تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء12%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150654 / تحميل: 5376
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

بلوغه حدّ التمييز عند الشافعي في القديم(١) ، فإذا بلغ وانتسب إلى أحدهما رجع الآخَر عليه بما أنفق ، قاله الشافعي(٢) .

ويحتمل عدم الرجوع ؛ لأنّه مُقرٌّ باستحقاق الإنفاق عليه.

ولو انتفت البيّنة عنهما ، فقد قلنا بالقرعة ، وعند الشافعي وأحمد الرجوع إلى القافة ، فإن لم توجد قافة أو أشكل الأمر عليها أو تعارضت أقوالها أو وُجد مَنْ لا يوثق بقوله ، لم يرجّح أحدهما بذكر علامةٍ في جسده ؛ لأنّ ذلك لا يرجّح به في سائر الدعاوي سوى الالتقاط في المال ، ويضيع نسبه(٣) .

ولهم قولٌ آخَر : إنّه يُترك حتى يبلغ وينتسب إلى مَنْ شاء(٤) .

وقال أصحاب الرأي : يلحق بالمدّعيين بمجرّد الدعوى ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد سُمعت دعواه ، فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب ، كما لو أقرّا له بمالٍ(٥) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ دعواهما تعارضت ، ولا حجّة لواحدٍ منهما ، فلم يثبت ، كما لو ادّعيا رقّه.

وقول الشافعي : « إنّه يُحكم به لمن يميل قلبه إليه »(٦) ليس بشي‌ءٍ ؛

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ و ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ و ٥٠٨ ، المغني ٦ : ٤٣٢ - ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٩.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٩ ، وراجع : الهامش (١) من ص ٣٧٧.

(٥) المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠ ، وراجع : الهامش (٤) من ص ٣٧٥.

(٦) راجع : الهامش (١) من ص ٣٧٧.

٣٨١

لأنّ الميل القلبي لا ينحصر في القرابة ، فإنّ المحسن يميل الطبع إليه ، فإنّ القلوب جُبلت على حُبّ مَنْ أحسن إليها وبُغض مَنْ أساء إليها ، وقد يميل إليه لإساءة الآخَر إليه ، وقد يميل إلى أحسنهما خلقاً وأعظمهما قدراً أو جاهاً أو مالاً ، فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب.

وقول عمر : والِ أيّهما شئت(١) ، ليس بحجّةٍ ؛ لأنّه إنّما أمره بالموالاة ، لا بالانتساب.

وعلى قول الشافعي : « إنّه يلحق بمن ينتسب إليه » لو انتسب إلى أحدهما ثمّ عاد وانتسب إلى الآخَر ، أو نفى نسبه من الأوّل ولم ينتسب إلى أحدٍ ، لم يُقبل منه ؛ لأنّه قد ثبت نسبه ، فلا يُقبل رجوعه(٢) .

والتصديق عندنا معتبر في حقّ البالغ العاقل ، فيجي‌ء هذا الحكم عليه.

مسألة ٤٥٠ : ولو لم ينتسب اللقيط إلى أحد المدّعيين ، بقي الأمر موقوفاً على القرعة عندنا وإلى أن يظهر نسبه بالقافة عند الشافعيّة(٣) أو بالبيّنة.

ولو انتسب إلى غير المدّعيين وادّعاه ذلك الغير ، ثبت نسبه منه ، وبه قال الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب إلحاق القائف بهما جميعاً لم يُقبل انتسابه إلى غيرهما(٥) .

ولو انتسب إلى أحدهما لفقد القائف ثمّ وجد القائف ، قال الشافعي :

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٤٠ - ٧٤١ / ٢٢ ، سنن البيهقي ١٠ : ٢٦٣ ، شرح معاني الآثار ٤ : ١٦٢ ، المغني ٦ : ٤٣٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤٠.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٥٤ ، البيان ٨ : ٢٥.

(٣) راجع : الهامش (٢) من ص ٣٧٢.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

٣٨٢

يُعرض عليه ، فإن ألحقه بالثاني ، قدّمنا قوله على الانتساب ؛ لأنّه حجّة أو حكم(١) .

وقال بعضهم : يُقدّم الانتساب على قول القائف ، وعلى هذا فمهما ألحقه القائف بأحدهما فللآخَر أن ينازعه ويقول : ننتظر حتى يبلغ فينتسب(٢) .

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ إذ لا عبرة بقول القائف في مذهبنا لو خلا عن المعارض فكيف إذا عارضه التصديق.

وعلى قول الشافعي لو ألحقه القائف بأحدهما ثمّ أقام الآخَر بيّنةً ، قُدّمت البيّنة على قول القائف ؛ لأنّ البيّنة حجّة يعتمد عليها في كلّ خصومةٍ ، وقول القائف مستنده حدس وتخمين(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : لا ننقض ما حكمنا به ولا نعمل بالبيّنة(٤) .

مسألة ٤٥١ : لو ادّعت المرأة بنوّته ، ففي إلحاقها بالرجل في ثبوت النسب بمجرّد الدعوى من غير تصديقٍ ولا بيّنةٍ إذا لم يكن معارض قولان لعلمائنا سبقا(٥) .

