تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

تذكرة الفقهاء12%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: 466

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 466 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150615 / تحميل: 5376
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٧

مؤلف:
ISBN: ٩٧٨-٩٦٤-٣١٩-٥٣٠-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

الفصل الثالث : في أحكام القراض‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في اعتبار الغبطة في التصرّف.

مسألة ٢٢٧ : القراض إمّا صحيح وإمّا فاسد ، فالصحيح له أحكام تُذكر في مسائل ، وكذا الفاسد.

فمن أحكام الصحيح : إنّه يلزم الحصّة المشترطة للعامل ، ولا نعرف فيه مخالفاً ، إلّا مَنْ شذّ.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للعامل أن يشترط على ربّ المال ثلثي(١) الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء(٢) .

والأخبار من أهل البيتعليهم‌السلام متظافرة بذلك(٣) .

وقال شاذٌّ(٤) من الفقهاء : إنّ العامل لا يستحقّ الحصّة ، بل أُجرة المثل عن عمله ؛ لأنّ هذه المعاملة مجهولة ، وفيها غرر عظيم ، وقد نهى‌

____________________

(١) في المصدر : « ثلث » بدل « ثلثي ».

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٣٩ ، الإجماع - لابن المنذر - : ٥٨ / ٥٢٨ ، المغني ٥ : ١٤٠.

(٣) راجع : الكافي ٥ : ٢٤٠ / ٢ ، والتهذيب ٧ : ١٨٧ - ١٨٩ / ٨٢٧ - ٨٢٩ و ٨٣٦ ، والاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٥١ و ٤٥٢.

(٤) لم نتحقّقه.

٦٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الغرر(١) .

والجهالة لا تمنع الجواز ؛ لأنّ العلم ببعض الاعتبارات كافٍ ، فإذا شرط جزءاً معلوماً ، انتفت الجهالة الكلّيّة ، والعامّ مخصوص بالنقل المتواتر عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد خُصّ من عموم النهي عن الغرر كثير من الأحكام ، كالمساقاة والمزارعة وغيرهما ، فليكن المتنازع منها.

مسألة ٢٢٨ : لـمّا كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل الربح والفائدة ، وجب أن يكون تصرّف العامل مقصوراً على ما يُحصّل هذه الغاية الذاتيّة ، وأن يمنع من التصرّف في المؤدّي(٢) إلى ما يضادّها ، فيتقيّد تصرّفه بما فيه الغبطة والفائدة ، كتصرّف الوكيل للموكّل ؛ لأنّها في الحقيقة نوع وكالةٍ وإن كان له أن يتصرّف في نوعٍ ما ممّا ليس للوكيل التصرّف به ، تحصيلاً للفائدة ، فإنّ له أن يبيع بالعرض ، كما أنّ له أن يبيع بالنقد ، بخلاف الوكيل ؛ فإنّ تصرّفه في البيع إنّما هو بالنقد خاصّةً ؛ لأنّ المقصود من القراض الاسترباحُ ، والبيع بالعرض قد يكون وصلةً إليه وطريقاً فيه.

وأيضاً له أن يشتري المعيب إذا رأى فيه ربحاً ، بخلاف الوكيل.

ولا ينفذ تصرّفه مع الغبن الفاحش ، فليس له أن يبيع بدون ثمن المثل ، ولا أن يشتري بأكثر من ثمن المثل ؛ لأنّه منافٍ للاسترباح ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّه يملك العامل البيعَ بالغبن الفاحش ، وكذا الشراء ،

____________________

(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٣١٩ و ٣٣٠ ، المسألتان ١٣ و ٥.

(٢) الظاهر : « التصرّف المؤدّي ».

(٣) الوجيز ١ : ٢٢٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧ ، المغني ٥ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٦.

٦٣

كالوكيل(١) .

والأصل ممنوع.

أمّا ما يتغابن الناس بمثله فإنّه غير ممنوعٍ منه ؛ لعدم التمكّن من الاحتراز عنه.

ولو اشترى بأكثر من ثمن المثل ممّا لا يتغابن الناس بمثله ، فإن كان بالعين بطل ، وإلّا وقع الشراء له إن لم يذكر النسبة إلى القراض.

مسألة ٢٢٩ : إذا دفع إلى العامل مال القراض ، فإن نصّ على التصرّف بأن قال : نقداً ، أو : نسيئةً ، أو قال : بنقد البلد ، أو غيره من النقود ، جاز ، ولم يكن للعامل مخالفته إجماعاً ؛ لأنّ ذلك لا يمنع مقصود المضاربة ، وقد يطلب بكلّ ذلك الفائدة في العادة.

فإن أطلق وقال : اتّجر به ، اقتضى ذلك أن يبيعه نقداً بنقد البلد بثمن مثله ، فإن خالف ضمن ، كالوكيل.

إذا عرفت هذا ، فلو اشترى بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه ، بطل إن لم يُجز المالك ؛ لأنّه تصرّفٌ غير مأذونٍ فيه ، فأشبه بيع الأجنبيّ ، وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٢) .

