الجزء الثاني
( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) )
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير المفردات
السفه والسفاهة : اضطراب في الرأى والفكر أو الأخلاق ، ويسمى اضطراب العقل طيشا وجهلا ، واضطراب الأخلاق فسادا ، وولاه عن الشيء : صرفه ، والقبلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة ، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصت بالجهة التي
يستقبلها الإنسان في الصلاة ، والصراط الطريق ، والمستقيم المستوي المعتدل من الأفكار والأعمال والأخلاق ، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة ، والوسط العدل والخيار ، والزيادة على ذلك إفراط ، والنقص عنه تفريط وتقصير ، وكلاهما مذموم ، والفضيلة في الوسط كما قيل :
ولا تغل في شىء من الأمر واقتصد |
كلا طرفى قصد الأمور ذميم |
يقال انقلب على عقبيه عن كذا إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ؛ الرأفة رفع المكروه وإزالة الضرر ، والرحمة أعمّ إذ تشمل دفع الضرر ، وفعل الإحسان.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة ، كما كان أنبياء بنى إسرائيل قبله يفعلون ذلك ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حوّل الله القبلة إليها ، ومن ثمّ كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة ، فيصلى جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال.
فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما ، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، فأمره الله بذلك ونزل قوله : «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون : ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه ، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه ، ليوطّن نفسه عليه ، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلاما ، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس ، وليعدّ
الجواب قبل الحاجة إليه ، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم ، وقد قالوا في أمثالهم «قبل الرمي يراش السهم» وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وسلم.
ويتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به ، وهى أن الجهات كلها لله ، فلا فضل لجهة على أخرى ، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أىّ جهة منها ويجعلها قبلة ، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله».
الإيضاح
( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ ) أي سيقول الذين خفّت أحلامهم ، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر ، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب : أىّ شىء جرى لهؤلاء المسلمين ، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟
( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) أي أجبهم بأن الجهات كلها لله ، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها ، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها ، وكذلك الكعبة والبيت الحرام ، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة ، لتكون جامعة لهم فى عبادتهم ، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هى الصخرة المعيّنة أو البناء المعين ، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم :
ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلى الله عليه وسلم والطعن فى الدين ، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها ، حدث بلا داع يدعو إليه ، حتى قالوا : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها ، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا.
( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى
الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين ، ويلهمهم ما فيه الخير لهم ، وهو تارة يكون فى التوجه إلى بيت المقدس ، وأخرى في التوجه إلى الكعبة.
( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا ، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين.
وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين : مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين ، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية ، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات.
فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم ، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية ، فالإنسان جسم وروح ، وإن شئت فقل : الإنسان حيوان وملك ، فكماله بإعطائه الحقين معا.
( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله ، وأخلدوا إلى اللذات : وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية ، وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه ، وهضم حقوق نفسه ، وحرمها من جميع ما أعده الله لها فى هذه الحياة ، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال ، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.
تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم فى جميع شئونكم ، وذلك هو منتهى الكمال الإنسانى الذي يعطى كل ذى حق حقه ، فيؤدى حقوق ربه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوى القربى وحقوق الناس جميعا.
( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط ، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته ، وهو الذي يحكم على من اتبعها ، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى ، وانحرف عن الجادّة ؛ وحينئذ يكون الرسول
بدينه وسيرته حجة عليه ، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هى الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له ، فهو عرضة لرياح الشبهات ، تطير به وتغدو وتروح.
والخلاصة ـ إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته ، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان ، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال : «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ».
وقد جاء في الكتاب الكريم (لنعلم ـ وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد ، ومن ثم قال العلماء : المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع ، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع ، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت ، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى ، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه ، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه ، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها ، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها ، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما ، هو اجتماع الأمة عليها ، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضى بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة ، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها ، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى ، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا.
ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله :
( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) أي إن الله رءوف بعباده ، لأنه ذو الرحمة الواسعة ، فلا يضيع عمل عامل منهم ، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص ، بل ليجزيهم أحسن الجزاء.
