تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79258 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

١

الجزء الثّالث

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه ، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل ، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه ، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة ، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بنى إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم ، فقام أولو الرأى فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم ، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به

٢

عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا ، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال ، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله ، وقتل داود ـ وكان في عسكر طالوت ـ جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار ، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين.

وما تمّ هذا إلا بفضل داود الذي آتاه الله الملك والنبوة ، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.

ثم ذكر بعد هذا أنه لو لا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره.

وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل ، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير ، وهذا دليل على أنه من المرسلين.

وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض ، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة ، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع ، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.

الإيضاح

( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله : «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال ، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره ، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وخلاصة هذا ـ إنهم كلهم رسل الله ، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم ، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.

ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :

٣

( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام ، كما قال تعالى في سورة النساء «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » وفي سورة الأعراف «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ » وفي الآية بعدها «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي ».

( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف ، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد ، ويؤيده السياق أيضا ، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم ، مع أن دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط ، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط.

ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله فى سورة القلم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » وقوله : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ».

ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ».

ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات ، وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ما من نبىّ من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن

٤

على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وروى عنه أنه قال : «فضّلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لى الغنائم ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

( وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البينات هى ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال : «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ » وأيدناه : أي قوّيناه ، وروح القدس هو روح الوحى الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ».

وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره ، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه ، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ) قوله : من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة ، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم ، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات : أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم ، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم ، وقوله : ولكن اختلفوا : أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم ، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا ، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل ، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.

وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره ، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية ، وجعل ارتقاءه

٥

فى إدراكه وأفكاره كسبيا ، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين ، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون ، وهذا هو منشأ الاختلاف.

ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة ، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين ، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا ، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان ، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان ، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه ، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة ، وهذا هو منشأ التخاصم ، وسبب التنازع والقتال ، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا ، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك ، فتفرقوا طرائق قددا ، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.

وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف ، وأمرهم بالاتحاد والوئام ، فامتثلوا أمره فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه ، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.

وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين ، ولحماية الدين من طغيان الملحدين ، ولله في خلقه شئون.

( وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا ) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا ، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة ـ لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه ، لكنه أودع فى غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل ، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة ، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف ، فكان الاختلاف في الرأى والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.

( وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار

٦

إرادته تعالى فلا مرد له ، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه ، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) )

تفسير المفردات

المراد باليوم هنا يوم الحساب ، لا بيع فيه : أي لا فداء فيتدارك المقصّر تقصيره ، ولا خلّة : أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة ، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة ، والظالمون : هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل ، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال ـ وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم ، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره ، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين ، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب ، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب ، أو طمعا في الثواب ، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل ، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل ، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل ـ فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة ، والإنفاق المستحب أيضا.

٧

ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة ، أو انتشر المرض في أبنائها ، أو كثر الجهل في أفرادها ، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال ـ وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد ، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.

وفي قوله «مِمَّا رَزَقْناكُمْ » حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.

وقوله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... » إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال ، ولا تنفع فيه الصداقة ، ولا تجدى الشفاعة.

وخلاصة ذلك ـ إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم ، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله ، أو يهبه شيئا من حسناته ، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله ، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة ، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام ، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ».

وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا ، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت فى الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين ، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما.

( وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم ، إذ وضعوا المال في غير موضعه ، وصرفوه في غير وجهه ، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » مكان

٨

ومن لم يحج ، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله : «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ».

ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة ، أن حب المال أعلى فى قلب المانع من حب الله تعالى ، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل ، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا ، وأعظم في وجدانها وقعا.

وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغبثه ، أو مضطر يكشف ضرورته ، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء ، أو ترفع من قدرها ، أو تزيل العقبات من طريقها ـ من أقبح أنواع الظلم ، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.

وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن ، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم ، لينشلوها من بحار الجهل التي هى غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط ، حتى عمّ الفقر والشقاء ، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه ، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة ، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها.

ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام ، ولا أن يكونوا من المسلمين ، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين ، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل ، وهو أرجح من رضوان ربه ، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا ، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ».

وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله : «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ».

٩

( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) )

تفسير المفردات

الله هو المعبود بحق ، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما ، ولا تدرك كنهها وحقيقتها ، وكل ما ألّهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان ، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبى استقلالا أو تبعا لسواه ، والحي هو ذو الحياة ، والحياة هى مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو ، وهى بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه ، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة ، والقيوم القائم على حلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والأخذ : الغلبة والاستيلاء ، والسّنة : النعاس ، وهو فتور يسبق النوم ، قال عدىّ بن الرقاع :

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

فى عينه سنة وليس بنائم

والنوم : حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور ، والكرسي : هو العلم الإلهى ، وآده الشيء : يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة ، والعلىّ : هو المتعالي عن الأشباه والأنداد ، والعظيم : هو الكبير الذي لا شىء أعظم منه.

المعنى الجملي

أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين ، ولا يغنى مال يعطى فدية عن العاصين ، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء

١٠

وذوى الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا ، وبها تحلّ كل مهمة ـ هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه ، ووجوب الطاعة لأمره ، والإذعان لحكمه ، والوقوف عند حدوده ، وبذل المال في سبيله ، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.

الإيضاح

( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد ، ذو الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، القائم بتدبير أمر عباده ، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.

( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته ، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار.

وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود ، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة ، ثم ما يتبعها وهو النوم ، وبعبارة أخرى ـ هو ترقّ في نفى النقص عنه ، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى ، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى.

والخلاصة ـ إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه ، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة ، ضعيف القيام بشئون نفسه ، وبشئون غيره.

( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده ، خاضعون لمشيئته ، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم.

وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أي من ذا الذي يستطبع من عبيده

١١

أن يغيّر ما مضت به سنته ، وقضت به حكمته ، وأوعدت به شريعته ، من تعذيب ذوى العقائد الباطلة ، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض ، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه ، ونحو هذا قوله. «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».

وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم ، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه ـ وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ـ وفي ذلك قطع لأمل الشافعين ، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.

( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ) أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها ، وأمور الآخرة التي يستقبلونها.

وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة ، إذ من كان عالما بكل شىء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم ، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم ، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف ، مما يستحيل عليه تعالى ، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم.

وما ورد من أحاديث الشفاعة ، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلى أنه سيفعله ، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه ، ولا يحدث تأثيرا في إرادته ، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك ، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى ، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه ، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه ، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه ، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة ، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها

١٢

لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد ، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل فى الخطايا ، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.

( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله : «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ » وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات ، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه ، ولا كرسىّ ولا قيام ولا قعود ، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.

والخلاصة ـ إن الكرسي شىء يضبط السموات والأرض ، نسلم به بدون بحث فى تعينه ، ولا كشف عن حقيقته ، ولا كلام فيه بالرأى دون نص عن المعصوم.

( وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما ) أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها ، ولا يشق عليه ذلك ، وإنما لم يذكر ما فيهما ، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.

( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، العظيم على كل شىء سواه ، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم ، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.

والخلاصة ـ إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله ، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم ، فأوقعهم ذلك فى ترك المبالاة بالدين ، فخويت القلوب من ذكر الله ، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته ، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات ، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة( الشَّفاعَةَ ) ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له ، ويمده في الغى.

فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله ، ولم تستشعر بالحياء منه ، ولم تحترم دينها وشريعتها ، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته ، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل.

١٣

وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات ، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات ، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه ، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم ، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم ، وتركوا المبالاة بالدين.

( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) )

تفسير المفردات

لا إكراه في الدين : أي لا إكراه في دخول الدين ، وبان الشيء واستبان : وصح وظهر ، ومنه المثل : تبيّن الصبح لذى عينين ، والرشد : بالضم والتحريك ، والرشاد :

الهدى وكل خير ، وضده الغى ، والجهل كالغى إلا أن الأول في الاعتقاد ، والثاني فى الأفعال ، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم ، وزوال الغى بالرشد ، والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الشيء ، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى : «أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ » وقال : «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » والعروة من الدلو والكوز ونحوهما : المقبض الذي يمسك به من يأخذهما ، والوثقي : مؤنث الأوثق ، وهو الحبل الوثيق المحكم ، والانفصام. الانكسار أو الانقطاع ، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه ، والولي : الناصر والمعين ، والظلمات : هى الضلالات التي نعرض للإنسان في أطوار حياته ،

١٤

كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصدّ عن النظر فيه أو تحول دون فهمه ، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه.

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السموات والأرض ، وبيان أن علمه محيط بكل شىء وأنه العلى العظيم.

والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة ، وترشد إليه المشاهدات الكونية ، فأماراته واضحة ، والنّصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام ، فمن هدى إليه فقد فاز بالسعادة ، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين.

وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية ، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله : أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ، فنزلت فخلّاهما.

الإيضاح

( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) أي لا إكراه في الدخول فيه ، لأن الإيمان إذعان وخضوع ، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالحجة والبرهان.

وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين ، بل من أوليائه ، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره ، فكان يعرض على الناس ، فإن قبلوه نجوا ، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.

١٥

والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلى مستخفيا والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب ، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة ، فإن غزوة بنى النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة ، اللهم لا هذا ولا ذاك.

هذا ، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول فى دينهم.

ثم أكد عدم الإكراه بقوله :

( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح ، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غىّ وضلال.

ثم فصل ذلك فقال :

( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها ) أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق ، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما ، أو تقليد رئيس ، أو طاعة هوى ، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه ، ولا يرجو شيئا من أحد سواه ، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة ـ فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة ، وأمتن وسائل الحق ، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه ، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل.

ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال :

( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي والله سميع لأقوال من يدعى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه ، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه ، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى ، ومن انطوى قلبه

١٦

على شىء من نزعات الوثنية ، ونسب ما جهل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى ، فقد حق عليه العذاب ، وكان جزاؤه جزاء الدين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

وجاء بمعنى الآية قوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ ».

وقد جعل المسلمون قوله :( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) أسّا من أسس الدين ، وركنا عظيما من أركان سياسته ، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه ، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه.

وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتتنا فيه أو الاعتداء علينا ، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هى أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة.

وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصدّ من يقاوم هذه الدعوة ، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة ، وكف شر الكافرين عن المؤمنين ، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه ، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه ، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا ، ومن ثم قال سبحانه : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ » أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب ، ولن يكون كذلك إلا إذا كفّت الفتن عنه وقوى سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.

والفتن تكفّ بأحد أمرين :

(١) بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان ، وبدا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء ، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه.

(٢) بقبول الجزية وهى جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.

١٧

( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) أي إن المؤمن لا ولىّ له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى ، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح ، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ».

فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس ، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور ، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان ، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه ـ بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات ، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصّرون في تنميق هذه الشبهات ، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم ، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء.

( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا ، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان فى نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة.

ونحن لا نبحث عن حقيقتها ، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب ، جزاء ما قدمته أيدى العاصين من سيئ أعمالهم.

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ

١٨

فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

تفسير المفردات

الاستفهام للتعجيب والإنكار ، وحاجّ جادل وقابل الحجة بالحجة ، فبهت : أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا ، الظالمين : أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولىّ الذين آمنوا ، وأن الطاغوت ولىّ الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها ، فبيّن أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرضها عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته ، وأن الذي حاجّه كيف عمى عن نور الحق ، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى ، وتردّى في مهاوى الهلاك بولاية الطاغوت له.

الإيضاح

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ) أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية ، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه ـ ويقال إنه نمروذ بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام.

( أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) أي إن الذي أورثه الكبر والبطر ، وحمله على الإسراف فى الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم ـ هو إيتاء الله إياه الملك.

ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال :

١٩

( إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله ، وسفّه أحلام عابديها ، فسأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته قال :( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) .

فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب.

و( قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه ، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله.

وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها ، وإزالة الحياة بالموت ـ وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة ، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه.

( قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ) أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته ، هو الذي يطلع الشمس من المشرق ، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع ، والسنن الحكيمة التي نشاهدها ، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل ، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم ، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب.

( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) أي فدهش ولم يجد جوابا ، وكأنما ألقمه حجرا.

( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية ، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت ، ويترك ما أعطاه الله من الفهم ، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه ، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا.

( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الرأس مصلوباً على باب دارها، والأنوار العلويّة تتصاعد إلى عنان السماء، وشاهدت الدم يتقاطر، ويُشم منه رائحة طيّبة، عظم(١) مصابه في قلبها؛ فلم تتماسك دون أن دخلت عليه مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح: رأس ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصلوب على دارنا وقام إليها وغطّاها، وقال لها: اعولي على الحسين، فإنه صريخة بني هاشم، عجّل عليه ابن زياد(٢) .

____________________________

= وفي الوافي بالوفيات ٣ / ١٤٦، اعترف محمّد بن سيرين على نفسه، بأنه يسمع الحديث، وينقص منه. وكان من سبي (جرجيا). وفي طرح التثريب / ١٠٣: كان سيرين من سبي عين التمر. (الصورة الثالثة) في نهاية الارب ٦ / ١٨٠: كانت زينب عند عبد الله بن سلام عامل معاوية على العراق، فطلب منه معاوية طلاق زوجته؛ لرغبة يزيد فيها على أن يزوجه من ابنته. فلما طلقها لم توافق ابنة معاوية على التزويج منه، فأرسل معاوية أبا هريرة وأبا الدرداء إلى العراق ليخطبا زينب بنت اسحاق ليزيد. فقدما الكوفة، وكان بها الحسين بن عليعليه‌السلام ، فذكرا له القصة، فقال لهما: «اذكراني». فاختارت الحسينعليه‌السلام وتزوجها، ولما عرف رغبة عبد الله بن سلام فيها طلقها؛ ليحلها لزوجها الاول. وهذه القصة المطولة، التي أرسلها النويري في نهاية الأرب من دون إسناد، ارسلها ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص١٧٢ سنة ١٣٣٠ﻫـ، واسماها (ارينب) بالراء المهملة. والحسينعليه‌السلام لم يرد إلى الكوفة بعد ارتحالهم منها!. (الصورة الرابعة) في الامثال للميداني ١ / ٢٧٤ حرف الراء عنوان (رب ساع لقاعد) روي مرسلاً: إن معاوية سأل يزيد عن رغباته، فذكر له رغبة في التزويج من (سلمى اُم خالد)، زوجة عبد الله بن عامر بن كريز. فاستقدمه معاوية، وسأله طلاق امرأته على أن يعطيه خراج فارس خمس سنين، فطلّقها. فكتب معاوية إلى واليه على المدينة (الوليد بن عتبة) أن يُعلم ام خالد بطلاقها. وبعد انقضاء العدة، أرسل معاوية أبا هريرة ومعه ستون ألفاً؛ عشرون ألف دينار مهرها، وعشرون ألفاً كرامتها، وعشرون ألفاً هديتها. وفي المدينة حكى القصة لأبي محمّد الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال لأبي هريرة: «اذكرني». وقال له الحسين: «اذكرني لها». وقال عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطلب: اذكرني. وقال عبد الله بن جعفر الطيّار: اذكرني. وقال عبد الله بن الزبير: اذكرني. وقال عبد الله بن مطيع بن الاسود: اذكرني. ولمّا دخل عليها أبو هريرة، حكى لها ما أراده معاوية، ثم ذكر رغبة الجماعة فيها. فقالت له: اختر لي أنت؟ فاختار لها الحسن بن عليعليه‌السلام وزوجها منه، وانصرف إلى معاوية بالمال. ولما بلغت معاوية القصة، عتب على أبي هريرة، فردّ عليه: المستشار مؤتمن. هذا كلُّ ما في عيبة المؤرخين الامناء على تسجيل الحقائق كما وقعت! ومن المؤسف عدم تحفظهم عن الطعن بكرامة المسلمين! والتأمل في هذه الاُسطورة لا يعدوه الاذعان، بأن الغاية منها: هو النيل من ابني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الإمامين على الاُمّة «إن قاما وإن قعدا»؛لعل مَن يبصر الأشياء على علاتها من دون تمحيص - وقد وجد من انطلت عليه هذه الاكذوبة، فرمى أب محمّد الحسن عليه‌السلام بما تسيخ منه الجبال، بالاعتذار عن كثرة الزوجات للحسن عليه‌السلام - يقنع أن الطلاق بالثلاث شائع، وأنهم لم يجدوا محللاً صادقاً بأن يتزوج المرأة على الدوام ثم يطلقها إلا الحسن عليه‌السلام ! وما أدري بما يعتذر يوم يقول له (أبو محمّد) عليه‌السلام : على أي استناد وثيق هتكتني، ولم تتبصر؟.

(١) خطط المقريزي ٣ / ٢٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٧.

٤١

قصداً منه تعمية الأمر، وتبعيد السُّبة عنه بالقاء الجريمة على العامل، لكن الثابت لا يزول. وهذا هو السر في انشائه الكتاب الصغير، الذي وصفه المؤرخون بأنه (اذن فارة)، أرفقه مع كتابه الكبير إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة؛ بأخذ البيعة من أهلها عامة. وفي هذا الكتاب الصغير، إلزام الحسين بها(١) ، وإن أبى فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه؟!.

وليس الغرض من هذا، إلا أن يزيد لما كان عالماً بأن بيعته لم يتفق عليها صلحاء الوقت، وأشراف الاُمّة، وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية إنما هو بالوعيد والتهديد!