فإن تعذّر ردّ المبيع ، كان العامل ضامناً للمثل إن كان مثليّاً ، وإن لم يكن أو تعذّر المثل وجبت القيمة ، وللمالك الخيار في الرجوع على مَنْ شاء منهما ، فإن أخذ من المشتري القيمة رجع المشتري على العامل بالثمن الذي دفعه إليه ، وإن رجع على العامل رجع العامل على المشتري بالقيمة ، وردّ ما أخذه منه ثمناً ؛ لأنّ التلف حصل في يد المشتري ، فاستقرّ الضمان‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٦ : ٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٣.

(٢) المغني ٥ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٦.

٦٤

عليه.

وعن أحمد رواية أُخرى : إنّ البيع صحيح ، ويضمن العامل النقص ؛ لأنّ ضرر المالك ينجبر بضمان النقص(١) ، وهو قول بعض علمائنا(٢) .

والمعتمد : الأوّل.

مسألة ٢٣٠ : لو باع بغير نقد البلد مع إطلاق التصرّف ، لم يصح ؛ لأنّه منافٍ لما يقتضيه الإطلاق ، وبه قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ، وفي الثانية : يجوز إذا رأى العامل أنّ المصلحة فيه ، والربح حاصل به ، كما يجوز أن يبيع عرضاً بعرضٍ ويشتريه به(٣) .

وإن فَعَل وخالف وباع بغير نقد البلد ، كان حكمه حكم ما لو اشترى أو باع بغير ثمن المثل.

وليس بعيداً من الصواب اعتبار المصلحة.

ولو قال له : اعمل برأيك أو بما رأيت أو كيف شئت ، كان له ذلك ، وليس له المزارعة ؛ لأنّ المضاربة لا يُفهم من إطلاقها المزارعة.

وقال أحمد في روايةٍ أُخرى : إنّ له ذلك ، وتصحّ المضاربة ، والربح بينهما(٤) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ المزارعة لا تدخل تحت قوله : اتّجر بما شئت.

فعلى ما قلناه لو تلف المال في المزارعة ضمن.

____________________

(١) المغني ٥ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٦.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٢ ، البيان ٧ : ١٨١ ، المغني ٥ : ١٥٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٧.

(٤) المغني ٥ : ١٥٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٧.

٦٥

وعلى الرواية الأُخرى عن أحمد : لا يضمن(١) .

مسألة ٢٣١ : وليس له أن يبيع نسيئةً بدون إذن المالك ؛ لما فيه من التغرير بالمال ، فإن خالف ضمن عندنا - وبه قال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٢) - لأنّه نائب في البيع ، فلم يجز له البيع نسيئةً بغير إذنٍ صريح فيه ، كالوكيل ، والقرينة الحاليّة تفيد ما تفيده العبارات اللفظيّة ، فيصير كأنّه قال : بِعْه حالّاً.

وقال في الرواية الأُخرى : يجوز له البيع نسيئةً - وبه قال أبو حنيفة - لأنّ إذنه في التجارة والمضاربة ينصرف إلى التجارة المعتادة ، وهذا النوع من التصرّف عادة التجّار ، ولأنّه يقصد به الربح ، بل هو في النسيئة أكثر منه في النقد ، بخلاف الوكالة المطلقة ، فإنّها لا تختصّ بقصد الربح ، وإنّما المقصود تحصيل الثمن ، فإذا أمكن تحصيله من غير خطرٍ كان أولى ، ولأنّ الوكالة المطلقة في البيع تدلّ على [ أنّ ](٣) حاجة الموكّل إلى الثمن ناجزة ، فلا يجوز تأخيره ، بخلاف المضاربة(٤) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١٥٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٧.

(٢) المدوّنة الكبرى ٥ : ١١٦ ، الاستذكار ٢١ : ١٧٤ / ٣٠٩٣٧ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٤ / ١١٢١ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٥ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٧ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٢ ، الوسيط ٤ : ١١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، البيان ٧ : ١٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ٣٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤١ / ١٧٠٧ ، المغني ٥ : ١٥٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٤.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني والشرح الكبير.

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٨٧ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ٣٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٩ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٩٣ / ١٠٥٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤١ / ١٧٠٧ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٠ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٥ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٢ ، التهذيب =

٦٦

ولو قال له : اعمل برأيك ، فله البيع نسيئةً.

وكذا لو قال له : تصرَّفْ كيف شئت.

وقال الشافعي : ليس له البيع نسيئةً ؛ لأنّ فيه غرراً ، فلم يجز ، كما لو لم يقل له ذلك(١) .

وهو ممنوع ؛ لأنّه داخل في عموم لفظه ، وقرينة حاله تدلّ على رضاه برأيه في صفات البيع وفي أنواع التجارة ، وهذا منها.

إذا عرفت هذا ، فإذا باع نسيئةً في موضعٍ لا يجوز له فقد خالف مطلق الأمر ، فيقف على إجازة المالك ؛ لأنّه كالفضولي في هذا التصرّف.

وقال جماعة من العامّة منهم : الشافعي : إنّ البيع يبطل ، فيجب عليه ردّه ، فإن تعذّر فالمثل ، فإن تعذّر فالقيمة(٢) .