فإن قلنا بمساواتها للرجل لو ادّعت امرأتان بنوّته وأقامتا بيّنتين أو لم تكن هناك بيّنة ، فالقرعة عندنا ، كالرجلين.

وللشافعيّة في عرضه على القافة وجهان :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ معرفة الأُمومة يقيناً بمشاهدة الولادة ممكنة.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦ - ٥٠٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٥) في ص ٣٦٩.

٣٨٣

وأصحّهما : إنّه يُعرض ؛ لأنّ قول القائف حجّة أو حكم ، فكان كالبيّنة ، وعلى هذا تبتنى تجربة القائف وامتحانه(١) .

وإذا ألحقه القائف بإحداهما وهي ذات زوجٍ ، لحق زوجها أيضاً عند الشافعيّة ، كما لو قامت البيّنة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه لا يلحقه(٣) .

وهو المعتمد ؛ لأنّ قول القائف لا يصلح للإلحاق بالمنكر ، فإنّ القائف لا يلحق المنبوذ بمن لا يدّعيه.

ولا فرق بين أن تكون إحدى الامرأتين مسلمةً والأُخرى كافرةً أو كانتا كافرتين.

وروي عن أحمد في يهوديّةٍ ومسلمةٍ ولدتا فادّعت اليهوديّة ولد المسلمة ، فتوقّف ، فقيل : يرى القافة ، فقال : ما أحسنه ، ولأنّ الشبه يوجد بينها وبين ابنها كما يوجد بين الرجل وابنه بل أكثر ؛ لاختصاصها بحمله وتغذيته ، والكافرة والمسلمة والحُرّة والأمة في التشابه سواء(٤) .

وقد عرفت بطلان القول بالقافة عندنا.

ولو ألحقته القافة بأُمّين ، لم يلحق بهما إجماعاً عندنا وعند القائلين بالقافة(٥) ؛ لأنّه يُعلم خطؤه يقيناً.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٧ ، البيان ٨ : ٢٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٤) المغني ٦ : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٦ - ٤٣٧.

(٥) المغني ٦ : ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

٣٨٤

وقال أصحاب الرأي : يلحق بهما بمجرّد الدعوى ؛ لأنّ الأُم أحد الأبوين ، فجاز أن يلحق بأُمّين كالآباء(١) .

وهذا غلط ؛ لأنّا نعلم يقيناً استحالة كونه منهما ، فلم يجز إلحاقه بهما ، كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما.

وفرّق الشافعيّة بين الأُمّين والأبوين ؛ لأنّه يجوز اجتماع نطفتي رجلين في رحم امرأةٍ ويمكن أن يخلق منهما ولد ، كما يخلق من نطفة الرجل وامرأةٍ ، ولذلك قال القائف لعمر : قد اشتركا فيه(٢) ، ولا يلزم من إلحاقه بمَنْ يتصوّر كونه منه إلحاقه بمَنْ يستحيل تكوّنه منه ، كما لم يلزم من إلحاقه بمَنْ يولد مثله لمثله إلحاقه بأصغر منه(٣) .

مسألة ٤٥٢ : ولو ادّعى نسبه رجل وامرأة ، أُلحق بهما ؛ لأنّه لا تنافي بينهما ؛ لإمكان أن يكون بينهما نكاح أو وطؤ شبهة ، فيلحق بهما جميعاً ، فيكون ابنهما بمجرّد دعواهما ، كما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

ولو قال الرجل : هذا ابني من زوجتي وادّعت زوجته ذلك وادّعت امرأة أُخرى أنّه ابنها ، فهو ابن الرجل.

وهل ترجّح زوجته على الأُخرى؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ زوجها أبوه فالظاهر أنّها أُمّه ، ولأنّها ادّعت وحصل لدعواها قرينة تصديق الرجل إيّاها ، بخلاف الأُخرى ، فإنّه حصل لدعواها معارضة تكذيب الأب لها.

ويحتمل تساويهما ؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لو انفردت لالتحق بها ، فإذا اجتمعتا تساوتا.

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

(٢) سنن البيهقي ١٠ : ٢٦٣ و ٢٦٤.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٥٩ ، وراجع : المغني ٦ : ٤٣٥ ، والشرح الكبير ٦ : ٤٣٧.

٣٨٥

ولو ادّعت المرأة الأُخرى أنّه ابنها من زوجها وادّعى الرجل غير الزوج أنّه ابنه من زوجته غير المدّعية أوّلاً وصدّق الزوجُ المرأةَ المدّعية والزوجةُ الرجل المدّعي ، تعارضت الدعاوي وتساوى المتنازعان.

مسألة ٤٥٣ : إذا ادّعى بنوّته اثنان وأحدهما عبد ، تساويا في الدعوى ، ويكون الحكم القرعة كالحُرّين - وبه قال أحمد والشافعي على تقدير قبول استلحاق العبد ، إلّا أنّهما يعرضانه على القافة(١) - لأنّ كلّ واحدٍ منهما لو انفرد صحّت دعواه ، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى ، كالأحرار المسلمين.