أراد ان يخلي رسمياته عن الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطّؤوه؛ تذرع بنسبة القتل إلى العامل. فان كتابه الذي يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة عامة، خالٍ من هذه الجرأة؛ فيكون له المجال في إلقاء التبعة بذلك على عاتق العامل كما انه في الوقت نفسه تذرع بهذا العذر، وانطلى على بعض المؤرخين! وهل ينفعه هذا؟ لا.

لبسوا بما صنعوا ثياب خزايةٍ

سوداً تولّى صبغهنَّ العارُ

الأنبياء مع الحسين

لقد كان حديث مقتل الحسينعليه‌السلام من أسرار الخليقة وودائع النبوات، فكان هذا النبأ العظيم مألكةَ(٢) أفواه النبيين، دائرة بين أشداق الوصيين وحملة الأسرار؛ ليعرفهم المولى سبحانه وتعالى عظمة هذا الناهض الكريم، ومنّته على الجميع بحفظ الشريعة الخاتمة التي جاؤوا لتمهيد أمرها، وتوطيد الطريق إليها، وتمرين النفوس لها. فيثيبهم بحزنهم واستيائهم؛ لتلك الفاجعة المؤلمة! فبكاه آدم والخليل وموسى، ولعن عيسى قاتله، وأمر بني اسرائيل بلعنه، وقال:«مَن أدرك أيامه، فليقاتل معه، فإنه كالشهيد مع الأنبياء، مقبلاً غير مدبر. وكأني أنظر إلى بقعته، وما من نبيٍّ إلا

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٨٨.

(٢) في مقاييس اللغة لابن فارس ١ / ١٣٣ قال الخليل: الألوك الرسالة، وهي المألكة على مفعلة. وإنما سميت الرسالة ألوكا؛ لانها تؤلك في الفم، مشتق من قول العرب للفرس: تألك اللجام، وتعلكه اذا مضغت الحديد. ويجوز تذكير المألكة.

٤٢

وزارها، وقال: إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يُدفن القمر الزاهر» (١) .

وشاء إسماعيل - صادق الوعد - الأسوة به؛ لمّا انُبأَ بشهادته، فيكون الآخذ بثأره الإمامُ المنتظر عجل الله فرجه(٢) .

واختار يحيى أن يُطاف برأسه

وله التّأسّي بالحسين يكون

وحديث مقتل الحسينعليه‌السلام أبكى الرسول الأقدس وأشجاه(٣) وهو حيٌّ، فكيف به لو رآه صريعاً بكربلاء في عصابة من آله كأنهم مصابيح الدّجى، وقد حلّؤوه ومَن معه عن الورد المباح لعامة الحيوانات؟!.

نعم، شهد نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله فلذة كبده بتلك الحالة التي تنفطر لها السموات، ورأى ذلك الجمع المغمور بالاضاليل، متألباً على استئصال آله من جديد الأرض، فشاهده بعض مَن حضر ينظر الجمع مرة والسماء اُخرى، مسلّماً للقضاء(٤) .

ولما مرَّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء في مسيره إلى صفين، نزل فيها واومأ بيده إلى موضع منها، فقال:«ههنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم»، ثم أشار إلى موضع آخر وقال:«ههنا مهراق دمائهم. ثقلٌ لآل محمّد ينزل ههنا» ، ثم قال:«واهاً لك يا تربة! ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب» (٥) وأرسل عبرته، وبكى مَن معه؛ لبكائه. وأعلم الخواص من صحبه، بأن ولده الحسينعليه‌السلام يقتل ههنا في عصابة من أهل بيته وصحبه، هم سادة الشهداء، لا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق(٦) .

وفي حديثه الآخر، بعد الإخبار بأن في موضع كربلاء تقتل فتية من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال:«تبكي عليهم السماء والأرض (٧) .بأبي مَن لا ناصر له إلا الله» (٨) . ثم قال:«لا يزال

____________________________

(١) كامل الزيارات لابن قولويه، المتوفى سنة (٣٦٧) ص ٦٧

(٢) كامل الزيارات ص ٦٥.

(٣) خصائص السيوطي ٢/١٢٥ من حديث ام الفضل وانس. ورواه الماوردي في أعلام النبوة ص٨٣ من حديث عائشة أنها قالت: وكان في المجلس علي وأبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبوذر. ورواه ابن حجر في مجمع الزوائد ٩/١٨٨ عن عائشة. ورواه زكريا الانصاري في فتح الباقي شرح ألفية العراقي، المطبوع في ذيل الألفية ١/٢٥.

(٤) كامل الزيارات.

(٥) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٥٧ - ١٥٩.

(٦) كامل الزيارات ص ٢٧.

(٧) دلائل النبوة ٣ / ٢١١.

(٨) اُسد الغابة٤ / ١٦٩.

٤٣

بنو اُميّة يمعنون في سجل ضلالتهم حتّى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام، ولكأني أنظر إلى غرنوقاً من قريش يتشحط في دمه، فإذا فعلوا ذلك، لم يبق لهم في الأرض عاذر، ولم يبقَ ملك لهم» (١) .

ومرّ سلمان الفارسي بكربلاء حين مجيئه إلى المدائن، فقال: هذه مصارع إخواني، وهذا موضع مناخهم، ومهراق دمائهم. يقتل بها ابن خير الأولين والآخرين(٢) . ومرّ عيسى بن مريمعليه‌السلام بأرض كربلاء، فرأى ظباءً ترعى هناك، فكلمته بأنها ترعى هنا؛ شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، فرخ الرسول أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّها آمنة في هذه الأرض. ثم أخذ المسيحعليه‌السلام من أبعارها وشمّه، وقال:«اللهم، أبقه حتّى يشمّها أبوه، فتكون له عزاءً وسلوة ». فبقيت الأبعار إلى مجيء أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء، وقد اصفرّت؛ لطول المدّة. فأخذها وشمّها وبكى، ثم دفعها إلى ابن عبّاس، وقال:«إحتفظ بها، فاذا رأيتها تفور دماً، فاعلم إن الحسين قد قُتل» . وفي يوم عاشوراء بعد الظهر رآها تفور دماً(٣) .

الإقدام على القتل

تمهيد:

من الضروري احتياج المجتمع البشري إلى مُصلح يسد خلته، ويسدد زلته، ويكمل اعوازه، ويقوّم إوده لتوفر دواعي الفساد فيه. فلو لم يكن في الاُمّة مَن يكبح جماح النفوس الشريرة؛ للعبت الأهواء بهم، وفرقتهم أيدي سباً، وبات حميم لا يأمن حميه، وأصبحت أفراد البشر ضحايا المطامع. وهذا المصلح يختاره المولى سبحانه من بين عباده؛ لأنه العارف بطهارة النفوس ونزاهتها عمّا لا يرضى به رب العالمين. ويكون الواجب، عصمته ممّا في العباد من الرذائل والسجايا الذميمة حتّى لا يشاركهم فيها، فيزداد الطين بلّة، ويفوته التعريف والإرشاد إلى مناهج الاصلاح ومساقط الهلكة وقد برّأ الله تعالى ذات النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله من نور قُدسه، وحباه بأكمل الصفات الحميدة حتّى بذّ العالمَ، وفاق مَن في الوجود، فكان محلاً

____________________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٦٣ ط ١ مصر.

(٢) رجال الكشي / ١٣ ط الهند.

(٣) إكمال الدين للصدوق / ٢٩٥.

٤٤

للتجليات الإلهية، وممنوحاً بالوحي العزيز. وإنّ اليراع ليقف متردداً عن تحديد تلك الشخصية الفذة، التي أنبأ عنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله لأمير المؤمنينعليه‌السلام :«لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا» (١) .

وحيث إن عمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غير باق إلى الأبد؛ لأنه لم يخرج عمّا عليه الناس في مدة الاجل. وجملة من تعاليمه لا تخلو من أن تكون كليات لم تأت أزمنة تطبيقها على الخارج، كان الواجب في شريعة الحقِّ الداعية إلى إصلاح الاُمّة: إقامة خليفة مقامه، يحذو حذوه في نفسياته واخلاصه وعصمته؛ لأن السرائر الكامنة بين الجوانح لا يعلمها إلا خالقها. ولو اوكل معرفتها إلى الاُمّة لتعذر عليها التمييز؛ لعدم الاهتداء إلى تلك المزايا الخاصة في الإمام! فتحصل الفوضى، وينتشر الفساد، ويعود النزاع والتخاصم. وهو خلاف اللطف الواجب على المولى سبحانه( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٢) ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا ) (٣) .

فالخلافة منصب إلهي يقيّض الله تعالى رجلاً ينوؤ بأثقال النبوة، فيبلّغ الدعوة لمن تبلغه، ويدعو إلى تفاصيل الشريعة التي جاء بها المنقذ الأكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيرشد الجاهل، وينبّه الغافل، ويؤدب المتعدي، ويبين ما أجمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لضرب من المصلحة أو أهمله لعدم السعة في زمانه بعد انقضاء أمد الرسالة.