وكلّ موضعٍ يصحّ له البيع في النسيئة لا يكون على العامل ضمان إذا لم يفرّط ، فمهما فات من الثمن لا يكون عليه ضمانه ما لم يفرّط ببيع مَنْ لا يوثق به أو مَنْ لا يعرفه ، فيلزمه ضمان الثمن الذي انكسر على المشتري.

مسألة ٢٣٢ : كلّ موضعٍ قلنا : يلزم العامل الضمان - إمّا لمخالفة الأمر في البيع بالنسيئة من غير إذنٍ ، أو بالتفريط بأن يبيع على غير الموثوق به أو‌

____________________

= - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، الاستذكار ٢١ : ١٧٤ / ٣٠٩٣٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٤ / ١١٢١ ، الذخيرة ٦ : ٧٣ ، المغني ٥ : ١٥٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٤ - ١٤٥.

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٣ ، المغني ٥ : ١٥٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٥.

(٢) المغني ٥ : ١٥٠ - ١٥١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٥ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٣.

٦٧

على مَنْ لا يعرفه - فإنّ الضمان عليه من حيث إنّ ذهاب الثمن حصل بتفريطه.

فإن قلنا بفساد البيع ، وجب عليه قيمته إن لم يكن مثليّاً ، أو كان وتعذّر إذا لم يتمكّن من استرجاعه إمّا لتلف المبيع ، أو لامتناع المشتري من ردّه إليه.

وإن قلنا بصحّة البيع ، احتُمل(١) أن يضمنه بقيمته أيضاً ؛ لأنّه لم يفت بالبيع أكثر منها ، ولا ينحفظ بتركه سواها ، وزيادة الثمن حصلت بتفريطه ، فلا يضمنها.

والأقرب : إنّه يضمن الثمن ؛ لأنّه ثبت بالبيع الصحيح ، ومَلَكه صاحب السلعة وقد فات بتفريط البائع.

ولو نقص الثمن عن القيمة ، لم يلزمه أكثر منه ؛ لأنّ الوجوب انتقل إليه ؛ بدليل أنّه لو حصل الثمن لم يضمن شيئاً.

مسألة ٢٣٣ : وكما ليس للعامل البيع نسيئةً إلّا بإذن المالك ، كذا ليس له أن يشتري نسيئةً إلّا بإذنه ؛ لأنّه ربما يتلف رأس المال ، فتبقى عهدة الثمن متعلّقةً بالمالك ، وذلك يستلزم إثبات مالٍ على المالك ، وهكذا قد يتلف ما يدفعه المالك إليه ، فيحتاج إلى دفع عوضه ، وذلك من أعظم المحاذير.

وإذا أذن له في البيع نسيئةً فَفَعَل ، وجب عليه الإشهاد ، كالوكيل إذا دفع الدَّيْن عن موكّله ، فإن ترك الإشهاد ضمن.

وإذا أذن له في البيع نسيئةً ، فإن منعه من البيع حالّاً ، أو قال له : بِعْه‌

____________________

(١) في « ث ، خ ، ر » : « يحتمل » بدل « احتُمل ».

٦٨

نسيئةً ، لم يكن له أن يبيعه حالّاً ؛ لأنّه مخالف لمقتضى أمره ، وقد تحصل للبائع فائدة ، وهي(١) أنّه لو باعه حالّاً لم يكن له تسليمه إلى المشتري إلّا بعد قبض الثمن ، وقد تتعلّق رغبة البائع بالتسليم قبل استيفاء الثمن خوفاً من الظالم.

ولو لم يمنعه من البيع حالّاً ، كان له ذلك ؛ لأنّه أنفع.

وإذا باعه حالّاً في موضع جوازه ، لم يجز له تسليمه إلى المشتري إلّا بعد استيفاء الثمن ، فإن سلّمه قبل استيفاء الثمن ضمن ، كالوكيل.

ولو كان مأذوناً له في التسليم قبل قبض الثمن ، سلّمه.

والأقرب : وجوب الإشهاد.

وقال الشافعي : لا يلزمه الإشهاد ؛ لأنّ العادة ما جرت بالإشهاد في البيع الحالّ(٢) .

مسألة ٢٣٤ : يجوز للعامل أن يبيع بالعرض إذا ظنّ حصول الفائدة فيه ، بخلاف الوكيل ؛ لأنّ الغرض من القراض الاسترباح بالبيع وقد يحصل بالبيع بالعرض ، فكان مشروعاً ، تحصيلاً لفائدة القراض.

وكذا يجوز له أن يشتري المعيب إذا رأى فيه ربحاً وإن لم يكن ذلك للوكيل ؛ لأنّ الشراء ليس للوكيل ، بل للموكّل ، وقد يطلب به القنية ، بخلاف العامل الذي يقع الشراء له وللمالك في الحقيقة ، ويطلب به إخراجه.

إذا ثبت هذا ، فإن اشتراه بقدر قيمته أو بدونها صحّ.

وللشافعيّة فيما إذا اشتراه بالقيمة وجهان ، أحدهما : المنع ؛ لأنّ‌

____________________

(١) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « هو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧.

