تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى18%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79271 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

١

الجزء الثّالث

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه ، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل ، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه ، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة ، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بنى إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم ، فقام أولو الرأى فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم ، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به

٢

عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا ، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال ، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله ، وقتل داود ـ وكان في عسكر طالوت ـ جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار ، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين.

وما تمّ هذا إلا بفضل داود الذي آتاه الله الملك والنبوة ، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.

ثم ذكر بعد هذا أنه لو لا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره.

وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل ، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير ، وهذا دليل على أنه من المرسلين.

وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض ، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة ، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع ، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.

الإيضاح

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله : «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال ، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره ، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وخلاصة هذا ـ إنهم كلهم رسل الله ، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم ، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :

٣

( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ، كما قال تعالى في سورة النساء «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » وفي سورة الأعراف «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ » وفي الآية بعدها «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ».

( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف ، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد ، ويؤيده السياق أيضا ، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم ، مع أن دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط ، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط.

ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله فى سورة القلم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » وقوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ».

ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ».

ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات ، وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ما من نبىّ من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن

٤

على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وروى عنه أنه قال : «فضّلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لى الغنائم ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البينات هى ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال : «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ » وأيدناه : أي قوّيناه ، وروح القدس هو روح الوحى الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ».

وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره ، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه ، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) قوله : من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة ، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم ، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات : أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم ، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم ، وقوله : ولكن اختلفوا : أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم ، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا ، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل ، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.

وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره ، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية ، وجعل ارتقاءه

٥

فى إدراكه وأفكاره كسبيا ، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين ، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون ، وهذا هو منشأ الاختلاف.

ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة ، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين ، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا ، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان ، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان ، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه ، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة ، وهذا هو منشأ التخاصم ، وسبب التنازع والقتال ، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا ، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك ، فتفرقوا طرائق قددا ، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.

وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف ، وأمرهم بالاتحاد والوئام ، فامتثلوا أمره فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه ، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.

وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين ، ولحماية الدين من طغيان الملحدين ، ولله في خلقه شئون.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا ) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا ، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة ـ لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه ، لكنه أودع فى غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل ، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة ، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف ، فكان الاختلاف في الرأى والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.

( وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار

٦

إرادته تعالى فلا مرد له ، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه ، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) )

تفسير المفردات

المراد باليوم هنا يوم الحساب ، لا بيع فيه : أي لا فداء فيتدارك المقصّر تقصيره ، ولا خلّة : أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة ، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة ، والظالمون : هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل ، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال ـ وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم ، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره ، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين ، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب ، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب ، أو طمعا في الثواب ، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل ، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل ، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل ـ فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة ، والإنفاق المستحب أيضا.

٧

ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة ، أو انتشر المرض في أبنائها ، أو كثر الجهل في أفرادها ، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال ـ وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد ، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.

وفي قوله «مِمَّا رَزَقْناكُمْ » حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.

وقوله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... » إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال ، ولا تنفع فيه الصداقة ، ولا تجدى الشفاعة.

وخلاصة ذلك ـ إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم ، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله ، أو يهبه شيئا من حسناته ، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله ، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة ، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام ، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ».

وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا ، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت فى الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين ، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما.

( وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم ، إذ وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه في غير وجهه ، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » مكان

٨

ومن لم يحج ، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله : «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ».

ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة ، أن حب المال أعلى فى قلب المانع من حب الله تعالى ، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل ، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا ، وأعظم في وجدانها وقعا.

وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغبثه ، أو مضطر يكشف ضرورته ، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء ، أو ترفع من قدرها ، أو تزيل العقبات من طريقها ـ من أقبح أنواع الظلم ، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.

وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن ، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم ، لينشلوها من بحار الجهل التي هى غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط ، حتى عمّ الفقر والشقاء ، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه ، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة ، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها.

ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام ، ولا أن يكونوا من المسلمين ، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين ، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل ، وهو أرجح من رضوان ربه ، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا ، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ».

وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله : «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ».

٩

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) )

تفسير المفردات

الله هو المعبود بحق ، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما ، ولا تدرك كنهها وحقيقتها ، وكل ما ألّهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان ، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبى استقلالا أو تبعا لسواه ، والحي هو ذو الحياة ، والحياة هى مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو ، وهى بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه ، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة ، والقيوم القائم على حلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والأخذ : الغلبة والاستيلاء ، والسّنة : النعاس ، وهو فتور يسبق النوم ، قال عدىّ بن الرقاع :

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

فى عينه سنة وليس بنائم

والنوم : حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور ، والكرسي : هو العلم الإلهى ، وآده الشيء : يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة ، والعلىّ : هو المتعالي عن الأشباه والأنداد ، والعظيم : هو الكبير الذي لا شىء أعظم منه.

المعنى الجملي

أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين ، ولا يغنى مال يعطى فدية عن العاصين ، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء

١٠

وذوى الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا ، وبها تحلّ كل مهمة ـ هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه ، ووجوب الطاعة لأمره ، والإذعان لحكمه ، والوقوف عند حدوده ، وبذل المال في سبيله ، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.

الإيضاح

( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد ، ذو الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، القائم بتدبير أمر عباده ، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.

( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته ، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار.

وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود ، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة ، ثم ما يتبعها وهو النوم ، وبعبارة أخرى ـ هو ترقّ في نفى النقص عنه ، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى ، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى.

والخلاصة ـ إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه ، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة ، ضعيف القيام بشئون نفسه ، وبشئون غيره.

( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده ، خاضعون لمشيئته ، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم.

وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أي من ذا الذي يستطبع من عبيده

١١

أن يغيّر ما مضت به سنته ، وقضت به حكمته ، وأوعدت به شريعته ، من تعذيب ذوى العقائد الباطلة ، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض ، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه ، ونحو هذا قوله. «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».

وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم ، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه ـ وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ـ وفي ذلك قطع لأمل الشافعين ، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.

( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها ، وأمور الآخرة التي يستقبلونها.

وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة ، إذ من كان عالما بكل شىء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم ، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم ، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف ، مما يستحيل عليه تعالى ، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم.

وما ورد من أحاديث الشفاعة ، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلى أنه سيفعله ، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه ، ولا يحدث تأثيرا في إرادته ، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك ، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى ، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه ، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه ، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه ، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة ، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها

١٢

لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد ، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل فى الخطايا ، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.

( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله : «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ » وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات ، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه ، ولا كرسىّ ولا قيام ولا قعود ، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.

والخلاصة ـ إن الكرسي شىء يضبط السموات والأرض ، نسلم به بدون بحث فى تعينه ، ولا كشف عن حقيقته ، ولا كلام فيه بالرأى دون نص عن المعصوم.

( وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ) أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها ، ولا يشق عليه ذلك ، وإنما لم يذكر ما فيهما ، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.

( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، العظيم على كل شىء سواه ، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم ، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.

والخلاصة ـ إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله ، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم ، فأوقعهم ذلك فى ترك المبالاة بالدين ، فخويت القلوب من ذكر الله ، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته ، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات ، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة( الشَّفاعَةَ ) ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له ، ويمده في الغى.

فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله ، ولم تستشعر بالحياء منه ، ولم تحترم دينها وشريعتها ، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته ، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل.

١٣

وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات ، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات ، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه ، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم ، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم ، وتركوا المبالاة بالدين.

( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) )

تفسير المفردات

لا إكراه في الدين : أي لا إكراه في دخول الدين ، وبان الشيء واستبان : وصح وظهر ، ومنه المثل : تبيّن الصبح لذى عينين ، والرشد : بالضم والتحريك ، والرشاد :

الهدى وكل خير ، وضده الغى ، والجهل كالغى إلا أن الأول في الاعتقاد ، والثاني فى الأفعال ، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغى بالرشد ، والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الشيء ، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى : «أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ » وقال : «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » والعروة من الدلو والكوز ونحوهما : المقبض الذي يمسك به من يأخذهما ، والوثقي : مؤنث الأوثق ، وهو الحبل الوثيق المحكم ، والانفصام. الانكسار أو الانقطاع ، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه ، والولي : الناصر والمعين ، والظلمات : هى الضلالات التي نعرض للإنسان في أطوار حياته ،

١٤

كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصدّ عن النظر فيه أو تحول دون فهمه ، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السموات والأرض ، وبيان أن علمه محيط بكل شىء وأنه العلى العظيم.

والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة ، وترشد إليه المشاهدات الكونية ، فأماراته واضحة ، والنّصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام ، فمن هدى إليه فقد فاز بالسعادة ، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين.

وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية ، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله : أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ، فنزلت فخلّاهما.

الإيضاح

( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) أي لا إكراه في الدخول فيه ، لأن الإيمان إذعان وخضوع ، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالحجة والبرهان.

وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين ، بل من أوليائه ، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره ، فكان يعرض على الناس ، فإن قبلوه نجوا ، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.

١٥

والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلى مستخفيا والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب ، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة ، فإن غزوة بنى النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة ، اللهم لا هذا ولا ذاك.

هذا ، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول فى دينهم.

ثم أكد عدم الإكراه بقوله :

( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح ، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غىّ وضلال.

ثم فصل ذلك فقال :

( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها ) أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق ، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما ، أو تقليد رئيس ، أو طاعة هوى ، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه ، ولا يرجو شيئا من أحد سواه ، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة ـ فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة ، وأمتن وسائل الحق ، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه ، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل.

ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال :

( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي والله سميع لأقوال من يدعى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه ، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه ، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى ، ومن انطوى قلبه

١٦

على شىء من نزعات الوثنية ، ونسب ما جهل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى ، فقد حق عليه العذاب ، وكان جزاؤه جزاء الدين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

وجاء بمعنى الآية قوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ ».

وقد جعل المسلمون قوله :( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) أسّا من أسس الدين ، وركنا عظيما من أركان سياسته ، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه ، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه.

وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتتنا فيه أو الاعتداء علينا ، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هى أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة.

وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصدّ من يقاوم هذه الدعوة ، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة ، وكف شر الكافرين عن المؤمنين ، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه ، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه ، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا ، ومن ثم قال سبحانه : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ » أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب ، ولن يكون كذلك إلا إذا كفّت الفتن عنه وقوى سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.

والفتن تكفّ بأحد أمرين :

(١) بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان ، وبدا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء ، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه.

(٢) بقبول الجزية وهى جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.

١٧

( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) أي إن المؤمن لا ولىّ له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى ، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح ، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ».

فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس ، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور ، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان ، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه ـ بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات ، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصّرون في تنميق هذه الشبهات ، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم ، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء.

( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا ، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان فى نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة.

ونحن لا نبحث عن حقيقتها ، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب ، جزاء ما قدمته أيدى العاصين من سيئ أعمالهم.

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ

١٨

فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

تفسير المفردات

الاستفهام للتعجيب والإنكار ، وحاجّ جادل وقابل الحجة بالحجة ، فبهت : أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا ، الظالمين : أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولىّ الذين آمنوا ، وأن الطاغوت ولىّ الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها ، فبيّن أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرضها عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته ، وأن الذي حاجّه كيف عمى عن نور الحق ، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى ، وتردّى في مهاوى الهلاك بولاية الطاغوت له.

الإيضاح

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ) أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية ، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه ـ ويقال إنه نمروذ بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام.

( أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) أي إن الذي أورثه الكبر والبطر ، وحمله على الإسراف فى الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم ـ هو إيتاء الله إياه الملك.

ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال :

١٩

( إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله ، وسفّه أحلام عابديها ، فسأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته قال :( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) .

فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب.

و( قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه ، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله.

وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها ، وإزالة الحياة بالموت ـ وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة ، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه.

( قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ) أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته ، هو الذي يطلع الشمس من المشرق ، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع ، والسنن الحكيمة التي نشاهدها ، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل ، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم ، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب.

( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) أي فدهش ولم يجد جوابا ، وكأنما ألقمه حجرا.

( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية ، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت ، ويترك ما أعطاه الله من الفهم ، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه ، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا.

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان فرجع بعضهم إلى الطاعة(١) .

وحديث مناظرة ابن عبّاس مع الخوارج مذكور في آخر خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٤٨.

وقال الشهاب الخفاجي، المتوفّى سنة (١١٠٠) هـ: حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تقتل عمّار الفئة الباغية» ، وقد قتله أصحاب معاوية وكان مع عليّعليه‌السلام بصفّين، وهو صريح في أنّ الخليفة هو عليّعليه‌السلام ، وأنّ معاوية مخطئ في اجتهاده. والباغية من البغي: وهو الخروج بغير حقّ على الإمام. وفي الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إذا اختلف الناس، كان ابن سميّة مع الحقّ» . وابن سميّة: هو عمّار، كان مع عليعليه‌السلام . وهذا هو الذي ندين الله به، وهو أنّ علياً كرّم الله وجهه على الحقِّ، ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان(٢) .

وقال الشوكاني، المتوفى سنة (١٢٥٥) هـ: في حديث أبي سعيد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تكون اُمّتي فرقتين، يخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحقّ» دلالة على أنّ علياًعليه‌السلام ومَن معه هم المحقّون، ومعاوية ومَن معه هم المبطلون(٣) .

وحكى أبو الثناء الآلوسي المفسّر عن بعض الحنابلة: التصريح بوجوب قتال الباغين؛ لأنّ علياًعليه‌السلام اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد، فهو إذاً أفضل من الجهاد. ثمّ ذكر ندم عبد الله بن عمر على تركه المشاركة مع عليعليه‌السلام في قتال الباغين، ولمْ يتعقّبه الآلوسي بشيء(٤) . وقال محمّد كرد علي: ما خالف علي في البراءة من قتلة عثمان، وقد كان قتلته من أكثر القبائل، وكانوا عدداً ضخماً لا طاقة لعليّ عليهم. ومن المتعذّر عليه أن يسلّمهم أو بعضهم؛ وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم. وقد وقعت المسألة على غير رضاه، وليس من مصلحته أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم. وكان عليعليه‌السلام يحلف بالله أن بني اُميّة لو أرادوا منه أن يأتيهم بخمسين

____________________________

(١) تحفة المحتاج ٤ / ١١٠، ١١٢.

(٢) شرح الشفا ٢ / ١٦٦ ط سنة / ١٣٢٦.

(٣) نيل الاوطار للشوكاني ٧ / ١٣٨.

(٤) روح المعاني ٢٦ / ١٥١ ط مصر.

٨١

غلاماً من بني هاشم يحلفون بالله أنّه ما قتل عثمان ولا مالأ عليه(١) .

هذه نصوص علماء السنّة في أحقية عليعليه‌السلام بالخلافة من غيره، وأن الخارج عليه باغ يستحق القتال حتّى يثوب إلى الحقِّ؛ ولذا كان خيار الصحابة والتابعين معه، ومنهم اُويس القرني، فإنّه كان في الرجّالة يوم صفين(٢) .

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما وجدت في نفسي من شيءٍ؛ مثل ما وجدت أني لم اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى. وكان يحدّث بما أخبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أبن سميّة عمّاراً تقتله الفئة الباغية، وأن البُغاة على الإمام عليعليه‌السلام هم: معاوية وأصحابه. ولمّا سئل عن المشاركة مع علي بن أبي طالب يوم صفين؛ اعتذر بما لا يجديه يوم فصل الخطاب، فقال: إني لم أضرب بالسيف، ولم أطعن بالرمح، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«أطع أباك» فأطعته(٣) .

