تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء12%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150733 / تحميل: 5377
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

بلوغه حدّ التمييز عند الشافعي في القديم(١) ، فإذا بلغ وانتسب إلى أحدهما رجع الآخَر عليه بما أنفق ، قاله الشافعي(٢) .

ويحتمل عدم الرجوع ؛ لأنّه مُقرٌّ باستحقاق الإنفاق عليه.

ولو انتفت البيّنة عنهما ، فقد قلنا بالقرعة ، وعند الشافعي وأحمد الرجوع إلى القافة ، فإن لم توجد قافة أو أشكل الأمر عليها أو تعارضت أقوالها أو وُجد مَنْ لا يوثق بقوله ، لم يرجّح أحدهما بذكر علامةٍ في جسده ؛ لأنّ ذلك لا يرجّح به في سائر الدعاوي سوى الالتقاط في المال ، ويضيع نسبه(٣) .

ولهم قولٌ آخَر : إنّه يُترك حتى يبلغ وينتسب إلى مَنْ شاء(٤) .

وقال أصحاب الرأي : يلحق بالمدّعيين بمجرّد الدعوى ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد سُمعت دعواه ، فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب ، كما لو أقرّا له بمالٍ(٥) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ دعواهما تعارضت ، ولا حجّة لواحدٍ منهما ، فلم يثبت ، كما لو ادّعيا رقّه.

وقول الشافعي : « إنّه يُحكم به لمن يميل قلبه إليه »(٦) ليس بشي‌ءٍ ؛

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ و ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ و ٥٠٨ ، المغني ٦ : ٤٣٢ - ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٩.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٩ ، وراجع : الهامش (١) من ص ٣٧٧.

(٥) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠ ، وراجع : الهامش (٤) من ص ٣٧٥.

(٦) راجع : الهامش (١) من ص ٣٧٧.

٣٨١

لأنّ الميل القلبي لا ينحصر في القرابة ، فإنّ المحسن يميل الطبع إليه ، فإنّ القلوب جُبلت على حُبّ مَنْ أحسن إليها وبُغض مَنْ أساء إليها ، وقد يميل إليه لإساءة الآخَر إليه ، وقد يميل إلى أحسنهما خلقاً وأعظمهما قدراً أو جاهاً أو مالاً ، فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب.

وقول عمر : والِ أيّهما شئت(١) ، ليس بحجّةٍ ؛ لأنّه إنّما أمره بالموالاة ، لا بالانتساب.

وعلى قول الشافعي : « إنّه يلحق بمن ينتسب إليه » لو انتسب إلى أحدهما ثمّ عاد وانتسب إلى الآخَر ، أو نفى نسبه من الأوّل ولم ينتسب إلى أحدٍ ، لم يُقبل منه ؛ لأنّه قد ثبت نسبه ، فلا يُقبل رجوعه(٢) .

والتصديق عندنا معتبر في حقّ البالغ العاقل ، فيجي‌ء هذا الحكم عليه.

مسألة ٤٥٠ : ولو لم ينتسب اللقيط إلى أحد المدّعيين ، بقي الأمر موقوفاً على القرعة عندنا وإلى أن يظهر نسبه بالقافة عند الشافعيّة(٣) أو بالبيّنة.

ولو انتسب إلى غير المدّعيين وادّعاه ذلك الغير ، ثبت نسبه منه ، وبه قال الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب إلحاق القائف بهما جميعاً لم يُقبل انتسابه إلى غيرهما(٥) .

ولو انتسب إلى أحدهما لفقد القائف ثمّ وجد القائف ، قال الشافعي :

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٤٠ - ٧٤١ / ٢٢ ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٦٣ ، شرح معاني الآثار ٤ : ١٦٢ ، المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٥٤ ، البيان ٨ : ٢٥.

(٣) راجع : الهامش (٢) من ص ٣٧٢.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

٣٨٢

يُعرض عليه ، فإن ألحقه بالثاني ، قدّمنا قوله على الانتساب ؛ لأنّه حجّة أو حكم(١) .

وقال بعضهم : يُقدّم الانتساب على قول القائف ، وعلى هذا فمهما ألحقه القائف بأحدهما فللآخَر أن ينازعه ويقول : ننتظر حتى يبلغ فينتسب(٢) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ إذ لا عبرة بقول القائف في مذهبنا لو خلا عن المعارض فكيف إذا عارضه التصديق.

وعلى قول الشافعي لو ألحقه القائف بأحدهما ثمّ أقام الآخَر بيّنةً ، قُدّمت البيّنة على قول القائف ؛ لأنّ البيّنة حجّة يعتمد عليها في كلّ خصومةٍ ، وقول القائف مستنده حدس وتخمين(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : لا ننقض ما حكمنا به ولا نعمل بالبيّنة(٤) .

مسألة ٤٥١ : لو ادّعت المرأة بنوّته ، ففي إلحاقها بالرجل في ثبوت النسب بمجرّد الدعوى من غير تصديقٍ ولا بيّنةٍ إذا لم يكن معارض قولان لعلمائنا سبقا(٥) .