وإن قلنا : لا يقبل استلحاق العبد - كما ذهب إليه الشافعي في القول الآخَر(٢) - فإنّ الحُرّ يكون أولى من العبد.

وقال أبو حنيفة : الحُرّ أولى من العبد ؛ لأنّ على اللقيط ضرراً في إلحاقه بالعبد ، فكان إلحاقه بالحُرّ أولى ، كما لو تنازعا في الحضانة(٣) .

ونمنع الضرر ؛ لأنّا لم نحكم برقّه ، والنسب لا يشبه الحضانة ؛ لأنّا نقدّم في الحضانة الموسر والحضريّ ، ولا نقدّمهما في دعوى النسب.

مسألة ٤٥٤ : ولو كان أحد المدّعيين مسلماً والآخَر كافراً ، تساويا أيضاً ، وحُكم بالقرعة عندنا ، وبالعرض على القافة عند الشافعي وأحمد(٤) ؛

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، الوجيز ١ : ٢٥٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٤ ، المغني ٦ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٤ و ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٥ و ٥٠٦ ، المغني ٦ : ٤٢٣ و ٤٢٥ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١ و ٤٣٢.

٣٨٦

لاستوائهما في الاستلحاق وجهات النسب.

وقال أبو حنيفة : المسلم أولى من الذمّي ؛ لما تقدّم من لحوق الضرر باللقيط لو ألحقناه بالذمّي(١) .

وهو ممنوع ؛ لما تقدّم من أنّا لا نحكم بكفر اللقيط وإن ألحقناه به في النسب.

وكذا لو كان أحدهما حُرّاً مسلماً والآخَر عبداً كافراً ، فإنّهما يتساويان عندنا وعند الشافعي وأحمد(٢) ، ويُقدّم المسلم الحُرّ عند أبي حنيفة(٣) .

ولو كان أحدهما مسلماً عبداً والآخَر حُرّاً كافراً ، تساويا عندنا.

ويتأتّى على قول أبي حنيفة ذلك أيضاً ؛ لما في كلّ واحدٍ منهما من صفات الأرجحيّة والمرجوحيّة.

مسألة ٤٥٥ : لو اختصّ أحد المتداعيين باليد ، فإن كان صاحب اليد هو الملتقطَ لم يُقدَّم ؛ لأنّ اليد لا تدلّ على النسب.

نعم ، لو استلحقه الملتقط أوّلاً وحكمنا بالنسب ثمّ ادّعاه آخَر فالأقوى : تقديم الملتقط ؛ لأنّا أثبتنا نسبه قبل معارضة المدّعي.

وقال الشافعي : يُعرض مع الثاني على القائف ، [ فإن نفاه بقي لاحقاً بالملتقط باستلحاقه ، وإن ألحقه بالثاني عُرض مع الملتقط عليه ](٤) فإن نفاه عنه فهو للثاني ، وإن ألحقه به أيضاً فقد تعذّر العمل بقول القائف‌

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٤ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٩ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، المغني ٦ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣١.

(٢ و ٣) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين » وورد مؤدّاه في « الحاوي الكبير » و « التهذيب ».

٣٨٧

فيُوقَف(١) .

وإن كان صاحب اليد غيرَ الملتقط ، فقد حكى الجويني عنه أنّه إن كان قد استلحقه حُكم بالنسب له ، ثمّ إن جاء آخَر وادّعى نسبه لم يُلتفت إليه ؛ لثبوت النسب من الأوّل معتضداً باليد وتصرّفِ الآباء في الأولاد ، وإن لم يُسمع استلحاقه إلّا بعد ما جاء الثاني واستلحقه ، ففيه وجهان :

أحدهما : تقديم صاحب اليد كما يُقدّم استلحاقه.

وأشبههما عندهم : التساوي ؛ لأنّ الغالب من حال الأب أن يذكر نسب ولده ويشهره ، فإذا لم يفعل صارت يده كيد الملتقط في أنّها لا تدلّ على النسب(٢) .

مسألة ٤٥٦ : لو تداعياه اثنان فأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنةً وتعارضتا ، أُقرِع بينهما عندنا ، وقد تقدّم(٣) دليله.

وللشافعي في تعارض البيّنتين في الأملاك قولان :

أحدهما : التساقط ، فعلى تقديره تتساقطان هنا أيضاً ، ويرجع إلى قول القائف ، أو لا تتساقطان وتُرجَّح إحداهما بقول القائف.

والثاني : إنّهما تُستعملان إمّا بالتوقّف أو بالقسمة أو بالقرعة على ثلاثة أقوال معروفة بينهم(٤) .

والتوقّف لا يمكن هنا ؛ لما فيه من الإضرار بالطفل ، ولا القسمة ؛ إذ لا مجال لها في النسب. وأمّا القرعة ففيه وجهان :

أحدهما : إنّها تجري هنا ، فيُقرع ويُقدَّم مَنْ خرجت قرعته.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٥٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٦.

(٣) في ص ٣٧١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

٣٨٨

والثاني : المنع ؛ لأنّ القرعة لا تثبت في النسب ولا تعمل به(١) .

