تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79249 / تحميل: 4790
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كما قد وجدنا من ذلك في حجج الله المتقدِّمة من عصر وفاة آدمعليه‌السلام إلى حين زماننا هذا منهم المستخفون ومنهم المستعلنون، بذلك جاءت الاثار ونطق الكتاب.

فمن ذلك ما:

حدثنا به أبيرحمه‌الله قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن - محمّد بن خالد البرقيُّ، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن إسحاق بن جرير، عن عبد الحميد ابن أبى الدِّيلم قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام : يا عبد الحميد إنَّ لله رسلاً مستعلنين ورسلا مستخفين فإذا سألته بحقِّ المستعلنين فسله بحق المستخفين.

وتصديق ذلك من الكتاب قوله تعالى: «ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً »(١) فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدمعليه‌السلام إلى وقت ظهور إبراهيمعليه‌السلام أوصياء مستعلنين ومستخفين، فلمّا كان وقت كون إبراهيمعليه‌السلام ستر الله شخصه وأخفى ولادته، لان الامكان في ظهور الحجّة كان متعذِّراً في زمانه، وكان إبراهيمعليه‌السلام في سلطان نمرود مستترا لامره وكان غير مظهر نفسه، ونمرود يقتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلبه إلى أن دلّهم إبراهيمعليه‌السلام على نفسه، وأظهر لهم أمره بعد أن بلغت الغيبة أمدها ووجب إظهار ما أظهره للذي أراده الله في إثبات حجته وإكمال دينه، فلمّا كان وقت وفاة إبراهيمعليه‌السلام كان له أوصياء حججاً لله عزَّ وجلَّ في أرضه يتوارثون الوصيّة كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت كون موسىعليه‌السلام فكان فرعون يقتل أولاد بنى إسرائيل في طلب موسىعليه‌السلام الّذي قد شاع من ذكره وخبر كونه، فستر الله ولادته، ثمّ قذفت به أمّه في اليمِّ كما أخبر الله عزَّ وجلَّ في كتابه «فالتقطه آل فرعون »(٢) وكان موسىعليه‌السلام في حجر فرعون يربيه وهو لا يعرفه، وفرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه، ثمّ كان من أمره بعد أنَّ أظهر دعوته ودلّهم على نفسه ما قد قصه الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فلمّا كان وقت

__________________

(١) النساء: ١٦٤.

(٢) القصص: ٧.

٢١

وفاة موسىعليه‌السلام كان له أوصياء حججاً لله كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت ظهور عيسىعليه‌السلام .

فظهر عيسىعليه‌السلام في ولادته، معلناً لدلائله، مظهراً لشخصه، شاهراً لبراهينه، غير مخف لنفسه لان زمانه كان زمان إمكان ظهور الحجّة كذلك.

ثمَّ كان له من بعده أوصياء حججاً لله عزَّ وجلَّ كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت ظهور نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الله عزَّ وجلَّ له في الكتاب: «ما يقال لك إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك »(١) ثمّ قال عزَّ وجلَّ: «سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا »(٢) فكان ممّا قيل له ولزم من سنّته على إيجاب سنن من تقدمه من الرُّسل إقامة الاوصياء له كاقامة من تقدّمه لاوصيائهم، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصياء كذلك وأخبر بكون المهديِّ خاتم الأئمّةعليهم‌السلام ، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، نقلت الاُمّة ذلك بأجمعها عنه، وأنَّ عيسىعليه‌السلام ينزل في وقت ظهوره فيصلي خلفه، فحفظت ولادات الأوصياء ومقاماتهم في مقام بعد مقام إلى وقت ولادة صاحب زمانناعليه‌السلام المنتظر للقسط والعدل، كما أوجبت الحكمة باستقامة التدبير غيبة من ذكرنا من الحجج المتقدمة بالوجود.

وذلك أنَّ المعروف المتسالم بين الخاصِّ والعامِّ من أهل هذه الملّة أنَّ الحسن ابن علىٍّ والد صاحب زمانناعليهما‌السلام قد كان وكلّ به طاغية زمانه إلى وقت وفاته، فلمّا توفّيعليه‌السلام وكل بحاشيته وأهله وحبست جواريه وطلب مولوده هذا أشدَّ الطلب وكان أحد المتوليّين عليه عمّه جعفر أخو(٣) الحسن بن عليٍّ بما ادّعاده لنفسه من الامامة ورجا أن يتمّ له ذلك بوجود ابن أخيه صاحب الزَّمانعليه‌السلام فجرت السنة في غيبته بما جرى من سنن غيبة من ذكرنا من الحجج المتقدِّمة، ولزم من حكمة غيبةعليه‌السلام ما لزم من حكمة غيبتهم.

__________________

(١) فصلت: ٤٣.

(٢) الاسراء: ٧٧.

(٣) كذا.

