتوهّم بالولاء(٤) .

وقال بعضهم بالقطع بثبوت النسب هنا ، وقال : الحُرّ من أهل الاستلحاق على الإطلاق(٥) .

ويجري الخلاف فيما إذا استلحق المعتق غيره(٦) .

والقول بالمنع هنا أبعد ؛ لاستقلاله بالنكاح والتسرّي.

وإذا جعلنا العبد من أهل الاستلحاق ، فلا يُسلّم اللقيط إليه كما تقدّم ؛ لأنّه لا يتفرّغ لحضانته وتربيته.

مسألة ٤٤٥ : لو ادّعت المرأة مولوداً ، فإن أقامت بيّنةً لحقها ولحق زوجها إن كانت ذات زوجٍ وكان العلوق منه ممكنا ، ولا ينتفى عنه إلّا باللعان.

هذا إن قيّدت البيّنة بأنّها ولدته على فراشه ، ولو لم تتعرّض للفراش‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣.

(٢ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٦٩

ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان للشافعيّة(١) .

وعندنا لا يثبت نسبه من الزوج ، إلّا إذا شهدت بأنّها ولدته على فراشه.

ولو لم تُقم المرأة بيّنةً واقتصرت على مجرّد الدعوى ، قال بعض علمائنا : يثبت نسبه ، ويلتحق بها ، كالأب(٢) ، وهو أحد أقوال الشافعي ، وهو رواية عن أحمد ؛ لأنّها أحد الأبوين ، فصارت كالرجل بل أولى ؛ لأنّ جهة اللحوق بالرجل النكاح والوطؤ بالشبهة ، والمرأة تشارك الرجل [ فيهما ](٣) وتختصّ بجهةٍ أُخرى ، وهي الزنا(٤) .

والأظهر عندهم : المنع - وبه قال أبو حنيفة - لأنّها يمكنها إقامة البيّنة على الولادة ، فلا يُقبل قولها فيه ، ولهذا لو علّق الزوج طلاقها بولادتها ، فقالت : قد ولدتُ ، لم يقع الطلاق حتى تُقيم البيّنة ، وتفارق الرجل من حيث إنّه يمكنها إقامة البيّنة على الولادة من طريق المشاهدة ، والرجل لا يمكنه ، فمست الحاجة إلى إثبات النسب من جهته بمجرّد الدعوى ، ولأنّها إذا أقرّت بالنسب فكأنّها تقرّ بحقٍّ عليها وعلى غيرها ؛ لأنّها فراش‌ الزوج ، وقد بطل إقرارها في حقّ الزوج ، فيبطل الجميع ؛ لأنّ الإقرار الواحد

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٥٩٧ ، المسألة ٢٦ ، والمبسوط ٣ : ٣٥٠.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « فيه ». والصحيح ما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٧ - ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ - ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ و ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢١ و ٤٢٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩.

٣٧٠

إذا بطل بعضه بطل كلّه(١) .

وفيه نظر ؛ لأنّ مَنْ أقرّ على نفسه وغيره بمالٍ يلزمه في حقّ نفسه وإن لم يُقبل في حقّ الغير.

والقول الثالث : إنّها إن كانت ذات زوجٍ لم يُقبل إقرارها ؛ لتعذّر الإلحاق بها دون الزوج ، وتعذّر قبول قولها على الزوج(٢) .

وعن أحمد روايتان كالوجه الأوّل والثالث(٣) .

وإذا قبلنا استلحاقها ولها زوج ، ففي اللحوق به عند الشافعيّة وجهان :

أحدهما : اللحوق ، كما إذا قامت البيّنة.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لاحتمال أنّها ولدته من وطئ شبهةٍ أو زوجٍ آخَر ، فصار كما لو استلحق الرجل ولداً وله زوجة ، فإنّه لا يلحقها(٤) .

واستلحاق الأمة كاستلحاق الحُرّة عند مَنْ يجوّز استلحاق العبد ، فإن‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٢٠ - ٢٢١ ، النتف ٢ : ٩٠٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٧٨.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، الوسيط ٤ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ ، المغني ٦ : ٤٢٢ - ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠.

(٣) المغني ٦ : ٤٢١ - ٤٢٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

٣٧١

قبلناه فهل يُحكم برقّ الولد لمولاها؟ للشافعيّة وجهان(١) .

النظر الثاني : فيما إذا تعدّد المدّعي.

مسألة ٤٤٦ : لو ادّعى بنوّته اثنان ، فإن كان أحدهما الملتقط فإن لم يكن قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط ، فقد استويا في الدعوى ، فالحكم فيه كما لو كانا أجنبيّين ، وسيأتي.

