• البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14105 / تحميل: 5342
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ١

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المحمود الله ، جلت آلاؤه ، والمصلى عليه محمد وآله.

وبعد : فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية ، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية ، وكثيرا ما سئلت أىّ التفاسير أسهل منالا ، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل ، علما منى بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة ، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازى الكتاب الكريم ، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون :

من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها ، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفه ، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها ، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم فى تلك العصور ، وقد أثبت العلم فى هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغى التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت

٤

ـ فى عصور قد خلت ـ بأساليب تناسب أهلها ، وكان مؤلفوها يتباهون بإيجازها ويرون ذلك مفخرة لهم ، ولكن الزمان وهو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية ، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدى قراءة لفظه ، أولى لك ألا تضيع وقتك في قراءته وكدّ الفكر فى الوصول إلى المعمّى من معناه.

ومن ثم نهج الناس فى التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها ، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين ، أو يستند إلى عضوين ، من تجربة واختبار ، وحجة وبرهان.

من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه ، ويكون دانى القطوف ، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان ، وتؤيده التجربة والاختبار ، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا ، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير ، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب ، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد ، ويهدينا إلى سواء السبيل؟

أول المحرم عام ١٣٦٥ ه‍

أحمد مصطفى المراغي

٥

عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم

كتاب الله هو دستور التشريع ، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها ، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهى ، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها ، لتكون مصدر سعادتهم ، ومنبع هدايتهم ، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم ؛ فهى الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامى إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها ، وينحرفوا عن سننها.

ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة ، وقد كانت تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الآية أو الآيات فى واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه ، ويفصل لهم مجملها ، ويوضح لهم مبهمها ، ويفسر لهم مشكلها ، حتى لا تبقى فى النفس بقية من لبس ، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل ، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم ، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى.

فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه ـ هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا ، وما طفقت التفاسير تترى وهى مختلفة المناجى والمناهج ، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأى العين ، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون ، ورقىّ الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى :( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) .

٦

طبقات المفسرين

١ ـ التفسير فى عصر الصحابة :

طفق المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن ، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون فى حضرته كثيرا.

وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة : الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ ، ثم عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء على بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة ، وروى عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة ٣٢ ه‍ أكثر مما روى عن علىّ رضى الله عنه.

أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة ٦٨ ه‍ فهو ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، وشيخ المفسرين ، فقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة ، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل.

قال صاحب كشف الظنون ما نصه :

وأصح الطرق فى الرواية عنه :

(١) طريق علىّ بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ١٤٣ ه‍ ، وعليها اعتمد البخاري فى صحيحه.

(٢) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة ١٢٠ ه‍ عن عطاء بن السائب.

(٣) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة.

(٤) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ١٤٦ ه‍ وهى أوهى الطرق ، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السّدّى الصغير المتوفى سنة ١٨٦ ه‍.

٧

وقد طبع تفسير ينسب إلى ابن عباس برواية الفيروز بادى صاحب القاموس ، سماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس).

وروى عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة ٢٠ ه‍ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية ، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء.

وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة ٤٥ ه‍ أحد كتاب الوحى ، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبى بكر ، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف فى عهد عثمان.

وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة ٤٤ ه‍.

٢ ـ التفسير في عهد التابعين

أعلم الناس بالتفسير فى هذا العصر :

(ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس ، وأشهرهم :

(١) مجاهد بن جبر المتوفى سنة ١٠٣ ه‍ وقد قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.

(٢) سعيد بن جبير المتوفى سنة ٩٤ ه‍.

(٣) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة ١٠٥ ه‍.

(٤) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ١٠٦ ه‍.

(٥) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة ١١٤ ه‍.

قال سفيان الثوري : خذوا التفسير عن أربعة : عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك. وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة ، كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن(١) أعلمهم بالحلال والحرام.

__________________

(١) الحسن البصري.

٨

(ب) علماء الكوفة أصحاب ابن مسعود ، وأشهرهم :

(١) علقمة بن قيس المتوفى سنة ١٠٢ ه‍.

(٢) الأسود بن يزيد المتوفى سنة ٧٥ ه‍.

(٣) إبراهيم النخعي المتوفى سنة ٩٥ ه‍.

(٤) الشعبي المتوفى سنة ١٠٥ ه‍.

(حـ) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوى المدني المتوفى سنة ١٣٦ ه‍ ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير ، ومن أشهرهم :

(١) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة ١٨٢ ه‍.