٦٩

الرغبات تقلّ في المعيب(١) .

وليس بشي‌ءٍ.

ولو اشتراه بظنّ السلامة فبانَ العيب ، فله أن يفعل ما يرى من المصلحة وما فيه الربح ، فإن كان الحظّ في الردّ بالعيب ردّه ، وإن كان الحظّ له في الإمساك بالأرش أمسكه بالأرش.

فإن اختلف المالك والعامل فاختار أحدهما الردَّ والآخَر الأرشَ ، فَعَل ما فيه النظر والحظّ ؛ لأنّ المقصود تحصيل الحظّ والفائدة.

ولا يمنعه من الردّ رضا المالك بإمساكه ، بخلاف الوكيل ؛ لأنّ العامل صاحب حقٍّ في المال.

ولو كانت الغبطة في إمساكه ، أمسكه.

وللشافعيّة وجهان في تمكّنه من الردّ إذا كانت الغبطة في إمساكه ، أظهرهما : المنع ؛ لإخلاله بمقصود العقد(٢) .

وحيث يثبت الردّ للعامل يثبت للمالك بطريق الأولى.

مسألة ٢٣٥ : إذا ثبت الردّ على البائع ، فإن ردّ العامل ردّ على البائع ، ونقض البيع.

وإن ردّ المالك فإن كان الشراء بعين مال القراض ، كان له الردّ على البائع أيضاً.

وإن كان العامل قد اشترى في ذمّته للقراض ، فالأقوى : إنّه كذلك ؛ لأنّ العامل في الحقيقة وكيل المالك.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧.

٧٠

وللشافعيّة قولان ، أحدهما : إنّ للمالك أن يصرفه عن مال القراض ، فينصرف إلى العامل على أحد القولين ، ولا ينصرف على القول الثاني ، كالخلاف في انصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع للموكّل(١) .

مسألة ٢٣٦ : لا يجوز للمالك معاملة العامل في مال القراض بأن يشتري من مال القراض شيئاً ؛ لأنّه ملكه ، فلا تصحّ المعاملة عليه ؛ إذ لا يفيد انتقالاً آخَر إليه ، كما أنّ السيّد لا يصحّ أن يشتري من عبده المأذون له في التجارة شيئاً ، بخلاف السيّد مع مكاتَبه ، فإنّه يجوز أن يشتري منه ؛ لأنّ ما في يد المكاتَب قد انقطع تصرّف المولى عنه ، وصار ملكاً للمكاتَب ، ولهذا لو انعتق لم يملك السيّد منه شيئاً.

وقد خالف بعض الشافعيّة في العبد المأذون ، فقال : إذا ركبته الديون جاز للسيّد أن يشتري شيئاً ممّا في يده ؛ لأنّه لا حقّ له فيه ، وإنّما هو حقّ الغرماء(٢) . وهو غلط.

نعم ، يأخذه السيّد بقيمته ، كما يدفع قيمة العبد الجاني ، ولا يكون بيعاً.

وكذا ليس للمالك أن يأخذ من العامل من مال القراض بالشفعة ؛ لأنّه في الحقيقة يكون آخذاً من نفسه ، بل يملكه بعقد البيع.

وكذا ليس له أن يشتري من عبده القِنّ.

وله أن يشتري من المكاتَب المطلق وإن لم ينعتق منه شي‌ء ، ومن المكاتَب المشروط ؛ لانقطاع تصرّفات المولى عن ماله.

مسألة ٢٣٧ : لا يجوز للعامل أن يشتري بمال القراض أكثر من مال

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٧.

(٢) راجع : المغني ٥ : ١٧٢ ، والشرح الكبير ٥ : ١٦١.

٧١

القراض ؛ لأنّ المالك إنّما رضي من العامل أن يشغل ذمّته بما دفعه إليه لا بغيره ، فإن فَعَل واشترى بأكثر من مال القراض ، لم يقع ما زاد عن جهة القراض.

فإذا دفع إليه مائة قراضاً فاشترى بها عبداً للقراض ثمّ اشترى عبداً آخَر بمائةٍ للقراض أيضاً ، لم يقع الثاني للقراض ؛ لأنّه غير مأذونٍ فيه.

ثمّ إن اشترى الأوّل بعين المائة تعيّنت للبائع الأوّل ، فإن اشترى الثاني بعينها أيضاً بطل الثاني ؛ لأنّه اشترى بعين مال غيره لغيره.

وإن اشترى في الذمّة ، فقد اشترى بعد أن صارت المائة مستحقّةَ الدفع إلى البائع الأوّل.

وكذا إن اشترى الأوّل في الذمّة ثمّ اشترى الثاني بعينها ، لم يصح ؛ لوجوب صَرفها إلى البائع الأوّل.

وإن اشترى الثاني في الذمّة ، لم يبطل ، لكن ينصرف الشراء إلى العامل ، كما ينصرف شراء الوكيل المخالف لموكّله إليه ، دون الموكّل.

هذا إذا لم يُسمّ في العقد مع البائع شراءه للقراض ، فأمّا إن سمّاه فسد الثاني.