هذا هو التمويه والخداع! كيف يسوّغ التذرع عن مخالفة الحقِّ بحمل كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على غير حقيقته؟ أتجوّز الشريعة حمل الحديث على وجوب طاعة الأب حتّى إذا استلزمت ترك الفرائض، أو ارتكاب المحرمات؟ كلا، إن طاعة الإمام الذي تمّت له البيعة، كانت مفروضة في أعناق المسلمين، لا مناص للامّة حينئذ إلا الخضوع له، ووجوب امتثال أمره فيما يدعوهم إليه. ولا طاعة للأبوين في قبال طاعة الإمامعليه‌السلام ؛ ولعل قوله تعالى:( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (٤) شامل لذلك، فإن المراد من الشرك المنهي عنه: الكناية عن ترك الإنقياد لله سبحانه، ويدخل فيه الإعراض عن طاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الذي تمت له البيعة في أعناق المسلمين؛ ولذلك كانت عائشة تتم في سفرها إلى البصرة في قتال عليعليه‌السلام ، فإن القصر عندها إنما يكون في سفر طاعة(٥) .

إنّ الشريعة المقدسة أوجبت على إمام الاُمّة إقامة الحُجّة على كلِّ مَن عانده،

____________________________

(١) الاسلام والحضارة العربية ٢ / ٣٨٠.

(٢) عمدة القارئ للعيني ١١ / ٣٤٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) سورة لقمان / ١٥.

(٥) نيل الاوطار ٢ / ١٧٩ صلاة المسافر - باب من اجتاز في بلد فتزوّج فيها.

٨٢

وخرج عن طاعته، بتذكير آلاء الله تعالى المتتابعة على العباد مع ما هم عليه من التمرد والطغيان.

ثمّ يعرّفهم بأن الدنيا الزائلة لا تعود على المنهمك فيها إلا بالخسران، إذ لعل بالمواعظ القدسية، وتلاوة الآيات المحكمة، يستنير من أعمته الشهوات؛ فيبصر سبيل الرشاد، ويلمس الحقيقة الناصعة.

ولقد سار أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذه الخطّة التي سنّها قانون الإسلام في أيامه الثلاثة، بعد الهتاف بأصحابه ألا يتعدوا مقررات الشريعة، ومنها: عدم الأستعجال في القتال حتّى تكون الفرقة المقابلة لهم هي العادية بقتال المؤمنين؛ لتثبت الحُجّة على البادي بالظلم(١) .

وقد أكثر سلام الله عليه وعلى أبنائه المعصومين، من وعظ أهل الجمل وصفين والنهروان؛ كي لا يبقى لأحد عذر يوم نشر الصحف، وتُدحض حجة كلِّ مَن بلغته دعوته وأصر على الخلاف والعناد، فاستضاء بأنوار إرشاداته مَن هداه الله إلى الإيمان، وضلّ مَن ضلّ عن سبيل الحقِّ.

الحسين يوم الطفّ

وعلى هذه السنن مشى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يوم الطفّ، فلم يبدأ القوم بقتال مهما رأى من أعدائه التكاتف على الضلال، والمقابلة له بكلِّ ما لديهم من حول وطول حتّى منعوه وعياله وصحبه من الماء، الذي لم يزل صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاهر بأنّ الناس في الماء والكلأ شرع سواء؛ لأنّهعليه‌السلام أراد إقامة الحُجّة عليهم. فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل، ونادى بحيث يعي الجماهير حُجّته، فعرَّفهم أولاً، خسارة هذه الدنيا الفانية لمَن تقلّب فيها، فلا تعود عليهم إلا بالخيبة. ثمّ تراجع ثانية إلى التعريف بمنزلته من نبيّ الإسلام، وشهادته له ولأخيه المجتبىعليهما‌السلام بأنهما سيّدا شباب أهل الجنة. وناهيك بشهادة مَن لا ينطق عن الهوى، وكان محبوّاً بالوحي الإلهي أنْ تؤخذ ميزاناً للتمييز بين الحقِّ والباطل. وفي الثالثة، عرَّفهم أنّه يؤدّي كلَّ ما لهم عنده من مال وحرمات. وفي الرابعة، نشر المصحف

____________________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٣٠٤ في وصاياهعليه‌السلام .

٨٣

الكريم على رأسه، ودعاهم إلى حُكمه. وحتّى إذا لم تجدِ هذه النصائح القيّمة فيهم، ووضح لديه إصرارهم على الغيِّ والعناد لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كشف السّتار عن الإباء العلوي، الذي انحنت عليه أضالعه، ورفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء عليعليه‌السلام يتدارسونها ليلاً ونهاراً، وتلهج بباب أنديتهم، فقال صلوات الله عليه:«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر» .

كـيف يـلوي على الدنية جِيدا

لـسوى الله مـا لواه الخضوعُ

ولـديه جـأش أردُّ من الدرعِ

لـظمأى الـقنا وهـنَّ شروعُ

وبـه يـرجع الـحفاظ لصدرٍ

ضاقت الأرض وهي فيه تضيعُ

فـأبى أن يـعيش إلا عـزيزا

أو تجلّى الكفاح وهو صريعُ(١)

هذه وصايا الشريعة المطهّرة، وأحكامها الباتّة في الدعوة إلى الحقِّ، والنّهضة لسدِّ باب الباطل. وكما ألزمت جهاد المضلّين المشركين أباحت ترك الجهاد للصبي، والمقعد، والأعمى، والشيخ الكبير، والمرأة، والبالغ الذي لم يأذن له أبواه. لكن مشهد (الطفِّ) خرق ناموسها الأكبر، وجاز تلك المقررات جرياً على المصالح والأسرار التي قصرت عنها أحلام البشر، وقد تلقّاها أبيّ الضَيمعليه‌السلام من جدّه المنقذ الأكبر، وأبيه الوصي المقدَّم.

فالحسينعليه‌السلام لم يشرِّع سُنّة اُخرى في الجهاد، وإنّما هو درسٌ إلهيّ أثبته اللوح الأقدس في عالم الإبداع، محدد الظرف والمكان، تلقّاه الأمين جبرئيلعليه‌السلام وأفاضه على حبيب الله وصفيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأودعه صاحب الدعوة الإلهية عند ولده سيد الشهداءعليه‌السلام .

فكلُّ ما يُشاهَد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال؛ فهو ممّا آثر المولى سبحانه به وليّه وحجّته أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام .

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

٨٤

وعلى هذه السُّنن مشى شهيد الكوفة مسلم بن عقيل، المُميّز في العلم والعمل، ووفور العقل، والملكات القدسية، كما يقتضيها تأهّله للولاية والنّيابة عن الإمام الحُجّةعليه‌السلام . وقد كابد من شدّة الظمأ ما يجوِّز له شرب النجس، ولكن ابن عقيل كقمر الهاشميين رضيعا لبن واحد، وخريجا مدرسة الإمامة والعصمة، فحازا أرقى شهادة في الإخلاص بالمفاداة دون الدِّين الحنيف، من أئمّة معصومين جعلتهما القدوة في الأعمال الصالحة. فكما أنّ مسلماً لم يذق الماء حتّى لفظ نفسه الأخير، لم تسمح نفس أبي الفضل في الورود، حين زلزل الصفوف عن مراكزها حتّى ملك الماء وحده، وقد علم بعطش سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وحرائر المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصبية الفاطميّة. فلم تجوّز له الشريعة التي تلقّاها من أبيه الوصي، وأخويه الإمامين«إن قاما وإن قعدا» (١) على حدّ تعبير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الريَّ من ذلك المعين؛ تداركاً لنفس حجّة الوقت ولو في آن يسير. غير أنّ المحتوم عاقه عن بلوغ الاُمنية:

لـم يـذُق الـفرات اُسـوة بـه

مُـيـمماً بـمـائه نـحو الـخِبا

لـم يـرَ فـي الـدين يـبلّ غلّة

وصـنوه فـيه الـظّما قـد ألهبا

لــذاك قــد أسـنـده لـدينه

وعـن يـقينٍ فـيه لن يضطربا

هـذا مـن الـشرع يـرى فعلتَه

ومـن صـراط أحـمدٍ ما ارتكبا

ومـثله الـحسين لـمّا مـلك ال

مــاءَ فـقيل رحـله قـد نُـهبا

أمَّ الـخـيام نـافـضاً لـمـائه

إذ عـظم الأمـر به واعصوصبا

فـكـان لـلعبّاس فـيه اُسـوةٌ

إذ فاض شهماً غير مفلول الشبا(٢)

لقد نهض أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام بذلك الجمع النزر، المؤلّف من شيوخ وصبية ورضّع ونساء، مع العلم بأن مقابليه لا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة. قادمين على استئصال شأفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وذويه، لكن سياسة (شهيد الطفّ) - التي لا يُدرك مداها، وتنحسر العقول عن تفسير مغزاها - عرَّفت الأجيال الواقفين على هذه الملحمة - التي لم يأت الدهر بمثلها - بأعمال هؤلاء الجبابرة، الذين لم يُسلم أسلافهم حين أظهروه إلا فرقاً من سيف الإسلام.