ولو اختصّ أحدهما باليد لم ترجّح بيّنته باليد ، بخلاف الأملاك ، حيث تُقدّم فيها بيّنة ذي اليد ؛ لأنّ اليد تدلّ على الملك.

وقال بعض الشافعيّة : لو أقام أحدهما البيّنة على أنّه في يده منذ سنةٍ والثاني على أنّه في يده منذ شهرٍ وتنازعا في نسبه ، فالتي هي أسبق تاريخاً أولى ، وصاحبها مقدَّم(٢) .

وهو باطل ؛ لأنّ ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب.

ولو فرض تعرّض البيّنتين لنفس النسب ، فلا مجال فيه للتقدّم والتأخّر.

وإن شهدتا على الاستلحاق ، فيبنى على أنّ الاستلحاق من شخصٍ هل يمنع غيره من الاستلحاق بعده؟

فروع :

أ - وألحقه القائف بأحدهما ثمّ ألحقه بالثاني ، لم ينتقل إليه ، فإنّ الاجتهاد لا ينتقض بمثله.

ب - لو وصف أحد المتداعيين خالا(٣) أو أثر جراحةٍ في ظَهْرٍ أو بعض أعضائه الباطنة وأصاب ، لا يُقدّم جانبه - وبه قال الشافعي(٤) - كما لو وصف أحدهما في الملك المتنازع بينهما وصفاً خفيّاً ، لم يقدّم باعتبار ذلك ، كذا هنا.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٧.

(٣) الخال : نكتة في الجسد. لسان العرب ١١ : ٢٣٢ « خيل ».

(٤) حلية العلماء ٥ : ٥٦٦ ، البيان ٨ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨ ، المغني ٦ : ٤١٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٦.

٣٨٩

وقال أبو حنيفة : يقدّم ويثبت النسب للواصف(١) . وليس بشي‌ءٍ.

ج - لو تداعياه ثمّ رجع أحدهما ، أُلحق بالآخَر ؛ عملاً بالمقتضي ، وهي الدعوى السالمة عن معارضة الدعوى الأُخرى ؛ لبطلانها بالرجوع.

ولو رجع مَنْ وقعت عليه القرعة ، فكذلك ، ولو رجع الآخَر قبل القرعة أو بعدها ، فإشكال ، أمّا لو قامت لأحدهما بيّنة بدعواه ثمّ رجع ، فإنّه لا يُقبل رجوعه وإن بقي الآخَر على دعواه.

مسألة ٤٥٧ : لو تنازع اثنان في التقاط الصبي وولاية الحضانة والتعهّد ، فإن كان قبل أخذهما له أو حال أخذه ، فقد سبق(٢) .

وإن قال كلّ واحدٍ منهما : أنا الذي التقطتُه(٣) وإلَيَّ حفظه ، فإن اختصّ أحدهما باليد وقال الآخَر : إنّه أخذه منّي ، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه ، فإنّها تشهد بقوله.

وإن أقام كلٌّ منهما بيّنةً ، فبيّنة الخارج مقدَّمة عندنا ، كما في دعوى الملك ، فتُقدّم بيّنة الخارج.

وعند الشافعي تُقدَّم بيّنة ذي اليد ، فتُقدّم هنا أيضاً(٤) .

وإن لم يختص أحدهما باليد ، فإن لم يكن في يد واحدٍ منهما ، فهو كما لو أخذاه معاً وتشاحّا في حفظه ، فيجعله الحاكم عند مَنْ يراه منهما أو‌

____________________

(١) مختصر القدوري : ١٣٤ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٣٥٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٩٩ ، المحيط البرهاني ٥ : ٤٢٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٢ : ١٧٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٦ ، البيان ٧ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٨ ، المغني ٦ : ٤١٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١٦.

(٢) في ص ٣١٦ ، المسألة ٤١٢.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « التقطه ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

٣٩٠

من غيرهما.

وإن كان في أيديهما معاً ، فإن حلفا معاً أو نكلا معاً ، فالحكم كما لو ازدحما على الأخذ وهُما متساويان ومتساويا الحال.

فإن حلف أحدهما دون الآخَر ، خُصّ به ، سواء كان في يدهما أو لم يكن في يد واحدٍ منهما.

فلو أقام كلّ واحدٍ منهما البيّنةَ على ما يدّعيه ، نُظر فإن كانت البيّنتان مطلقتين أو مقيّدتين بتأريخٍ واحد ، أو إحداهما مطلقة والأُخرى مقيّدة ، تعارضتا ، فإن قلنا بالتساقط - كما هو أحد قولَي الشافعي(١) - فكأنّه لا بيّنة ، وإن قلنا بالاستعمال ، لم يجئ قول الوقف للشافعيّة ولا قول القسمة ، بل قول القرعة(٢) ، كما نذهب نحن إليه ، فيقرع ويُسلّم إلى مَنْ خرجت قرعته بعد اليمين.

وللشافعي في اليمين قولان(٣) .