فإن قلنا بمساواتها للرجل لو ادّعت امرأتان بنوّته وأقامتا بيّنتين أو لم تكن هناك بيّنة ، فالقرعة عندنا ، كالرجلين.

وللشافعيّة في عرضه على القافة وجهان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ معرفة الأُمومة يقيناً بمشاهدة الولادة ممكنة.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦ - ٥٠٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٥) في ص ٣٦٩.

٣٨٣

وأصحّهما : إنّه يُعرض ؛ لأنّ قول القائف حجّة أو حكم ، فكان كالبيّنة ، وعلى هذا تبتنى تجربة القائف وامتحانه(١) .

وإذا ألحقه القائف بإحداهما وهي ذات زوجٍ ، لحق زوجها أيضاً عند الشافعيّة ، كما لو قامت البيّنة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه لا يلحقه(٣) .

وهو المعتمد ؛ لأنّ قول القائف لا يصلح للإلحاق بالمنكر ، فإنّ القائف لا يلحق المنبوذ بمن لا يدّعيه.

ولا فرق بين أن تكون إحدى الامرأتين مسلمةً والأُخرى كافرةً أو كانتا كافرتين.

وروي عن أحمد في يهوديّةٍ ومسلمةٍ ولدتا فادّعت اليهوديّة ولد المسلمة ، فتوقّف ، فقيل : يرى القافة ، فقال : ما أحسنه ، ولأنّ الشبه يوجد بينها وبين ابنها كما يوجد بين الرجل وابنه بل أكثر ؛ لاختصاصها بحمله وتغذيته ، والكافرة والمسلمة والحُرّة والأمة في التشابه سواء(٤) .

وقد عرفت بطلان القول بالقافة عندنا.

ولو ألحقته القافة بأُمّين ، لم يلحق بهما إجماعاً عندنا وعند القائلين بالقافة(٥) ؛ لأنّه يُعلم خطؤه يقيناً.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٦ - ٤٣٧.

(٥) المغني ٦ : ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

٣٨٤

وقال أصحاب الرأي : يلحق بهما بمجرّد الدعوى ؛ لأنّ الأُم أحد الأبوين ، فجاز أن يلحق بأُمّين كالآباء(١) .

وهذا غلط ؛ لأنّا نعلم يقيناً استحالة كونه منهما ، فلم يجز إلحاقه بهما ، كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما.

وفرّق الشافعيّة بين الأُمّين والأبوين ؛ لأنّه يجوز اجتماع نطفتي رجلين في رحم امرأةٍ ويمكن أن يخلق منهما ولد ، كما يخلق من نطفة الرجل وامرأةٍ ، ولذلك قال القائف لعمر : قد اشتركا فيه(٢) ، ولا يلزم من إلحاقه بمَنْ يتصوّر كونه منه إلحاقه بمَنْ يستحيل تكوّنه منه ، كما لم يلزم من إلحاقه بمَنْ يولد مثله لمثله إلحاقه بأصغر منه(٣) .

مسألة ٤٥٢ : ولو ادّعى نسبه رجل وامرأة ، أُلحق بهما ؛ لأنّه لا تنافي بينهما ؛ لإمكان أن يكون بينهما نكاح أو وطؤ شبهة ، فيلحق بهما جميعاً ، فيكون ابنهما بمجرّد دعواهما ، كما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

ولو قال الرجل : هذا ابني من زوجتي وادّعت زوجته ذلك وادّعت امرأة أُخرى أنّه ابنها ، فهو ابن الرجل.

وهل ترجّح زوجته على الأُخرى؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ زوجها أبوه فالظاهر أنّها أُمّه ، ولأنّها ادّعت وحصل لدعواها قرينة تصديق الرجل إيّاها ، بخلاف الأُخرى ، فإنّه حصل لدعواها معارضة تكذيب الأب لها.

ويحتمل تساويهما ؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لو انفردت لالتحق بها ، فإذا اجتمعتا تساوتا.

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

(٢) سنن البيهقي ١٠ : ٢٦٣ و ٢٦٤.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٥٩ ، وراجع : المغني ٦ : ٤٣٥ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

٣٨٥

ولو ادّعت المرأة الأُخرى أنّه ابنها من زوجها وادّعى الرجل غير الزوج أنّه ابنه من زوجته غير المدّعية أوّلاً وصدّق الزوجُ المرأةَ المدّعية والزوجةُ الرجل المدّعي ، تعارضت الدعاوي وتساوى المتنازعان.

مسألة ٤٥٣ : إذا ادّعى بنوّته اثنان وأحدهما عبد ، تساويا في الدعوى ، ويكون الحكم القرعة كالحُرّين - وبه قال أحمد والشافعي على تقدير قبول استلحاق العبد ، إلّا أنّهما يعرضانه على القافة(١) - لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد صحّت دعواه ، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى ، كالأحرار المسلمين.