وقد أصاب أبو عبد اللهعليه‌السلام

____________________________

(١) كشف الغمة للأربلي ص ١٥٩ في أحوال الحسينعليه‌السلام .

(٢) للحجة الميرز محمّد علي الغروي الأردوبادي.

٨٥

شاكلة الغرض يوم تقشّعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة، وهتاف حرمه الذي بلبل الأفكار، وأقلق الأدمغة حتّى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة ومَن قبلهم، من الشنار والعار.

الرخصة في المفارقة

وعلى هذا النّهج القويم تكون مصارحة سيّد الشهداء بكلمته الثمينة، البعيدة المغزى، الحكيمة الأساس، المتضمنة تجويزه لأهل بيته وصحبته بمفارقته.

ونص ما يتحدث به المؤرخون عن ذلك؛ قولهعليه‌السلام لأهل بيته وصحبه عشيّة التاسع من المحرم:«إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غداً، وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإن القوم إنما يطلبوني، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١) . ما أجلّ مغزاك يا أبيَّ الضيم! وما أسمى ما ترمي إليه يا سيّد الشهداء! وما أحكم أقوالك وأفعالك يا روح النبوّة! بلى إنّ هذه الجملة الذهبيّة كتبت بأحرف نوريّة على جبهة الدهر: إنّ اُولئك الصفوة الميامين - الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّهم سادة الشهداء، وأنّهم لم يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق(٢) - زبدة العالم، ونخبة الكون. وقد استضأنا من تلك الإشعاعات طوايا نيّاتهم؛ من الحزم والثبات، والإخلاص في المفاداة، والتضحية القدسيّة، وفي كلّ ذلك دروس راقية لمَن يريد اقتصاص أثر اُولئك الاُباة في الترفّع عن الدنايا، والموت تحت راية العزم، وعدم الخضوع للسّلطة الغاشمة، إمّا ظفر بالأمنية، أو فوز بالشهادة والسّعادة.

ولولا تلك الرخصة بالمفارقة الصادرة من أمين الشرع والشريعة، وتلك

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، الكامل في التاريخ ٤ / ٢٤، البداية و النهاية ٨ / ١٧٨ وقد ذكر اذنه بالمفارقة، وإصرار أصحابه وأهل بيته على المفاداة. ورواه الفضل بن شاذان النيسابوري في (اثبات الرجعة) عن أبي جعفرعليه‌السلام ، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين، وذكره الخوارزمي في المقتل ١ / ٢٤٦.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٩٧٠ - ٩٩٩.

٨٦

الكلمات التي أباحتها نفوسهم الطاهرة، لما أمكن للأجيال معرفة مبلغهم من العلم واليقين، وتفاضلهم في الملكات، وطموحهم إلى أبعد الغايات السامية، والثبات على المبدأ بإخلاص وبصيرة.

فسيّد الشهداء أراد بذلك اختبار نفوسهم - والإختبار من الحكيم العالم بما كان ويكون، لا يحطُّ من علمه ووقوفه على الخفايا بعد أن كانت الغاية الملحوظة له ثمينة، والمقصد سام. وهو الذي أشرنا إليه من التعريف بملكات أصحابه، وأهل بيتهعليهم‌السلام - ولا غرابة في هذا الإختيار بعد أن صدر مثله من (فاطر الأكوان) جلّ شأنه، الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً؛ فيأمر خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وهو لا يريده، مع العلم بطاعة رسوله الخليل، وثبات نبيّه إسماعيل، لولا المصلحة التي يعلمها ربّ العالمين وإن انحسرت عن إدراكها العقول.

وقصّة الأقرع، والأبرص، والأعمى تشهد بأنّ الله تعالى إنّما أراد بالإنعام عليهم؛ التعريف لمن يقف على قصّتهم بلزوم الشكر على الإنعام، وإنّ الكفران عاقبته الخسران(١) .

وأبو عبد اللهعليه‌السلام أراد بهذا الإختبار؛ تعريف الأجيال مبوّأ أهل بيته وصحبه من الشرف، والعزِّ، وطهارة أعراقهم، وخضوعهم لما فيه مرضاة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ العلم بمبلغ أي رجل في العالم من الطهارة، والثبات على المبدأ، والطاعة للأصلح المرضي للمولى تعالى، لا يحصل إلا بأقواله المشفوعة بالعمل الصحيح، أو بشهادة مَن له الوقوف على حركاته وسكناته. ولم يخفَ على كلّ أحد قصور التأريخ الذي بأيدينا، عن كثير من أعمال الرجال الصالحين، الذين بذلوا كلَّ ما لديهم من جاه وحرمات في سبيل تأييد الشريعة الحقّة، ولم يحمل التأريخ شيئاً من أعمال اُولئك الصفوة (شهداء كربلاء)؛ لنتشوَّف منه قداسة ضمائرهم، وخلوص نيّاتهم، وتزكية تفوسهم، غير ذلك المشهد الدامي. ولولا تلك الأقوال التي صارح بها أصحابُ الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، حينما أبدى لهم الرخصة في مفارقته، وأباح لهم تخليهم عنه مع القوم الذين تجمهروا عليه، لما عرفنا تفاضلهم في الملكات، وتفاوتهم في النظرات البعيدة الغور، والفضيلة التي لمْ يستوفها البشر.

____________________________

(١) صحيح البخاري كتاب الأنبياء - باب الأقرع والأبرص ٤ / ١٤٦ و فتح الباري ٦ / ٣٢٣ في هذا الباب.

٨٧

والعلم نور يقذفه الله تعالى في قلب مَن يشاء من عباده، مع التفاوت شدّةً وضعفاً.

فهذا مسلم بن عوسجة الأسدي، لم يكشف التأريخ عن أعماله الخالدة، ومزاياه الصالحة بقليل ولا كثير، غير كلمة شبث بن ربعي: أنّه غزا مع المسلمين (آذربيجان) وقتل ستّة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين. وما عسى أن يعرف منها القارئ إلا مدى ولائه الأكيد لخلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم تغيّره بتطوّر الزمن وملابسات الأحوال، ولكنّ قوله للحسينعليه‌السلام : أنحن نخليِّ عنك ولمّا نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقابلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك. أفادنا بصيرة بثبات الرجل على المبدأ في آخر مرحلة من مراحل الوجود، وأنّه لا يهمه في سبيل مرضاة الله تعالى ورسوله كلّ ما يلاقيه من آلام وجروح دامية. وقد شفّع هذا القول بالجهود في العمل حين استقبل السيوف والرماح بصدره ونحره، كما لم يقتنع بهذا حتّى أوصى حبيب بن مظاهر الأسدي - ذلك الذي استفاد علم المنايا والملاحم من أمير المؤمنينعليه‌السلام - بنصرة الحسينعليه‌السلام ؛ ولأنّه لا يعذر عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقصير في حقّه وهو في آخر رمق من الحياة، وفاضت نفسه الغالية على هذه العقيدة والطاعة(١) .

وتابعه في إخلاص الولاء والمفاداة سعيد بن عبد الله الحنفي، إذ يقول: والله لا نخلِّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ أُذرَّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!.

فوقف دون أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ونصح في الذّب عنه، ولمْ يقنعه ما أصابه من الجروح الدامية، حين استُهدف لأعداء الله تعالى دون الحسينعليه‌السلام وهو

____________________________

(١) يذكرني هذا التفاني دون ابن بنت المصطفى اعتذار سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب منه أمير المؤمنينعليه‌السلام نصرته، فقال: إني أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمناً إلا أن تعطيني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر!!. كتاب الجمل للشيخ المفيد / ٥٩ ط ٢.

٨٨

يصلّي الظهر في حومة الميدان حتّى استفهم من أبيِّ الضيم: أنّه أدّى أجر الرسالة، ووفي بما أوجبه الله عليه؛ فيموت جذلاً برضى الربِّ تعالى، أم هو التقصير فالخيبة والخسران؟ فطمأنه أبو عبد اللهعليه‌السلام بنيل السّعادة بالشهادة، ولقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قبله.