وإن قيّدتا بتأريخين مختلفين ، حُكم لمن سبق تأريخه ؛ لأنّ الثاني إنّما أخذ مَنْ قد ثبت الحقّ فيه لغيره ، بخلاف المال - عند الشافعي في أصحّ قولَيه(٤) - حيث لا يُحكم بسبق التأريخ فيه ؛ لأنه قد ينتقل ذلك عن الأسبق إلى الأحدث ، وليس كذلك الالتقاط ؛ فإنّه لا يُنقل اللقيط عن الملتقط ما دامت الأهليّة باقية ، فإذا ثبت السبق لزم استمراره.

قال بعض الشافعيّة : هذا إذا قلنا : إنّ مَن التقط لقيطاً ثمّ نبذه لم يسقط حقّه ، فإن أسقطناه فهو على القولين في الأموال ؛ لأنّه ربما نبذه الأوّل‌

____________________

(١ و ٢) البيان ٨ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

(٣) البيان ٨ : ١٨.

(٤) البيان ٨ : ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

٣٩١

فالتقطه غيره(١) .

ويتفرّع على تقديم البيّنة المتعرّضة للسبق فيما إذا كان اللقيط في يد أحدهما وأقام مَنْ في يده البيّنة وأقام الآخَر البيّنة على أنّه كان في يده انتزعه منه صاحب اليد : تقديم بيّنة مدّعي الانتزاع ؛ لإثباتها السبق.

ولو كان أحد المتداعيين مَنْ لا يُقرّ يده على اللقيط ، أُقرّ في يد الآخَر ، ولم يُلتفت إلى دعوى مَنْ لا يُقرّ اللقيط في يده بحالٍ ، ولا إلى بيّنته مطلقاً.

مسألة ٤٥٨ : لو ولدت امرأتان ابناً وبنتاً فادّعت كلّ واحدةٍ منهما أنّ الابن ولدها دون البنت ، فحكمه حكم التنازع في الولد لو لم تكن هناك بيّنة ، وذلك بأن يُقرع بينهما إن ألحقنا الولد بالأُم بمجرّد الدعوى ، وإن اعتبرنا التصديق انتظر بلوغه ، فإن صدّق إحداهما لحق بها ، وإلّا لم يلحق بواحدةٍ منهما.

وللحنابلة وجهان :

أحدهما : أن تُرى المرأتان القافة مع الولدين فيلحق كلّ واحدٍ منهما بمن ألحقته به ، كما لو لم يكن لهما ولد.

والثاني : أن يعرض لبنهما على أهل الطبّ والمعرفة ، فإنّ لبن الذكر يخالف لبن الأُنثى في الطبع والوزن ، فقد قيل : إنّ لبن الذكر ثقيل ولبن الأُنثى خفيف ، فيعتبران بطباعهما ووزنهما وما يختلفان به عند أهل المعرفة ، فمَن كان لبنها لبن الابن فهو لها والبنت للأُخرى(٢) .

ولو كان الولدان ذكرين أو أُنثيين ، أُقرع عندنا ، وعُرضا على القافة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٨.

(٢) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨.

٣٩٢

عند العامّة(١) .

وقد روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في قضاياه أنّ امرأتين تداعيا ولداً وأنّ كلّ واحدةٍ منهما ادّعت أنّها أُمّه ، فوعظهماعليه‌السلام فلم ترجعا فأمر قنبراً بإحضار منشارٍ ، فقالتا لهعليه‌السلام : ما تصنع بالمنشار يا أمير المؤمنين؟ فقالعليه‌السلام : « أنشره بنصفين فأُعطي كلّ واحدةٍ منكما نصفَه » فرضيت إحداهما وبكت الأُخرى وقالت : يا أمير المؤمنين إذا كان الحال كذلك سلّمه إليها ، فحكم لها به(٢) .

مسألة ٤٥٩ : لو ادّعى اللقيطَ رجلان ، فقال أحدهما : هذا ابني ، وقال الآخَر : إنّه بنتي ، نُظر فإن كان ابناً فهو لمدّعيه ، وإن كانت بنتاً فهي لمدّعيها ؛ لأنّ كلّ واحدٍ لا يستحقّ غير ما ادّعاه.

ولو ظهر خنثى مشكلاً ، أُقرع بينهما إن لم تكن بيّنة.

ولو أقام كلٌّ منهما بيّنةً بما ادّعاه ، فالحكم فيه كالحكم فيما لو انفرد كلّ واحدٍ منهما بالدعوى.

وعند أحمد يُرى القافة مع عدم البيّنة - وهو قول الشافعي - لعدم أولويّة تقديم قول أحدهما على الآخَر ؛ لتساويهما في الدعوى(٣) .

مسألة ٤٦٠ : لو وطئ رجلان امرأةً واحدة في طهرٍ واحد ، فإن كانا زانيين ، فلا حرمة لمائهما ، ولا يلتحق الولد بأحدهما.

وإن كان أحدهما زانياً ، فالولد للآخَر ؛ لقولهعليه‌السلام : « الولد للفراش ،

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨.

(٢) راجع : الإرشاد - للمفيد - ١ : ٢٠٤ - ٢٠٥ ، ومناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب - ٢ : ٣٦٧.

(٣) المغني ٦ : ٤٣٦ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٣٨ ، وراجع : الهامش (٢) من ص ٣٧٢.

٣٩٣

وللعاهر الحجر »(١) .