وإذا انصرف العبد الثاني إلى العامل ، فلو دفع المائة في ثمنه فقد تعدّى في مال القراض ، ودخلت المائة في ضمانه ، وأمّا العبد فيبقى أمانةً في يده ؛ لأنّه لم يتعدّ فيه.

فإن تلفت المائة ، فإن كان الشراء الأوّل بعينها انفسخ العقد بتلف الثمن المعيّن قبل الإقباض ، وإن كان في الذمّة لم ينفسخ ، ويثبت للمالك على العامل مائة ، والعبد الأوّل للمالك ، وعليه لبائعه مائة ، فإن أدّاها العامل بإذن المالك وشرط الرجوع ثبت له مائة على المالك ، وتقاصّا ، وإن أدّى‌

٧٢

من غير إذنه برئت ذمّة المالك من حقّ بائع العبد ، ويبقى حقّه على العامل.

مسألة ٢٣٨ : لا يجوز للعامل أن يشتري بمال القراض مَنْ يعتق على ربّ المال ؛ لأنّ ذلك منافٍ للاكتساب ؛ لأنّه تخسير محض ، فكان ممنوعاً منه.

فإن اشترى العامل فإمّا أن يشتريه بإذن صاحب المال ، أو بدون إذنه.

فإن اشتراه بإذنه ، صحّ الشراء ؛ لأنّه يجوز أن يشتريه بنفسه مباشرةً ، فإذا أذن لغيره فيه جاز ، وانعتق.

ثمّ إن لم يكن في المال ربحٌ عُتق على المالك ، وارتفع القراض بالكلّيّة إن اشتراه بجميع مال القراض ؛ لأنّه قد تلف ، وإن اشتراه ببعضه صار الباقي رأس المال.

وإن كان في المال ربحٌ ، فإن قلنا : إنّ العامل إنّما يملك نصيبه من الربح بالقسمة ، عُتق أيضاً ، وغرم المالك نصيبه من الربح ، فكأنّه استردّ طائفةً من المال بعد ظهور الربح وأتلفه ، والأقوى : أُجرة المثل.

وإن قلنا : إنّه يملك بالظهور ، عُتق منه حصّة رأس المال ونصيب المالك من الربح ، ويسري إلى الباقي إن كان موسراً ويغرمه ، وإن كان معسراً بقي رقيقاً ، وبه قال أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : إن كان في المال ربحٌ وقد اشتراه ببعض مال القراض ، يُنظر إن اشتراه بقدر رأس المال عُتِق ، وكأنّ المالك استردّ رأس المال ، والباقي ربح يقتسمانه بحسب الشرط ، وإن اشتراه بأقلّ من رأس المال فهو محسوب من رأس المال ، وإن اشتراه بأكثر حُسب قدر رأس المال من‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٨ - ٢٠٩.

٧٣

رأس المال ، والزيادة من حصّة المالك ما أمكن(١) .

والظاهر عندهم : الأوّل(٢) ، وهو وقوعه سائغاً على ما سنذكر فيما إذا استردّ شيئاً من المال بعد الربح.

والحكم فيما إذا أعتق المالك عبداً من مال القراض كالحكم في شراء العامل مَنْ ينعتق عليه بإذنه.

وإن اشتراه العامل بغير إذن المالك ، فإن اشتراه بعين المال بطل الشراء ؛ لأنّ العامل اشترى ما ليس له أن يشتريه ، فكان بمثابة ما لو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه ، ولأنّ الإذن في المضاربة إنّما ينصرف إلى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة والاسترباح منه ، ولا يتناول غير ذلك ، فإنّ في شراء مَنْ ينعتق على المالك تفويتَ رأس المال مع الربح ، فكان أولى بالبطلان.

وإن اشتراه في الذمّة ، فإن لم يذكر في العقد الشراءَ للقراض ولا لمالك المال وقع الشراء له ، ولزمه الثمن من ماله ، وليس له دفع الثمن من مال المضاربة ، فإن فَعَل ضمن ، ولو اشترى للقراض أو للمالك بطل ، وبه قال الشافعي(٣) .

وظاهر مذهب أحمد : إنّه يصحّ الشراء بعين المال ؛ لأنّه مالٌ متقوّم قابل للعقود ، فصحّ شراؤه ، كما لو اشتراه بإذن ربّ المال ، ثمّ يعتق(٤) على ربّ المال ؛ لأنّه دخل في ملكه فعُتِق عليه ، وتنفسخ المضاربة ؛ لتلف المال ، ويلزم العامل الضمان ، سواء علم أو لم يعلم ؛ لأنّ تلف مال‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩ ، المغني ٥ : ١٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٨.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « ينعتق ».

٧٤

المضاربة حصل بسببه ، ولا فرق في الإتلاف الموجب للضمان بين العلم والجهل(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه فعل غير مأذونٍ فيه ، ويلحق المالك به ضرر من إتلاف مالٍ ، فكان باطلاً.

فعلى قول أحمد له وجهان فيما يضمنه العامل :

أحدهما : قيمة العبد ؛ لأنّ الملك ثبت فيه ثمّ تلف بسببه ، فأشبه ما لو أتلفه بفعله.