وما إن فرغ من خطابه حتّى قام زهير بن القين البجلي، يتلو على مسامع الأجيال تعاليم راقيةً في الدعوة إلى الدين، أعقبت له الخلود إلى الأبد. فيقول للحسينعليه‌السلام : والله لوددت أنّي قُتلت، ثمّ نُشرت، ثمّ قتلت حتّى اُقتل على هذه ألف مرّة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

لا شك قي قبول الطاعة من العبد لو كان ما يأتي به من الأعمال بلحاظ الربح يوم الخلود، ولكن هناك ما هو أبعد غوراً وأسمى قصداً، وهو طاعة أهل اليقين الذين لا يهمهم في أداء ما وجب عليهم؛ إلا كون المولى سبحانه أهلاً للعبادة.

وزهير هذا هو وعاء اليقين والإيمان الخالص، أقرأنا في هذا الموقف نظراته البعيدة، وعقائده الحقّة، وغاياته السّامية من حفظ شخص الإمامة الواجبة من قبل الله تعالى، والنّفوس العزيزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وإنّه لا يريد بعبادته لله تعالى في جهاد أعدائه، ثواب الآخرة، والمجازات على الجهود يوم تقسّم الاُجور على الصالحات، وإنّما أراد بهذه العبادة دفع اليد العادية عمّا يسوء شخص الرسالة الممتزجة بشخصيّة حُجّة الوقت على حدّ تعبير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها:

«حسين منّي، وأنا من حسين» (١) . فإنّ صاحب الشريعة لم يرد بهذا التعبير تعريف الاُمّة بكون شهيد الطفِّ بضعة منه؛ لما فيه من الركاكة التي يأباها كلام سيّد البلغاء، لإنّ كلّ ولد بضعة من أبيه فلا امتياز للحسينعليه‌السلام ، ولكنه أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الجملة الذهبيّة، الإشارة إلى ما ينوء به سيّد الشهداء من توطيد اُسس

____________________________

(١) رواه من الامامية السيد المرتضى في أماليه ١ / ١٥٧ المجلس الخامس عشر، وابن قولويه في كامل الزيارات / ٥٣. ومن أهل السنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسينعليه‌السلام ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٧، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٤٩، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ / ١٨١، والهيثمي في الصواعق المحرقة / ١١٥ حديث ٢٣، والبخاري في الأدب المفرد، والمتقي الهندي في كنز العمال ٧ / ١٠٧ وغيرهم الكثير.

٨٩

الإسلام، وكسح أشواك الباطل عن صراط شريعة العدل، وتنبيه الاُمم على جرائم أعمال مَن يعبث بقداسة الدِّين. فكما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أول ناهض لنشر الدعوة الإلهيّة، يكون الحسين آخر ناهض لتثبيت دعامتها:

قـد أصبح الدينُ منه شاكياً سقماً

ومـا إلى أحدٍ غيرِ الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا

إلا إذا دمـه فـي كـربلا سُفكا

ومـا سـمعنا عـليلاً لا دواء له

إلا بـنـفس مـداويه إذا هـلكا

بـقتله فـاح للإسلام نشرُ هدىً

فـكلّما ذكـرته المسلمون ذكا(١)

ولولا هذه المصارحة من (ابن القين)، لَما أمكننا استطلاع ما اختبأ بين جوانحه من الولاء الأكيد لِمَن وجبت لهم العصمة من المهيمن سبحانه، وقيّضهم أعلاماً لعباده وحفظة لشرعه، مع أنّ التاريخ لم يسجّل له غير الموالاة (لعثمان بن عفّان)، ومقت ابن الرسول الأطهرعليه‌السلام .

أمّا موقف عابس بن أبي شبيب الشاكري يوم البيعة لمسلم بن عقيل بالكوفة، ويوم الطفِّ، فيفسِّر فضله الكثير، وعقيدته الراسخة بمحبّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّه لا يهمّه في سبيل حفظ الإمامعليه‌السلام - ولو في بعض الأناة - إزهاق نفسه، وبذل كلِّ ما لديه من نفيس. فيقول لمسلم بن عقيل حينما شاهد تلك النفوس الخائنة متداكة على البيعة له: إني لا اُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم. ووالله إني اُحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه؛ والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا اُريد بذلك إلا ما عند الله(٢) .

ففسّر بهذه الكلمة الموجزة نوايا القوم وخور عزائمهم، وأنّهم مجبولون على الغدر والنّفاق ومتابعة الأهواء، وأنّهم لم يرقهم المكاشفة في الميل عنه؛ لئلا يعود ذلك فتّاً في عضد البيعة الواهية، ومثاراً للإحن. فأجملوا القول وهم ينتظرون نواجم العاقبة، وإلا فلم لم يحصل لمسلم بن عقيل الواحد من هؤلاء الآلاف مَن يدلّه على الطريق يوم اظلمت عليه الآفاق، فلم يدرِ إلى أين يتوجّه؟!.

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد جعفر الحلي طبعت في ديوانه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٩٠

ثمّ يقول ابن أبي شبيب للحسينعليه‌السلام يوم الطفِّ: ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت(١) .

بلى يابن أبي شبيب، إنّ الرجال المخلصين لله تعالى، المتفانين في خدمته لا يرون الوجود إلا متلاشي الأطراف، والبقاء الأبدي بنصرة الإمام علّة الكائنات ومدار الموجودات.

ثمّ يقوم نافع بن هلال فيقول: والله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، إنّا على نيّاتنا وبصائرنا؛ نوالي من والاك ونعادي من عاداك. ويتكلّم أصحابه بما يشبه ذلك.

ولمّا أذِنعليه‌السلام لأهل بيته بالإنصراف قالوا بأجمعهم بصوت واحد: أنفعل ذلك لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً، ثمّ التفت إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، قد أذِنتُ لكم» . فانطلقت ألسنتهم تعبّر عمّا أضمر في جوانحهم من النصرة للدِّين، والذبِّ عن شخص الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، فقالوا: إذَن ما نقول للناس؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولمْ نرمِ معهم بسهم، ولمْ نطعن برمح، ولمْ نضرب بسيف؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا؛ نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

إنّ هذه المفاداة في ذلك المأزق الحرج، الذي تقطّعت فيه خطوط المدد، وسدّ دونهم باب الورود المباح للحيوانات، تكشف عن بلوغهم أسمى صفات الكمال، وتجرّدهم عن عوارض الدنيا الفانية. ولو كانوا يحملون أقلّ شيء من الرغبة في البقاء والتبلغ في هذا الوجود؛ لاتّخذوا الإذن بالمفارقة ذريعة يتذرّعون بها يوم الحساب، ولكنّ هذه النّفوس التي فطرها ربّ العالمين من طينة القداسة، وامتزجت بنور اليقين لا ترغب في البقاء إلا أن تحقّ الحقّ، أو تبطل الباطل. وهل تستمرئ العيش وهي تعلم ما يلاقيه فلذة كبد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة الإسلام من الجروح الدامية، والأوام المبرح؟:

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤.

٩١

نـفوس أبـتْ إلا ترات أبيهُمُ

فـهم بـين موتور لذاك وواترِ

لقد ألفت أرواحُهمْ حومة الوغى

كما أنِست أقدامهم بالمنابرِ(١)

وفي هذا الحين اُنهيَ إلى محمّد بن بشير الحضرمي خبر أسر ابنه بثغر الرّي، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما اُحبّ أنْ يؤسر وأبقى بعده. فلمّا سمع الحسينعليه‌السلام هذا منه أذِن له بالمفارقة، وحلّ عقد البيعة؛ ليعمل في فكاك ابنه. فلمّا سمع ذلك من سيّد الشهداء ثارت به حمية الدين، وحفّزه الولاء الصادق إلى إظهار عقيدته الراسخة في التفاني دون شخص الإمامعليه‌السلام ، فقال: يا أبا عبد الله، أكلتني السّباع حياً إن فارقتك.