في شخصية أمير المؤمنين ثم ابنه الحسن، وبعده أخوه سيد الشهداء الحسين، فابنه زين العابدين علي، ثم ابنه الباقر محمّد، فابنه الصادق جعفر، فابنه الكاظم موسى، فابنه الرضا علي، فابنه الجواد محمّد، فابنه الهادي علي، فابنه الحسن العسكري، ثم ابنه المنتظر أبو القاسم محمّد عجل الله فرجه.

كما أفاد المتواتر من الاحاديث: بأنّ الله عز شأنه اودع في الإمام المنصوب - حجّة العباد، ومنار يهتدي به الضالون -  قوةً قدسية نورية، يتمكن بوساطتها من

____________________

(١) المحتضر / ١٦٥ لمؤلّفه الحسن بن سليمان الحلّي، أحد تلامذة الشهيد الأول، والذي كان حيّاً سنة ٨٠٢ هـ، ومختصر البصائر / ١٢٥ للمؤلّف نفسه.

(٢) سورة القصص / آية ٦٨.

(٣) سورة الأحزاب / آية ٣٦.

٤٥

استعلام الكائنات، وما يقع في الوجود من حوادث وملاحم. فيقول الحديث الصحيح:«اذا ولد المولود منّا، رُفع له عمود نور يرى به أعمال العباد، وما يحدث في البلدان» (١) .

والتعبير بذلك، إشارة إلى القوة القدسية المفاضة من ساحة (الحقِّ) سبحانه؛ ليكتشف بها جميع الحقائق على ما هي عليه؛ من قول او عمل او غيرهما من اجزاء الكيان الملكي والملكوتي. وبتلك القوة القدسية يرتفع سدول الجهل واستتار الغفلة، فلا تدع لهم شيئاً إلا وهو حاضر بذاته عند ذواتهم القدسية، كما أن النور يجلو ما اسدلته غياهب الظلمة، فيجد المبصر ما حجبه الحلك الدامس نصب عينيه، وقد انبأ أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام عمّا حباهم به المولى جلَّ شأنه من الوقوف على أمر الاولين والآخرين، وما في السماوات والارضين، وما كان ويكون حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديهم(٢) .

ثم يسجل التدليل عليه بقوله:«كلمّا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنا مثله، إلا النبوّة والأزواج» (٣) .

ولا غلوّ في ذلك بعد قابلية تلك الذوات المطهرة بنصّ الذكر الحميد:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٤) ، لتحمل الفيض الأقدس وعدم الشحِّ في (المبدأ الأعلى) تعالت آلاؤه.

والمغالاة في شخص عبارة عن إثبات صفة له، إمّا أن يحملها العقل، أو لعدم القابلية لها، والعقل لا يمنع الكرم الالهي. كيف والجليل عزَّ لطفه يدرُّ النعم على المتمادين في الطغيان، المتمردين على قدس جلاله حتّى كأن المنّة لهم عليه! فلم يمنعه ذلك من الرحمة بهم والإحسان إليهم والتفضل عليهم، لا تنفذ خزائنه ولا يفوته من طلبه، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

وإذا كان حال المهيمن سبحانه كما وصفناه مع اولئك

____________________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ٩ / ١٢٨، ملحق بنفس الرحمن للنوريقدس‌سره .

(٢) مختصر البصائر ص ١٠١.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٠.

(٤) سورة الأحزاب آية ٣٣.

(٥) من الغلو ما قاله أحمد بن يحيى البلاذري في المستعين:

ولو أن برد المصطفى إذ لبسته

يظن لظن البرد أنك صاحبـه

وقال وقـد اعطيته ولبسـته

نعم هذه اعـطافـه ومناكبـه

الآثار النبوية لاحمد تيمور باشا / ١٣.

٤٦

الطغاة، فكيف به عزَّ وجل مع مَن اشتقّهم من الحقيقة الأحمدية التي هي من (الشعاع الأقدس) جلَّ شأنه، فالتقى مبدأ فيّاض، وذوات قابلة للافاضة؟ فلا بدع في كل ما ورد في حقّهمعليه‌السلام من علم الغيب، والوقوف على أعمال العباد، وما يحدث في البلدان ممّا كان ويكون.

فالغيب المدّعى فيهمعليهم‌السلام ، غير المختص بالباري تعالى؛ ليستحيل في حقّهمعليهم‌السلام ، فإنه فيه - تعالى شأنه - ذاتي، وأمّا في الأئمةعليه‌السلام ، فمجعول من الله سبحانه وتعالى. فبوساطة فيضه ولطفه، كانوا يتمكنون من استعلام خواص الطبائع والحوادث.

فاذاً الغيب على قسمين: منه ما هو عين واجب الوجود؛ بحيث لم يكن صادراً عن علّة غير ذات فاطر السماوات والأرضين، ومنه ما كان صادراً عن علّة، ومتوقفاً على وجود الفيض الالهي، وهو ما كان موجوداً في الأنبياء والاوصياءعليهم‌السلام . وإلى هذا الذي قررناه تنبّه العلامة الآلوسي المفسّر، فإنّه عند قوله تعالى:( قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ) (١) قال: لعلّ الحقَّ أن يقال: إنّ علم الغيب للنفي عن غيره جلَّ وعلا هو ما كان للشخص بذاته، أي بلا وساطة في ثبوته له. وما وقع للخواصّ ليس من هذا العلم المنفي في شيء، وإنّما هو من الواجب عزّ وجلّ، إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه، فلا يقال: إنّهم علموا الغيب بذلك المعنى، فإنه كفر. بل يقال: إنّهم اظهروا واطّلعوا على الغيب(١) .

ويشهد له ما جاء عن أبي جعفر الجوادعليه‌السلام ، فإنّه لمّا أخبر اُمَّ الفضل بنت المأمون بما فاجأها ممّا يعتري النساء عند العادة، قالت له: لا يعلم الغيب إلا الله، قالعليه‌السلام :«وأنا أعلمه من علم الله تعالى» (٢) .

فالائمةعليهم‌السلام محتاجون في جميع الأوقات إلى الفضل الإلهي؛ بحيث لولا دوام الاتصال وتتابع الفيوضات، لنفد ما عندهم على حدِّ تعبير الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، فإنّه قال:«لولا أنّا نزداد في كلّ ليلة جمعة، لنفد ما عندنا» (٣) . ومراده: التعريف

____________________________

(١) سورة النمل / ٦٥.

(٢) روح المعاني ٢٠ / ١١.

(٣) بحار الانوار ١٢ / ٢٩.

(٤) اصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٥.

٤٧

بأنّ علمهم مجعول من الباري تعالى، وأنهم في حاجة إلى استمرار ذلك الفيض الأقدس، وتتابع الرحمات السبحانية.

والتخصيص بليلة الجمعة، هو من جهة بركتها بنزول الألطاف الربانية فيها من أول الليل إلى آخره، على العكس من سائر الليالي. وإلى هذا يرجع قول الامام الرضاعليه‌السلام :«يبسط لنا العلم فنعلم، ويقبض عنا فلا نعلم» (١) .

وهل يشك مَن يقرأ في سورة الجن:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢) إن من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى, هو خاتم الأنبياء، الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنه لم يفضّله أحد من الخلق. وكان الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام يقول:«كان والله محمّد ممن ارتضاه» (٣) ، ولم يبعد الله الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمدي، ويشهد له جواب الرضاعليه‌السلام لعمرو بن هداب، فإنه لمّا نفى عن الأئمةعليهم‌السلام علم الغيب محتجاً بهذه الآية، قال له:«إنّ رسول الله هو المرتضى عند الله، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه، فعلمنا ما كان ويكون إلى يوم القيامة» (٤) . وكيف لا يكون حبيب الله هو ذلك الرسول المرتضى، وقد شرّفه الباري سبحانه وتعالى بمخاطبته إياه بلا وسيط ملك؟!.

روي عن زرارة بن أعين، أنه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الغشية التي كانت تأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أهي عند الوحي؟. قالعليه‌السلام :«لا، فإنها تعتريه عند مخاطبته الله عزَّ وجل إياه بلا وساطة أحد، وأمّا جبرئيل، فإنه لم يدخل عليه إلا مستأذناً، فاذا دخل، جلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جِلسة العبد» (٥) . واذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على حال لا ينبغي أن يؤذن له، أقام في مكانه إلى أن يخرج الإذن، والمكان الذي يقف فيه حيال الميزاب(٦) .

وقد اذعن بالوحي بلا وساطة

____________________________

(١) مختصر البصائر ص ٦٣.

(٢) سورة الجن الآية ٢٦- ٢٧.

(٣) بحار الانوار١٥ / ٧٤، وتحدث عن هذه الآية ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٨٤ (كتاب التوحيد).