ولو لم يكونا زانيين بأن يطئا جاريةً مشتركة بينهما في طهرٍ واحد أو يطأ رجل امرأةً أُخرى لشبهةٍ في طهرٍ وطئها زوجها فيه ، أو وطئ جارية الآخَر بشبهة أنّها زوجته أو أمته في طهرٍ وطئها سيّدها فيه بأن يجدها على فراشه فيظنّها زوجته أو أمته ، أو يدعو زوجته أو أمته في ظلمةٍ فتجيبه زوجة الآخَر أو جاريته ، أو يتزوّجها كلٌّ منهما تزويجاً فاسداً ولا يعرفان فساده ، أو يكون نكاح أحدهما صحيحاً ونكاح الآخَر فاسداً بأن يقع في العدّة ولم يعلم ، فإنّ الحكم فيه عندنا بالقرعة ؛ لأنّه أمر مشكل.

وعند الشافعيّة وأحمد يُعرض على القافة(٢) .

البحث الرابع : في رقّ اللّقيط وحُرّيّته.

اللّقيط إمّا أن يُقرّ على نفسه بالرقّ في وقت اعتبار الإقرار ، أو لا يُقرّ ، وعلى التقدير الثاني فإمّا أن يدّعي رقّه مُدّعٍ ، أو لا يدّعيه أحد ، فإن ادّعاه فإمّا أن يقيم عليه بيّنةً ، أو لا يقيم ، فالأقسام أربعة.

____________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٥ ، صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٠ و ١٠٨١ / ١٤٥٧ و ١٤٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٤٧ / ٢٠٠٦ و ٢٠٠٧ ، سنن أبي داوُد ٢ : ٢٨٢ و ٢٨٣ / ٢٢٧٣ و ٢٢٧٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٦٣ / ١١٥٧ ، سنن النسائي ٦ : ١٨٠ و ١٨١ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٨٩ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤٠ - ٤١ / ١٦٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٥٧ و ٤٠٢ و ٤١٢.

(٢) الحاوي الكبير ١٧ : ٣٨٠ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ١٢١ ، الوسيط ٧ : ٤٥٦ - ٤٥٧ ، الوجيز ٢ : ٢٧٣ ، حلية العلماء ٧ : ٢١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٣٤٧ ، البيان ١٠ : ٣٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٢٩٨ ، روضة الطالبين ٨ : ٣٧٦ ، المغني ٦ : ٤٣٦ - ٤٣٧ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤١.

٣٩٤

القسم الأوّل : أن لا يُقرّ ولا يدّعي رقّه أحد ، فهو على أصالة الحُرّيّة ؛ لأنّ الآدمي خُلق لتسخير غيره ، لا ليُسخّره غيره ، ولأنّ الأغلب على الناس الحُرّيّة ، فإلحاقه بالأغلب أولى ، وأيضاً الأحرار هُمْ أهل الدار ، والأرقّاء مجلوبون إليها ليسوا من أهلها ، فكما نحكم بالإسلام بظاهر الدار نحكم بالحُرّيّة.

وبعض الشافعيّة لا يجزم بالإسلام ، ويذهب إلى التوقّف ، وذلك التردّد يجري في الحُرّيّة عنده ، بل هي أولى بالتردّد من الإسلام ؛ لقوّة الإسلام واقتضائه الاستتباع ، ولذلك يتبع الولد أيَّ الأبوين كان في الإسلام ، دون الحُرّيّة ، ويتبع السابي في الإسلام - عند جماعةٍ - دون الحُرّيّة.

ثمّ فصّل فقال : نجزم بالحُرّيّة ما لم ينته الأمر إلى إلزام الغير شيئاً ، فإذا انتهى إليه تردّدنا ما لم يعترف الملتزم بحُرّيّته ، فيخرج من ذلك أنّا نحكم له بالملك فيما يصادفه معه جزماً ، وإذا أتلفه عليه متلف ، أخذنا العوض منه وصرفناه إليه ؛ لأنّ المال المعصوم مضمون على المتلف ، فليس أخذ الضمان والعوض بسبب الحُرّيّة حتى يقع التردّد فيه ، فإن أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه ، ويكون ميراثه لبيت المال ، وأرش جنايته فيه(١) ، وعندنا للإمام.

وإذا قُتل اللّقيط ، ففي القصاص للشافعيّة وجهان تقدّما(٢) ، فمَنْ لا يجزم بحُرّيّته وإسلامه لا يوجب القصاص على الحُرّ المسلم بقتله ، ويوجبه على الرقيق الكافر ؛ ومَنْ يجزم بالحُرّيّة والإسلام من الشافعيّة يُخرِّج وجوبَ القصاص بكلّ حالٍ على قولين ، بناءً على أنّه ليس له وارث‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢٠ - ٤٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٩.

(٢) في ص ٣٥٨ ، المسألة ٤٤٠.

٣٩٥

معيّن(١) .

وإذا قُتل خطأً ، فالواجب الدية في أظهر الوجهين ؛ أخذاً بظاهر الحُرّيّة ، وأقلّ الأمرين من الدية أو القيمة في الثاني ؛ بناءً على أنّ الحُرّيّة غير متيقّنةٍ ، فلا يؤخذ الجاني بما لا يتيقّن شغل ذمّته به(٢) .