إنّ الإيمان الثابت، والطاعة لله تعالى وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يرفعان مَن تمكّنا فيه إلى أوج العظمة، وفوق مستوى الفضيلة. ولو كان ابن بشير متزلزل العقيدة؛ لاغتنم فرصة الإذْن بالإنصراف عذراً عند المولى سبحانه وعند الناس.

إنّ (الشهامة الحسينيّة) لم تترك لصاحبها منتدحاً دون المجاهرة بالإفراج عن العبد الأسود (جون مولى أبي ذر الغفاري)؛ لئلا يقيّده الحياء عن الفرار. ولكن سيّد الشهداءعليه‌السلام ، بعد أن عرف صبره، وثباته عند الهزاهز أراد بامتحانه؛ تعريف المتجمهرين عليه، ومَن يأتي من الاُمم نفسيّة هذا العبد الأسود، ومبلغ موقفه في الذبِّ عن الشريعة - التي تلاعبت بها أيدي الخائنين - مهما تفاقم الخطب، وتراكمت الأهوال. فأباح له حلَّ العهد والنّجاة بنفسه، فقال له:«يا جون، إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقتنا» . فعندها تسابقت دموعه؛ خوفاً من عدم التوفيق لنيل السّعادة الخالدة، وقد مزجها بقوله الذي لمْ يزل رجع صداه في مسامع الأجيال، معرفاً بنجاح الصابر عند الهزاهز (وإنّما الراحة بعد العنا). فقال: أنا في الرخاء ألحَس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! إن ريحي لنتن، وحسبي لئيم، ولوني أسود فتنفس عليَّ بالجنة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم(٢) .

ولولا هذه المصارحة من الحسينعليه‌السلام ، لما تسنّى لكلّ أحد الوقوف على

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما / ٣٨.

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف / ٦١ ط صيدا.

٩٢

طهارة ضمير هذا العبد ونواياه الحسنة. وإنَّ ثباته على القتل، بعد الإفراج والإذن بالمفارقة يخبر عن عقيدة راسخة.

الخلاصة

إنّ حفظ شخص الإمامعليه‌السلام كحفظ شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مما يلزم به العقل والشرع، ولا يسع كلّ أحد التخلّف عنه وتركه ومَن يريد استئصاله، بل الواجب بذل النّفس والنّفيس دونه؛ ليدرأ بذلك العدوان عن نفس الإمام الذي هو حياة الوجود وبقاء الكون. كما يجب على الإمامعليه‌السلام الدعوة إلى نصرته والدفاع عنه، مع العلم بأنّ الموافق له قادم على إزهاق نفسه القدسيّة، وأنّه لا ندحة له عن دفع الموت، فيجوز له عدم إلزام أي أحد بالدفاع عنه؛ لخلوّه عن الفائدة.

والحسينعليه‌السلام كان عالماً بما يجري عليه من أعدائه، وعدٌ لا خلف فيه، وقضاء غير مردود، كما أنبأ اُمّ سلمة بقوله:«إنْ لمْ أخرج اليوم خرجتُ في غد، وإنْ لمْ أخرج في غد فبعد غد. وهل من الموت بُدّ! أتظنين أنّك تعلمين ما لمْ أعلمه؟» .

إذاً فلا يجب عليه إلزام الغير بالدفاع عنه. نعم، لا يسقط التكليف عمّن فقد العلم بالمقدّرات الإلهيّة من البشر في القيام بالدفاع عن شخص الإمام الحُجّة، ولا يُعذر مَن يبصر حصار القوم لمَن أهَّله الله تعالى خليفة على العباد، وقطعهم خطوط المدد عنه، وسدّ باب الورود عليه، فلم ينهض لردِّ العادية عنه؛ كي لا يخلص إليه ما يزهق نفسه القدسيّة. ولا يقبل الله تعالى حجّة مَن ينظر هذا الحال، ثمّ يتقاعس عن النّصرة وإنْ اعصوصب الأمر وتفاقم الخطب، أللهم إلا أنْ يأذن حُجّة الزمن بمفارقته، وتخليته مع أعدائه؛ لكونه العالم بالمصالح تعليماً من لدن حكيم عليم، تعالى شأنه. وحينئذ لا يلزم العقل، ولا الشرع بالبقاء معه والدفاع عنه، ولا يكون مَن يفارقه متعدياً على مقررات الشريعة، ويصحّ له العذر - يوم نشر الصحف - بترخيص الإمامعليه‌السلام في ترك نصرته. ولا يكون الإمام مجازفاً لو أباح للغير إفراده وأعداءه، وحلّ عقدة العهد، بعد التسليم بأنّه لا يتخطّى المصالح الواقعيّة قيد شعرة. هذا ما يقتضيه تكليف الإمام وأمّا تكليف المأذون بالإنصراف، فإنّه إذا لم يشاهد استغاثة الإمام واستنصاره، فلا تبعة عليه ولا مسؤوليّة. وأمّا مع مشاهدته حيرة الإمام، وتتابع استغاثته، فلا يسوغ له ترك النّصرة؛ للقطع بأنّه في هذا الحال

٩٣

بحاجة ماسّة إلى الذبّ عنه، فلا يُقبل منه العذر يوم الحساب.

وإن كلمة أبي عبد اللهعليه‌السلام لعبيد الله بن الحرّ الجعفي، يوم اجتمع معه في قصر بني مقاتل لمّا استنصره فأبى عليه، قال له الحسينعليه‌السلام :«إنّي أنصحك إنْ استطعت أنْ لا تسمع واعيتنا وصراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل؛ فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلا أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم» ، تؤيّد ما سجّلناه من دحض حُجّة مَن يسمع استغاثة الإمام ثمّ لا ينصره. وأمّا مَن لمْ يسمع الواعية، وقد أباح له المفارقة، فهو معذور.

فالضحّاك بن عبد الله المشرقي لا يُعذر يوم الحساب؛ لأنّ استنصار الحسينعليه‌السلام في مسامعه، ويراه مكثوراً، فالواجب عليه الدفاع إلى آخر نفس يلفظه. وهذا الرجل جاء إلى الحسينعليه‌السلام قبل اشتباك الحرب، وقال له: إني اُقاتل معك ما رأيت معك مقاتلاً، فإذا لم أرَ أحداً، فأنا في حلّ؟. فقال له الحسينعليه‌السلام :«نعم» . فخبّأ فرسه في بعض الأبنية لمّا رأى خيل أصحاب الحسينعليه‌السلام تُعقر، وصار يقاتل راجلاً. ولمّا بقي الحسينعليه‌السلام وحده قال له الضحّاك: إني على الشرط؟، قال:«نعم، أنت في حلٍّ إن قدرت على النجاة» . فأخرج فرسه من الفسطاط وركبها وغار على القوم فأفرجوا له، وتبعه خمسة عشر رجلاً، فانتهى إلى (شفية)(١) ، ولحقه القوم وعرفه أيوب بن مشرح الخيواني، وكثيّر بن عبد الله الشعبي، وقيس بن عبد الله الصائدي، وقالوا لإخوانهم: هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه، فنجا منهم(٢) .

وقول الحسينعليه‌السلام :«أنت في حلٍّ» لا يكون عذراً له يوم الحساب؛ لأنّ أبا عبد اللهعليه‌السلام لا يسعه أنْ يقول له: إصبر على القتل، وهو يعرف مقام الإصرار على الذهاب. والمولى سبحانه لا يعذره يوم الحشر؛ لأنّه يسمع استنصار (أبيِّ الضيم)، ومَن يسمع الاستغاثة ولا ينصره، أكبّه الله على وجهه في النّار.

بقاء الشريعة بالحسين

لقد كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الجزء الأخير من العلّة التامّة لاستحكام عروش

____________________________

(١) قرية قريبة من شاطئ الفرات.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٩٤

الدِّين؛ حيث إنّها فرّقت بين دعوة الحقِّ والباطل، وميّزت أحد الفريقين عن الآخر حتّى قيل: إنّ الإسلام بدؤه محمديّ وبقاءه حسينيّ؛ ولذلك لمْ يجد أئمّة الهدى وسيلة لنشر أمرهم في الإصلاح، ونفوذ كلمتهم في إحياء شرع جدّهم الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة، لمّا اشتملت عليه من فجائع تفطر الصخر الأصم، ويشيب لها فود الطفل، ويذوب الفؤاد. فطفقواعليهم‌السلام يحثّون الاُمّة على تأييدها، والقيام بذكر ما لاقاه شهيد الإصلاح من القسوة والإضطهاد، وإعلام الاُمّة بما حدث في تلكم المشاهد الدمويّة من مظلوميّة الحسين وأهله وذويهعليه‌السلام ؛ لأنّهم صلوات الله عليهم علموا أن في إظهار مظلوميّته مجلبة للعواطف، واسترقاقاً للأفئدة. فبطبع الحال، يتحرّى السامع لتلكم الفجائع الوقوف على مكانة هذا المضطهد، وأسباب ما ارتُكب منه من أعمال قاسية.