وإن قلنا : لا يقبل استلحاق العبد - كما ذهب إليه الشافعي في القول الآخَر(٢) - فإنّ الحُرّ يكون أولى من العبد.

وقال أبو حنيفة : الحُرّ أولى من العبد ؛ لأنّ على اللقيط ضرراً في إلحاقه بالعبد ، فكان إلحاقه بالحُرّ أولى ، كما لو تنازعا في الحضانة(٣) .

ونمنع الضرر ؛ لأنّا لم نحكم برقّه ، والنسب لا يشبه الحضانة ؛ لأنّا نقدّم في الحضانة الموسر والحضريّ ، ولا نقدّمهما في دعوى النسب.

مسألة ٤٥٤ : ولو كان أحد المدّعيين مسلماً والآخَر كافراً ، تساويا أيضاً ، وحُكم بالقرعة عندنا ، وبالعرض على القافة عند الشافعي وأحمد(٤) ؛

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، الوجيز ١ : ٢٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٤ ، المغني ٦ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ و ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ و ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٢٣ و ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ و ٤٣٢.

٣٨٦

لاستوائهما في الاستلحاق وجهات النسب.

وقال أبو حنيفة : المسلم أولى من الذمّي ؛ لما تقدّم من لحوق الضرر باللقيط لو ألحقناه بالذمّي(١) .

وهو ممنوع ؛ لما تقدّم من أنّا لا نحكم بكفر اللقيط وإن ألحقناه به في النسب.

وكذا لو كان أحدهما حُرّاً مسلماً والآخَر عبداً كافراً ، فإنّهما يتساويان عندنا وعند الشافعي وأحمد(٢) ، ويُقدّم المسلم الحُرّ عند أبي حنيفة(٣) .

ولو كان أحدهما مسلماً عبداً والآخَر حُرّاً كافراً ، تساويا عندنا.

ويتأتّى على قول أبي حنيفة ذلك أيضاً ؛ لما في كلّ واحدٍ منهما من صفات الأرجحيّة والمرجوحيّة.

مسألة ٤٥٥ : لو اختصّ أحد المتداعيين باليد ، فإن كان صاحب اليد هو الملتقطَ لم يُقدَّم ؛ لأنّ اليد لا تدلّ على النسب.

نعم ، لو استلحقه الملتقط أوّلاً وحكمنا بالنسب ثمّ ادّعاه آخَر فالأقوى : تقديم الملتقط ؛ لأنّا أثبتنا نسبه قبل معارضة المدّعي.

وقال الشافعي : يُعرض مع الثاني على القائف ، [ فإن نفاه بقي لاحقاً بالملتقط باستلحاقه ، وإن ألحقه بالثاني عُرض مع الملتقط عليه ](٤) فإن نفاه عنه فهو للثاني ، وإن ألحقه به أيضاً فقد تعذّر العمل بقول القائف‌

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٤ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٩ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، المغني ٦ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١.

(٢ و ٣) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين » وورد مؤدّاه في « الحاوي الكبير » و « التهذيب ».

٣٨٧

فيُوقَف(١) .

وإن كان صاحب اليد غيرَ الملتقط ، فقد حكى الجويني عنه أنّه إن كان قد استلحقه حُكم بالنسب له ، ثمّ إن جاء آخَر وادّعى نسبه لم يُلتفت إليه ؛ لثبوت النسب من الأوّل معتضداً باليد وتصرّفِ الآباء في الأولاد ، وإن لم يُسمع استلحاقه إلّا بعد ما جاء الثاني واستلحقه ، ففيه وجهان :

أحدهما : تقديم صاحب اليد كما يُقدّم استلحاقه.

وأشبههما عندهم : التساوي ؛ لأنّ الغالب من حال الأب أن يذكر نسب ولده ويشهره ، فإذا لم يفعل صارت يده كيد الملتقط في أنّها لا تدلّ على النسب(٢) .

مسألة ٤٥٦ : لو تداعياه اثنان فأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنةً وتعارضتا ، أُقرِع بينهما عندنا ، وقد تقدّم(٣) دليله.

وللشافعي في تعارض البيّنتين في الأملاك قولان :

أحدهما : التساقط ، فعلى تقديره تتساقطان هنا أيضاً ، ويرجع إلى قول القائف ، أو لا تتساقطان وتُرجَّح إحداهما بقول القائف.

والثاني : إنّهما تُستعملان إمّا بالتوقّف أو بالقسمة أو بالقرعة على ثلاثة أقوال معروفة بينهم(٤) .

والتوقّف لا يمكن هنا ؛ لما فيه من الإضرار بالطفل ، ولا القسمة ؛ إذ لا مجال لها في النسب. وأمّا القرعة ففيه وجهان :

أحدهما : إنّها تجري هنا ، فيُقرع ويُقدَّم مَنْ خرجت قرعته.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) في ص ٣٧١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

٣٨٨

والثاني : المنع ؛ لأنّ القرعة لا تثبت في النسب ولا تعمل به(١) .