(٢) مالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ ه‍.

(٣) الحسن البصري المتوفى سنة ١٢١ ه‍.

(٤) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى المتوفى سنة ١٣٥ ه‍.

(٥) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة ١١٧ ه‍.

(٦) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة ٩٠ ه‍.

(٧) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة ١٠٥ ه‍.

(٨) عطية بن سعيد العوفى المتوفى سنة ١١١ ه‍.

(٩) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة ١١٧ ه‍.

(١٠) الربيع بن أنس المتوفي سنة ١٣٩ ه‍.

(١١) إسماعيل بن عبد الرحمن السّدى الكبير المتوفى سنة ١٢٧ ه‍.

٣ ـ طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين :

وأشهر هؤلاء :

(١) سفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ ه‍.

(٢) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة ١٩٧ ه‍.

٩

(٣) شعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ ه‍.

(٤) يزيد بن هرون السّلمى.

(٥) عبد الرازق المتوفى سنة ٢١١ ه‍.

(٦) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة ٢٢١ ه‍.

(٧) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة ٢٣٨ ه‍.

(٨) روح بن عبادة المتوفى سنة ٢٠٥ ه‍.

(٩) عبد الله بن حميد الجهني.

(١٠) أبو بكر بن أبى شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة ٣٣٥ ه‍.

٤ ـ الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير :

تلت هؤلاء طبقة أخرى ، منها :

(١) علىّ بن أبى طلحة المتوفى سنة ٣٤٣ ه‍.

(٢) ابن أبى حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍.

(٣) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة ٢٧٣ ه‍.

(٤) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهانى المتوفى سنة ٤١٠ ه‍.

(٥) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة ٣٥٤ ه‍.

(٦) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة ٢٣٦ ه‍.

(٧) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ ه‍ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي فى الإتقان : وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب ، والاستنباط ، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين ا ه. وقال النووي النيسابورى الشافعي في تهذيبه : كتاب ابن جرير فى التفسير لم يصنف أحد مثله ، وقال أبو إسحاق الاسفرائينى : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا ، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه :

١٠

أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال : ثلاثين ألف ورقة. قالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ذكر ذلك السبكى فى طبقاته.

٥ ـ الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد :

ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد ، من أشهرهم :

(١) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السرىّ النحوي المتوفي سنة ٣١٠ ه‍ وقد سمى تفسيره (معانى القرآن).

(٢) أبو على الفارسي الحجة الثبت فى اللغة والبلاغة ، وصاحب المؤلفات الكثيرة فى مختلف الفنون ، توفى سنة ٣٧٧ ه‍.

(٣) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة ٣٥١ ه‍.

(٤) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة ٣٣٨ ه‍.

(٥) مكىّ بن أبى طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة ٤٣٧ ه‍.

(٦) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوى المتوفي سنة ٤٣٠ ه‍ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).

وقد دخل فى التفسير فى هذه الفترة الدخيل ، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد ، فالتبس الصحيح بالعليل ، وصار كل من سنح له قول يورده ، ومن خطر بباله شىء يعتمده ، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح فى ذلك ، ومن هم القدوة فى هذا الباب.

٦ ـ عصر المعرفة الإسلامية :

التقت فى البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات

١١

اليونانية والفارسية والهندية ، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم ، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات فى التفسير تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد ، وسار الفكر الإسلامى حرّا طليقا فى معرفتها حينا ، ومقيدا حينا آخر ، يحكّم العقل مرة ، ويسلس قياده للنص أخرى ، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكرى.

ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء ، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية ، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها ـ سهل سبحانه الأمر علينا ، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه ، لأنه نزّله نورا وهدى للناس ، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم ، واستوضحت مغازيها ، وكشفت أسرارها ومراميها ، من حيث هى دين إلهى ، وهدى سماوى ، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية ، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث ، فتابع لذلك ، ووسيلة إليه فى التحصيل ، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول ، لكنّ كثيرا من المفسرين ، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد :

(١) فمنهم من وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه ، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة ، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس ، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم ، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان ، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا.

وقد سلك هذا المسلك الزمخشري فى كشافه ، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة ، وأبدع فيها أيّما إبداع ، ونحا نحوه خلق كثير.