والثاني : إنّه يضمن الثمن الذي اشتراه به ؛ لأنّ التفريط منه حصل ، فاشترى وبذل الثمن فيما يتلف بالشراء ، فكان ضمانه عليه ضمان ما فرّط فيه ، ومتى ظهر للمال ربح فللعامل حصّته منه(٢) .

وقال بعض أصحابه : إن لم يكن العامل عالماً بأنّه يعتق على ربّ المال لم يضمن ؛ لأنّ التلف حصل لمعنىً في المبيع لم يعلم به المشتري ، فلم يضمن ، كما لو اشترى معيباً لم يعلم بعيبه فتلف به. ثمّ قال : ويتوجّه أن لا يضمن وإن علم به(٣) .

تذنيب : لو اشترى مَنْ نذر المالكُ عتقَه ، صحّ الشراء إن لم يعلم العامل بالنذر ، وعُتِق على المالك ، ولا ضمان على العامل مع جهله.

مسألة ٢٣٩ : ليس للعامل أن يشتري زوج صاحبة المال لو كان صاحب المال امرأة ؛ لما فيه من تضرّرها ؛ إذ لو صحّ البيع لبطل النكاح ؛ لأنّها تكون قد مَلَكت زوجها ، وينفسخ النكاح ، ويسقط حقّها من النفقة‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٨ - ١٤٩.

(٢ و ٣) المغني ٥ : ١٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٩.

٧٥

والكسوة ، فلا يصحّ ، كما لو اشترى مَنْ ينعتق عليها ، والإذن إنّما يتناول شراء ما لها فيه حظّ ، ولا حظّ لها في شراء زوجها.

إذا عرفت هذا ، فإن اشتراه بإذنها صحّ قطعاً ؛ لأنّ لها أن تشتريه بنفسها ، فجاز أن تشتريه بوكيلها ، والعامل في الحقيقة وكيل صاحب المال ، وحينئذٍ يصحّ الشراء ، ويكون القراض بحاله ؛ لأنّه لا ينعتق عليها ، وينفسخ نكاحها.

وإن اشتراه بغير إذنها ، فسد الشراء بمعنى أنّه يكون موقوفاً على إجازتها ، فإن أجازته كان حكمه حكم المأذون له ، وإن فسخته بطل.

وللشافعي قولان :

أحدهما : إنّه يفسد الشراء ؛ لما تقدّم من منافاته لغرض القراض الذي يقصد منه الاسترباح.

والثاني : يصحّ الشراء - وبه قال أبو حنيفة - لأنّه اشترى ما يمكنه طلب الربح فيه ولا يتلف رأس المال ، فجاز ، كما لو اشترى مَنْ ليس بزوجٍ لها(١) .

والفرق ظاهر ؛ للتضرّر بالأوّل ، دون الثاني.

مسألة ٢٤٠ : وليس للعامل أن يشتري زوجة المالك ؛ لاشتماله على فسخ عقدٍ عَقَده باختياره وقصده ، فلا يليق أن يفعل ما ينافيه ، وبه قال الشافعي(٢) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٨ - ٣٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٩١ ، البيان ٧ : ١٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٩٠ / ٢٤٦٨ ، المغني ٥ : ١٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٩.

(٢) الوسيط ٤ : ١١٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

٧٦

وله قولٌ آخَر : إنّه يصحّ الشراء ، وينفسخ النكاح ، وبه قال بعض الحنابلة(١) .

ثمّ إن كان الشراء قبل الدخول ، ففي لزوم نصف الصداق للزوج وجهان ، فإن قلنا : يلزم ، رجع به على العامل ؛ لأنّه سبب تقريره عليه ، فيرجع به عليه ، كما لو أفسدت امرأة نكاحها بالرضاع.

ولو اشترى زوجَ صاحبة المال ، فللشافعيّة وجهان(٢) .

فعلى الصحّة لا يضمن العامل ما يفوت من المهر ويسقط من النفقة ؛ لأنّ ذلك لا يعود إلى المضاربة ، وإنّما هو بسببٍ آخَر ، ولا فرق بين شرائه في الذمّة أو بعين المال.

مسألة ٢٤١ : لو وكّل وكيلاً يشتري له عبداً ، فاشترى مَنْ ينعتق على الموكّل ، فالأقرب : إنّه لا يقع عن الموكّل ؛ لأنّ الظاهر أنّه يطلب عبد تجارةٍ أو عبد قُنيةٍ ، وشراء مَنْ ينعتق عليه لا يُحصّل واحداً من الغرضين ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني - وهو الأظهر عندهم - : إنّه يقع للموكّل ؛ لأنّ اللفظ شامل ، فربما يرضى بشراء عبدٍ إن بقي له انتفع به ، وإن عُتِق عليه حصل له ثواب العتق ، وهذا بخلاف عامل القراض ؛ لأنّ عقد القراض مبنيٌّ على تحصيل الفائدة والاسترباح بتقليب المتاجر وبيعها وشرائها(٣) .

ولكنّ الأوّل أقوى.