ولو اختصّ أحدهما باليد لم ترجّح بيّنته باليد ، بخلاف الأملاك ، حيث تُقدّم فيها بيّنة ذي اليد ؛ لأنّ اليد تدلّ على الملك.

وقال بعض الشافعيّة : لو أقام أحدهما البيّنة على أنّه في يده منذ سنةٍ والثاني على أنّه في يده منذ شهرٍ وتنازعا في نسبه ، فالتي هي أسبق تاريخاً أولى ، وصاحبها مقدَّم(٢) .

وهو باطل ؛ لأنّ ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب.

ولو فرض تعرّض البيّنتين لنفس النسب ، فلا مجال فيه للتقدّم والتأخّر.

وإن شهدتا على الاستلحاق ، فيبنى على أنّ الاستلحاق من شخصٍ هل يمنع غيره من الاستلحاق بعده؟

فروع :

أ - وألحقه القائف بأحدهما ثمّ ألحقه بالثاني ، لم ينتقل إليه ، فإنّ الاجتهاد لا ينتقض بمثله.

ب - لو وصف أحد المتداعيين خالا(٣) أو أثر جراحةٍ في ظَهْرٍ أو بعض أعضائه الباطنة وأصاب ، لا يُقدّم جانبه - وبه قال الشافعي(٤) - كما لو وصف أحدهما في الملك المتنازع بينهما وصفاً خفيّاً ، لم يقدّم باعتبار ذلك ، كذا هنا.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٣) الخال : نكتة في الجسد. لسان العرب ١١ : ٢٣٢ « خيل ».

(٤) حلية العلماء ٥ : ٥٦٦ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨ ، المغني ٦ : ٤١٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٦.

٣٨٩

وقال أبو حنيفة : يقدّم ويثبت النسب للواصف(١) . وليس بشي‌ءٍ.

ج - لو تداعياه ثمّ رجع أحدهما ، أُلحق بالآخَر ؛ عملاً بالمقتضي ، وهي الدعوى السالمة عن معارضة الدعوى الأُخرى ؛ لبطلانها بالرجوع.

ولو رجع مَنْ وقعت عليه القرعة ، فكذلك ، ولو رجع الآخَر قبل القرعة أو بعدها ، فإشكال ، أمّا لو قامت لأحدهما بيّنة بدعواه ثمّ رجع ، فإنّه لا يُقبل رجوعه وإن بقي الآخَر على دعواه.

مسألة ٤٥٧ : لو تنازع اثنان في التقاط الصبي وولاية الحضانة والتعهّد ، فإن كان قبل أخذهما له أو حال أخذه ، فقد سبق(٢) .

وإن قال كلّ واحدٍ منهما : أنا الذي التقطتُه(٣) وإلَيَّ حفظه ، فإن اختصّ أحدهما باليد وقال الآخَر : إنّه أخذه منّي ، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه ، فإنّها تشهد بقوله.

وإن أقام كلٌّ منهما بيّنةً ، فبيّنة الخارج مقدَّمة عندنا ، كما في دعوى الملك ، فتُقدّم بيّنة الخارج.

وعند الشافعي تُقدَّم بيّنة ذي اليد ، فتُقدّم هنا أيضاً(٤) .

وإن لم يختص أحدهما باليد ، فإن لم يكن في يد واحدٍ منهما ، فهو كما لو أخذاه معاً وتشاحّا في حفظه ، فيجعله الحاكم عند مَنْ يراه منهما أو‌

____________________

(١) مختصر القدوري : ١٣٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٦ ، البيان ٧ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٨ ، المغني ٦ : ٤١٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٦.

(٢) في ص ٣١٦ ، المسألة ٤١٢.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « التقطه ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

٣٩٠

من غيرهما.

وإن كان في أيديهما معاً ، فإن حلفا معاً أو نكلا معاً ، فالحكم كما لو ازدحما على الأخذ وهُما متساويان ومتساويا الحال.

فإن حلف أحدهما دون الآخَر ، خُصّ به ، سواء كان في يدهما أو لم يكن في يد واحدٍ منهما.

فلو أقام كلّ واحدٍ منهما البيّنةَ على ما يدّعيه ، نُظر فإن كانت البيّنتان مطلقتين أو مقيّدتين بتأريخٍ واحد ، أو إحداهما مطلقة والأُخرى مقيّدة ، تعارضتا ، فإن قلنا بالتساقط - كما هو أحد قولَي الشافعي(١) - فكأنّه لا بيّنة ، وإن قلنا بالاستعمال ، لم يجئ قول الوقف للشافعيّة ولا قول القسمة ، بل قول القرعة(٢) ، كما نذهب نحن إليه ، فيقرع ويُسلّم إلى مَنْ خرجت قرعته بعد اليمين.

وللشافعي في اليمين قولان(٣) .