وطبعاً يعلم أن سبط النبوّة إمام عدل لم يرضخ للدنايا، ولم يصخ إلى دعوة المبطلين، وأن إمامته موروثة له من جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه (الوصي)عليه‌السلام ، وأنّ من ناواه لا يملك من منصّة الخلافة موضع قدمه، وكذا كلّ مَن حذا حذوه وذهب على شاكلته.

وإذا عرف السّامع هذا، وعلِم أنّ الحقَّ كلَّه في جانب الحسين ومن خلفه من أئمّة الدِّينعليهم‌السلام ، لمْ تدع له عقليته إلا السّير معهم، واعتناق طريقتهم المثلى؛ وبذلك تتوطد اُسس السّلام والوئام.

لقد أقعدت السّلطة الغاشمة من بني اُميّة وبني العبّاس أهل البيتعليهم‌السلام في دورهم، وأوصدت عليهم أبواب الإجتماع بشيعتهم، فلاقوا منهم ضروب الأذى والتنكيل؛ فآثروا العزلة على الخروج بالسّيف في وجه دعاة الباطل، مع ما يشاهدونه من تمادي اُولئك في الطغيان، وظلم شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأبنائه، وتتبعهم تحت كلّ حجر ومدر، وإبادتهم العلويين من جديد الأرض. وكان بمرأى منهم بناء المنصور والرشيد الإسطوانات على ذريّة فاطمةعليها‌السلام ، ظلماً وعدوانا(١) .

ولكن لم يفُتْهم الجهاد الأكبر بتحريض شيعتهم على عقد المحافل(٢) لذكر

____________________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ / ١٠٢.

(٢) عقد المحافل للتذكير بتلك الفاجعة المؤلمة لا يقتصر فيه على ذكرها في البيوت فقط، فإنه خلاف إطلاق الأخبار. ففي أمالي الصدوق ص ١٣١ عن الرضاعليه‌السلام : «مَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى، لم تبك عينه يوم تعمي العيون». وفي قرب الإسناد ص ٢٦ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه». وفي كامل الزيارات ص ١٠٠ عن أبي هارون المكفوف عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وفيه:

٩٥

حادثة الطفِّ الخالدة وتواصل الإستياء؛ لِما هنالك من فجائع ومصائب، وإسبال الدموع لكارثتها المؤلمة. وأكثروا من بيان فضل ذلك إلى حدٍّ بعيد؛ لأنّهم علموا أنّ هذا هو العامل القوي في إبقاء الرابطة الدينيّة، التي لأجلها لاقى أمير المؤمنينعليه‌السلام ما لاقاه، وأصاب ولده الحسنعليه‌السلام ما أصابه. ومصاب الحسينعليه‌السلام يدكدك الجبال الرواسي.

فكان أهل البيتعليهم‌السلام يتحرون أساليب مختلفة من البيان، توجب توجيه النّفوس نحو التذكارات الحسينيّة؛ لِما لها من العلاقة التامّة لحفظ المذهب عن الإندراس، فعبّروا عنها بالعموم تارة، وبالخصوص اُخرى. يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :«رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمرنا، فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما. وما اجتمع إثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم احياءنا، وخير النّاس من بعدنا مَن ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا» (١) .

ويقولعليه‌السلام للفضيل بن يسار:«تجلسون وتحدثون؟» قال: نعم، جعلت فداك. قالعليه‌السلام :«إنّ تلك المجالس اُحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا» (٢) . ويقولعليه‌السلام أيضاً«مَن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (٣) .

فالأئمّةعليهم‌السلام أرادوا بهذا النّحو من البيان حمل الاُمّة على الإعتقاد بإمامتهم، وما أوجبه المولى سبحانه من عصمتهم، وما أهّلهم له من الفضائل والفواضل، وأنّ الدعوة إليهم ملازمة لاعتقاد خلافتهم دون من اغتصب ذلك المنصب الإلهي.

إنّ التذكارات الحسينيّة على اختلاف صورها؛ من عقد العزاء والمآتم(٤)

____________________________

= «مَن ذُكر الحسينعليه‌السلام عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناج الذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة». وهذه الأخبار ونظائرها الكثير تحث بعمومها على كل وسيلة يتذكر بها مصاب الحسين، أو مصاب أهل البيتعليهم‌السلام ، سواء في ذلك عقد المأتم، أو بذل المال لأجله، أو نظم الشعر، أو كتابة تلك الفوادح أو تدوينها أو إنشاد ما جرى عليهم، أو تصوير تلك الفاجعة أمام الناس بكل مظهر من مظاهره، فإن الجامع لهذه الانحاء قولهعليه‌السلام «مَن ذكّر بمصابنا».

(١) أمالي الشيخ الطوسي / ٢٢٤.

(٢) قرب الإسناد / ٣٦.

(٣) أمالي الشيخ الصدوق / ١٣١.

(٤) في مصباح المجتهد ص ٧٧٢، وكامل الزيارات ص ١٧٤ عن مالك الجهني: إن الامام الباقرعليه‌السلام كان يقول في يوم عاشوراء «... ثمّ ليندب الحسين عليه‌السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره - ممّن لا يتّقيه - بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة باظهار الجزع عليه، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسينعليه‌السلام ، وأنا الضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي ألف حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمة الراشدينعليهم‌السلام ».بتصرّف .

٩٦

واللطم(١) في الدور والشوارع أوجبت تقدّم الطائفة، وكان عمل الشبيه أوضح المصاديق والحجج على القساوة التي جاء بها الاُمويّون ولفيفهم من تلاوة الشعر. وإنّ ذكر المصاب؛ لتسرب ذلك بوضوح إلى أدمغة الأطفال والعامّة، الذين لا يفهمون ما يشتمل عليه القريض والكتب من دقائق الحادثة، هو أحكم وآكد في تأثّر النّفوس، واحتدام القلوب في حفظ الروابط المذهبيّة بين الأئمّةعليهم‌السلام ومواليهم، وله نصيب وافر في رسوخ العقيدة.

ولقد قلّد الشيعة في تمثيل فاجعة الطفِّ غيرهم من الهنود وبعض فرق الإسلام، وهم في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة(٢) .

فكان لفت الأنظار نحو هذه التذكارات، والإعتناق بها أمسّ في إحياء أمر المعصومينعليه‌السلام ، المحبوب لديهم التحدّث والتذاكر فيه. ولعلّ جملة من هذه الفوائد لا تفهم الاُمّة منها النكتة المهمّة، بل غاية ما يتصوّرون من فائدة عملهم، هو الثواب عليه في الآخرة فقط، ولكنّ الواقف على أسرار أهل البيتعليهم‌السلام ، والمستشرف لمغازي أقوالهم وأفعالهم يتجلّى له ما ألمعوا إليه من هذه النّوادي والمجتمعات، وحثّوا شيعتهم عليه بمزيد لطفهم وواسع علمهم.

البكاء على الحسين

من تلك الفوائد، ما ورد من الحثِّ الكثير البالغ حدِّ التواتر على البكاء لما أصاب سيّد الشهداءعليه‌السلام حتّى جاء في ثواب مَن خرج من عينه كجناح ذبابة، أنّه يطفئ حَرّ جهنّم. فإنّ الغرض ليس إلا أنّ الدمعة لا تفاض إلا عند انفعال النّفس، وتأثّرها ممّا يصيبها، أو يصيب مَن تمتُّ به بنحو من أسباب الصلة. ولا

____________________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ / ٢٨٣ عن الصادقعليه‌السلام أنه قال: «ولقد شققن الفاطميات الجيوب، ولطمن الخدود على الحسين بن علي، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». وذكره الشهيد في كتابه (الذكرى)، في البحث الرابع من المطلب الثالث من أحكام الأموات.