فإن اشترى بالعين ، بطل الشراء ؛ لما فيه من تضرّر الموكّل بإخراج‌

____________________

(١) نفس المصادر مضافاً إلى : المغني ٥ : ١٥٦ ، والشرح الكبير ٥ : ١٤٩.

(٢) راجع : الهامش (١) من ص ٧٥.

(٣) الوسيط ٤ : ١١٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٤ - ٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

٧٧

ماله عن ملكه.

وإن اشترى في الذمّة ، فإن سمّى الموكّل وقف على الإجازة ، وإن لم يُسمّه وقع للوكيل في الظاهر.

مسألة ٢٤٢ : لو اشترى العامل أو الوكيل عبداً لصاحب المال عليه مالٌ بغير إذنه ، احتُمل البطلان ؛ لما فيه من تضرّر المالك بإسقاط ماله عن غيره بواسطة الشراء ؛ إذ ما يشتريه العامل للقراض أو الوكيل في الحقيقة لصاحب المال ، ولا يثبت للمولى على عبده شي‌ء ، فيؤدّي هذا الشراء الى إسقاط حقّه عنه.

ويحتمل الصحّة ؛ لأنّه مملوك يقبل النقل ، وصاحب المال يصحّ الشراء له فصحّ العقد ، كغيره.

لكنّ الأوّل أقرب.

فإن قلنا بالصحّة ، ففي تضمين العامل إشكال ينشأ من إسقاط الدَّيْن بواسطة فعله ، فكان ضامناً ؛ لأنّه سبب الإتلاف.

مسألة ٢٤٣ : إذا دفع السيّد إلى عبده المأذون له في التجارة مالاً وقال له : اشتر عبداً ، فهو كالوكيل ، وإن قال : اتّجر به ، فهو كالعامل.

وتقرير ذلك : إنّ العبد المأذون له في التجارة إذا اشترى مَنْ يعتق على سيّده ، فإن كان بإذن السيّد صحّ الشراء ، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ عتق ، وإن كان على العبد دَيْنٌ فكذلك عندنا.

فإذا كان على المأذون دَيْنٌ يستغرق قيمته وما في يده وقلنا : يتعلّق الدَّيْن برقبته ، فعليه دفع قيمته الى الغرماء ؛ لأنّه الذي أتلف [ عليهم ](١)

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « عليه ». والصحيح ما أثبتناه.

٧٨

بالعتق.

وللشافعي قولان في نفوذ العتق فيه ؛ لأنّ ما في يد العبد كالمرهون بالديون(١) .

وإن اشترى بغير إذن سيّده وكان المولى قد نهاه عن شرائه ، بطل الشراء ، سواء كان عليه دَيْنٌ أو لم يكن ؛ لأنّ العبد لا يملك البيع والشراء إلّا بإذن مولاه ، فإذا نهاه لم يملكهما.

وإن كان المالك قد أطلق الإذن ولم يأذن في شراء قريبه ولا نهاه عنه ، فالأقرب : البطلان أيضاً ؛ لأنّ إذنه يتضمّن ما فيه حظٌّ ويمكنه التجارة فيه ، فلا يتناول مَنْ ينعتق(٢) عليه ، كالعامل إذا اشترى مَنْ ينعتق(٣) على ربّ المال ، وهو أحد قولَي الشافعي.

والثاني : إنّه يصحّ الشراء ؛ لأنّ الشراء يقع للسيّد لا حقّ للعبد فيه ؛ إذ لا يتمكّن العبد من الشراء لنفسه ، وإنّما يشتريه لمولاه ، فإذا أطلق الإذن انصرف ما يشتريه إليه ، مقيّداً كان أو غير مقيّدٍ ، بخلاف العامل ، فإنّه يمكنه الشراء لنفسه ، كما يمكنه الشراء للمالك ، فما لا يقع مقصوداً بالإذن ظاهراً ينصرف إلى العامل(٤) .

والأوّل عندهم أصحّ - وبه قال المزني - كما قلنا في العامل ؛ لأنّ السيّد إنّما أذن في التجارة ، وهذا ليس منها(٥) .

____________________

(١) بحر المذهب ٩ : ٢٠٦ ، البيان ٧ : ٢١٢ - ٢١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

(٢ و ٣) في « ج » : « يعتق ».

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٥ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

(٥) بحر المذهب ٩ : ٢٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥.

٧٩

وقطع الجويني بهذا القول فيما إذا كان الإذن في التجارة ، وردّ الخلاف إلى ما إذا قال : تصرَّفْ في هذا المال واشتر عبداً(١) ، فلهذا قيل : إن قال السيّد : اشتر عبداً ، فهو كالوكيل ، وإن قال : اتّجر ، فهو كالعامل(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإذا اشترى العبد أبَ مولاه ، فإن قلنا : لا يصحّ ، فلا بحث.

وإن قلنا : يصحّ ، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ عتق.

وإن كان على العبد دَيْنٌ ، فللشافعيّة ثلاثة أوجُهٍ :

أحدها : إنّه يبطل الشراء ؛ لأنّ الدَّيْن يمنع من عتقه ، فبطلان العقد أحسن.