وإن قيّدتا بتأريخين مختلفين ، حُكم لمن سبق تأريخه ؛ لأنّ الثاني إنّما أخذ مَنْ قد ثبت الحقّ فيه لغيره ، بخلاف المال - عند الشافعي في أصحّ قولَيه(٤) - حيث لا يُحكم بسبق التأريخ فيه ؛ لأنه قد ينتقل ذلك عن الأسبق إلى الأحدث ، وليس كذلك الالتقاط ؛ فإنّه لا يُنقل اللقيط عن الملتقط ما دامت الأهليّة باقية ، فإذا ثبت السبق لزم استمراره.

قال بعض الشافعيّة : هذا إذا قلنا : إنّ مَن التقط لقيطاً ثمّ نبذه لم يسقط حقّه ، فإن أسقطناه فهو على القولين في الأموال ؛ لأنّه ربما نبذه الأوّل‌

____________________

(١ و ٢) البيان ٨ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

(٣) البيان ٨ : ١٨.

(٤) البيان ٨ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

٣٩١

فالتقطه غيره(١) .

ويتفرّع على تقديم البيّنة المتعرّضة للسبق فيما إذا كان اللقيط في يد أحدهما وأقام مَنْ في يده البيّنة وأقام الآخَر البيّنة على أنّه كان في يده انتزعه منه صاحب اليد : تقديم بيّنة مدّعي الانتزاع ؛ لإثباتها السبق.

ولو كان أحد المتداعيين مَنْ لا يُقرّ يده على اللقيط ، أُقرّ في يد الآخَر ، ولم يُلتفت إلى دعوى مَنْ لا يُقرّ اللقيط في يده بحالٍ ، ولا إلى بيّنته مطلقاً.

مسألة ٤٥٨ : لو ولدت امرأتان ابناً وبنتاً فادّعت كلّ واحدةٍ منهما أنّ الابن ولدها دون البنت ، فحكمه حكم التنازع في الولد لو لم تكن هناك بيّنة ، وذلك بأن يُقرع بينهما إن ألحقنا الولد بالأُم بمجرّد الدعوى ، وإن اعتبرنا التصديق انتظر بلوغه ، فإن صدّق إحداهما لحق بها ، وإلّا لم يلحق بواحدةٍ منهما.

وللحنابلة وجهان :

أحدهما : أن تُرى المرأتان القافة مع الولدين فيلحق كلّ واحدٍ منهما بمن ألحقته به ، كما لو لم يكن لهما ولد.

والثاني : أن يعرض لبنهما على أهل الطبّ والمعرفة ، فإنّ لبن الذكر يخالف لبن الأُنثى في الطبع والوزن ، فقد قيل : إنّ لبن الذكر ثقيل ولبن الأُنثى خفيف ، فيعتبران بطباعهما ووزنهما وما يختلفان به عند أهل المعرفة ، فمَن كان لبنها لبن الابن فهو لها والبنت للأُخرى(٢) .

ولو كان الولدان ذكرين أو أُنثيين ، أُقرع عندنا ، وعُرضا على القافة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

(٢) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨.

٣٩٢

عند العامّة(١) .

وقد روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في قضاياه أنّ امرأتين تداعيا ولداً وأنّ كلّ واحدةٍ منهما ادّعت أنّها أُمّه ، فوعظهماعليه‌السلام فلم ترجعا فأمر قنبراً بإحضار منشارٍ ، فقالتا لهعليه‌السلام : ما تصنع بالمنشار يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام : « أنشره بنصفين فأُعطي كلّ واحدةٍ منكما نصفَه » فرضيت إحداهما وبكت الأُخرى وقالت : يا أمير المؤمنين إذا كان الحال كذلك سلّمه إليها ، فحكم لها به(٢) .

مسألة ٤٥٩ : لو ادّعى اللقيطَ رجلان ، فقال أحدهما : هذا ابني ، وقال الآخَر : إنّه بنتي ، نُظر فإن كان ابناً فهو لمدّعيه ، وإن كانت بنتاً فهي لمدّعيها ؛ لأنّ كلّ واحدٍ لا يستحقّ غير ما ادّعاه.

ولو ظهر خنثى مشكلاً ، أُقرع بينهما إن لم تكن بيّنة.

ولو أقام كلٌّ منهما بيّنةً بما ادّعاه ، فالحكم فيه كالحكم فيما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

وعند أحمد يُرى القافة مع عدم البيّنة - وهو قول الشافعي - لعدم أولويّة تقديم قول أحدهما على الآخَر ؛ لتساويهما في الدعوى(٣) .

مسألة ٤٦٠ : لو وطئ رجلان امرأةً واحدة في طهرٍ واحد ، فإن كانا زانيين ، فلا حرمة لمائهما ، ولا يلتحق الولد بأحدهما.

وإن كان أحدهما زانياً ، فالولد للآخَر ؛ لقولهعليه‌السلام : « الولد للفراش ،

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨.

(٢) راجع : الإرشاد - للمفيد - ١ : ٢٠٤ - ٢٠٥ ، ومناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب - ٢ : ٣٦٧.

(٣) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، وراجع : الهامش (٢) من ص ٣٧٢.

٣٩٣

وللعاهر الحجر »(١) .