وقال الجويني : قياس هذا أن نوجب له الأقلّ من قيمة عبدٍ أو دية مجوسيٍّ ؛ لإمكان الحمل على التمجّس(٣) .

مسألة ٤٦١ : قد بيّنّا أنّ اللقيط إن التُقط في دار الإسلام كان حُرّا ، بناءً على الدار ، فإنّها دار الإسلام ، والأصل فيه الحُرّيّة ، وهو قول عامّة أهل العلم ، إلّا النخعي(٤) .

قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أنّ اللقيط حُرٌّ ، روينا ذلك عن عليٍّعليه‌السلام وعمر بن الخطّاب ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبي والحكم وحمّاد ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ومَنْ تبعهم(٥) .

للأصل ، فإنّ الله تعالى خلق آدمعليه‌السلام وذرّيّته أحراراً ، وإنّما الرقّ لعارضٍ ، فإذا لم يُعلم ذلك العارض فله حكم الأصل.

وقال النخعي : إن التقطه الملتقط للحسبة ، فهو حُرٌّ ، وإن كان يعزم أنّه يسترقّه ، فذلك له(٦) .

وهو قولٌ شاذّ لم يصر إليه أحد من العلماء ، ولا يصحّ في النظر ؛

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٥٠٩.

(٤) المغني والشرح الكبير ٦ : ٤٠٣.

(٥) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٣ ، وعنه في المغني والشرح الكبير ٦ : ٤٠٣.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٣ - ٤٠٤.

٣٩٦

لأصالة الحُرّيّة.

فإن التقط في دار الحرب ولا مسلم فيها ، قال علماؤنا : إنّه يكون رقّاً.

والأقرب عندي : الحكم بحُرّيّته ؛ عملاً بالأصل ، لكن تتجدّد الرقّيّة عليه بالاستيلاء عليه ؛ لأنّه كافر تبعاً للدار الخالية من مسلمٍ واحد.

مسألة ٤٦٢ : لو قذف أحدٌ اللقيطَ ، فإن كان اللقيط صغيراً عُزّر. وإن كان بالغاً ، فإن اعترف القاذف بحُرّيّته حُدّ قطعاً.

وإن ادّعى رقّه ، فإن صدّقه اللقيط سقط الحدّ ، ووجب التعزير ؛ لأنّه الواجب في قذف العبيد ، لأنّ المستحقّ أقرّ بسقوط الحدّ.

وإن كذّبه اللقيط وقال : إنّي حُرٌّ ، فالقول قوله ؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته ، فقوله موافق للظاهر ، وأوجبنا له القصاص على الحُرّ ، بناءً على الظاهر ، والأُمور الشرعيّة منوطة بالظاهر ، فيثبت الحدّ ، كثبوت القصاص ، وهو أحد قولَي الشيخرحمه‌الله .

وقال في الآخَر : لا يُحدّ ، بل يُعزَّر ؛ لأنّ الحكم بالحُرّيّة غير معلومٍ ، بل هو بالبناء على الظاهر ، وهو محتمل للنقيض ، فيحصل الاشتباه الموجب لسقوط الحدّ ، فإنّ الحدّ يُدرأ بالشبهات ، بخلاف القصاص لو ادّعى الجاني أنّه عبد ؛ لأنّ القصاص ليس بحدٍّ ، وإنّما وجب حقناً للآدميّ(١) .

وأصحّ قولَي الشافعيّة عندهم : الأوّل ؛ لأنّ الأصل الحُرّيّة ، فيُحدّ القاذف ، إلّا أن يقيم بيّنةً على الرقّ ، وهو قول المزني.

والثاني : أصالة البراءة ، وتصديق قول القاذف ؛ لاحتمال أن يكون‌

____________________

(١) راجع : المبسوط - للطوسي - ٣ : ٣٤٧.

٣٩٧

رقيقاً ، فلا يقطع بثبوت حقٍّ في الذمّة بأمرٍ محتمل(١) .

وقطع بعض الشافعيّة بالقول الأوّل ؛ لأنّه محكوم بحُرّيّته بظاهر الدار ، وحمل القول الثاني على مجهولٍ لم تُعلم حُرّيّته بالدار(٢) .

مسألة ٤٦٣ : لو قطع حُرٌّ طرفه وادّعى رقّه ، وادّعى اللقيط الحُرّيّة ، اقتصّ من الجاني ، وصُدِّق اللقيط ؛ للأصل.

وللشافعيّة طريقان :

أحدهما : إجراء القولين تخريجاً لقول المنع من القصاص ممّا ذكر في اللعان ، فإنّ الشافعي قال فيه : إنّه يُحكم بقول القاذف : إنّه رقٌّ ، لا بدعواه الحُرّيّة ، والآخَر منصوص.

والثاني : القطع بالوجوب(٣) .

وقد فرّق القائلون بأمرين :

أ : بتصديق القاذف بأنّ المقصود من الحدّ الزجر ، وفي التعزير الذي يُعدل إليه من الحدّ ما يحصّل بعض هذا الغرض ، والمقصود من القصاص التشفّي والمقابلة ، وليس في المال المعدول إليه من الحدّ ما يحصّل هذا الغرض.