وإن كان قد حُكم بنسب اللقيط للملتقط بدعواه ثمّ ادّعاه أجنبيٌّ ، فإن أقام البيّنة كان أولى ؛ لأنّ البيّنة أقوى من الدعوى ، ولو أقام كلٌّ منهما بيّنةً تعارضت البيّنتان.

والشافعي وإن حكم في الملك لذي اليد عند تعارض البيّنتين(٢) ، ونحن وأبو حنيفة(٣) وإن حكمنا للخارج ، فهنا لا ترجيح باليد ولا تُقدّم بيّنة الملتقط باليد ولا بيّنة الأجنبيّ بخروجه ؛ لأنّ اليد لا تثبت على الإنسان ، وإنّما تثبت على الأملاك ، ولهذا يحصل الملك باليد ، كما في الاصطياد والاغتنام ، والنسب لا يحصل باليد ، بل يُحكم بالقرعة.

وإن لم يكن هناك بيّنة لأحدهما واستلحقاه معاً ، فعندنا يُحكم‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) الحاوي الكبير ١٧ : ٣٠٢ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣١٢ ، الوسيط ٧ : ٤٣٣ ، حلية العلماء ٨ : ١٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٢٠ ، البيان ١٣ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٣٣ ، روضة الطالبين ٨ : ٣٣٥ ، المغني ١٢ : ١٦٨ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٨٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٣٢.

(٣) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ١٥٧ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٣٢ ، المبسوط - للسرخسي - ١٧ : ٣٢ ، الحاوي الكبير ١٧ : ٣٠٣ ، الوسيط ٤ : ٤٣٣ ، حلية العلماء ٨ : ١٨٨ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٢٠ ، البيان ١٣ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٣٣ ، المغني ١٢ : ١٦٨ ، الشرح الكبير ١٢ : ١٨٢ - ١٨٣.

٣٧٢

بالقرعة ؛ إذ لا مرجّح هنا ، لأنّ اليد قد قلنا : إنّها لا تدلّ على النسب ، فعندنا أيضاً يقرع بينهما.

وعند الشافعي وأحمد أنّه يُعرض على القافة - وهو قول أنس وعطاء وزيد بن عبد الملك والأوزاعي والليث بن سعد - لأنّ عائشة روت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل عليها مسروراً تبرق أسارير وجهه ، فقال : « ألم تري أنّ مجزّزاً نظر آنفاً إلى زيد وأُسامة وقد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ »(١) فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سرّ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا اعتمد عليه ، ولأنّ عمر بن الخطّاب قضى به(٢) .

والطريق عندنا ضعيف لا يُعتمد عليه ، مع أنّهم قد رووا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله في ولد الملاعنة : « انظروها فإن جاءت به حَمْش الساقين(٣) كأنّه وَحَرة(٤) فلا أراه إلّا قد كذب عليها ، وإن جاءت به أكحل جَعْداً جُماليّاً(٥) سابغ الأليتين(٦) خدلج الساقين(٧) فهو للّذي رميت به » فأتت به‌

____________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٩٥ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٢ / ٣٩ ، سنن أبي داوُد ٢ : ٢٨٠ / ٢٢٦٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٧ / ٢٣٤٩ ، سنن الترمذي ٤ : ٤٤٠ / ٢١٢٩ بتفاوتٍ.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، البيان ٨ : ٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢.

(٣) أي : دقيقهما. النهاية - لابن الأثير - ١ : ٤٤٠ « حمش ».

(٤) أي : الأسود الدميم القصير. العين ٣ : ٢٩٠ « وحر ».

(٥) الجماليّ - بالتشديد - : الضخم الأعضاء التامّ الأوصال. النهاية - لابن الأثير - ١ : ٢٩٨ « جمل ».

(٦) أي : تامّهما وعظيمهما. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٣٣٨ « سبغ ».

(٧) أي : عظيمهما. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ١٥. « خدلج ».

٣٧٣

على النعت المكروه ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو لا الإيمان لكان لي ولها شأن »(١) وهو يدلّ على أنّه لم يمنعه من العمل بالشبه إلّا الإيمان ، فكان العمل بالشبه منافياً للإيمان ، فكان مردوداً.

والسرور الذي وجده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إن ثبت فلأنّه طابق قوله وحكمهعليه‌السلام في أنّ زيداً ولد أُسامة ، لا ما يستدلّون به من العرض على القافة.