(٢) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه ، حتى كأن القرآن

١٢

لهذا أنزل ، وممن سلك هذا المسلك الزجّاج فى تفسيره معانى القرآن ، والواحدي النيسابورى في تفسيره (البسيط) وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسى فى البحر المحيط (٣) ومنهم من وجه النظر إلى القصص والأخبار عمن سلف ، وقد نحا هذا النحو أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات. وليتهم اقتصروا على النقل من التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة لدى أهل الكتاب ، لكنهم أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غثّ وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ، ومن أشهر هؤلاء الثعلبي ، وصاحب الخازن علاء الدين بن محمد البغدادي المتوفى سنة ٧٤١ ه‍.

(٤) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات ، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها ، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي فى تفسيره.

(٥) ومنهم من عنى بالكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة ٦١٠ ه‍ فى ذلك القدح المعلّى فى تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ، فقد خرج فيه من باب إلى باب ، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسى فى البحر المحيط : جمع الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها فى علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : تفسيره فيه كل شىء إلا التفسير ا ه.

(٦) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد ، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن.

(٧) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك ، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى ، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.

١٣

ولقد نعلم أن الإكثار فى مقصد من هذه المقاصد يدخل النقص على الغرض الأصلى من تفسير الكتاب الكريم ، وهو فهم الكتاب من حيث هو دين وهداية للناس فى دنياهم وآخرتهم.

٧ ـ طريق كتابة القرآن الكريم :

من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها ، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف ، أو علم الإملاء ، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم.

أما كتابة المصحف فهى تابعة للطريق التي كتب بها المصحف فى عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد فى كثير من المواضع ، ومن ثم قيل :

خطان لا يقاس عليهما : خط العروض ، وخط المصحف العثماني.

آراء العلماء فى التزام الرسم العثماني

فى كتابة المصاحف

الرأى الأول ـ عبر عنه الإمام أحمد بقوله : تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني : لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة.

الرأى الثاني : أن رسم المصاحف اصطلاحى لا توقيفى ، وعليه فتجوز مخالفته ، ومن جنح إلى هذا الرأى ابن خلدون فى مقدمته ، وممن تحمس له القاضي أبو بكر فى الانتصار ، إذ قال : وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا ، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطى المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه ،

١٤

إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس فى نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه ، ولا فى نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ، ولا دلت عليه القياسات الشرعية ، بل السنة دلت على جواز رسمه بأى وجه سهل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ، ولا نهى عن كتابته بغيره.

ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح ، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال ، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك.

وإذا كانت خطوط المصاحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا ذلك ، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ، علم أنه لم يؤخذ فى ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم فى القراءة والأذان.

والسبب فى ذلك أن الخطوط إنما هى علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أىّ صورة كانت.

وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه ، وأنّى له ذنك؟ ا ه.

١٥

الرأى الثالث : يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام ، من أنه يجوز بل يجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن يجب فى الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح ، فلا يهمل مراعاته لجهل الجاهلين ، بل يبقى فى أيدى العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان قال :

واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس ، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك ، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال : لا. إلا على الكتبة الأولى.

قال في البرهان : قلت وهذا كان فى الصدر الأول والعلم حىّ غض ، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغى إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدى إلى دروس العلم ، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته ا ه.

وقد جرينا على الرأى الذي أوجبه العز بن عبد السلام فى كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها ، وهى فى عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور ، على أن الخلاف بينهم فى المصحف لا فى القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.

١٦

خدمتى للغة العربية والكتاب الكريم

لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا ، وتأليفا وتصنيفا ، أتتبع أساليبها فى آي القرآن الحكيم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشعر والنثر ، حتى وجدتني كلفا ، بأن أتوّج خدمتى لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته «تفسير المراغي».

وقصاراى أن أسير فى قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية ، مؤديا بعض ما يجب علىّ نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه.

نهجنا الذي سلكناه فى هذا التفسير

رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم ، بالنهج الذي اتبعناه فى التأليف ، لتكون على بينة من أمره :

(١) ذكر الآيات فى صدر البحث :

صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم ، سيقت لتؤدى غرضا واحدا.

(٢) شرح المفردات :

أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية ، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين.

(٣) المعنى الجملي للآيات :

أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.

١٧

(٤) أسباب النزول :

أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات ، إن صح شىء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور.

(٥) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم :

ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم : من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك ، مما أدخله المفسرون فى تفاسيرهم ، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير ، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما فى استيعاب قراءة التفسير ، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس ، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق ، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك.

(٦) أسلوب المفسرين :

رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت فى عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها ، وأن جمهرتهم أوجزوا فى القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم.

ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره فى آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم ـ وجب على الباحثين فى هذا العصر مجاراة أهله فى كل ما نقدّم ، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله ، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا ، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم ، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم ، مستندين إلى آرائهم.

١٨

وقد سلكنا فى الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات فى مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها ، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي ، والفلكي العارف والمؤرخ الثّبت ، والحكيم البصير ليدلى كل برأيه فيما تمهّر فيه ، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر ، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله ، فرجل الدين حامل لوائها ، عليه أن يسأل العلم دائما ليستبصر بما ثبت لديه ، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن قعدت به همته إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة ، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته.

(٧) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم :

يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب ، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل ، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ فى الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته ، كتبته بأسلوب العصر الحاضر ، وهذا هو نهجى فى تأليف هذا التفسير.

وما حملنى على ركوب هذا المركب الخشن ، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا ، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون ، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة فى الفهم ، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.

١٩

(٨) تمحيص روايات كتب التفسير :

أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام ، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات ، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب ، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة ، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول ، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته ، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفى عليهم فهمه من كتابهم ، ولكنهم كانوا فى ذلك كحاطب ليل ، يجمع بين الشذرة والبعرة ، والذهب والشبه ، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة ، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأى من بهرجه ، وصحيحه من سقيمه ، فساقوا إلى المسلمين من الآراء فى تفسير كتابهم ما ينبذه العقل ، وينافيه الدين ، وتكذبه المشاهدة ، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم فى العصور اللاحقة.

وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه ، إلا مثل السائح الأوربى إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر ، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب.

ومن ثمّ رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول ، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله ، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة ، وأشرف لتفسير كتاب الله ، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية ، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.

٢٠

(9) عدد أجزاء هذا التفسير :

جعلت تفسيرى ثلاثين جزءا ، لكل جزء من القرآن الكريم جزء خاص من التفسير ، ليسهل على القارئ حمل هذا الجزء واستصحابه معه فى حله وترحاله ، فى قطر السكك الحديدية ، وفى الترام ، وفى كل مكان ينتقل إليه.

وكان من فأل الطالع أن بدئ بطبع هذا التفسير فى أول العام الهجري الجديد عام 1365 ه‍.

والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين ، وأن يوفقنا لخدمة دينه ولغة كتابه الكريم؟

أحمد مصطفى المراغي

٢١

مراجع التفسير

(1) تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه‍.

(2) تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل لأبي القاسم جار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 ه‍.

(3) حاشية شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 713 ه‍ على الكشاف.

(4) أنوار التنزيل للقاضى ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 692 ه‍.

(5) تفسير أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفي فى رأس المائة الخامسة.

(6) تفسير البسيط للإمام أبى الحسن الواحدي النيسابورى المتوفى سنة 468 ه‍.

(7) التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي ، المتوفي سنة 610 ه‍.

(8) تفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة 516 ه‍.

(9) غرائب القرآن لنظام الدين الحسن بن محمد القمّى.

(10) تفسير الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه‍.

(11) البحر المحيط لأثير الدين أبى حيان محمد بن يوسف الأندلسى المتوفى سنة 745 ه‍.

(12) نظم الدرر فى تناسب الآي والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 ه‍.

(13) تفسير أبي مسلم الأصفهانى المتوفى سنة 459 ه‍.

(14) تفسير القاضي أبي بكر الباقلاني.

(15) تفسير الخطيب الشربينى المسمى بالسراج المنير.

٢٢

(16) روح المعاني للعلامة الآلوسى.

(17) تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا وهو تفسير مقتبس من دروس الأستاذ الإمام محمد عبده ، وقد كان له فضل كبير فيما اقتبسناه أثناء تفسير الأجزاء التي فسرها.

(18) تفسير الجواهر للأستاذ طنطاوى جوهرى.

(19) سيرة ابن هشام.

(20) شرح العلامة ابن حجر للبخارى (21) شرح العلامة العيني للبخارى.

(22) لسان العرب لابن منظور الإفريقى المتوفى سنة 711 ه‍.

(23) شرح القاموس للفيروزبادى المتوفى سنة 816 ه‍.

(24) أساس البلاغة للزمخشرى المتوفى سنة 548 ه‍.

(25) الأحاديث المختارة للضياء المقدسي.

(26) طبقات الشافعية لابن السبكى.

(27) الزواجر لابن حجر.

(28) أعلام الموقعين لابن تيمية.

(29) الإتقان فى علوم القرآن للعلامة السيوطي.