ولو لم يكونا زانيين بأن يطئا جاريةً مشتركة بينهما في طهرٍ واحد أو يطأ رجل امرأةً أُخرى لشبهةٍ في طهرٍ وطئها زوجها فيه ، أو وطئ جارية الآخَر بشبهة أنّها زوجته أو أمته في طهرٍ وطئها سيّدها فيه بأن يجدها على فراشه فيظنّها زوجته أو أمته ، أو يدعو زوجته أو أمته في ظلمةٍ فتجيبه زوجة الآخَر أو جاريته ، أو يتزوّجها كلٌّ منهما تزويجاً فاسداً ولا يعرفان فساده ، أو يكون نكاح أحدهما صحيحاً ونكاح الآخَر فاسداً بأن يقع في العدّة ولم يعلم ، فإنّ الحكم فيه عندنا بالقرعة ؛ لأنّه أمر مشكل.

وعند الشافعيّة وأحمد يُعرض على القافة(٢) .

البحث الرابع : في رقّ اللّقيط وحُرّيّته.

اللّقيط إمّا أن يُقرّ على نفسه بالرقّ في وقت اعتبار الإقرار ، أو لا يُقرّ ، وعلى التقدير الثاني فإمّا أن يدّعي رقّه مُدّعٍ ، أو لا يدّعيه أحد ، فإن ادّعاه فإمّا أن يقيم عليه بيّنةً ، أو لا يقيم ، فالأقسام أربعة.

____________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٥ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٠ و ١٠٨١ / ١٤٥٧ و ١٤٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٤٧ / ٢٠٠٦ و ٢٠٠٧ ، سنن أبي داوُد ٢ : ٢٨٢ و ٢٨٣ / ٢٢٧٣ و ٢٢٧٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٦٣ / ١١٥٧ ، سنن النسائي ٦ : ١٨٠ و ١٨١ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٨٩ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤٠ - ٤١ / ١٦٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٥٧ و ٤٠٢ و ٤١٢.

(٢) الحاوي الكبير ١٧ : ٣٨٠ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ١٢١ ، الوسيط ٧ : ٤٥٦ - ٤٥٧ ، الوجيز ٢ : ٢٧٣ ، حلية العلماء ٧ : ٢١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٧ ، البيان ١٠ : ٣٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٩٨ ، روضة الطالبين ٨ : ٣٧٦ ، المغني ٦ : ٤٣٦ - ٤٣٧ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤١.

٣٩٤

القسم الأوّل : أن لا يُقرّ ولا يدّعي رقّه أحد ، فهو على أصالة الحُرّيّة ؛ لأنّ الآدمي خُلق لتسخير غيره ، لا ليُسخّره غيره ، ولأنّ الأغلب على الناس الحُرّيّة ، فإلحاقه بالأغلب أولى ، وأيضاً الأحرار هُمْ أهل الدار ، والأرقّاء مجلوبون إليها ليسوا من أهلها ، فكما نحكم بالإسلام بظاهر الدار نحكم بالحُرّيّة.

وبعض الشافعيّة لا يجزم بالإسلام ، ويذهب إلى التوقّف ، وذلك التردّد يجري في الحُرّيّة عنده ، بل هي أولى بالتردّد من الإسلام ؛ لقوّة الإسلام واقتضائه الاستتباع ، ولذلك يتبع الولد أيَّ الأبوين كان في الإسلام ، دون الحُرّيّة ، ويتبع السابي في الإسلام - عند جماعةٍ - دون الحُرّيّة.

ثمّ فصّل فقال : نجزم بالحُرّيّة ما لم ينته الأمر إلى إلزام الغير شيئاً ، فإذا انتهى إليه تردّدنا ما لم يعترف الملتزم بحُرّيّته ، فيخرج من ذلك أنّا نحكم له بالملك فيما يصادفه معه جزماً ، وإذا أتلفه عليه متلف ، أخذنا العوض منه وصرفناه إليه ؛ لأنّ المال المعصوم مضمون على المتلف ، فليس أخذ الضمان والعوض بسبب الحُرّيّة حتى يقع التردّد فيه ، فإن أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه ، ويكون ميراثه لبيت المال ، وأرش جنايته فيه(١) ، وعندنا للإمام.

وإذا قُتل اللّقيط ، ففي القصاص للشافعيّة وجهان تقدّما(٢) ، فمَنْ لا يجزم بحُرّيّته وإسلامه لا يوجب القصاص على الحُرّ المسلم بقتله ، ويوجبه على الرقيق الكافر ؛ ومَنْ يجزم بالحُرّيّة والإسلام من الشافعيّة يُخرِّج وجوبَ القصاص بكلّ حالٍ على قولين ، بناءً على أنّه ليس له وارث‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢٠ - ٤٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٩.

(٢) في ص ٣٥٨ ، المسألة ٤٤٠.

٣٩٥

معيّن(١) .

وإذا قُتل خطأً ، فالواجب الدية في أظهر الوجهين ؛ أخذاً بظاهر الحُرّيّة ، وأقلّ الأمرين من الدية أو القيمة في الثاني ؛ بناءً على أنّ الحُرّيّة غير متيقّنةٍ ، فلا يؤخذ الجاني بما لا يتيقّن شغل ذمّته به(٢) .