والخلاصة ـ إنه لا يكتفى بدفع البلاء عنهم برأفته ، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل ، ويزيدهم من فضله.
( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) )
تفسير المفردات
تقلب الوجه في السماء : تردده المرة بعد المرة فيها ، وهى مصدر الوحى وقبلة الدعاء.
نولينك ، من وليه وليا إذا قرب منه ، وتولية الوجه المكان جعله قبالته وأمامه ، والشطر هنا الجهة ، والمراد بالوجه جملة البدن ، بكل آية : أي بكل برهان وحجة ، وواحد الأهواء هوى وهو الإرادة والمحبة ، والامتراء الشكّ.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، ويقع في روعه أن ذلك كائن ، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته ، ولأنها أقدم القبلتين ، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب ، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين ، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله ، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا ، ولأن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قبلتهم حتى
روى أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
الإيضاح
( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين ، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس.
( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام ، وفي ذكر( الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها ، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي وفي أىّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة ، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات ، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق ، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية).
والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هى له ولأمته ، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله : «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » وقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ».
وإنما أكد الأمر باستقباله ، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه ، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله ، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم ، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول ، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال :
( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم ، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم ، وما هى من كتبهم ، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض ، بإثارة الشكوك فى نفوسهم ، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين ، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون ،
إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين ـ حقّ لا محيص عنه ، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه.
( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) فهو العليم بالظاهر والباطن ؛ والمحاسب على ما في السرائر ، والرقيب على الأعمال ، فيجازي كل عامل بما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم ، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة ، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام ـ ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة.
وقصارى ذلك ـ إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة ، بل خالفوك عنادا وصلفا ، فلا يجدي معهم برهان ؛ ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته ، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال :
( وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) أي إن ذلك لا يكون منك ، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا ، فهى الأجدر بالاتباع. وإذا كان إتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة ، وسرّ اجتماع الناس عليها ، وكون الجهات كلها لله ـ فأى آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟
( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق ، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب ، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه ، محقّا كان أو مبطلا ، ولا ينظر إلى حجة وبرهان ، إذ التقليد أعمى بصيرته ، فلا يبحث فى فائدة ما هو فيه ، ولا يوازن بينه وبين غيره ، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون ، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك ، بعد ما جاءك الحق اليقين ، والعلم الذي لا شكّ فيه ـ لتكونن من جملة الظالمين ـ وحاشاك أن تفعل ذلك.
وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغى لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم ، فإن الحقّ قوىّ بذاته ، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء ، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه ، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر.
وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل ، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شىء نهاهم الله عنه ، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك ، فكأنه قيل : إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد ، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم «وما للظّالمين من أنصار» فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟
ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم ، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين ، ولا يكون لهم وازع من نواهيه ، وقوارعه الشديدة ، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا.
وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء ، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به ، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) هذا كالدليل لما ذكر فى قوله : «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ » فكأنه قال : إن سبب العلم بأنه الحق ،
أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم ، فلا يفوتهم شىء من أمرهم ، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضى الله عنه ـ وقد كان من أحبار اليهود ـ ثم أسلم : أنا أعلم به منى بابني ، فقال له عمر رضى الله عنه : ولمه؟ قال : لأني لست أشكّ في محمد أنه نبىّ ، أما ولدي فلعلّ والدته خانت ، فقبّل عمر رضى الله عنه رأسه ، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله ، كما اعترف بمثله تمنيم الداري من علماء النصارى.
( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه ، من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبىّ ، وأن الكعبة قبلة ، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم ، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك ، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى ، ومنهم من كان يجحده عن جهل ، لأنهم كفروا به تقليدا ، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحى ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى ، فالقبلة التي وجهك نحوها هى القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء ، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين ، فتمترى في الحق بعد ما تبين.
والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة ، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من كانوا غير راسخى الإيمان من أمته ، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.
( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ، فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبى حقّا ، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة ، لأنه متى ثبتت نبوّته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه ـ ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه إليها ، والواجب التسليم فيها لأمر الوحى ، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس ، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات ، والله يجازى كل عامل بما عمل ، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلى ، فى البر أو في البحر ، وأنه ينبغى لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة ، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا.