٢٢

رد اشكال:

وكان من معارضة خصومنا أن قالوا: ولم أوجبتم في الائمّة ما كان واجباً في الانبياء، فما أنكرتم أنَّ ذلك كان جائزاً في الانبياء وغير جائز في الائمّة فإنَّ الائمّة ليسوا كالانبياء فغير جائز أن يشبه حال الائمّة بحال الانبياء فأوجدونا دليلا مقنعا على أنَّه جائز في الائمّة ما كان جائزاً في الانبياء والرسل فيما شبهتم من حال الائمّة الّذين ليسوا بأشباه الانبياء والرُّسل، وإنما يقاس الشكل بالشكل والمثل بالمثل، فلن تثبت دعواكم في ذلك، ولن يستقيم لكم قياسكم في تشبيهكم حال الائمّة بحال الانبياءعليهم‌السلام إلّا بدليل مقنع.

فأقول - وبالله أهتدي -: أنَّ خصومنا قد جهلوا فيما عارضونا به من ذلك ولو أنّهم كانوا من أهل التمييز والنظر والتفكّر والتدبر باطراح العناد وإزالة العصبيّة لرؤسائهم ومن تقدّم من إسلافهم لعلموا أنَّ كلَّ ما كان جائزاًً في الأنبياء فهو واجبٌ لازم في الائمّة حذو النّعل بالنّعل والقذَّة بالقذة وذلك أنَّ الأنبياء هم أصول الائمّة ومغيضهم(١) والائمّة هم خلفاء الأنبياء وأوصياؤهم والقائمون بحجة الله تعالى على من يكون بعدهم كيلا تبطل حجج الله وحدود (ه و) شرايعه مادام التكليف على العباد قائماً والامر لهم لازماً، ولو وجبت المعارضة لجاز لقائل أن يقول: أنَّ الأنبياء هم حجج الله فغير جائز أن يكون الائمّة حجج الله إذ ليسوا بالانبياء ولا كالانبياء، وله أن يقول أيضا: فغير جائز أن يسمّوا أئمّة لأنّ الأنبياء كانوا أئمّة وهؤلاء ليسوا بأنبياء فيكونوا أئمّة كالانبياء، وغير جائز أيضاً أن يقوموا بما كان يقوم به الرسل من الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من أبواب الشّريعة إذ ليسوا كالرّسول ولا هم برسل. ثمّ يأتي بمثل هذا من المحال ممّا يكثر تعداده ويطول الكتاب بذكره، فلمّا فسد هذا كله كانت هذه المعارضة من خصومنا فاسدة كفساده.

__________________

(١) المغيض: مجتمع الماء ومدخله في الأرض والمراد بالفارسية (انبياء نسخه أصل وسر چشمهء امامانند). وفى بعض النسخ « ومفيضهم » من الافاضة.

٢٣

ثمَّ نحن نبيّن الان ونوضح بعد هذا كلّه أنَّ التشاكل بين الأنبياء والائمّة بيّنٌ واضٌ فيلزمهم أنّهم حجج الله على الخلق كما كانت الأنبياء حججه على العباد، وفرض طاعتهم لازم كلزوم فرض طاعة الأنبياء، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: «أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم »(١) وقوله تعالى: «ولو ردُّوه إلى الرَّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم »(٢) فولاة الامرهم الاوصياء والائمّة بعد الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قرن الله طاعتهم بطاعة الرَّسول وأوجب على العباد من فرضهم ما أوجبه من فرض الرَّسول كما أوجب على العباد من طاعة الرَّسول ما أوجبه عليهم من طاعته عزَّ وجلَّ في قوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول » ثمّ قال: «من يطع الرَّسول فقد أطاع الله (٣) » وإذا كانت الائمّةعليهم‌السلام حجج الله على من لم يلحق بالرَّسول ولم يشاهده وعلى من خلفه من بعده كما كان الرَّسول حجّة على من لم يشاهده في عصره لزم من طاعة الائمّة ما لزم من طاعة الرَّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تشاكلوا واستقام القياس فيهم وإن كان الرَّسول أفضل من الائمّة فقد تشاكلوا في الحجّة والاسم والفعل(٤) والفرض، إذ كان الله جل ثناؤه قد سمّى الرُّسل أئمّة بقوله لابراهيم: «إنّي جاعلك للنّاس إماماً »(٥) وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنَّه قد فضّل الأنبياء والرُّسل بعضهم على بعض فقال تبارك وتعالى: «تلك الرُّسل فضلّنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله - الآية »(٦) وقال: «ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض - الآية »(٧) فتشاكل الأنبياء في النبوَّة وإن كان بعضهم أفضل من بعض، وكذلك تشاكل الأنبياء والاوصياء، فمن قاس حال الائمّة بحال الأنبياء واستشهد بفعل الأنبياء على فعل الائمّة فقد أصاب في قياسه واستقام له استشهاده بالّذي وصفناه من تشاكل الأنبياء والاوصياءعليهم‌السلام .

__________________

(١) النساء: ٥٩.

(٢) النساء: ٨٣.

(٣) النساء: ٨٠.

(٤) في بعض النسخ « والعقل ».

(٥) البقرة: ١١٩.

(٦) البقره: ٢٥٤.

(٧) الاسراء: ٥٦.