وقال الجويني : قياس هذا أن نوجب له الأقلّ من قيمة عبدٍ أو دية مجوسيٍّ ؛ لإمكان الحمل على التمجّس(٣) .

مسألة ٤٦١ : قد بيّنّا أنّ اللقيط إن التُقط في دار الإسلام كان حُرّا ، بناءً على الدار ، فإنّها دار الإسلام ، والأصل فيه الحُرّيّة ، وهو قول عامّة أهل العلم ، إلّا النخعي(٤) .

قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أنّ اللقيط حُرٌّ ، روينا ذلك عن عليٍّعليه‌السلام وعمر بن الخطّاب ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبي والحكم وحمّاد ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ومَنْ تبعهم(٥) .

للأصل ، فإنّ الله تعالى خلق آدمعليه‌السلام وذرّيّته أحراراً ، وإنّما الرقّ لعارضٍ ، فإذا لم يُعلم ذلك العارض فله حكم الأصل.

وقال النخعي : إن التقطه الملتقط للحسبة ، فهو حُرٌّ ، وإن كان يعزم أنّه يسترقّه ، فذلك له(٦) .

وهو قولٌ شاذّ لم يصر إليه أحد من العلماء ، ولا يصحّ في النظر ؛

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٩.

(٤) المغني والشرح الكبير ٦ : ٤٠٣.

(٥) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٣ ، وعنه في المغني والشرح الكبير ٦ : ٤٠٣.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٣ - ٤٠٤.

٣٩٦

لأصالة الحُرّيّة.

فإن التقط في دار الحرب ولا مسلم فيها ، قال علماؤنا : إنّه يكون رقّاً.

والأقرب عندي : الحكم بحُرّيّته ؛ عملاً بالأصل ، لكن تتجدّد الرقّيّة عليه بالاستيلاء عليه ؛ لأنّه كافر تبعاً للدار الخالية من مسلمٍ واحد.

مسألة ٤٦٢ : لو قذف أحدٌ اللقيطَ ، فإن كان اللقيط صغيراً عُزّر. وإن كان بالغاً ، فإن اعترف القاذف بحُرّيّته حُدّ قطعاً.

وإن ادّعى رقّه ، فإن صدّقه اللقيط سقط الحدّ ، ووجب التعزير ؛ لأنّه الواجب في قذف العبيد ، لأنّ المستحقّ أقرّ بسقوط الحدّ.

وإن كذّبه اللقيط وقال : إنّي حُرٌّ ، فالقول قوله ؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته ، فقوله موافق للظاهر ، وأوجبنا له القصاص على الحُرّ ، بناءً على الظاهر ، والأُمور الشرعيّة منوطة بالظاهر ، فيثبت الحدّ ، كثبوت القصاص ، وهو أحد قولَي الشيخرحمه‌الله .

وقال في الآخَر : لا يُحدّ ، بل يُعزَّر ؛ لأنّ الحكم بالحُرّيّة غير معلومٍ ، بل هو بالبناء على الظاهر ، وهو محتمل للنقيض ، فيحصل الاشتباه الموجب لسقوط الحدّ ، فإنّ الحدّ يُدرأ بالشبهات ، بخلاف القصاص لو ادّعى الجاني أنّه عبد ؛ لأنّ القصاص ليس بحدٍّ ، وإنّما وجب حقناً للآدميّ(١) .

وأصحّ قولَي الشافعيّة عندهم : الأوّل ؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة ، فيُحدّ القاذف ، إلّا أن يقيم بيّنةً على الرقّ ، وهو قول المزني.

والثاني : أصالة البراءة ، وتصديق قول القاذف ؛ لاحتمال أن يكون‌

____________________

(١) راجع : المبسوط - للطوسي - ٣ : ٣٤٧.

٣٩٧

رقيقاً ، فلا يقطع بثبوت حقٍّ في الذمّة بأمرٍ محتمل(١) .

وقطع بعض الشافعيّة بالقول الأوّل ؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار ، وحمل القول الثاني على مجهولٍ لم تُعلم حُرّيّته بالدار(٢) .

مسألة ٤٦٣ : لو قطع حُرٌّ طرفه وادّعى رقّه ، وادّعى اللقيط الحُرّيّة ، اقتصّ من الجاني ، وصُدِّق اللقيط ؛ للأصل.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : إجراء القولين تخريجاً لقول المنع من القصاص ممّا ذكر في اللعان ، فإنّ الشافعي قال فيه : إنّه يُحكم بقول القاذف : إنّه رقٌّ ، لا بدعواه الحُرّيّة ، والآخَر منصوص.

والثاني : القطع بالوجوب(٣) .

وقد فرّق القائلون بأمرين :

أ : بتصديق القاذف بأنّ المقصود من الحدّ الزجر ، وفي التعزير الذي يُعدل إليه من الحدّ ما يحصّل بعض هذا الغرض ، والمقصود من القصاص التشفّي والمقابلة ، وليس في المال المعدول إليه من الحدّ ما يحصّل هذا الغرض.