الإيضاح
( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها ، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة ، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس ،
والنصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فأىّ شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه ، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم ، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء ، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحى كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات ، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير ، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه ، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى ، ويلقى الحق وراءه ظهريا ، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال «وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال».
( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) أي ففى أي مكان تقيمون فيه ، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب ، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات ، فالبلاد والجهات لا شأن لها فى أمر الدين ، وإنما الشأن لعمل البر ، وفي هذا وعد لأهل الطاعة ، ووعيد لأهل المعصية.
ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله :
( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات.
والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ » وستأتى ، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة : إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات ، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين
إلى كل مكرمة ، المتصفين بكل فضيلة ، فدعوا الجدل والمراء واتبعوا فضائل الدين ، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجّى من كل سوء.
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي ومن أىّ مكان خرجت ، وفي أي بقعة حللت ، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام ، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان ، ولا يختص ببلاد دون أخرى ، ولا بحضر دون سفر ، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها ، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان.
وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا.
ثم وثّق ذلك ووكده بقوله :
( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة.
( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين ، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون.
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة ، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام ، وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره.
وأعاد الأمر( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي ، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية :
١ ـ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون ـ حجة وسلطان عليكم.
ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهى الكعبة ؛ فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له ، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به ، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم.
وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه ، ينبغى ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه ، وكان يصلى هو وإسماعيل إليه ، وبذلك دحضت حجة الفريقين ، ومن ورائهم المنافقون.
( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد ، فإن لهم عليكم حجة ، إذ يقول اليهود : ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه ، وحبّا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله ، ويقول المشركون : رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا ، ويقول المنافقون : إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة ، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى ، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان ، بل هى جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير ، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن.
( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة ، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلى ولا هدى سماوى.
( وَاخْشَوْنِي ) فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولى عنى ، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم.
وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه ، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له ، فإن الحق دائما يعلو ، وما آفة الحق إلا ترك أهله له ، وخوفهم من أهل الباطل.
٢ ـ( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم ، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه ، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام ، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم ، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة ، وتكون النعمة أتمّ ، والمنة أكمل ، إذا كان فيه حكمة ظاهرة ، وشرف للأمة ، وأثر حميد نافع لها.
٣ ـ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق ، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته ، وضعف الباطل وخنوعه ، ومحّصت المؤمنين ، ومحقت الكافرين «ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوىّ عزيز».
( كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا ) أي ولأتمّ نعمتى عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم ، وتطهيركم له من عبادة الأصنام ، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فالقبلة في بلادكم ، والرسول من أمتكم ، وهو يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق ، وتهديكم إلى سبيل الرشاد ، وهى تشمل آيات الكتاب الكريم وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته ، وبديع تصرفه في السموات والأرض.
ووجه المنة في ذلك ، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان ، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم ، وبذا يكون العقل مستقلا ، والدين له مرشدا وهاديا.
( وَيُزَكِّيكُمْ ) أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات ، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة ، وسفك الدماء لأوهن الأسباب ، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب.
وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى ، وكانوا أئمة الأمم
التي كانت تحتقر هذا الجنس ، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم ، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم ، فدانوا لحكمه خاضعين ، واهتدوا بهديه راشدين.
( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ ) أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية ، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور ، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه ، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف ، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه ، ويستضيئوا بنوره.
( وَالْحِكْمَةَ ) وهى العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها ، الباعث على العمل بها.
ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلى الله عليه وسلم في بيته ، ومع أصحابه في السلم والحرب ، والسفر والإقامة ، فى القلة والكثرة ، جاءت مفصلة لمجمل القرآن ، مبيّنة لمبهمه ، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع.
ولو لا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولى كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء ، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد ، والتآخى والعلم ، وسياسة الأمم.
فالنبى صلى الله عليه وسلم وقف أصحابه على فقه الدين ، ونفذ بهم إلى سرّه ، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء ، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة ، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه ، لكنه فقهه وعرف أسرار أحكامه.
( وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر ، بل طريق معرفته الوحى كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم ، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا ، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.
( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح ، وقراءة كتابى الذي أنزلته على عبدى ، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتى ، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي ، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به ، واجتنابكم ما نهيتكم عنه ، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : «أنا عند ظن عبدى وأنا معه ، إذا ذكرنى في نفسه ذكرته فى نفسى ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرّب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا» الحديث.
وهذه أفضل تربية من الله لعباده ، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل ، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم ، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال :
( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) أي واشكروا لى هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله ، والثناء علىّ بالقلب واللسان ، والاعتراف بإحساني إليكم ، ولا تكفروا هذه المنن التي أو ليتكموها بصرفها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة ، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله ، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها.
وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال ، كما قال تعالى : «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ».
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) )
تفسير المفردات
الصبر : توطين النفس على احتمال المكاره ، والابتلاء : الاختبار والامتحان ، والمراد بالأموال : الأنعام التي كانت معظم ما يتموّله العرب ، والمصيبة : كل ما يؤذى الإنسان في نفس أو مال أو أهل ، قلّ أو كثر ، والصلاة : من الله التعظيم وإعلاء المنزلة عنده وعند الناس ، والرحمة : اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء ، والرضا بالقضاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتخويل القبلة ، وأقام الحجة على المشاغبين ، وبيّن فوائد التحويل للمؤمنين ، ومن أهمها البشارة ، وكون ذلك طريقا للهداية ، لما فى الفتن من تمييز الخبيث من الطيب ، والمسلم من المنافق ، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم ، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى ، ومنة عظمى.
بيّن في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب ، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل
كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء ، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم ، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة ، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعوّد تحمل المشاقّ ، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة ، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل ، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة ، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك ، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان ، حتى فازوا بعاقبة الصبر ، ونصرهم الله نصرا مؤزّرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه ، واستشعار المصلى للهيبة والجلال وهو واقف بين يدى ربه كما
جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالئ لقلبه ، يستسهل في سبيله كل صعب ، ويستخفّ بكل كرب ، ويحتمل كل بلاء ، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضى ربه الذي يلجأ إليه في الملمّات ، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هى مجرد القيام والركوع والسجود ، والتلاوة باللسان خاصة ، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات ، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » وقوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » ومن ثمّ نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شىء على غير ما يرومون ، وما كان للمصلى أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله ، والله يبرئه من ذلك ويقول : «إِلَّا الْمُصَلِّينَ ».
الإيضاح
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه ، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصايب الحياة ، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره ، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه ، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ.
وإنما خصّ الصبر والصلاة بالذكر ، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن ، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه ، إذ فيها خضوع واستسلام لله ، وتوجه بالقلب إليه ، واستشعار لعظمة الخالق ، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر «اشتدّ عليه» فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية.
( إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم ، ومن كان الله ناصره فلا غالب له ، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله ، والقلب اللاهي ممتلىء بهموم الدنيا وأكدارها ، وإن حاز الدنيا بحذافيرها.
وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها ، ومدار ذلك كله الصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه ، فيسهّل له العسير من أمره ، ويجعل له فرجا من ضيقه ، ومن لم يصبر فليس الله معه ، لأنه تنكّب عن سنته ، فلن يبلغ قصده وغايته.
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) أي ولا تتحدثوا في شأنهم ، فتقولوا : إنهم أموات ، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم ، ولكن لا تشعرون بحياتهم ، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر ، بل هى حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون ، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها ، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب ، فنفوض أمره إلى الله ، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.
وقد أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصدّ الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل ، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم ، والرزق المتواصل ، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب ، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة ، والجهر بالحق ، والصدع بأمر ربه ، فكان له ما كان مما لم تره عين ، ولا سمعت به أذن ، ولا خطر على قلب بشر.
( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ) أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصايب المعتادة في المعاش ، كالجوع ونقص الثمار ، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين ، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرات ، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك ، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة ، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.
وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف ، بل كل ذلك يجرى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه ، فتقع المصايب متى وجدت أسبابها ، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد ، ويتهذّب بوقوع الكوارث.
( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر ـ بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافى ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة ، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين فى الإنسان ، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عند ما حضر ولده إبراهيم الموت ، فقيل له : أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال : إنها الرحمة ، ثم قال :
إن العين لتدمع ، وإن القلب ليجزع ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
والجزع المذموم هو الذي يدعو صاحبه إلى فعل ما يمجّه العقل وينهى عنه الشرع ، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلّت بهم المصايب ، ونزلت بهم الكوارث.
روى مسلم عن أم سلمة رضى الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهمّ آجرني فى مصيبتى ، وأخلف لى خيرا منها ، إلا آجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عاقبته ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه».
وفي قوله : «إِنَّا لِلَّهِ » إقرار بالعبودية والملك ، وفي قوله : «وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » إقرار بالفناء والبعث من القبور ، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى.
( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا ، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين ، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة ، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت ، حتى لقد يقضى على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حلّ به( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) إلى الحق والصواب ، ومن ثم استسلموا للقضاء ، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم ، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها ، وسعادة الآخرة بتزكية النفس ، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال.
( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) )
تفسير المفردات
الصفا والمروة : جبلان بمكة بينهما من المسافة مقدار 760 ذراعا ، والصفا : تجاه البيت الحرام ، والآن علتهما المبانى وصار ما بينهما سوقا ، وواحدة الشعائر شعيرة وهى العلامة ، وتسمى المشاعر أيضا وواحدها مشعر ، وهى تطلق حينا على معالم الحج ومواضع النسك ، وحينا آخر على العبادة والنسك نفسه. والحج لغة القصد ، وشرعا قصد البيت الحرام لأداء المناسك المعروفة. والعمرة : لغة الزيارة ، وشرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام مفصلة في كتب العبادات ، والاعتمار : أداء مناسك العمرة ، والجناح :
(بالضم) الميل ، ومنه «وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها» والمراد هنا الميل إلى الإثم ، ويّطوف أصله يتطوّف : أي يكرر الطواف ، وهذا التطوّف هو الذي عرف في كتب الدين بالسعي بين الصفا والمروة ، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر ؛ والتطوع : لغة الإتيان بالفعل طوعا لا كرها ، ثم أطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره ، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ، شاكر : أي مجاز على الإحسان إحسانا.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن في تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام ، وأن في قوله : ولأتمّ نعمتى عليكم بشارة بهذا الاستيلاء ، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة ، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصايب والكوارث ، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها ، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنه شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرّب بها إلى الله ، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته ، وجعلت الصلاة إلى قبلته.
الإيضاح
( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله ، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعى بينهما هى أيضا من الشعائر ، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما.
والأحكام الشرعية قسمان :
(1) نوع يسمى بالشعائر وهى ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص ، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته ، مع أنه من خلقه كسائر العالم ، وكمناسك الحج وأعماله ، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم ، ولا نزيد فيه ولا ننقص ، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده ، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه ، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع ، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ) .
(2) ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها ، وهذه قد شرعت لمصالح البشر ، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.
( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفنّ من الطواف بهما ، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما ، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولى وطاعة لأمرى.
والسرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح ، مع أن السعى بينهما إما فرض كما هو رأى مالك والشافعي أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة ، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر ، وأن السعى بينهما من مناسك إبراهيم ، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.
( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب ـ فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا ، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر ـ تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية ، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم ، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغى للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه ، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟
وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران ، فهو يشحذ عزائم العاملين ، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم ، بل للعالم أجمع.
كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا ، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران ، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية ، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.
ويروون في ذلك حديثا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرّ بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير ، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغى بعمله غير مرضاته ، وهو «عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه».