٢٤

وجه آخر لاثبات المشاكلة:

ووجه آخر من الدّليل على حقيقة ما شرحنا من تشاكل الائمّة والأنبياءعليهم‌السلام أنَّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة »(١) وقال تعالى: «ما آتيكم الرَّسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا »(٢) فأمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نهتدي بهدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجري الاُمور (الجارية) على حدِّ ما أجراها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل، فكان من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحقّق لما ذكرنا من تشاكل الأنبياء والائمّة أن قال: « منزلة عليٍّ عليه‌السلام منّي كمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لانبي بعدي » فأعلمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ عليا ليس بنبي وقد شبهه بهارون وكان هارون نبيّاً ورسولاً ( و ) كذلك شبّهه بجماعة من الأنبياءعليهم‌السلام .

حدثنا محمّد بن موسى بن المتوكّلرحمه‌الله قال: حدّثنا علىٌ بن الحسين السّعد آباديُّ قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقيُّ، عن أبيه محمّد بن خالد قال: حدّثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة الشّيبانيُّ، عن أبيه، عن جدِّه(٣) عن عبد الله ابن عباس قال: كنّا جلوساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في سِلمه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في فطانته وإلى داود في زهده، فلينظر إلى هذا. قال: فنظرنا فإذا علىُّ بن أبي طالب قد أقبل كأنما ينحدر

__________________

(١) الاحزاب: ٢١.

(٢) الحشر: ٧.

(٣) هارون بن عنترة بن عبد الرحمن الشيباني عامى ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، مستقيم الحديث. وابنه عبد الملك عنونه النجاشي وقال: كوفي ثقة عين روى عن أصحابنا ورووا عنه، ولم يكن متحققاً بأمرنا، له كتاب يرويه محمّد بن خالد. وأما أبوه عنترة بن عبد الرحمن فعنونه العسقلاني في النقريب والتهذيب وقال: ذكره ابن حبان في الثقات وذكر ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: أنَّه كوفي ثقة.

٢٥

من صبب(١) ، فإذا استقام أن يشبّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحداً من الائمّة علهيم السلام بالأنبياء والرُّسل استقام لنا أن نشبّه جميع الائمّة بجميع الأنبياء والرُّسل، وهذا دليل مقنعٌ وقد ثبت شكل صاحب زمانناعليه‌السلام في غيبته بغيبة موسىعليه‌السلام وغيره ممّن وقعت بهم الغيبة، وذلك أنَّ غيبة صاحب زماننا وقعت من جهة الطواغيت لعلّة التدبير من الّذي قدَّمنا ذكره في الفصل الأوَّل.

ومما يفسد معارضة خصومنا في نفي تشاكل الأئمّة والأنبياء أنَّ الرُّسل الّذين تقدَّموا قبل عصر نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أوصياؤهم أنبياء، فكلُّ وصيٍّ قام بوصيّة حجّة تقدّمه من وقت وفاة آدمعليه‌السلام إلى عصر نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان نبيّاً، وذلك مثل وصي آدم كان شببث ابنه، وهو هبة الله في علم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان نبيّاً، ومثل وصي نوحعليه‌السلام كان سام ابنه وكان نبيّاً، ومثل إبراهيمعليه‌السلام كان وصيه إسماعيل(٢) ابنه وكان نبيّاً، ومثل موسىعليه‌السلام كان وصيّه يوشع بن نون وكان نبيّاً، ومثل عيسىعليه‌السلام كان وصيّه شمعون الصفا وكان نبيّاً، ومثل داودعليه‌السلام كان وصيه سليمانعليه‌السلام ابنه وكان نبيّاً. وأوصياء نبيّناعليهم‌السلام لم يكونوا أنبياء، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل محمّداً خاتماً لهذه الامم(٣) كرامة له وتفضيلاً، فقد تشاكلت الائمّة والأنبياء بالوصية كما تشاكلوا فيما قدّمنا ذكره من تشاكلهم فالنبيُّ وصيٌّ والامام وصيٌّ، والوصيُّ إمام والنبي إمام، والنبيُّ حجّة والامام حجّة(٤) ، فليس في الاشكال أشبه من تشاكل الائمّة والانبياء.

و كذلك أخبرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتشاكل أفعال الاوصياء فيمن تقدّم وتأخّر من قصّة يوشع بن نون وصيِّ موسىعليه‌السلام مع صفراء بنت شعيب زوجة موسى وقصّة

____________

(١) أي يرفع رجليه رفعاً بيناً بقوة دون احتشام وتبختر. والصبب: ما انحدر من الأرض أو الطريق.

(٢) في بعض النسخ « اسحاق ».

(٣) في بعض النسخ « لهذا الاسم » أي النبوة.

(٤) في بعض النسخ « والوصي حجّة ».

٢٦

أمير المؤمنينعليه‌السلام وصىّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عائشة بنت أبى بكر، وإيجاب غسل الأنبياء أوصيائهم بعد وفاتهم.