(30) مقدمة ابن خلدون.

٢٣

سورة الفاتحة

السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية ، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها : أم الكتاب ، أم القرآن.

(لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده) ، والسبع المثاني لأنها تثنى فى الصلاة) ، والأساس (لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه) ، والفاتحة (لأنها أول القرآن فى هذا الترتيب أو أول سورة نزلت)

فقد أخرج البيهقي فى كتابه الدلائل عن أبى ميسرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : إنى إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا.

فقالت معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فو الله إنك لتؤدى الأمانة وتصل الرّحم.

وتصدق. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبر ورقة بذلك ، وإن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء ، وإنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه الملك يا محمد قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ـ حتى بلغ ولا الضالين».

وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال ، ثم فصل ما أجملته بعد.

بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد ، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسىء العقوبة ، وعلى العبادة التي تحيى التوحيد فى القلوب وتثبته فى النفوس ، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة ، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده ، وفيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم ، والضالين الذين تعدّوا الحدود ، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا.

وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة ، فالتوحيد يرشد إليه قوله :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ

٢٤

الْعالَمِينَ ) لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له ، ولن يكون هذا إلا إذا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد ، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله :( رَبِّ الْعالَمِينَ ) وقد استكمله بقوله :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وبذلك اجتثّ جذور الشرك التي كانت فاشية فى جميع الأمم ، وهى اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى الله زلفى.

والوعد والوعيد يتضمنهما قوله :( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسىء.

والعبادة تؤخذ من قوله :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

وطريق السعادة يدل عليه قوله :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم ، فمن خالفه وانحرف عنه كان فى شقاء مقيم.

والقصص والأخبار يهدى إليها قوله :( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها ، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها.

وقوله :( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان :

صنف خرج عن الحق بعد علمه به ، وأعرض عنه بعد أن استبان له ، ورضى بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم ، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش ، فهو فى عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي ، وهؤلاء هم الضالون.

وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وعدة آيها سبع.

وقد نزل القرآن الكريم منجّما أي مفرقا فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث

٢٥

التي دعت إلى نزوله ، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة بعدها ، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها.

ميزات المكي :

فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين ، وفعل الخيرات وترك المنكرات ، مع إيجاز فى التعبير ، واختصار فى الأسلوب ، ويتضح ذلك جليا فى قصار المفصّل كالحاقة والواقعة والمرسلات.

ميزات المدني :

ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية فى السلم والحرب ، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية ، إلى إسهاب فى الأسلوب وبسطة فى القول ، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب ، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص ، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا.

٢٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد

يرى بعض الصحابة كأبى هريرة وعلىّ وابن عباس وابن عمر ، وبعض التابعين كسعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك وبعض فقهاء مكة وقرائها ومنهم ابن كثير ، وبعض قراء الكوفة وفقهائها ومنهم عاصم والكسائي والشافعي وأحمد ، أن البسملة آية من كل سورة من سورة القرآن الكريم.

ومن أدلتهم على ذلك :

(1) إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها فى المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة ، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه ، ومن ثم لم يكتبوا (آمين) فى آخر الفاتحة.

(2) ما ورد في ذلك من الأحاديث ، فقد أخرج مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنزلت علىّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف انقضاء السورة ، حتى ينزل عليه( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وروى الدار قطنى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرّحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرّحمن الرحيم إحدى آياتها».

(3) أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى ، والبسملة بينهما فوجب جعلها منه.

ويرى مالك وغيره من علماء المدينة ، والأوزاعى وجماعة من علماء الشام ، وأبو عمرو

٢٧

يعقوب من قراء البصرة وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة ـ أنها آية مفردة من القرآن أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها.

ويرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا وهو رأى بعض الحنفية.

ومن أدلتهم على ذلك حديث أنس قال : صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا آخرها.

الإيضاح

( بِسْمِ ) الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان ، أو معنى كعلم وأدب.

وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه فى آيات فقال :( فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ) وقال :( فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ) وقال :

( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ) .

وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه فى آيات أخرى فقال :( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) وقال :( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) وقال :( وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ) .

ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده ، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها.

وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك ، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة فى كون الفعل معتدا به شرعا ، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم.

( اللهِ ) علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى ، وكان العربي فى الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول الله : وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب (لا).

٢٨

والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بالحق.

( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) كلاهما مشتق من الرحمة وهى معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه ، ويراد منها فى جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان.