وهو ممنوع ؛ لأنّ بعض غرض التشفّي يحصل بالإضرار له في أخذ ماله.

____________________

(١) مختصر المزني : ١٣٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٥١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، الوجيز ١ : ٢٥٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٦٩ - ٥٧٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٣ - ٥٧٤ ، البيان ٨ : ٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

٣٩٨

ب : إنّ ا ب :لتعزير الذي يُعدل إليه متيقّن ؛ لأنّه بعض الحدّ ، فالعدول إليه عدولٌ من ظاهرٍ أو مشكوكٍ إلى متيقّنٍ ، وإذا أسقطنا القصاص عدلنا إلى نصف الدية أو القيمة ، وذلك مشكوك فيه ؛ لأنّ الحُرّيّة شرط وجوب الدية ، والرقّ شرط [ وجوب ] القيمة ، فكان ذلك عدولاً من ظاهرٍ أو مشكوكٍ فيه إلى غير مشكوكٍ فيه ، ولأنّ حدّ القذف أقرب سقوطاً بالشبهة من القصاص ، فلذلك افترقا(١) .

مسألة ٤٦٤ : لو قذف اللقيط محصناً واعترف بأنّه حُرٌّ ، حُدَّ حَدّ الأحرار ؛ عملاً بمقتضى إقراره ، وإن ادّعى أنّه رقيق وصدّقه المقذوف ، حُدّ حَدّ العبيد ، وإن كذّبه فالأقرب : وجوب الثمانين عليه ؛ عملاً بأصالة الحُرّيّة.

وللشافعي قولان في أنّه يُحدّ حدّ العبيد أو حدّ الأحرار؟

وبنى أصحابه الأوّلَ على قبول إقراره مطلقاً ، والثاني على أنّه إنّما يُقبل فيما يضرّه ، لا فيما ينفعه ، وهُما على القولين فيما إذا ادّعى قاذف على اللقيط رقّه ، إن صدّقناه صدّقنا اللقيط هنا ، وإلّا فلا(٢) .

ولبعضهم وجهٌ آخَر : إنّه إن أقرّ لمعيّنٍ قُبِل إقراره ، وحُدّ حدّ العبيد ، وإن لم يعيّن حُدّ حدّ الأحرار(٣) .

إذا عرفت هذا ، فقد حصل للشافعيّة ثلاثة أوجُه ، فيقال : إن لم نوجب الدية في قتله فالقصاص أولى. وإن أوجبناها ففي القصاص وجهان ؛ لسقوطه بالشبهة ، فثالث الوجوه : وجوب الدية دون القصاص(٤) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٥ ، البيان ٨ : ٤٠ - ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٦ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢١.

٣٩٩

القسم الثاني : أن يدّعي رقَّ اللقيط ولا بيّنة.

ولنقدّم عليه مقدّمةً ، وهي : إنّ كلّ مَن ادّعى رقّيّة صغيرٍ في يده ولا تُعلم حُرّيّته ، فإنّه تُسمع دعواه ؛ لإمكانها إذا كانت غير اليد التي عرفنا استنادها إلى التقاط المنبوذ.

فإن كانت اليد هي يد اللقطة ، لم يُحكم برقّه ، وكان الحكم الأصل فيه الحُرّيّة - وهو أصحّ قولَي الشافعي(١) - ويحتاج الملتقط في دعوى الرقّيّة إلى البيّنة ؛ لأصالة الحُرّيّة ، فلا يخالف بمجرّد الدعوى.

والثاني للشافعي : إنّه يُقبل قول الملتقط ، ويُحكم له بالرقّ ، كما في يد غير الالتقاط ، وكما لو التقط مالاً وادّعى أنّه لا منازع له فيه ، فإنّه يُقبل قوله ، ويصحّ شراؤه منه(٢) .

والفرق ظاهر ؛ فإنّ اليد إذا كانت عن الالتقاط ، يُعرف حدوثها لا بسبب الملك ؛ لما بيّنّا من أصالة الحُرّيّة ، ولم تظهر يد تدلّ على خلافها ، وأمّا يد غير اللقطة فإنّها تقضي بالملكيّة ؛ لأنّ الظاهر أنّ مَنْ في يده شي‌ء وهو متصرّف فيه تصرّفَ السادات في العبيد فإنّه ملكه ، ولم يُعرف حدوثها بسببٍ لا يقتضي الملك ، وأمّا المال الملقوط فإنّه يُحكم للملتقط به إذا ادّعى ملكيّته ؛ لأنّ المال في نفسه مملوك ، وليس في دعوى ملكيّته إخراج له عن صفة المال ، وأمّا اللقيط فإنّه حُرٌّ ظاهراً ، وفي دعواه تغيير هذه الصفة ، فافترقا ، فلا يجوز القياس.

وإن كانت اليد غير يد اللقطة ، حُكم لصاحبها بالرقّ إذا ادّعاه ، بناءً على الظاهر الذي سبق.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٤٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٥١٠.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466