(٤) بحار الانوار١٢ / ٢٢ باب وروده البصرة، وكذلك في ١٥ / ٧٤.

(٥) التوحيد للصدوق ص ١٠٢ باب نفي الرؤية، وعلل الشرائع ص ١٤ باب ٧، وعلم اليقين للفيض الكاشاني ص ٨٦.

(٦) بحار الانوار١١ / ٢١٦ باب احوال أصحاب الصادقعليه‌السلام .

٤٨

ملك: برهان الدين الحلبي(١) ، والسهيلي(٢) ، وابن سيد الناس(٣) ، والسيوطي(٤) ، والزرقاني(٥) .

وعلى طبق هذه الأحاديث المعربة عن مقام الرسول الاعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المولى تعالت آلاؤه؛ سجل الشيخ الصدوق اعتقاده في الوحي والغشية(٦) ، كما لم يتباعد عنه الشيخ المفيد فيقول: الوحي، منه ما يسمعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غير وساطة، ومنه ما يسمعه بوساطة الملائكة(٧) . واقتص أثره الحجة الشيخ محمّد تقي الاصفهاني، المعروف بـ (آقا نجفي)، مع زيادة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن، وبما حواه من المعارف والفنون، وما اشتمل عليه من أسرار الطبائع وخواص الأشياء قبل أن يوحى به إليه، غاية الأمر عرّفه المولى جلَّ شأنه ألا يفيض هذا العلم قبل أن يوحي به إليه، فقال سبحانه: ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) (٨) ، ولولا وقوف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما حواه الكتاب المجيد من الأسرار والمعارف، لما كان للنهي عن بيان ما فيه معنى. فظهر أن علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحوادث الكائنة والتي كانت وتكون، لم يتوقف على نزول جبرئيل عليه؛ لأن المنحة الالهية المباركة أوقفته على جمع الحقائق قبل خلق جبرئيل.

ومن هنا تتجلى ظاهرة اُخرى لم يدركها من لم يفقه ما تحلّت به هذه الشخصيات من مراتب الجلال والجمال؛ وهي معرفة الرسول الاعظم بالقراءة والكتابة على اختلاف انحاء اللغات، وتباين الخطوط قبل البعثة وبعدها؛ لبلوغه اسمى درجات الكمال، فلا تفوته هذه الصفة، مع أن اللازم من عدم معرفته بها؛ رجوعه إلى غيره فيما يحتاج اليه من كتابة وقراءة، فيكون مفضولاً بالنسبة اليه، مع أنه الفاضل في المحامد كلها. وبهذا الذي قلناه اذعن المحققون من الاعلام(٩) وآية

____________________________

(١) السيرة الحلبية ١ / ٢٩٤ باب بدء الوحي.

(٢) الروض الاُنف ١ / ١٥٤.

(٣) عيون الاثر ١ / ٩٠.

(٤) الخصائص الكبرى ٢ / ١٩٣.

(٥) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ١ / ٢٢١ ط ١.

(٦) الاعتقادات للصدوق (ملحق بالباب الحادي عشر للعلامة).

(٧) شرح الاعتقادات / ٢١١ ملحق بمقالات المفيد ط طهران.

(٨) سورة طه / ١١٤، العنايات الرضوية / ٥١.

(٩) نص عليه الشيخ المفيد في المقالات / ١٢٣، والشيخ الطوسي في التبيان ٢ / ٤٢٣، والمبسوط، وهو =

٤٩

( لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) (١) لا تنفي معرفته بالكتابة على اطوارها، فإنها غاية ما تثبته عدم كتابتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ربط لها بعدم المعرفة للكتابة، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله عارف بالكتابة ولكنه لم يكتب، والعلة في نفي كتابته؛ ارتياب المبطلين كما صرح به القرآن.

والمتحصل مما قررناه: إنّ الله عزَّ وجل منح الائمة من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما حبا به جدَّهم الاقدس، من المآثر والفضائل عدا النبوة والازواج؛ لأنه صلوات الله عليه وعلى آله خاتم الأنبياء، وقد اختص في التزويج دائماً بأكثر من أربعة.

ومن لم يعرف المراد من علم الغيب المدّعى لهؤلاء الأفذاذ، استعظمه فأنكره. وحَكم من لا يفقه الشرع والشريعة بكفر معتقِده!.

حدّث الشيخ زاده الحنفي: أن قاسم الصفار أفتى بكفر من تزوج على شهادة الله تعالى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مدّعياً بأنه يقتضي اعتقاده في علم النبي بالغيب! ولكن صاحب التتارخانية نفى الكفر عنه؛ لأنَّ بعض الاشياء تعرض على روح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرة فيعرف بعض الغيب، وقد قال الله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٢) ، وكلاهما لم يفقها معنى الغيب المراد اثباته، ولا ادركا كنه خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالا بما شاء لهما إداركهما.

وبعد أن أوضحنا المراد منه، لم يبقَ للقارئ النابه مجال التردد والتشكيك. نعم، لا يُنكر أن للباري سبحانه علماً استأثر به خاصة، ولم يطلع عليه أحداً ومنه العلم بالساعة.

____________________________

= ظاهر كلام الشهيد الأول في غاية المراد، والعلامة في التحرير والقواعد، والسيد المجاهد في المناهل، وصرّح به ابن شهر اشوب في المناقب ١ / ١٦١، والمجلسي في مرآة العقول ١ / ١٤٧، والسيد في الرياض، والفاضل الهندي في كشف اللثام، والمقداد في التنقيح، والحاج ملا علي الكَّني في القضاء، وعبارة السرائر مشعرة بدعوى الاجماع عليه وقد تعرضوا لذلك في مسألة كتابة القاضي من كتاب القضاء.

وبه صرح الشهاب الخفاجي في شرح الشفا ٢ / ٣٩٨ في فصل اسمائه من الباب الثالث، وفي ص٥١٤ فصل إعجازه، وفي روح المعاني للالوسي ٢١ / ٤ عند قوله: (ولا تخطه بيمينك)، ذكر جماعة قالوا بمعرفته الكتابة ثم نقل عن صحيح البخاري: انهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب عهد الصلح. وحمل الاستاذ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان / ٢٦٠ الاخبار النافية على أوليّات امره، والمثبتة للكتابة على اُخريات امره، وفي تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ٢٤٩ كتب أبو الوليد الباجي رسالة في كتابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانتصر له أحمد بن محمّد اللخمي وسجعفر بن عبد الجبار مع جماعة آخرين.

(١) سورة العنكبوت / ٨٤.

(٢) سورة الجن / ٢٦ و ٢٧، مجمع الانهر ١ / ٣٢٠ في الفقه الحنفي.

٥٠

وأمّا ما ورد عنهمعليهم‌السلام من نفي علمهم بالغيب، كقول أبي عبد اللهعليه‌السلام :«يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله. لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني، ماعلمت في أي بيوت الدار» (١) ، فمحمول على التقية؛ لحضور المجلس داود الرّقي ويحيى البزّاز وأبي بصير، ولم تكن لهم قابلية تحمل غامض علم أهل البيتعليهم‌السلام ، فأراد أبو عبد الله بنفي علم الغيب عنهم؛ تثبيتاً لعقيدة هؤلاء. ويؤيده أن سديراً الراوي لهذا الحديث، دخل عليه في وقت آخر، وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفي علم الغيب، فطمأنه بأنه يعلم ما هو ارقى من ذلك، وهو العلم بالكتاب كلِّه وما حواه من فنون المعارف وأسرارها، على أن هذا الحديث لم يعبأ به المجلسي في مرآة العقول لجهالة رواته. ويحتمل أن يريد بنفي العلم بمكان الجارية، الرؤية البصرية لا الانكشاف الواقعي. فقولهعليه‌السلام :«ما علمت» ، أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت، وإلا فمن يقول في صفة علمه:«لم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني» لا يخفى عليه أمر الجارية!.

ولما طرق (مبشر) الباب على الباقرعليه‌السلام وخرجت الجارية تفتحه، قبض على كفها، فصاح به أبو جعفرعليه‌السلام من داخل الدار:«ادخل، لا أبا لك» ، فدخل مبشر معتذراً بأنه لم يرد السوء، وإنما أراد الازدياد، فقال له الامامعليه‌السلام :«لو كانت الجدران تحجبنا كما تحجبكم، لكنّا وانتم سواء» (٢) . وقال الامامعليه‌السلام لمحمد بن مسلم:«لو لم نعلم ما انتم فيه وعليه، ما كان لنا على الناس فضل» ، ثم استدل عليه بما وقع في الرَّبَذة بينه وبين زميله في أمر الإمامة(٣) .

وأمّا الحكاية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ ) (٤) ، فلا تفيد إلا كونه مفتقراً إلى الله تعالى في التعليم، وأنه لم يكن عالماً بالغيب من تلقاء نفسه. وهذا لا ريب فيه، فإنّ المعتقَد: إنّ الله تعالى هو المتلطّف على النبيّ وأبنائهعليهم‌السلام بالملكة القدسيّة، التي تمكّنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون(٥) .