إلا أن لفظ( الرَّحْمنِ ) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهى إسباغ النعم والإحسان ، ولفظ( الرَّحِيمِ ) يدل على منشأ هذه الرحمة ، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له ، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم ، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة دائمة هى الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم ؛ وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين ، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار.

افتتح عزّ اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها ، وقد
ورد في الحديث «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (أي مقطوع الذنب ناقص).

وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى ، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم ، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان ، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير.

وإذا فمعنى أبتدئ عملى باسم الله الرحمن الرحيم أننى أعمله بأمر الله ولله لا لحظ نفسى وشهواتها.

ويمكن أن يكون المراد ـ أن القدرة التي أنشأت بها العمل هى من الله ولو لا ما أعطانى من القدرة لم أفعل شيئا ، فأنا أبرأ من أن يكون عملى باسمي ، بل هو باسمه تعالى ، لأننى أستمد القوة والعون منه ، ولولا ذلك لم أقدر على عمله ، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم ، أن جميع ما جاء فى القرآن من الأحكام والشرائع

٢٩

والأخلاق والآداب والمواعظ ـ هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شىء ، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم ، أي اقرأها على أنها من الله لا منك ، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة ، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه ، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء فى قوله :( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) )

الإيضاح

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره.

والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال ، ومدح الجمال ، ومدح الرياض.

والثناء يستعمل فى المدح والذم على السواء ، فيقال أثنى عليه شرا ، كما يقال أثنى عليه خيرا.

والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم :

أفادتكم النعماء منّى ثلاثة

يدى ولساني والضّمير المحجّبا

يريد أن يدى ولسانى وقلبى لكم ، فليس فى القلب إلا نصحكم ومحبتكم ، ولا فى اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم ، ولا فى اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.

٣٠

وورد فى الأثر ـ الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده.

وقد جعله رأس الشكر ، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها ، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به ، أما الشكر بالقلب فهو خفى قلّ من يعرفه ، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس.

( لِلَّهِ ) هو المعبود بحق لم يطلق على غيره تعالى.

( رَبِّ ) هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه.

وتربية الله للناس نوعان ، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية ـ وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم ـ وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه.

ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار ، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات الله عليه فى مولاه عزيز مصر( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) وقال عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي : أما الإبل فأنا ربّها ، وأما البيت فإن له ربّا يحميه.

( الْعالَمِينَ ) واحدهم عالم (بفتح اللام) ويراد به جميع الموجودات ، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم ، فيقولون عالم الإنسان ، وعالم الحيوان وعالم النبات ، ولا يقولون عالم الحجر ، ولا عالم التراب ، ذاك أن هذه العوالم هى التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ( رَبِّ ) إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد.

والخلاصة ـ إن كل ثناء جميل فهو لله تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات.

وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم ، فله الحمد على ما أسدى ، والشكر على ما أولى :

( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قد سبق أن قلنا : إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده

٣١

بلا حصر ولا نهاية ، وهذا اللفظ خاص بالله تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا فى شعر

لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا

وأنت غيث الورى لازلت رحمانا

والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان.

وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشر حو الصدور ، لا ربوبية جبروت وقهر لهم.

والعقوبات التي شرعها الله لعباده فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته ـ هى قهر فى الظاهر ورحمة فى الحقيقة ، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم ، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم ، ألا ترى إلى الوالد الرءوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة ، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا ، قال أبو تمام :

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قرأ بعض القرّاء مالك ، وبعض آخر ملك ، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك (بكسر الميم) والملك هو ذو الملك (بضم الميم) وقد جاء فى الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين ، فيعاضد الأولى قوله :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) ويعاضد الثانية قوله :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) .

قال الراغب : والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة ، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله فى القراءة الأولى ، فهى تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف فى شئون العقلاء بالأمر والنهى والجزاء ، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء :

والدين يطلق لغة على الحساب ، وعلى المكافأة ، وعلى الجزاء ، وهو المناسب هنا ،

٣٢

وإنما قال مالك يوم الدين ، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله.

والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم فى الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم فى أداء الحقوق والواجبات التي عليهم ـ فربما يظهر ذلك فى بعض دون بعض ، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين فى شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم ، نعم إنهم لا يسلمون من المنغّصات ، وربما أتتهم الجوائح فى أموالهم ، واعتلّت أجسامهم ، وضعفت عقولهم ، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات ، وكبير المنكرات ، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء ، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم ، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقون من الجزاء ، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، جزاء وفاقا لما عمل( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) ،( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .

أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر جزاؤهم فى الدنيا ظهورا تاما ، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السوي ، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى ، وذلّ بعد عزة ، ومهانة بعد جلال وهيبة.

وقد جاء قوله :( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) إثر قوله :( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ليكون كترهيب بعد ترغيب ، وليعلمنا أنه تعالى ربّى عباده بكلا النوعين من التربية ، فهو رحيم بهم ، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال :( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته ؛ لأنه أعلى من أن يحيط به فكره ، أو يرقى إليه إدراكه.

٣٣

فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده ، لأن سبب التذلل معروف ، وهو إما الخوف من جوره وظلمه ، وإما رجاء كرمه وجوده.

وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان ، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى ، والملكوت الأسمى ، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس ، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هى العبادة التي شرعها الدين.

هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، كما قال :( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) فإن لم يكن لها هذا الأثر فى النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها ، فاقدة جلالها وكمالها ، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور ذفقال :( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ) فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها ، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته ، وقد جاء فى الحديث : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. وأنها تلفّ كما يلفّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه.

والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده.

وقد أمرنا الله فى هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه ، لأنه المنفرد بالسلطان ، فلا ينبغى أن يشاركه فى العبادة سواه ، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره ، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه ، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه ، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها.

بيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها ، وجعلتها موصلة إليها ، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها ، وقد أوتى الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب ، ودفع بعض الموانع بقدر

٣٤

استعداده الذي أوتيه ، وفى هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى ، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو ، ونضع فى الأرض السّماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة.

وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى.

فنستعين به وحده ، ونفزع إليه في شفاء مريضنا ، ونصرنا على عدونا ، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا ، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه ، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا كما قال :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

فمن يستعين بقبر ناسك ، أو ضريح عابد لقضاء حاجة له ، أو تيسير أمر تعسّر عليه ، أو شفاء مريض أو هلاك عدو فقد ضل سواء السبيل ، وأعرض عما شرعه الله ، وارتكب ضربا من ضروب الوثنية التي كانت فاشية قبل الإسلام وبعده ولا تزال إلى الآن كذلك ، وقد نهى عن مثلها الشارع الحكيم ، إذ حصر طلب المعونة فيه دون سواه ، وجعلها مقصد كل مخبت أوّاه.

وفى ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب ، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة ، ونبذ هدى الشريعة ، وأصبح مذموما مدحورا ، لا متوكّلا محمودا ، وكذلك فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتى من حصافة الرأى ، وحسن التدبير ، وتقليب الأمور على وجوهها ـ لا يستغنى عن العون الإلهى ، واللطف الخفىّ.

والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله ، وهى من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى ، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا ، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه ، لا حىّ ولا ميت ، وفى هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين ، وإطلاق العزائم من قيود الأفّاكين الكاذبين.

٣٥

( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الهداية هى الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، والصراط هو الطريق ، والمستقيم ضد المعوجّ ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهى إليها.

وهداية الله للإنسان على ضروب :

(1) هداية الإلهام ، وتكون للطفل منذ ولادته ، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له.

(2) هداية الحواس ، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم ، بل هما فى الحيوان أتمّ منهما فى الإنسان ، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل ، ويحصلان في الإنسان تدريجا.

(3) هداية العقل ، وهى هداية أعلى من هداية الحس والإلهام ، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره ، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة ، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس ، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا ، والرائي يبصر العود المستقيم فى الماء معوجّا.

(4) هداية الأديان والشرائع ، وهى هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله ، وسخّر نفسه للذاته وشهواته ، وسلك مسالك الشرور والآثام ، وعدا على بنى جنسه ، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع ـ فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول ، وتتبين للناس الحدود والشرائع ، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها ـ إلى أن فى غرائز الإنسان الشعور ـ بسلطان غيبى متسلّط على الأكوان ، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا ، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة ، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان ، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته فى هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها.

وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم فى آيات كثيرات كقوله :( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) أي طريقى الخير والشر والسعادة والشقاء. وقوله :( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ

٣٦

فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.

وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير فى طريق الخير ، وهى التي أمرنا الله بطلبها فى قوله :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) إذ المراد ـ دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع فى الخطأ والضلال.

وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه ، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) وقوله :( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) وأثبتها لنفسه فى قوله :

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق ، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح ، فهى مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها ، ومن ثم أثبتها للنبى صلى الله عليه وسلم فى قوله :( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

هذا ـ والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة فى الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع دينى كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع ـ وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسى ، إذ كل منهما موصل إلى غاية ، فهذا سير معنوى يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان ، وذاك سير حسىّ يصل به إلى غاية أخرى.

وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه ، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد فى معرفة أحكام الشريعة ، ونكلف أنفسنا الجري على سننها ، لنحصل على خيرى الدنيا والآخرة.

( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة ، وقد أجملهم هنا وفصلهم فى مواضع عدة من

٣٧

الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر فى أحوالهم ، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة ، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار.

وقد أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا ، لأن دين الله واحد فى جميع الأزمان : فهو إيمان بالله ورسله واليوم الآخر ، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر ، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلى آخر الآية.

والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا ، وانصرفوا عن النظر فى الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد ـ وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار.

والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح ، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق ، فهم تائهون فى عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب ، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ إن لم يضلّوا فى شئون الدنيا ضلوا فى شئون الحياة الأخرى ، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب فى أحواله المعيشية وحلت به الرزايا ، والذين جاءوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة ، ولا يعذبون فى الآخرة لقوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .

وهذا رأى جمهرة العلماء ، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف فى التكليف ، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر فى ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر فى خالق الكون ، وما يجب له من عبادة وإجلال ، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده ، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة ، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.

(آمين) اسم بمعنى استجب ، وفيه لغتان : المد كما قال شاعرهم :

يا رب لا تسلبنّى حبها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

والقصر كما قال الآخر :

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

٣٨

وروى فى الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة ، وقال إنه كالختم على الكتاب ، وأوضح ذلك علىّ كرّم الله وجهه فقال : آمين خاتم رب العالمين ، ختم به دعاء عبده ـ يريد أنّه كما يمنع الخاتم الاطلاع على المختوم والتصرف فيه ، يمنع آمين الخيبة عن دعاء العبد.

وهذا اللفظ ليس من القرآن إذ لم يثبت فى المصاحف ، ولا يقوله الإمام فى الصلاة ، لأنه الداعي كما قال الحسن البصري ، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقوله ويخفيه وفاقا لرواية أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعند الشافعية يجهر به ، كما رواه وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان إذا قرأ ولا الضالين ، قال : آمين ورفع صوته.

ويرى بعض علماء الآثار المصرية فى العصر الحاضر أن كلمة (آمين) معناها الله ، فكأنها ذكرت فى آخر الفاتحة للختم باسمه تعالى إشارة إلى أن المرجع كله إليه ، ويعقدون موازنة بين (مينو) و (آمون) و (آمين).

ويرى الثقات من علماء اللغات السامية رأيهم ، ويقولون : إنها ذكرت آخر الفاتحة للترنم بها بعد قراءة السورة التي تضمنت الإشارة إلى أغراض الكتاب الكريم. ويؤيدون رأيهم بأن المزامير ختمت بكلمة (سلاه) للترنم بها على هذا النحو ـ ويكون المعنى العام ـ إنا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير.

٣٩

سورة البقرة

مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين ، فقد نزلت بمعنى فى حجة الوداع ، وهى آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة ، وهى أطول سور القرآن ، كما أن أقصرها سورة الكوثر ، وأطول آية فى القرآن هى آية الدّين( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ) إلخ ، وأقصرها قوله والضحى ، وقوله والفجر.

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) )

الإيضاح

( الم ) هى وأمثالها من الحروف المقطعة نحو (المص والمر) حروف للتنبيه كألا ويا ونحوهما مما وضع لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها ، فهنا جاءت للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم والإشارة إلى إعجازه وإقامة الحجة على أهل الكتاب إلى نحو ذلك مما جاء فى أثناء السورة.

وتقرأ مقطّعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر فيقال : ألف. لام. ميم ، كما يقال في أسماء الأعداد. واحد. اثنان. ثلاثة.

( ذلِكَ الْكِتابُ ) الكتاب اسم بمعنى المكتوب وهو النقوش والرقوم الدالة على المعاني ، والمراد به الكتاب المعروف المعهود للنبى صلى الله عليه وسلم الذي وعده الله به لتأييد رسالته وكفل به هداية طلاب الحق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.

وفى التعبير به إيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمز بكتابة شىء سواه.

وعدم كتابة القرآن كله بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة ، ألا ترى أن من المستفيض الشائع فى التخاطب أن يقول إنسان لآخر : هلمّ أملل عليك كتابا ، والكتاب لم يوجد بعد.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232