حدثنا عليُّ بن أحمد الدَّقاقرحمه‌الله قال: حدّثنا حمزة بن القاسم قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن الجنيد الرازيُّ قال: حدّثنا أبو عوانة قال: حدّثنا الحسن ابن عليٍّ(١) ، عن عبد الرّزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرّحمن بن عوف، عن عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبىّعليه‌السلام : يا رسول الله من يغسّلك إذا متَّ؟ قال: يغسّل كلّ نبيٍّ وصيّه، قلت: فمن وصيك يارسول الله؟ قال: عليُّ بن أبي طالب قلت: كم يعيش بعدك يا رسول الله؟ قال: ثلاثين سنة، فإنَّ يوشع بن نون وصيُّ موسى عاش بعد موسى ثلاثين سنة، وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسىعليه‌السلام فقالت: أنا أحقُّ منك بالامر فقاتلها فقتل مقاتليها وأسرها فأحسن أسرها، وأن ابنة أبي بكر ستخرج على عليِّ في كذا وكذا ألفاً من امّتي فتقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها فيحسن أسرها، وفيها أنزل الله عزَّ وجلَّ: «وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرجنَّ تبرُّج الجاهليّة الاولى »(٢) يعنى صفراء بنت شعيب، فهذا الشكل قد ثبت بين الائمّة والأنبياء بالاسم والصفة والنعت والفعل، وكلُّ ما كان جائزاً في الأنبياء فهو جائز يجري في الائمّة حذو النّعل بالنّعل والقذَّة بالقذَّة، ولو جاز أن تجحد إمامة صاحب زماننا هذا لغيبته بعد وجود من تقدّمه من الائمّةعليهم‌السلام لوجب أن تدفع نبوَّة موسى بن عمرانعليه‌السلام لغيبته إذ لم يكن كلًّ الأنبياء كذلك، فلمّا لم تسقط نبوة موسى لغيبتة وصحت

__________________

(١) هو الحسن بن علي الخلال أبو علي - وقيل أبو محمّد - الحلواني نزيل مكة ثقة ثبت يروى عن عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري مولاهم أبي بكر الصنعانى، قال أحمد ابن صالح المصرى: قلت لاحمد بن حنبل: رأيت أحدا أحسن حديثاً من عبد الرزاق؟ قال: لا. ويرموه القوم بالتشيع. يروى عن أبيه همام وهو ثقة يروى عن مينا بن أبى مينا الزهري الخزاز مولى عبد الرحمن بن عوف وهو شيعي جرحه العامة لتشيعه. وما في النسخ من الحسين بن علي بن عبد الرزاق، فهو تصحيف.

(٢) الاحزاب: ٣٢.

٢٧

نبوَّته مع الغيبة كما صحّت نبوَّة الأنبياء الّذين لم تقع بهم الغيبة فكذلك صحّت إمامة صاحب زماننا هذا مع غيبته كما صحت إمامة من تقدّمه من الائمّة الّذين لم تقع بهم الغيبة.

وكما جاز أن يكون موسىعليه‌السلام في حجر فرعون يُربيّه وهو لا يعرفه ويقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه فكذلك جائز أن يكون صاحب زماننا موجوداً بشخصه بين النّاس، يدخل مجالسهم ويطأ بسطهم ويمشي في أسواقهم، وهم لا يعرفونه إلى أن يبلغ الكتاب أجله.

فقد روي عن الصّادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام أنَّه قال: في القائم سنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأمّا سنة موسى فخائف يترقب، وأما سنة يوسف فإنَّ إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه، وأما سنة عيسى فالسياحة، وأما سنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالسيف.

رد اشكال:

فكان من الزِّيادة لخصومنا أن قالوا: ما أنكرتم إذ قد ثبت لكم ما ادَّعيتم من الغيبة كغيبة موسىعليه‌السلام ومن حلّ محله من الائمّة(١) الّذين وقعت بهم الغيبة أن تكون حجّة موسى لم تلزم أحداً إلّا من بعد أنَّ أظهر دعوته ودلَّ على نفسه وكذلك لا تلزم حجّة إمامكم هذا لخفاء مكانه وشخصه حتّى يظهر دعوته ويدل على نفسه [ كذلك ] فحينئذ تلزم حجّته وتجب طاعته، وما بقي في الغيبة فلا تلزم حجّته، ولا تجب طاعته.

فأقول - وبالله أستعين -: إنَّ خصومنا غفلوا عما يلزم من حجّة حجج الله في ظهورهم واستتارهم وقد ألزمهم الله تعالى الحجّة البالغة في كتابه ولم يتركهم سدى في جهلهم وتخبّطهم ولكنّهم كما قال الله عزَّ وجلَّ: «أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها »(٢) أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أخبرنا في قصّة موسىعليه‌السلام أنَّه كان له شيعة

__________________

(١) في بعض النسخ « من الأنبياء ».

(٢) سوره محمّد (ص): ٢٤.