والثاني : إنّه يصحّ ولا يعتق.

والثالث : يعتق عليه ، وتكون ديون الغرماء في ذمة السيّد(٣) .

وقال أبو حنيفة : إن لم يكن دفع إليه المال وإنّما أذن له في التجارة صحّ الشراء ، وعتق على مولاه ، وإن كان دفع إليه مالاً لم يصح الشراء ، كالمضارب ؛ لأنّ العبد إذا لم يدفع إليه المال فإنّما يشتري لنفسه ، ولهذا لا يصحّ نهيه عن نوعٍ أو سلعةٍ ، وإذا لم يكن يشتري له صحّ شراؤه له ، ولم يعتق عليه ، كالأجنبيّ(٤) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه إذن مطلق في الشراء ، فلا يتناول مَنْ يعتق على

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٩.

(٢) الوجيز ١ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥.

(٣) بحر المذهب ٩ : ٢٠٦.

(٤) بحر المذهب ٩ : ٢٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٥ ، المغني ٥ : ١٥٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بأسهم بينهم شديد ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله :( وقلوبهم شتى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله :( ذلك بأنّهم لا يعقلون ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم( كمثل الذين من قبلهم ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء( ذاقوا وبال أمرهم ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

٢٦١

الحشر

٥٢

التمثيل الثاني والخمسون

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) .(١)

تفسير الآية هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم :( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه :( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم :( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ) .(٢)

ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

__________________

١ ـ الحشر : ١٦.

٢ ـ الحشر : ١٢.

٢٦٢

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ) .(١)

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأوحى له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.(٢)

__________________

١ ـ الأنفال : ٤٨.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٢٦٥.

٢٦٣

الحشر

٥٣

التمثيل الثالث والخمسون

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(١)

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول :( وخشعت الأصوات ) ،( خاشعة أبصارهم ) ، (أبصارهم خاشعة ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

__________________

١ ـ الحشر : ٢١.

٢٦٤

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه :( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .(١)

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والأصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية الله ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

__________________

١ ـ البقرة : ٧٤.

٢٦٥

الجمعة

٥٤

التمثيل الرابع والخمسون

( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ) .(١)

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار.(٢)

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

__________________

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ مفردات الراغب : مادة «سفر ».

٢٦٦

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال :( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله :( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ) .

٢٦٧

التحريم

٥٥

التمثيل الخامس والخمسون

( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) .(١)

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول :( وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ التحريم : ١٠.

٢٦٨

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ) .(١)

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

١. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه :( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

٢. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أخرى ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأت به ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

٣. انّه سبحانه أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ، كما يقول سبحانه :( وأظهره الله عليه ) أي أطلعه الله عليه.

٤. انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « مااستقصى كريم قط ».

٥. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه :( فلمّا نبّأها به

__________________

١ ـ التحريم : ٣.

٢٦٩

قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه :( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن على أنّ

٢٧٠

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه :( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (١) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم :( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .(٢)

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

__________________

١ ـ المؤمنون : ١٠١.

٢ ـ الأعراف : ٣٥.

٢٧١

التحريم

٥٦

التمثيل السادس والخمسون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين * وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) .(١)

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله :( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

__________________

١ ـ التحريم : ١١ ـ ١٢.

٢٧٢

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها :( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمن ات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله :( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

١.( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه :( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) (١) وفي سورة الأنبياء قوله :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ) .(٢)

__________________

١ ـ النساء : ١٥٦.

٢ ـ الأنبياء : ٩١.

٢٧٣

٢.( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه :( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال :( فنَفخنا فيها من روحنا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً( فنفخنا فيه من روحنا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

٣.( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

٤.( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

٢٧٤

سبحانه :( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) .(١)

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

١. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ».(٢)

٢. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ) ».(٣)

٣. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى ».

__________________

١ ـ آل عمران : ٤٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٥ / ٣٢٠.

٣ ـ و ٤. الدر المنثور : ٨ / ٢٢٩.

٢٧٥

الملك

٥٧

التمثيل السابع والخمسون

( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ) .(١)

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه :( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله :( يمشي سوياً ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

__________________

١ ـ الملك : ٢١ ـ ٢٢.

٢٧٦

 التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٩ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٢٧٧

خاتمة المطاف

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَما هِيَ إلاّ ذِكرى لِلبَشر ) .(١)

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وما أدراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي ولا تَذَرُ * لواحَةٌ للبشرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .(٢)

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم(٣) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

__________________

١ ـ المدثر : ٣١.

٢ ـ المدثر : ٢٦ ـ ٣٠.

٣ ـ الدهم : الجماعة الكثيرة.

٢٧٨

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية :( وَما جعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله :( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) .(١)

فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

١.( فتنة للذين كفروا ) .

٢.( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ) .

٣.( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ) .

٤.( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) .

٥.( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه :( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه :( وَإذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

__________________

١ ـ النجم : ٥ ـ ٦.

٢٧٩

إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون ) .(١)

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله :( ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ) (٢) ومن المعلوم

__________________

١ ـ التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥. ٢ ـ القصص : ٨.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466