إذا عرفت هذا ، فالقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه ، ولا يختصّ ذلك بقبيلةٍ معيّنةٍ ، بل مَنْ عرف منه المعرفة بذلك وتكرّرت منه الإصابة فهو قائف.

وقيل : أكثر ما يكون هذا في بني مدلج رهط مجزّز المدلجي الذي رأى أُسامة وأباه زيداً قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ(٢) .

وكان إياس بن معاوية قائفاً(٣) ، وكذلك قيل في شريح(٤) .

[ و ] لا يُقبل قول القائف إلّا أن يكون ذكراً عَدْلاً مجرّباً في الإصابة حُرّاً ؛ لأنّ قوله حكم ، والحكم تُعتبر فيه هذه الشروط.

قال بعض العامّة : وتُعتبر معرفة القائف بالتجربة ، وهو أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير مَنْ يدّعيه ويرى إيّاهم ، فإن ألحقه بواحدٍ منهم سقط قوله ؛ لأنّا نتبيّن خطأه ، وإن لم يلحقه بواحدٍ منهم أريناه إيّاه مع عشرين فيهم مدّعيه ، فإن ألحقه لحق عند العامّة(٥) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٣ ، وفي سنن أبي داوُد ٢ : ٢٧٦ - ٢٧٨ / ٢٢٥٦ بتفاوتٍ.

(٢ و ٣) كما في المغني ٦ : ٤٢٨ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٥ و ٤٤٢.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٢٨ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

(٥) المغني ٦ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٢.

٣٧٤

ولو اعتبر بأن يرى صبيّاً معروف النسب مع قومٍ فيهم أبوه أو أخوه ، فإذا ألحقه بقريبه عُلمت إصابته ، وإن ألحقه بغيره سقط قوله ، جاز.

وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته ، وإن لم نجرّبه في الحال بعد أن يكون مشهور الإصابة في مرّاتٍ كثيرة جاز.

وقد روت العامّة : إنّ رجلاً شريفاً شكّ في ولدٍ له من جاريته وأبى أن يستلحقه ، فمرّ به إياس بن معاوية في المكتب وهو لا يعرفه ، فقال له : ادع لي أباك ، فقال المعلّم : ومَنْ أبو هذا؟ قال : فلان ، قال : من أين قلت : إنّه أبوه؟ فقال : إنّه أشبه به من الغراب بالغراب ، فقام المعلّم مسرعاً إلى أبيه فأعلمه بقول إياس ، فخرج الرجل وسأل إياساً من أين علمتَ أنّ هذا ولدي؟ فقال : سبحان الله وهل يخفى هذا على أحدٍ؟ إنّه لأشبه بك من الغراب بالغراب ، فسر الرجل واستلحق ولده(١) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ لأنّ تعلّم القيافة حرام ، ولا يجوز إلحاق الإنسان بها ، وسيأتي.

وظاهر كلام أحمد أنّه لا بدّ من قول اثنين ؛ لأنّهما شاهدان ، فإن شهد اثنان من القافة أنّه لهذا ، فهو لهذا ؛ لأنّه قول يثبت به النسب ، فأشبه الشهادة(٢) .

وعنه رواية أُخرى : إنّه يُقبل قول الواحد ؛ لأنّه حكم ، ويكفي في الحكم قول الواحد ، وهو قول أكثر أصحابه(٣) .

وحملوا الأوّل على ما إذا تعارض أقوال القائفين ، فإذا تعارض اثنان‌ تساووا ، وإن عارض واحد اثنين حُكم بقولهما ، وسقط قول الواحد ؛ لأنّهما

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٢ - ٤٤٣.

(٢ و ٣) المغني ٦ : ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

٣٧٥

شاهدان ، فقولهما أقوى من قول الواحد ، ولو عارض قول الاثنين قول اثنين تساقطا ، ولو عارض قول الاثنين قول الثلاثة وأكثر سقط الجميع عنده ، كالبيّنات لا يعتبر فيها زيادة العدد عنده(١) .

ولو ألحقته القافة بواحدٍ ثمّ جاءت قافة أُخرى فألحقته بآخَر ، كان لاحقاً بالأوّل عندهم ؛ لأنّ القائف جرى مجرى الحاكم ، ومتى حكم الحاكم بحكمٍ لم ينتقض بمخالفة غيره له(٢) .

وكذا لو ألحقته بواحدٍ ثمّ عادت فألحقته بغيره لذلك.

ولو أقام الآخَر بيّنةً أنّه ولده ، حُكم له به ، وسقط قول القائف ؛ لأنّه بدل ، فسقط مع وجود الأصل ، كالتيمّم مع الماء.