٢٨

وهم بأمره عارفون وبولايته متمسّكون ولدعوته منتظرون قبل إظهار دعوته، ومن قبل دلالته على نفسه حيث يقول: «ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوِّه فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوِّه »(١) وقال عزَّ وجلَّ حكاية عن شيعة: «قالوا اُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا - الآية »(٢) فأعلمنا الله عزَّ وجلَّ في كتابه أنَّه قد كان لموسىعليه‌السلام شيعة من قبل أن يظهر من نفسه نبوّة، وقبل أن يظهر له دعوة يعرفونه ويعرفهم بموالاة موسى صاحب الدَّعوة ولم يكونوا يعرفون أنَّ ذلك الشخص هو موسى بعينه، وذلك أنَّ نبوّة موسى إنّما ظهرت من بعد رجوعه من عند شعيب حين سار بأهله من بعد السنين التي رعى فيها لشعيب حتّى استوجب بها أهله فكان دخوله المدينة حين وجد فيها الرَّجلين قبل مسيره إلى شعيب، وكذلك وجدنا مثل نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرف أقوامٌ أمره قبل ولادته وبعد ولادته، وعرفوا مكان خروجه ودار هجرته من قبل أن يظهر من نفسه نبوّة، ومن قبل ظهور دعوته وذلك مثل سلمان الفارسيِّرحمه‌الله ، ومثل قُسّ بن ساعدة الاياديِّ، ومثل تبّع الملك، ومثل عبد المطّلب، وأبي طالب، ومثل سيف بن ذي - يزن، ومثل بحيرى الرّاهب، ومثل كبير الرهبان في طريق الشام، ومثل أبي مويهب الراهب، ومثل سطيح الكاهن، ومثل يوسف اليهوديِّ، ومثل ابن حوّاش الحبر المقبل من الشام، ومثل زيد بن عمرو بن نفيل، ومثل هؤلاء كثير ممّن قد عرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفته ونعته واسمه ونسبه قبل مولده وبعد مولده، والاخبار في ذلك موجودة عند الخاصّ والعامّ، وقد أخرجتها مسندة في هذا الكتاب في مواضعها، فليس من حجّة الله عزَّ وجلَّ نبي ولا وصي إلّا وقد حفظ المؤمنون وقت كونه وولادته وعرفوا أبويه ونسبه في كل عصر وزمان حتّى لم يشتبه عليهم شيء من أمر حجج الله عزَّ وجلَّ في ظهورهم وحين استتارهم، وأغفل ذلك أهل الجحود والضّلال والكنود فلم يكن عندهم [ علم ] شيء من أمرهم، وكذلك سبيل صاحب زمانناعليه‌السلام حفظ أولياؤه المؤمنون من أهل

__________________

(١) القصص: ١٥.

(٢) الاعراف: ١٢٩.

٢٩

المعرفة والعلم وقته وزمانه وعرفوا علاماته وشواهد أيّامه(١) وكونه ووقت ولادته ونسبه، فهم على يقين من أمره في حين غيبته ومشهده، وأغفل ذلك أهل الجحود والانكار والعنود، وفي صاحب زمانناعليه‌السلام قال الله عزَّ وجلَّ: «يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل »(٢) وسئل الصادقعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: الايات هم الائمّة، والآية المنتظرة هو القائم المهديُّعليه‌السلام فإذا قام لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسّيف وإن آمنت بمن تقدَّم من آبائهعليهم‌السلام ». حدّثنا بذلك أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير؛ والحسن بن محبوب، عن علي ابن رئاب وغيره، عن الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام .

وتصديق ذلك (أنَّ الايات هم الحجج) من كتاب الله عزَّ وجلَّ قول الله تعالى: «وجعلنا ابن مريم وأمّه آية »(٣) يعني حجّة، وقوله عزَّ وجلَّ لعزير(٤) حين أحياه الله من بعد أنَّ أماته مائة سنة «فانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للنّاس »(٥) يعني حجّة فجعله عزَّ وجلَّ حجّة على الخلق وسمّاه آية. وإنّ النّاس لمّا صحَّ لهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الغيبة الواقعة بحجّة الله تعالى ذكره على خلقه وضع كثير منهم الغيبة غير موضعها أوّلهم عمر بن الخطّاب فانه قال لما قبض النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله ما مات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسىعليه‌السلام عن قومه وإنّه سيظهر لكم بعد غيبته.

حدثنا أحمد بن محمّد بن الصقر الصائغ العدل قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن العباس ابن بسّام قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن يزداد قال: حدّثنا نصر بن سيار بن داود

__________________

(١) في بعض النسخ « وشواهد آياته ».

(٢) الانعام: ١٥٨.

(٣) المؤمنون: ٥٠.

(٤) في بعض النسخ « لارميا ».

(٥) البقرة: ٢٥٩.