____________________________

(١) بصائر الدرجات ص ٥٧، ٦٢، واصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ / ١٨٦.

(٢) مناقب آل ابي طالب ٢ / ٢٧٤، وبحار الانوار ١١ /٧٠ عن أبي الصباح الكناني.

(٣) بحار الانوار ١١ / ٧٢ عن الخرائج.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٨٨.

(٥) في شرح الشفا للخفاجي ٢ /١٥٠: إنّ المنفي في الآيات هو اطّلاعه على الغيب من غير وساطة، وأمّا علمه بالغيب بإعلام الله تعالى له، فثابت ومتحقق؛ لقوله تعالى: ( فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) .

٥١

وسؤال الامام الصادقعليه‌السلام عن وجود العين عليهم يوم كان في الحجر ومعه أصحابه، فعرّفوه بعدم العين، فقال:«ورب هذه البنية - ثلاثاً - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولانبأتهما بما ليس في ايديهما. أنهما اُعطيا علم ما كان ويكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) . فبعد التسليم بصحة الحديث، وعدم ضعف إبراهيم بن إسحاق الأحمر، نقول: بعدم منافاته لعلمه الواسع؛ لما ورد عنهم أنهم غير مكلفين باظهار ما يعلمونه، بل لابد من العمل بما توجبه التقية ظاهراً. أو لأنه كان يراعي حال بعض أصحابه في ظنّه بوجود العين عليهم، وهذا نظير قوله الآخر:«إني أعلم ما في السموات والأرضين، وأعلم ما في الجنة والنار، وأعلم ما كان ويكون» ، فلمّا رأى عظم ذلك وخاف على من عنده، قالعليه‌السلام :«إني علمت ذلك من كتاب الله، إنّ الله تعالى يقول: (فيه تبيان كل شيء») (٢) ، فالإمامعليه‌السلام راعى حال أصحابه، فاستدل لهم بما يقنعهم.

وهكذا الأئمةعليهم‌السلام فيما يعلمونه من المصالح الوقتية، والأحوال الشخصيّة. وقولهعليه‌السلام في حقِّ موسى والخضرعليهما‌السلام :«أنهما أُعطيا علم ما كان» لا ينافي علم الخضر بمستقبل أمر الغلام، فإنه من القضايا التي أطلعه الله عليها لمصلحة وقتية. وأمّا ما ورد عنهمعليهم‌السلام :«إنّ الإمام أذا أراد أن يعلم شيئاً، أعلمه الله» (٣) ، فليس فيه دلالة على تحديد علمهم في وقت خاص؛ بل الحديث يدل على أن إعمال تلك القوة القدسية، الثابتة لديهم عند الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في إبراز الحقائق المستورة، وإظهار ما عندهم من مكنون العلم. على أن هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة ردّها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعضها، وجهالة الآخرين.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه: إنَّ الله تعالى أفاض على خلفائه الأطهار ملكة نوريّة، تمكّنوا بوساطتها من استعلام ما يقع من الحوادث، وما في الكائنات من

____________________________

(١) اُصول الكافي (في هامش مرآة العقول) ١ / ١٨٩.

(٢) المصدر نفسه ١ / ١٩٠.

(٣) المصدر نفسه ١ / ١٨٧.

٥٢

خواص الطبائع، وأسرار الموجودات، وما يحدث في الكون من خير وشر. ولا غلوّ فيه بعد قابلية ذواتهم لهذا الفيض الأقدس، وعدم الشّح في عطاء الربِّ سبحانه؛ فإنه يهب ما يشاء لمن يشاء. وصارح الأئمةعليهم‌السلام بهذه الحبوة الإلهية، وأنهم في جميع الآنات محتاجون إلى تتابع الآلاء منه جلَّ شأنه، ولولاها لنفد ما عندهم من مواد العلم. وهذا غير بعيد فيمن تجرد لطاعة الله تعالى، وعُجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء والصديقين، فضلاً عمّن قيّضهم الباري تعالى اُمناء شرعه. وقد صادق على ذلك المحققون من الأعلام، كما حكاه الشيخ المفيد في المقالات ص ٧٧، والمجلسي في مرآة العقول ج ١ ص ١٨٧، ومشى على ضوئهم المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ج ٢ ص٦٠.

وقال ابن حجر الهيثمي: لا منافاة بين قوله تعالى: ( قُل لا يَعلمُ مَن فِي السَّمواتِ وَالارضِ الغَيبَ إِلا اللَّهُ ) (١) ، وقوله:( عالِمُ الغَيبِ فلا يُظهِرُ على غَيبِهِ أَحدا ) (٢) ، وبين علم الأنبياء والاولياء بجزئيات من الغيب، فإنّ علمهم: إنما هو بإعلام من الله تعالى، وهذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الأزلية، الدائمة الأبدية، المنزّهة عن التغيير، وهذا العلم الذاتي هو الذي تمدّح به، وأخبر في الآيتين بأنه لا يشاركه أحدٌ فيه. وأمّا مَن سواه، فإنما يعلم بجزئيات الغيب، فبإعلامه تعالى وإعلامه للأنبياء والأولياء ببعض الغيوب، ممكن لا يستلزم محالاً بوجه، فإنكار وقوعه عناد. ومن البداهة أنه لا يؤدي إلى مشاركتهم له تعالى فيما تفرد به من العلم الذي تمدّح به، واتصف به من الأزل، وعلى هذا مشى النووي في فتاواه(٣) .

فاتضح بهذا البيان، أن ابن حجر لم يتباعد عن القول بعلم الأولياء بالغيب، وإنما لم يوافق الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهمعليهم‌السلام من قدرتهم على العلم بالحوادث الكائنة، والتي تكون إلى يوم القيامة؛ لاعتقاده أن هذه السعة مختصة بالباري جلَّ شأنه. ولكن الملاك الذي قرره لمعرفة الأولياء ببعض الغيب - وهو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على الغيب - يقيّد ما تعتقده الشيعة، فإن الميزان للوقوف على المغيّبات إذا كان بإقدار الله تعالى، وجعله الملكة النورية في هذه الذوات الخاصة من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن الممكن أن

____________________________

(١) سورة النمل / ٦٥.

(٢) سورة الجن / ٢٦.

(٣) الفتاوى الحديثة / ٢٢٢.

٥٣

تكون تلك القوة بالغة اقصى مداها، فلا يتوقف من اُفيضت عليه عن جميع المغيبات حتّى كأن الأشياء كلَّها حاضرة لديه على حدِّ تعبير الإمام الصادقعليه‌السلام ، اللهم إلا الأشياء التي استأثر بها الله تعالى وحده، فلا وقوف لأحد عليها مهما ترقّى إلى فوق ذروة الكمال.

وعلى هذا الذي قرره ابن حجر سجّل اعتقاده النيسابوري صاحب التفسير فقال: إن امتناع الكرامة من الأولياء، إمّا لأن الله ليس أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريد، وإمّا لأن المؤمن ليس أهلاً لذلك، وكل منهما بعيد. فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده، فاذا لم يبخل الفيّاض بالأشرف، فلأن لا يبخل بالدون أولى(١) . وقال ابن أبي الحديد: إنا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب، وكلّه مستند إلى الباري جلَّ شأنه بإقداره، وتمكينه، وتهيئة أسبابه(٢) . وقال لا منافاة بين قوله تعالى:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ) (٣) ، وبين علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة، وما سيكون من قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فإن الآية غاية ما تدل عليه: هو نفي العلم بما يكون في الغد. وأمّا إذا كان بإعلام الله عز وجل، فلا؛ لأنه يجوز أن يُعلم الله نبيه بما يكون(٤) .

آية التهلكة

ممّا قررناه تجلّى لنا: أنه لم يعزب عن الأئمةعليه‌السلام العلم بالشهادة على يد من تكون، وفي أي وقت تقع، وفي أي شيء؛ إقداراً من الله تعالى لهم بما أودعه فيهم من مواد العلم التي بها استكشفوا الحوادث، مضافاً إلى ما يقرؤونه في الصحيفة النازلة من السماء على جدّهم المنقذ الاكبرصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسيّة، وإلقاؤها في التهلكة الممنوع منها بنص الذكر المجيد، فإنّ الإبقاء على النفس، والحذر عن إيرادها مورد الهلكة، إنّما يجب إذا كان مقدوراً لصاحبها، أو لم يقابل بمصلحة أهم

____________________________

(١) النور السافر في أعيان القرن العاشر / ٨٥ لعبد القادر العيدروسي.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٤٢٧ ط ١ مصر.

(٣) سورة لقمان / ٣٤.

(٤) المصدر نفسه ٢ / ٣٦٢.