وهو ممنوع ؛ لأنّ بعض غرض التشفّي يحصل بالإضرار له في أخذ ماله.

____________________

(١) مختصر المزني : ١٣٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، الوجيز ١ : ٢٥٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٩ - ٥٧٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٣ - ٥٧٤ ، البيان ٨ : ٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

٣٩٨

ب : إنّ ا ب :لتعزير الذي يُعدل إليه متيقّن ؛ لأنّه بعض الحدّ ، فالعدول إليه عدولٌ من ظاهرٍ أو مشكوكٍ إلى متيقّنٍ ، وإذا أسقطنا القصاص عدلنا إلى نصف الدية أو القيمة ، وذلك مشكوك فيه ؛ لأنّ الحُرّيّة شرط وجوب الدية ، والرقّ شرط [ وجوب ] القيمة ، فكان ذلك عدولاً من ظاهرٍ أو مشكوكٍ فيه إلى غير مشكوكٍ فيه ، ولأنّ حدّ القذف أقرب سقوطاً بالشبهة من القصاص ، فلذلك افترقا(١) .

مسألة ٤٦٤ : لو قذف اللقيط محصناً واعترف بأنّه حُرٌّ ، حُدَّ حَدّ الأحرار ؛ عملاً بمقتضى إقراره ، وإن ادّعى أنّه رقيق وصدّقه المقذوف ، حُدّ حَدّ العبيد ، وإن كذّبه فالأقرب : وجوب الثمانين عليه ؛ عملاً بأصالة الحُرّيّة.

وللشافعي قولان في أنّه يُحدّ حدّ العبيد أو حدّ الأحرار؟

وبنى أصحابه الأوّلَ على قبول إقراره مطلقاً ، والثاني على أنّه إنّما يُقبل فيما يضرّه ، لا فيما ينفعه ، وهُما على القولين فيما إذا ادّعى قاذف على اللقيط رقّه ، إن صدّقناه صدّقنا اللقيط هنا ، وإلّا فلا(٢) .

ولبعضهم وجهٌ آخَر : إنّه إن أقرّ لمعيّنٍ قُبِل إقراره ، وحُدّ حدّ العبيد ، وإن لم يعيّن حُدّ حدّ الأحرار(٣) .

إذا عرفت هذا ، فقد حصل للشافعيّة ثلاثة أوجُه ، فيقال : إن لم نوجب الدية في قتله فالقصاص أولى. وإن أوجبناها ففي القصاص وجهان ؛ لسقوطه بالشبهة ، فثالث الوجوه : وجوب الدية دون القصاص(٤) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، البيان ٨ : ٤٠ - ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢١.

٣٩٩

القسم الثاني : أن يدّعي رقَّ اللقيط ولا بيّنة.

ولنقدّم عليه مقدّمةً ، وهي : إنّ كلّ مَن ادّعى رقّيّة صغيرٍ في يده ولا تُعلم حُرّيّته ، فإنّه تُسمع دعواه ؛ لإمكانها إذا كانت غير اليد التي عرفنا استنادها إلى التقاط المنبوذ.

فإن كانت اليد هي يد اللقطة ، لم يُحكم برقّه ، وكان الحكم الأصل فيه الحُرّيّة - وهو أصحّ قولَي الشافعي(١) - ويحتاج الملتقط في دعوى الرقّيّة إلى البيّنة ؛ لأصالة الحُرّيّة ، فلا يخالف بمجرّد الدعوى.

والثاني للشافعي : إنّه يُقبل قول الملتقط ، ويُحكم له بالرقّ ، كما في يد غير الالتقاط ، وكما لو التقط مالاً وادّعى أنّه لا منازع له فيه ، فإنّه يُقبل قوله ، ويصحّ شراؤه منه(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ اليد إذا كانت عن الالتقاط ، يُعرف حدوثها لا بسبب الملك ؛ لما بيّنّا من أصالة الحُرّيّة ، ولم تظهر يد تدلّ على خلافها ، وأمّا يد غير اللقطة فإنّها تقضي بالملكيّة ؛ لأنّ الظاهر أنّ مَنْ في يده شي‌ء وهو متصرّف فيه تصرّفَ السادات في العبيد فإنّه ملكه ، ولم يُعرف حدوثها بسببٍ لا يقتضي الملك ، وأمّا المال الملقوط فإنّه يُحكم للملتقط به إذا ادّعى ملكيّته ؛ لأنّ المال في نفسه مملوك ، وليس في دعوى ملكيّته إخراج له عن صفة المال ، وأمّا اللقيط فإنّه حُرٌّ ظاهراً ، وفي دعواه تغيير هذه الصفة ، فافترقا ، فلا يجوز القياس.

وإن كانت اليد غير يد اللقطة ، حُكم لصاحبها بالرقّ إذا ادّعاه ، بناءً على الظاهر الذي سبق.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466