٣٠

الاشعريُّ قال: حدّثنا محمّد بن عبد ربّه(١) ، وعبد الله بن خالد السلّولي أنّهما قالا: حدّثنا أبو معشر نجيح المدنيُّ قال: حدّثنا محمّد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظيِّ، وعمارة بن غزّية، وسعيد بن أبي سعيد المقبري(٢) ، وعبد الله بن أبي مليكة وغيرهم من مشيخة أهل المدينة قالوا: لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبل عمر بن الخطاب يقول: والله مامات محمّد وإنّما غاب كغيبة موسى عن قومه وإنّه سيظهر بعد غيبته فما زال يردّد هذا القول ويكرّره حتّى ظنّ النّاس أنَّ عقله قد ذهب، فأتاه أبو بكر وقد اجتمع النّاس عليه يتعجّبون من قوله فقال: اربع على نفسك يا عمر(٣) من يمينك الّتى تحلف بها، فقد أخبرنا الله عزَّ وجلَّ في كتابه فقال: يا محمّد «إنّك ميّت وإنّهم ميّتون (٤) » فقال عمر: وإنّ هذه الآية لفي كتاب الله يا أبا بكر؟ فقال: نعم أشهد بالله لقد ذاق محمّد

__________________

(١) محمّد بن يزداد الرازي قال أبو النضر العياشي: لا بأس به. ونصر بن سيار لم أجد من ذكره وليس هو بنصر بن سيار والى خراسان من قبل هشام بن عبد الملك، ومحمّد بن عبد ربّه الانصاري اجاز التلعكبرى جميع حديثه وكان يروى عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميرى ونظرائهما كما في منهج المقال. وأما عبد الله بن خالد فلم أعرفه.

(٢) أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي - بكسر المهملة وسكون النون - المدني مولى بني هاشم مشهور بكنيته وليس بقوى في الحديث، ومحمّد بن قيس شيخه ضعيف كما في التقريب. وأما محمّد بن كعب القرظي فثقة عالم ولد سنة أربعين على الصحيح ومات سنة ١٢٠ وقيل قبل ذلك. وأما عمارة بن غزية المدني فوثقه أحمد وأبو زرعة وقال يحيى بن معين: صالح وقال أبو حاتم: ما بحديثه بأس، وكان صدوقاً. وأما سعيد بن أبي سعيد فاسمه كيسان المقبري أبو سعد المدنى، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاوراً لها فهو ثقة صدوق كما في التهذيب. واما عبد الله بن أبي مليكة فهو عبد الله بن عبيد الله وأبو ملكية بالتصغير ثقة فقيه.

(٣) أي ارفق بنفسك وكف عن هذا القول واليمين.

(٤) الزمر: ٣٠.

٣١

الموت، ولم يكن عمر جمع القرآن(١) .

الكيسانية:

ثم غلطت الكيسانيّة بعد ذلك حتّى ادَّعت هذه الغيبة لمحمّد بن الحنفية - قدَّس الله روحه - حتّى أنَّ السيّد بن محمّد الحميريَّرضي‌الله‌عنه (٢) اعتقد ذلك وقال فيه:

ألا إنَّ الائمّة من قريش

ولاة الامر أربعة سواء

عليٌّ والثلاثة من بنيه

هُمُ أسباطنا والأوصياء(٣)

فسبطٌ سبط إيمان وبرٍّ

وسبطٌ قد حوته كربلاء(٤)

وسبط لا يذوق الموت حتّى

يقود الجيش يقدمه اللّواء(٥)

يغيب فلا يرى عنّا زماناً(٦)

برضوى عنده عسلٌ وماء

 وقال فيه السيّد - رحمة الله عليه - أيضا:

أيا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى

فحتّى متى يخفى وأنت قريب

فلو غاب عنّا عمر نوح لا يقنت

منّا النّفوس بأنّه سيؤوب(٧)

__________________

(١) أي لم يقرء أو يحفظ جميع القرآن.

(٢) هو اسماعيل بن محمّد الحميري، سيد الشعراء. كان يقول أولا بامامة محمّد بن الحنفية ثمّ رجع إلى الحق، وأمره في الجلالة والمجد ظاهر لمن تتبع كتب التراجم. قيل: توفى ببغداد سنة ١٧٩ فبعثت الاكابر والشرفاء من الشيعة سبعين كفناً له، فكنفه الرشيد من ماله ورد الاكفان إلى أهلها.

(٣) في « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الاسفراييني « هم الاسباط ليس بهم خفاء » وكذا في الملل والنحل للشهرستاني.

(٤) في الفرق « وسبط غيبته كربلاء ». وكذا في اعلام الورى المنقول من كمال الدين.

(٥) في الفرق والملل « يقود الخيل يقدمها اللواء ».

(٦) في الفرق « تغيب لا يرى فيهم زماناً ».

(٧) هذا المصراع في بعض النسخ هكذا « نفوس البرايا أنَّه سيؤوب ».

٣٢

وقال فيه السيّد أيضاً:

ألاحيّ المقيم بشعب رضوى

واهد له بمنزله السّلاما

وقل: يا ابن الوصيِّ فدتك نفسي

أطلت بذلك الجَبَل المقاما

فمرَّ بمعشر والوك منا

وسمّوك الخليفة والاماما

فما ذاق ابن خولة طعم موت

ولاوارت له أرض عظاما

فلم يزل السيّد ضالّاً في أمر الغيبة يعتقدها في محمّد بن الحنفيّة حتّى لقى الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ورأى منه علامات الامامة وشاهد فيه دلالات الوصية، فسأله عن الغيبة، فذكر له أنّها حقٌّ ولكنّها تقع في الثاني عشر من الائمّةعليهم‌السلام وأخبره بموت محمّد بن الحنفيّة وأن أباه شاهد دفنه، فرجع السيّد عن مقالته واستغفر من اعتقاده ورجع إلى الحق عند اتّضاحه له، ودان بالامامة.