(٢) ذكر الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه (الإسلام والمسلمون)، الذي نشرت جريدة (الحبل المتين) منه فصلاً بالفارسية في العدد ٢٨ من سنتها ١٧: إن التمثيل والشبيه تداولا بين الشيعة من زمن الصفوية، الذين نالوا السلطة بقوّة المذهب؛ بفضل مساعدة علمائهم الروحانيين.

٩٧

شكّ إنّا نرى النّفس عند تأثّرها بذلك تكون متأثّرة بشيء آخر، وهو العداء والبغض لكلّ مَن أوقع الفوادح والآلام. فالأئمّة، حيث إنّهم أعرف النّاس بمقتضيات الأحوال والملابسات التي تؤكّد دعوتهم، كانوا يتحرّون التوصّل إلى أغراضهم بكلّ صورة، وكان من الوسائل التي توجب انحراف الاُمّة عن أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم بالبكاء على مصاب الحسينعليه‌السلام ؛ لِما فيه من استلزام تذكّر تلك القساوة انفعال النفس وانقباضها عمّا لا يلائم خطّتهم، وهذا هو المغزى لقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر» (١) . فالمؤمن حيث يمتُّ إلى الحسينعليه‌السلام بالولاء والمشايعة، كان ذلك موجباً لتأثّر نفسه، واحتدام قلبه على كلّ مَن يوجّه إليه الأضرار والأخطار، ويشتدّ هذا التأثّر عند تناهي تلك الفوادح.

وكيف كان، فإنّ سيّد الشهداءعليه‌السلام لمْ يقصد بـ«أنا قتيل العبرة» خصوص التعريف بأنّ قتله كان لأجل أنْ يُبكى عليه؛ فيستحقّ به الأجر في الآخرة، بحيث لا يكون هناك أثر آخر يترتّب عليه قتله سوى البكاء عليه. كيف؟ وهنالك آثار اُخرى، أهمّها: إحياء شريعة الحقِّ، وتقويم ما اعوجّ من علم الهداية، ونشر الإصلاح بين الاُمّة، وتعريف الملأ ما عليه اُمراء الجَور من السّير وراء المطامع.

ولكنّ الوجه في هذه الإضافة هو تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين البكاء عليه، فإنّ لوعة المصاب به لا تطفأ، ومضض الإستياء له لا تنفد؛ لاجتماع الكوارث عليه، وملاقاته لها بصدر رحيب، وصبر تعجبت منه ملائكة السّماء. فأول ما يتأثر به السّامع لها أنْ تستدر دموعه، فلا يذكر الحسينعليه‌السلام إلا والعبرة تسبق الذكر، أضف إلى ذلك المودّة الكامنة له في قلوب أحبّائه؛ بحيث إذا انضمّت إلى تلك، كانت أدعى لتأكّد الصلة بين ذكره، وبين البكاء عليه. فمن هنا استحقّ إضافة القتل إليه، فقال:«أنا قتيل العبرة» .

وعلى هذا سار العرب في كلامهم، فإنّهم إذا رأوا بين الإنسان، وبين بعض حالاته وصفاته صلة أكيدة، أضافوه إلى ذلك الحال، فقالوا: (مضر الحمراء)، و (ربيعة الخيل)، و (زيد النّار)، و (صبية النّار)، و (مُسمّة الأزواج)؛ فإنّ ربيعة ومضر لم يتخلّيا عن

____________________________

(١) كامل الزيارات / ١٠٨.

٩٨

كلّ صفة حميدة سوى اللواء والخيل، ولا زيد ابن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام لم يتّصف بشيءٍ حسن، أو قبيح إلا حرقه دور بني العبّاس بالبصرة، ولا أنّ أولاد ابن أبي معيط لم يحصلوا على نعت من نعوت الإنسانيّة إلا النّار، التي أضافها لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وكان كافراً، فقال: ي محمّد، مَن للصبية؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لهم النّار» . ولا أنّ جعدة بنت الأشعث لم تتصف بالرذائل إلا السمّ، الذي ناولته أب محمّد الحسن السّبطعليه‌السلام ، ولكن لمّا كانت هذه الآثار هي الظاهرة بين النّاس؛ قيل لمضر: (الحمراء)، ولربيعة (الخيل)، ولزيد (النّار)، ولجعدة (مُسمّة الأزواج).

فقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة» ، وقول الصادقعليه‌السلام :«بأبي قتيل العبرة» من هذا القبيل، وهو ما ذكرناه من تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين استدرار الدموع.

التباكي

لقد راق أئمّة الهدىعليهم‌السلام أنْ تبقى تلك الذكريات الخالدة مدى الدهر، تتحدّث بها الأجيال المتعاقبة؛ علماً منهم ببقاء الدِّين غضّاً طرياً، ما دامت الاُمّة تتذاكر تلك الفاجعة العظمى. ولم يقتصروا على لازمها، وهو البكاء حتّى رغّبوا إلى التباكي، وهو: التشبيه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع. فيقول الإمام الصادق:«من تباكى، فله الجنة» (١) .

ومعلوم أنّ التباكي إنّما يتصوّر فيمن تتعسّر عليه الدمعة، لكنّه لم يفقد التأثّر لأجل المصاب، كما يشاهد في كثير من النّاس. فالتأثّر النّفساني بتصوّر ما ورد على المحبوب من آلام وفوادح، يستلزم قهراً النفرة عمّن أورد ذلك العدوان.

وفي الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قرأ آخر الزمر: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) (٢) على جماعة من الأنصار، فبكوا إلا شاباً منهم، قال: لم تقطر من عيني قطرة، وإنّي تباكيت. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَن تباكى، فله الجنة» (٣) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٨٦، المجلس التاسع والعشرون.

(٢) سورة الزمر / ٧١.

(٣) كنز العمال ١ / ١٤٧.

٩٩

وروى جرير عنه، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«إنّي قارئ علكيم ( ألهاكم التكاثر ) ، مَن بكى فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنة» (١) .

وحدّث أبو ذر الغفاري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال:«إذا استطاع أحدكم أن يبكي، فليبكِ، ومَن لم يستطع، فليستشعر قلبه الحزن وليتباكَ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله» (٢) .

وهذه الأحاديث تدلّنا على أنّ التباكي منبعث عن حزن القلب، وتأثّر النّفس كالبكاء، لكن في باب الرهبة منه سبحانه وتعالى يكون الحزن والتأثّر؛ لأجل تصوّر ما يترتّب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة، فيتباعد عنه، ويعمل ما يقرّبه من المولى زلفة. وفي باب تذكّر مصائب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يستوجب بغض مَن ناوأهم، وأوقع بهم، وأساء إليهم.

ولعلّ ما أشرنا إليه، هو مراد الشيخ محمّد عبده، فإنّه قال: التباكي: تكلّف البكاء لا عن رياء(٣) . ويقول الشريف الجرجاني: باب التفاعل أكثره إظهار صفة غير موجودة، كالتغافل والتجاهل والتواجد. وقد أنكره قوم؛ لِما فيه من التكلّف والتصنّع، وأجازه قوم لِمن يقصد به تحصيل الصفة. والأصل فيه، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إن لمْ تبكوا فتباكَوا» ، أراد به: التباكي ممّن هو مستعدّ للبكاء، لا تباكي الغافل اللاهي(٤) .

فالباكي والمتباكي مشتركان في احتراق القلب، وتأثّر النّفس؛ لأجل تصوّر ما ورد من الظلم على أهل البيتعليه‌السلام ، ومشتركان في لازمه، وهو النفرة والتباعد عن كلّ مَن دفعهم عن مقامهم. ومَن لا يفقه مغازي كلام المعصومينعليهم‌السلام ، يحكم بالرياء على المتباكي. وبعدما أوضحنا من السّر تعرف قيمة البلاغة وقدر البلغاء.

وكم لأهل البيتعليهم‌السلام من أسرار غامضة، لا يقف عليها إلا من

____________________________

(١) كنز العمال ١ / ١٤٨.

(٢) اللؤلؤ والمرجان للنوري ص ٤٧، ومجموعة شيخ ورام ص ٢٧٢.

(٣) تفسير المنار ٨ / ٣٠١.

(٤) التعريفات ص ٤٨.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218