٥٤

من حفظها، وأمّا إذا وجدت هنالك مصلحة تكافئ تعريض النفس للهلاك -  كما في الجهاد، والدفاع عن النفس مع العلم بتسرب القتل إلى شرذمة من المجاهدين، وقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدماً، موطّنين أنفسهم على القتل، وكم فيهم سعداء، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته، ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة. وقد تعبّد الله طائفة من بني اسرائيل بقتل أنفسهم، فقال جلّ شأنه:( فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (١) . على أن الاقتصار على ما يقتضيه السياق يخرج الآية عمّا نحن فيه من ورودها للتحذير عمّا فيه الهلكة، فإنها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحُرم على المسلمين. قال الله تعالى ( الشَّهرُ الحرامُ بالشَّهرِ الحَرامِ وَالحُرُمَاتُ قِصاصٌ فمَنِ اعتدَى عَليكُمْ فاعتدوا عَليه بمثلِ ما اعتدَى عَليكُمْ وَاتَّقوا اللّه واعلموا أَنَّ اللّهَ مَع المُتَّقِينَ وأَنفقُوا في سبيلِ اللّه ولا تُلقُوا بأَيديكُمْ إلى التَّهلُكَة وأَحسِنُوَا إِنَّ اللّهَ يُحبُّ المُحسنين ) (٢) . فيكون النهي عن الإلقاء في التهلكة خاصاً بما إذا اعتدى المشركون على المسلمين في الأشهر الحرم، ولم تكن للمسلمين قوة على مقاتلتهم. والألتزام بعموم النهي لكل ما فيه هلكة، لا يجعل حرمة إيراد النفس مورد الهلكة من المستقلات العقلية التي لا تقبل التخصيص، بل هي من الأحكام المختصة بما إذا لم توجد مصلحة أقوى من مفسدة الإقدام على التلف، ومع وجود المصلحة اللازمة لا يتأتّى الحكم بالحرمة أصلاً، كما في الدفاع عن بيضة الإسلام.

وقد أثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين في إقدامهم على القتل، والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية، فقال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشترَى منَ المُؤمنينَ أَنفُسَهُمْ وأَموالهُمْ بأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سبيلِ اللّهِ فَيَقتُلُونَ ويُقتَلُون ) (٣) ، وقال تعالى:( ولا تَحسَبنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمواتاً بَلْ أَحياء عندَ ربِّهمْ يُرزقُون ) (٤) ، وقال

____________________________

(١) البقرة الآية ٥٤، ذكر المفسرون: إن عَبَدة العجل من بني إسرائيل لمّا ندموا على ما فرّطوا في جنب الله تعالى؛ أعلمهم موسىعليه‌السلام بما أوحى إليه من توقف قبول توبتهم على الإغتسال، ولبس الأكفان، والقيام صَفّين، ثم يهجم عليهم هارون ومعه مَن لم يعبد العجل، ويضعون السيوف فيهم. ولمّا نظر الرجل إلى ولده وأخيه وأبيه وحميمه، لم تطاوعه نفسه على القتل، وكلّموا موسىعليه‌السلام في ذلك، فناجى ربه سبحانه وتعالى في ذلك، فعرفه المولى بأنه سيرسل ظلمة لا يبصر الرجل جليسه، وأمر عَبَدة العجل بالجلوس في فناء بيوتهم، محتبين لا يتّقون بيد ولا رجل، ولا يرفعون طرفاً، ولا يحلّون حبوة! وعلامة الرضا عنهم، كشف الظلمة، وسقوط السيوف؛ فعندها يغفر الله لمن قُتل، ويقبل توبة مَن بقي. ففعل هارون بهم حتّى قُتِل سبعون ألفاً.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٤ -  ١٩٥.

(٣) سورة التوبة الآية ١١١.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٦٩.

٥٥

تعالى: ( ومِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ ) (١) . وبمثل هذا صارح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تعاليمه الثمينة أُمته، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حقٍّ عند سلطان جائر فقتله» (٢) .

ولم يتباعد عن هذه التعاليم محمّد بن الحسن الشيباني، فينفي البأس عن رجل يحمل على الألف مع النجاة او النكاية، ثم قال: ولا بأس بمن يفقد النجاة أو النكاية إذا كان إقدامه على الألف مما يرهب العدو، ويقلق الجيش، معللاً: بأن هذا الأقدام أفضل من النكاية؛ لأن فيه منفعةً للمسلمين(٣) .

ويقول ابن العربي المالكي: جوّز بعض العلماء أن يحمل الرجل على الجيش العظيم طالباً للشهادة، ولا يكون هذا من الإلقاء بالتهلكة؛ لأن الله تعالى يقول: ( مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللّهِ ) ، خصوصاً إذا أوجب الأقدام، تأكد عزم المسلمين حين يرون واحداً منهم قابل الاُلوف(٤) .

لقد اختص الله سبحانه اُمناء شرعه، والخلفاء على الاُمّة من أبناء نبيه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأحكام ناشئة عن مصالح خاصة بهم، لا تدرك أكثرهم أحلام البشر، وتنحسر عن كنهها العقول. وفي جملتها، الزامهم بالتضحية في سبيل مرضاته عزّ وجل، وبذل كل ما يحوونه من مال وجاه وحرمات، فتراهم في أعماق السجون طوراً، وفي خلل المنفى تارة، وفي ربقة التسفير آونة، وفي مقاساة الخوف والشدائد ردحاً، والاصاخة إلى قوارص الكلم اُويقات حتّى شارفوا مناياهم. والمسوغ لهم في كل ذلك، ما علموه من جدّهم الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المخبر عن وحي السماء من المزايا والمصالح التي تحفظ بها الجامعة الإسلامية، بحيث لولا التوطين على هذا الإقدام لذهب الدين إدراج المنكرات والأضاليل، ولا سبيل إلى معارضتهم فيما اطلعهم الله عليه من السر المكنون، وعرفهم تلك الأهمية الملحوظة لديه عزّ شأنه، على اختلاف فيهم. فمنهم من أمره بالصبر دون الحرب والجهاد، ومنهم من أمره بالقتل، ومنهم

____________________________

(١) سورة البقرة / آية ٢٠٧.

(٢) أحكام القرآن للجصاص ١ / ٣٠٩، آية التهلكة.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) الاحكام لابن العربي ١ / ٤٩، آية التهلكة، ط ١ سنة ١٣٣١ﻫ.

٥٦

من أمره بتناول السمّ، وكان السرُّ في هذا الإختلاف في التكليف ما يراه المولى سبحانه من المصالح، حسب الوقت والزمان.

فلم يكن إقدامهم على القتل، وتناول السمِّ جهلاً منهم بما صنعه سلطان الجور وقدّمه إليهم، بل هم على يقين من ذلك، فلم يَفُتهم العلم بالقاتل، وما يُقتلون به، واليوم والساعة؛ طاعة منهم لامر بارئهم تعالى، وانقياداً للحكم الإلهي الخاص بهم. وليسوا في هذا الحال إلا كحالهم في أمتثال جميع أوامر المولى سبحانه وتعالى، الموجهة إليهم من واجبات ومستحبات، والعقل حاكم بلزوم انقياد العبيد لأوامر المولى، والإنزجار عن نهيه من دون إلزامٍ بمعرفة المصلحة، أو المفسدة الباعثة على الحكم. وأمّا إذا كان المولى حكيماً في أفعاله( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (١) ، فبالأحرى يكون الخضوع له من دون فحص عن أسباب أحكامه.

والى هذا الذي ارتأيناه، نظر المحققون من العلماء الاعلام، وإن خبط الباحثون في قضية إقدام أهل البيتعليه‌السلام على ما فيه من إزهاق نفوسهم المقدسة؛ فأخذوا ذات اليمين والشمال، فلم يأتوا بما فيه نجعة المرتاد، ولا نهلة الصادي؛ لكونها تخيلات لا تتفق مع القواعد والطريقة المثلى.

لقد دلت الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمةعليه‌السلام على أنهم إذا عرفوا من أعدائهم العزم على الفتك بهم، أو اشتد عليهم ألم القيود، ووضح لديهم تأخُر القضاء، عملوا كلَّ وسيلة من دعاء غير مردود، أو شكوى إلى جدِّهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ليدفع عنهم هذه الأضرار والحوادث. فيقول أبو جعفر الباقرعليه‌السلام :«نحن أهل بيت، إذا أكرَبَنَا أمرٌ، وتخوّفنا من شرِّ السلطان، قلنا: يا كائناً قبل كلِّ شيء، ويا ملكوت كلِّ شيء، صل على محمّد وأهل بيته وافعل بي كذا وكذا» (٢) .

ولما احتدم المنصور على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، وعزم على الفتك به، دعا ربه تعالى أن يفرج عنه؛ فانجلت بسببه غمائم الفتك به حتّى إذا وقع نظره على الصادقعليه‌السلام ، قام إليه فرحاً مستبشراً وعانقه. وكان المنصور يحدّث بعد ذلك عن سبب نقض عزمه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تمثّل له باسطاً كفّيه، حاسراً عن ذراعيه، وقد

____________________________

(١) سورة الانبياء / ٢٣.