ولو ألحقته القافة بكافرٍ أو رقيقٍ ، لم يُحكم بكفره ولا برقّه ؛ لأنّ الحُرّيّة والإسلام ثبتا له بحكم الدار ، فلا يزول ذلك بمجرّد الشبه أو الظنّ ، كما لم يزل ذلك بمجرّد الدعوى من المنفرد بها ، وقبول قول القافة في النسب للحاجة إلى إثباته ، ولأنّه غير مخالفٍ للظاهر ، ولهذا اكتفي فيه بمجرّد الدعوى في المنفرد ، ولا حاجة إلى إثبات رقّه وكفره ، وإثباتهما يخالف الظاهر(٣) .

وهذا كلّه عندنا وعند أبي حنيفة باطل ؛ لأنّا لا نثبت النسب بقول القافة ، ولا حكم لها عندنا ولا عنده ، إلّا أنّ أبا حنيفة يقول : إذا تعارضت البيّنتان أُلحق بالمدّعيين جميعاً(٤) ، ونحن نقول بالقرعة ؛ لأنّه موضع‌

____________________

(١ و ٢) المغني ٦ : ٤٢٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

(٣) المغني ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٣.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٨ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢.

٣٧٦

الإشكال والاشتباه ، وقد روى علماؤنا عن أهل البيتعليهم‌السلام : « كلّ أمرٍ مشكلٍ ففيه القرعة »(١) .

وقول أبي حنيفة باطل ؛ لأنّه لا يمكن تولّده منهما ، واتّفقنا نحن وإيّاه على عدم اعتبار القافة ؛ لأنّ الحكم بها حكمٌ بمجرّد الشبه والظنّ والتخمين ، وقد نهى الله تعالى عن اتّباع الظنّ(٢) ، والشبه يوجد بين الأجانب كما يوجد بين الأقارب ، فلا يبقى دليلاً على النسب ، بل قد يثبت الشبه بين الأجانب وينتفى عن الأقارب ، ولهذا روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ رجلاً أتاه فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود ، فقالعليه‌السلام : « هل لك من إبل؟ » قال : نعم ، قال : « فما ألوانها؟ » قال : حمر ، قال : « هل فيها من أورق؟ » قال : نعم ، قال : « أنّى أتاها ذلك؟ » قال : لعلّ عرقاً ينزع ، قال : « وهذا لعلّ عرقاً ينزع »(٣) .

وأيضاً لو كان الشبه كافياً ، لاكتفى به في ولد الملاعنة وفيما إذا أقرّ أحد الورثة بأخٍ وأنكره الباقون.

مسألة ٤٤٧ : لو ادّعاه اثنان ولا بيّنة أو وُجدت بيّنتان متعارضتان ، فالحكم القرعة عندنا ، وعند الشافعي وأحمد يُعرض على القائف على ما تقدّم(٤) .

فإن ألحقته القافة بهما ، سقط اعتبار القائف عند الشافعي ، ولم يعتبر‌

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣ ، الاستبصار ٣ : ٨٣ ، ذيل ح ٢٧٩.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

(٣) المغني ٦ : ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٢ ، ونحوه في صحيح البخاري ٨ : ٢١٥ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٦٤٥ - ٦٤٦ / ٢٠٠٢ و ٢٠٠٣ ، وسنن أبي داوُد ٢ : ٢٧٩ / ٢٢٦٠ ، وسنن النسائي ٦ : ١٧٨.

(٤) في ص ٣٧٢.

٣٧٧

بقولها ولم يُحكم به ، ويُترك اللقيط حتى يبلغ ، فإذا بلغ أُمر بالانتساب إلى أحدهما ، ولا ينتسب بمجرّد التشهّي ، بل يعوّل فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد ، والقريب إلى القريب بحكم الجبلّة(١) .

وعنه وجهٌ آخَر : إنّه لا يشترط البلوغ ، بل يرجع إلى اختياره إذا بلغ سنّ التميز ، كما يخيّر حينئذٍ بين الأبوين في الحضانة(٢) .

لكن المشهور عندهم : الأوّل.

وفرّقوا بأنّ اختياره في الحضانة لا يلزم ، بل له الرجوع عن الاختيار الأوّل ، وهنا إذا انتسب إلى أحدهما لزمه ، ولم يقبل رجوعه ، والصبي ليس يتحقّق في طرفه قول ملزم(٣) .