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162))
تفسير المفردات
الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه ، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه ، واليهود فعلوا في التوراة كليهما ، فقد أخفوا حكم رجم الزاني ، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام ، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوّة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره ، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه ، والبينات : هى الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الرجم ، وتحويل القبلة ، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها ، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا ، واللعن : الإبعاد والطرد ، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة ، واللاعنون : هم الملائكة والناس أجمعون ، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله ، تابوا : أي رجعوا عن الكتمان ، وأصلحوا : أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي صلى الله عليه وسلم ودينه والهدي الذي جاء به ، وبينوا : أي جاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم ، خالدين : أي ما كثين في تلك اللعنة على طريق الدوام ، ومتى خلد فيها فقد خلد فى عذاب النار الدائم ، ينظرون : أي يمهلون.
المعنى الجملي
لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبى صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم إياه ، ولا سيما اليهود ، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة ، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم :
(1) إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته مع وجودها في سفر التثنية ، فقد جاء فيه : وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم ، وأجعل كلامى في فمه ، ويكلمهم بكل شىء آمره به. ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل ، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره فى سورة المائدة.
(2) وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة ، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم.
وقد فضحهم الله بهذه الآيات ، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.
الإيضاح
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا ، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله ، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.
وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس ، كما روى في الخبر أنه عليه السلام قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». وروى أن أبا هريرة قال : لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم ، وتلا «إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه ، والدين يداس جهارا بين يديه ، ويرى البدع تمحو السنن ، والضلال يغشى الهدى ، ثم هو لا ينتصر بيد
ولا لسان ، يكون ممن يستحق وعيد الآية ، وقد لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله : «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ » فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهى عن المنكر ، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ».
( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) أي إلا من أناب عن كتمانه ، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأقر بنبوته ، وصدّق ما جاء به من عند الله ، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال ، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه ، وما عهد إليهم في كتبه ، فلم يكتمه ولم يخفه ، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة ، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته ، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه ، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه ، فى التوبة عما فرط من الذنوب ، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال : «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ».
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن ، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين ، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدىّ الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان ، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر ، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا ، ومن بينهم أهل مذهبه ، فإنهم إذا
شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه ، وكيف يعاند الداعي إلى الحق ، رأوه محلا للعن ومستحقا أشدّ العقوبة.
والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس ، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه ، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته ، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم ، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم ، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرّحيم ، فماذا يرجو من سواه من عباده؟
( خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام ، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه ، ولا يخفف عنهم شىء منه ، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال ، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح ، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة ، ويرجع إلى الحق ، ويزكى نفسه ، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه ، فأىّ شىء يرجو من غيره؟
( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) )
المعنى الجملي
حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا ، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين
فى اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.
وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه ، ولا ينبغى أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان ، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات ، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم ، ثقة بهم ، واعتمادا على شفاعتهم ، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله.
الإيضاح
( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد ، فلا تشركوا به أحدا.
والشرك به ضربان :
(1) شرك في الألوهية والعبادة ، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله ، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض ، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله ، ويدعوه معه ، أو يدعوه من دون الله ، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.
(2) شرك به في الربوبية ، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه ، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل ، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين ، هم أعلم بمراد الله ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ».
فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه ، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه ، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة ، حين زادوا على الوحى أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم ، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه.
والله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، فحسب المرء أن يرجوها
ولا يعتمد على رحمة سواه ، ممن يظن أنهم مقربون إليه ، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه ، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
والإله الذي بيده أزمّة المنافع ، والقادر على دفع المضارّ ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته ، ولا مبدل لكلماته ، ولا أوسع من رحمته.
وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته ، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق ، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته ، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله ، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
ثم ذكر ـ عزت قدرته ـ بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال :
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » الآية.
وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة :
1 ـ السموات التي تتألف أجرامها من طوائف ، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد ، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير ، والحكمة والتدبير ، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها ، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات ، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها ، استقر كل منها في مداره ، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية ، ولو لا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة فى أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.
وفي كل شىء له آية |
تدلّ على أنه واحد |
2 ـ الأرض ، ففى جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان ، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها ، ما يدل على إبداع الحكيم العليم «وفي الأرض آيات للموقنين».
3 ـ( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) أي تعاقبهما بمجىء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول ، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده ، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ، لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً » وقال أيضا : «وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا».