(٢) مهج الدعوات لابن طاووس / ٣٦٥، طبعة بمبي.

٥٧

عبس وقطب حتّى حال بينه وبين الإمامعليه‌السلام ، مشيراً إليه أن لو أساء إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام أهلكه. فلم ير المنصور بدّاً من العفو والإكبار لجلال الإمامة. ثم سيّره إلى مدينة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبجَّلا(١) .

ولما طال الحبس بموسى بن جعفرعليه‌السلام ، وضاق صدره ممّا كان يلاقيه، توسل إلى الله تعالى في الخلاص منه، وقال في دعائه:«يا مخلّص الشجر من بين رمل وماء، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلِّصني من يد هارون» (٢) ، فنجا ببركة هذا الدعا من ظلمات الحبس وألم القيود.

ولمّا قدَّم إليه الرشيد الرُّطب المسموم، إنتقى غير المسموم فأكله وألقى المسموم إلى كلبة الرشيد فماتت(٣) . ولم يقصد بقتلها إلا إعلام الطاغية بأن ما يدور في خلده من اغتياله، والفتك به في هذا الحين لم يقرب وقته. ولذا لما دنا الأجل، ودعاه الله تعالى إليه أكل الرطب المسموم الذي قدّمه إليه الرشيد مع العلم به، ورفع يديه بالدعاء قائلاً:«يا ربّ، إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم لكنت قد أعنت على نفسي» ، فأكل منه وجرى القضاء(٤) .

وعلى هذا الأساس يأمر الإمام أبو الحسن علي الهاديعليه‌السلام أبا هاشم الجعفري أن يبعث رجلاً إلى (الحائر الحسيني) الأطهر؛ يدعو له بالشفاء مما نزل به من المرض، وعلّله: بأن الله تعالى أحب أن يُدعى في هذا المكان(٥) . فإنَّ غرضه، التعريف بأنه لم يجب في شريعة التكوين إلا جري الاُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية، أو إنه أراد التنبيه على فوائد الابتهال إلى الله حينما تتوارد الكوارث على العبد، وتحيط به المحن. كما يرشد إليه احتفاظ الربيع -  مولى المنصور الدوانيقي - بالكنز المذخور، الذي دعا به الإمام الصادقعليه‌السلام يوم

____________________________

(١) مهج الدعوات / ٢٩٩.

(٢) أمالي الصدوق / ٢٢٧ المجلس الستّون.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ / ٩٤، ط بيروت / ١٩٨٤.

(٤) مرآة العقول ١ / ١٨٨، وروضة الواعظين / ١٨٥.

(٥) كامل الزيارات / ٢٢٣.

٥٨

دخل على المنصور وقد سخط عليه وأراد التنكيل به، فشاهد الربيع احتفاء المنصور بالإمام وتكريمه(١) .

وعلى هذا كان الإمام المجتبى، الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام يستشفي بتربة جدّه تارة، ويعمل بقول الطبيب اُخرى، ويأخذ بقول أهل التجربة ثالثة(٢) ، مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه، وللأجل حدٌّ معلوم. ولكنه أراد إرشاد الناس إلى أن مكافحة العلل تكون بالأسباب العادية، فلا غناء عنها حتّى يساير هذه الاسباب. لكنه لمّا حان الأجل المحتوم، لم يعمل شيئاً؛ تسليماً للقضاء، وذلك عندما قدّمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم، وكان الوقت حاراً، والحسن صائماً(٣) ، فرفع رأسه إلى السماء قائلاً:«إنا لله وإنا إليه راجعون. الحمد لله على لقاء محمّد سيّد المرسلين، وأبي سيّد الوصيين، واُمّي سيّدة نساء العالمين، وعمّي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيّد الشهداء» (٤) ثم شرب اللبن وقال لها:«لقد غرّكِ، وسخر منكِ، فالله يخزيك ويخزيه» (٥) وهي تضطرب كالسعفة.

وقد أعلم الرضاعليه‌السلام أصحابه بأنّ منيّته تكون على يد المأمون، ولابدّ من الصبر حتّى يبلغ الكتاب أجله(٦) . وقال أبو جعفر الجوادعليه‌السلام لاسماعيل بن مهران لمّا رآه قلقاً من إشخاص المأمون له:«إنّه لمْ يكن صاحبي، وسأعود من هذه السفرة» ، ولمّا أشخصه المرّة الثانية، قالعليه‌السلام لاسماعيل بن مهران:«في هذه الدفعة يجري القضاء المحتوم» ، وأمره بالرجوع إلى ابنه الهادي، فإنّه إمام الاُمّة بعده(٧) .

ولمّا دفعت إليه اُمّ الفضل المنديل المسموم، لم يمتنع من استعماله؛ تسليماً للقضاء، وطاعة لأمر المولى سبحانه، نعم قال لها:«إبتلاك الله بعقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر» ، فاصيبت بعلة في أغمض الجوارح من بدنها.

وإخبار أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّ ابن ملجم قاتله، لم يختلف فيه اثنان. ولما أتى

____________________________

(١) مهج الدعوات.

(٢) الكامل للبهائي / ٤٥٣- ٤٥٦ بالفارسيّة، ومؤلّفه هو الحسن بن علي بن محمّد الطبري المازندراني، عالم جليل في الطائفة، من علماء القرن السابع الهجري.

(٣) الخرائج / ٢٢ ط الهند.

(٤) بحار الأنوار ١٠ / ١٣٣ عن عيون المعجزات.

(٥) الارشاد للمفيد والخرائج.

(٦) كتابنا في الإمام الرضا ص٤٥.

(٧) الارشاد، وإعلام الورى / ٢٠٥.

٥٩

ابن ملجم يبايع أمير المؤمنين، وولّى، قالعليه‌السلام :«مَن أراد أن ينظر إلى قاتلي، فلينظر إلى هذا» ، فقيل له: ألا تقتله؟ قال:«وآعجبا! تريدون أن اقتل قاتلي» (١) ، يشير بذلك إلى: أنّ قتله - لمّا كان أمراً مبرماً، وقضاء محتوماً، وأنّ قاتله ابن ملجم -  قضاءٌ لا خلف فيه، فكيف يقدر أن ينقض الإرادة الإلهية، ويحلّ ما اُبرم من التقدير؟!. وإلى هذا يشير الصادقعليه‌السلام بقوله لعقبة الاسدي:«لو أن الأئمة ( عليهم‌السلام ) ألحّوا على الله في هلاك الطواغيت؛ لأجابهم سبحانه وتعالى، وكان عليه أهونَ من سلكٍ فيه خرزٌ إنقطع فذهب، ولكن لا نريد غير ما أراده الله تعالى» (٢) .

الخلاصة

لقد ارتفع بتلك البراهين القويمة، الستر المرخى على الحقيقة، فظهرت بأجلى مظاهرها، وبرزت للباحث النيقد، محفوفة بصدق ويقين، فهو اذاً جدٌّ عليم بأن أئمة الهدى كانوا على علم بمجاري القدر النازل، والقضاء الذي لا يُرد بما انتابهم من الكوارث؛ لإنهم قيد إشارة المولى الجليل عز شأنه، بكل ما يستقبلهم من سرّاء وضرّاء. ولم يبارحهم هذا العلم المفاض عليهم من (مبدأ الوجود) جلّت آلاؤه أولاً، وإعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله به ثانياً، ووقوفهم على (الصحيفة النازلة) على جدّهم ثالثاً. وحيث إن الله تعالى أعدّ لهم منازل، وشرفاً خالداً لا ينالونه إلا بالشهادة، وازهاق تلك النفوس المقدسة؛ لذلك ضحوا بحياتهم الثمينة، بخوعاً لأمر الله تعالى، وجرياً مع المصالح الواقعية التي لا تدركها أحلام البشر، ولا يعرف دقيقها غير علام الغيوب. ولا يلزمنا معرفة وجه الصلاح والفساد في جميع التكاليف الشرعية، وانما الذي يوجبه العقل، طاعة المولى الجليل عز شأنه في أوامره ونواهيه.

وإنّي لأعجب ممّن أصاخ لهتاف الأحاديث الصحيحة مسلماً مذعناً: بأنّ الأئمة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلمون ما كان ويكون، وعندهم علم المنايا والبلايا، كيف خفي عليه ضوء الكثير من الأحاديث المصرّحة، بأن ما صدر منهم من كلام أو سكوت أو قيام أو قعود، إنما هو أمر موجّه إليهم خاصة من الله سبحانه على لسان رسوله الأمين على الوحي الإلهي، ولم يعزب عنهم صغير ولا كبير، ولم يجهلوا

____________________________

(١) بصائر الدرجات للصفار ص ٣٤، ورسالة ابن بدرون ص ١٥٦، شرح قصيدة ابن عبدون.

(٢) أصول الكافي- باب إن الأئمة يعلمون متى يموتون، والخرايج ص ١٤٣ ط الهند.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218