وقال أحمد : إذا ألحقته القافة بهما لحق بهما ، وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن وزيادة ، ويرثانه ميراث أبٍ واحد(٤) ، ونقله عن عليٍّعليه‌السلام (٥) ، وهو افتراء عليه ، ونقله أيضاً عن عمرَ ، وهو قول أبي ثور(٦) .

وقال أصحاب الرأي : يلحق بهما بمجرّد الدعوى(٧) .

والكلّ باطل ؛ لعدم إمكان تولّد الطفل من اثنين ، والحوالة على الأمر المستحيل باطلة ؛ لأنّه لا يتصوّر كونه متولّداً من رجلين ، فإذا ألحقته القافة‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، البيان ٨ : ٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٤ ، البيان ٨ : ٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ و ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥ ، البيان ٨ : ٢٥.

(٥ - ٧) المغني ٦ : ٤٣٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

٣٧٨

بهما تبيّنّا كذبهما ، فيسقط قولهما ، كما لو ألحقته [ بأُمّين لو اتّفقتا ](١) على ذلك لم يثبت.

ولو ادّعاه [ كلّ ](٢) واحدٍ منهما وأقام بيّنةً ، سقطتا ، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت لهما باتّفاقهما ، وأُلحق بهما عند تعارض بيّنتهما ، بل جاز أن يلحق بهما بمجرّد دعواهما ؛ لعدم التنافي بين الدعويين حينئذٍ ، ولما قدّم في الحكم البيّنة على الدعوى ولا على القافة ، ولا قُدّمت القافة على الدعوى.

واحتجّ أحمد : بما روي عن عمر في امرأةٍ وطئها رجلان في طهرٍ ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعاً ، فجعله بينهما.

وبما رواه الشعبي عن عليٍّعليه‌السلام أنّه كان يقول : « هو ابنهما وهُما أبواه يرثهما ويرثانه ».

وعن سعيد بن المسيّب في رجلين اشتركا في وطئ امرأةٍ فولدت غلاماً يشبههما ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطّاب ، فدعا القافة فنظروا فقالوا : نراه يشبههما ، فألحقه بهما ، وجعله يرثهما ويرثانه(٣) .

وقول عمر لا حجّة فيه ، والنقل عن عليٍّعليه‌السلام لم يثبت ؛ لأنّ أهل البيت أعرف بمذهبه ومقالتهعليه‌السلام من غيرهم ، مع أنّهم اتّفقوا على إبطال هذا القول ، والعقل أيضاً دلّ عليه.

مسألة ٤٤٨ : لو ادّعاه أكثر من اثنين أو من ثلاث ، حُكم بالقرعة مع‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « باثنين لو اتّفقا ». والمثبت هو الصحيح.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « رجل ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المغني ٦ : ٤٣١ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٥.

٣٧٩

عدم البيّنة ومع تعارضهما عندنا.

والقائلون بالقافة اختلفوا ، فعن أحمد روايتان :

إحداهما : إنّه يلحق بالثلاثة فما زاد ؛ لوجود المقتضي للإلحاق عندهم.

والثانية : إنّه لا يلحق بأكثر من اثنين ، وهو قول أبي يوسف ؛ اقتصاراً على ما ورد به [ الأثر ](١) عن عمر(٢) .

وقال بعض أصحابه : لا يلحق بأكثر من ثلاثة ، وهو قول محمّد بن الحسن ، وروي ذلك عن أبي يوسف أيضاً(٣) .

والكلّ باطل عندنا.

ثمّ لو جوّزنا الأكثر ، فأيّ دليلٍ دلّ على الحصر في الثلاثة؟ وهل هو إلّا تحكّمٌ محض؟ فإنّ القائل به لم يقتصر على المنصوص عن عمر ولا قال بتعدية الحكم إلى كلّ ما وُجد فيه المعنى ، وليس في الثلاثة معنىً [ خاصٌّ ](٤) يقتضي إلحاق النسب بهم ، فلا يجوز الاقتصار عليه بالتحكّم.

مسألة ٤٤٩ : إذا تداعياه اثنان أو ما زاد ، وجب عليهما النفقة في مدّة الانتظار إمّا إلى أن يثبت بالبيّنة أو بالقرعة التحاقه بأحدهما ، أو بالقافة عند القائلين بها ، أو بإقراره عند بلوغه ، كما هو قول الشافعي في الجديد ، أو‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « الأمر ». والمثبت كما في المغني والشرح الكبير.

(٢) المغني ٦ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٩٩ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠.

(٣) المغني ٦ : ٤٣٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٠.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة : « خاصّاً ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466