حدثنا عبد الواحد بن محمّد العطّار النيسابوريُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا علي بن محمّد قتيبة النيسابوري، عن حمدان بن سليمان، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن حيان السراج قال: سمعت السيّد بن محمّد الحميري يقول: كنت أقول بالغلو وأعتقد غيبة محمّد بن علي - ابن الحنفيّة - قد ضللت في ذلك زماناً، فمن الله علي بالصادق جعفر بن - محمّدعليهما‌السلام وأنقذني به من النّار، وهداني إلى سواء الصراط، فسألته بعد ما صحَّ عندي بالدّلائل التي شاهدتها منه أنَّه حجّة الله علي وعلى جميع أهل زمانه وإنّه الامام الّذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به، فقلت له،: يا ابن رسول الله قد روي لنا أخبار عن آبائكعليهم‌السلام في الغيبة وصحّة كونها فأخبرني بمن تقع؟ فقالعليه‌السلام : إنَّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي وهو الثاني عشر من الائمّة الهداة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحقِّ بقية الله في الأرض وصاحب الزَّمان، والله لو بقى في غيبته ما بقى نوح في قومه(١) لم يخرج من الدُّنيا حتّى يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً. قال السيّد: فلمّا

__________________

(١) في بعض النسخ « في الأرض ».

٣٣

سمعت ذلك من مولاي الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام تبت إلى الله تعالى ذكره على يديه، وقلت قصيدتي التي أولها:

فلمّا رأيت النّاس في الدِّين قد غووا

تجعفرت باسم الله فيمن تجعفروا(١)

وناديت باسم الله والله اكبر

وأيقنت أن يعفو ويغفر

ودنت بدين الله ماكنت ديّناً(٢)

به ونهاني سيّد النّاس جعفر

فقلت: فهبني قد تهودت برهة

وإلا فديني دين من يتنصر

وإني إلى الرحمن من ذاك تائب

إني قد أسلمت والله أكبر

فلست بغال ما حييت وراجع

إلى ما عليه كنت اُخفي واظهر

ولا قائل حيّ برضوى محمّد

وإن عاب جهّال مقالي وأكثروا

ولكنّه ممن مضى لسبيله

على أفضل الحالات يقفي ويخبر

مع الطيبين الطاهرين الاُولى لهم

من المصطفى فرعٌ زكيٌ وعنصر

إلى آخر القصيدة، (وهي طويلة) وقلت بعد ذلك قصيدة اخرى:

أيا راكباً نحو المدينة جسرة

عذافرة يطوى بها كلّ سبسب(٣)

إذا ما هداك الله عاينت جعفراً

فقل لوليِّ الله وابن المهذَّب

ألا يا أمين الله وابن أمينه

أتوب إلى الرَّحمن ثمّ تأوَّبي

إليك من الامر الّذي كنت مطنباً(٤)

أحارب فيه جاهداً كلَّ معرب

وما كان قولي في ابن خولة مطنباً

معاندة منّي لنسل المطيب

ولكن روينا عن وصيِّ محمّد

وما كان فيما قال بالمتكذّب

بأنَّ وليَّ الامر يفقد لا يرى

ستيراً(٥) كفعل الخائف المترقّب

__________________

(١) في بعض النسخ « باسم الله والله اكبر ».

(٢) في بعض النسخ « ودنت بدين غير ما كنت دينا ».

(٣) الجسرة: البعير الذى أعيا وغلظ من السير. والعذافرة: العظمة الشديدة من الابل، والناقة الصلبة القوية. والسبب: المفازة، أو الأرض المستوية البعيدة.

(٤) في بعض النسخ « كنت مبطنا ».

(٥) في بعض النسخ « سنين ». وفى بعضها « كمثل الخائف ».

٣٤

فتقسم أموال الفقيد كأنّما

تغيّبه بين الصفيح المنصّب(١)

فيمكث حينا ثمّ ينبع نبعة

كنبعة جدي من الافق كوكب(٢)

يسير بنصر الله من بيت ربّه

على سودد منه وأمر مسبّب(٣)

يسير إلى أعدائه بلوائه

فيقتلهم قتلا كحران مغضب(٤)

فلما روى أنَّ ابن خولة غائب

صرفنا إليه قولنا لم نكذِّب

وقلنا هو المهديُّ والقائم الّذي

يعيش به من عدله كلُّ مجدب

فان قلت لا فالحقُّ قولك والذي

أمرت(٥) فحتمٌ غير ما متعصّب

واشهد ربي أنَّ قولك حجة

على النّاس طرا من مطيع ومذنب

بأنَّ وليَّ الامر والقائم الذي

تطلّع نفسي نحوه بتطرُّب

له غيبة لابدَّ من أن يغيبها

فصلّى علهى الله من متغيّب

فيمكث حيناً ثمّ يظهر حينه(٦)

فيملك من في شرقها والمغرَّب(٧)

بذاك أدين الله سرّاً وجهرة

ولست وإن عوتبت فيه بمعتب(٨)

وكان حيّان السّراج الراوي لهذا الحديث من الكيسانية، ومتى صح موت

__________________

(١) الصفيح: من أسماء السماء، ووجه كل شيء عريض. والمنصب المرتفع. ولعل المراد بالصفيح هنا موضع بين حنين وأنصاب الحرم. كما يظهر من بعض اللغات.