4 ـ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ) الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير.
ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام ، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هى العمدة في سير السفن الكبرى فى هذا العصر.
وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام ، هى قوة الإله الواحد العليم ، كما قال : «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ».
ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ » أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم ، فهى تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع ، ومن قطر إلى آخر ، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها.
وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به ، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى :
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ».
5 ـ( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ) وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال : «اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ » وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم : إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر ، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.
( فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات ، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها ، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ » أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها بيعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها ، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء ، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله : «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان.
فنزول الماء على هذا النحو المشاهد ، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع ، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.
6 ـ( وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ) أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة ، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى : «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ » ومنها العقيم ، وهى في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع ، وقد تكون متناوحة : أي تهب من كل ناحية ، وتارة تأتى نكباء بين بين ، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.
7 ـ( وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) أي الغيم الذي ذلل وسحب فى الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد ، وتكوّن بنظام ، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها ، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به.
( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب ، ليدرك الحكم والأسرار ، ويميز بين النافع والضار ، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام ، على قدرة مبدعها وحكمته ، وعظيم رحمته ، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.
وفي الحديث «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» المج : قذف الريق ونحوه من الفم ، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها ، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
وقال بعض العلماء : إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون ، وكتابا منزلا هو القرآن ، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك ، بما أوتيناه من العقل ، فمن اعتبر بهما فاز ، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ
الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167))
تفسير المفردات
الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل ، والتبرؤ المبالغة في البراءة وهى التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره ، والأسباب واحدها سبب وهو الخبل الذي يصعد به النخل وأمثاله ، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية ، والكرّة العودة والرجوع إلى الدنيا ، والحسرة شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب ويتحسر مما يؤلمه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته ، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته ، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير ، ويدفعون بهم النقمة ، ويأخذون عنهم الدين والشّرعة
الإيضاح
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ) أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون ، يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم ، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه ، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبى فيه ، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد.
وللمشرك أنداد متعددون ، وأرباب متفرقون ، فإذا حزبه أمر ، أو نزل به ضرّ لجأ إلى بشر أو صخر ، أو توسل بحيوان أو قبر؟ أو استشفع بزيد أو عمرو ، لا يدرى أيهم يسمع ويسمع ، ويشفع فيشفّع ، فهو دائما مبلبل البال ، لا يستقر من القلق على حال.
وقد عظمت فتنة متخذى الأنداد بهم ، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله ، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله ، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه.
وليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها ، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها ، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله ، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها ، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب ، حتى لا يبقى فى الإمكان شيء بعد ذلك.
فالدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملو سلاح دون سلاح العدو المعتدى اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده ، بل يأمرنا بإعداد العدة ، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله ، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله ، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرّم أو ملك مقرّب ، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب ، أو طالبا ما هو أعجل منه ، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقار به أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) من كل ما سواه ؛ إذ حبهم له خاص به لا يشركون فيه غيره ، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السموات والأرض بيده ، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان ، فما ينالهم من خير كسبى فهو بهدايته وتوفيقه ،
وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله ، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه ، ولا يعوّلون إلا عليه.
ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذى الأنداد قال :
( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ ) أي ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ، وظلم الناس وغشهم ، بحملهم على أن يحذو حذوهم ، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، حين يرون العذاب في الآخرة ، فتقطع بهم الأسباب ، ولا تغنى عنهم الأنداد والأرباب ، أن القوة لله وحده ، بها يتصرف في كل موجود ، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هى عين القوة التي تدبر عالم الدنيا ، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها ، وأشركوا معها غيرها ، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
وأمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة ، وعليه جرى السلف الصالح ، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به ، ولا رواية يصح الاعتماد عليها ، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف.
ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء ، ويرى الناس بأعينهم العذاب ، فقال :
( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم ، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم ، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا ؛ ولكن ذلك لا يجديهم نفعا ؛ فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم ، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام ، فأنّى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟.
( وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ) أي وقال التابعون : ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق ، ونأخذ بالتوحيد الخالص ، ونهتدى بكتاب