(٢) كذا وفى بعض نسخ الحديث:

« فيمكث حينا ثمّ يشرق شخصه

مضيئاً بنور العدل اشراق كوكب »

وهكذا في اعلام الورى المنقول من كمال الدين. وليس هذا البيت في ارشاد المفيد ولا كشف الغمة للاربلي.

(٣) في بعض النسخ « وأمر مسيب ».

(٤) فرس حرون: الذى لا ينقاد والاسم الحران.

(٥) في الارشاد وكشف الغمة « تقول فحتم ».

(٦) في الارشاد « يظهر أمره » ولعله هو الصواب.

(٧) في اعلام الورى « فيملاء عدلا كل شرق ومغرب ».

(٨) « بمعتب » خبر ليست. يعنى عتابهم اياى ليس بموقع.

٣٥

محمّد بن عليٍّ ابن الحنفيّة بطل أن تكون الغيبة الّتي رويت في الأخبار واقعة به.

فمما روى في وفاة محمّد بن الحنفيّةرضي‌الله‌عنه (١)

ما حدّثنا به محمّد بن عصامرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكلينيُّ قال: حدّثنا القاسم بن العلاء قال: حدثني إسماعيل بن عليِّ القزوينيُّ قال: حدثني عليُّ بن إسماعيل، عن حمّاد بن عيسى، عن الحسين بن المختار(٢) قال: دخل حيّان السّراج على الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام فقال له: يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفية؟ قال: يقولون: إنَّه حي يرزق، فقال الصادقعليه‌السلام : حدثني أبيعليه‌السلام أنَّه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوج نسائه وقسم ميراثه، فقال: يا أبا عبد الله إنّما مثل محمّد بن الحنفيّة في هذه الاُمّة كمثل عيسى بن مريم شُبّه أمره للنّاس، فقال الصادقعليه‌السلام : شُبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه؟ قال: بل على أعدائه فقال: أتزعم أنَّ أبا جعفر محمّد بن عليِّ الباقرعليهما‌السلام عدوُّ عمّه محمّد بن الحنفية؟ فقال: لا، فقال الصادقعليه‌السلام : يا حيّان إنّكم صدفتم عن أيات الله، وقد قال الله تبار ك وتعالى: «سنجزي الّذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ما مات محمّد بن الحنفيّة حتّى أقرَّ لعليِّ بن الحسينعليهما‌السلام . وكانت وفاة محمّد بن الحنفيّة سنة أربع وثمانين من الهجرة.

حدثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد بن - يحيى: عن إبراهيم بن هاشم، عن عبد الصمد بن محمّد، عن حنان بن سدير، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: دخلت على محمّد بن الحنفيّة وقد اعتقل لسانه فأمرته بالوصيّة، فلم

__________________

(١) هذا العنوان للمؤلف وموجود في جميع النسخ.

(٢) هو الحسين بن المختار القلانسى الكوفى ثقة واقفى من أصحاب الكاظمعليه‌السلام . وما في بعض النسخ من « جعفر بن مختار » فهو تصحيف، وعلي بن اسماعيل الظاهر هو على بن السندي الثقة. وأما حيان السراج فهو كيساني متعصب.

(٣) الانعام: ١٥٧. والصدف الرجوع عن الشيء.

٣٦

يجب، قال: فأمرت بطست فجعل فيه الرَّمل، فوضع فقلت له: خطَّ بيدك، قال: فخطّ وصيّته بيده في الرَّمل، ونسخت أنا في صحيفة.

ابطال قول الناووسية والواقفة في الغيبة

ثم غلطت الناووسيّة بعد ذلك في أمر الغيبة بعد ما صحَّ وقوعها عندهم بحجّة الله على عباده فاعتقدوها جهلاً منهم بموضعها في الصادق بن محمّدعليهما‌السلام حتّى أبطل الله قولهم بوفاتهعليه‌السلام وبقيام كاظم الغيظ الأوّاه الحليم، الامام أبي إبراهيم موسى ابن جعفرعليهما‌السلام بالامر مقام الصادقعليه‌السلام .

وكذلك ادَّعت الواقفيّة ذلك في موسى بن جعفرعليهما‌السلام فأبطل الله قولهم باظهار موته وموضع قبره، ثمّ بقيام الرِّضا عليِّ بن موسىعليهما‌السلام بالامر بعده، وظهور علامات الامامة فيه مع ورود النصوص عليه من آبائهعليهم‌السلام .

فمما روى في وفاة موسى بن جعفر عليهما السلام(١)

ما حدّثني به محمّد بن إبراهيم بن إسحاقرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن - محمّد بن عمار، قال: حدثني الحسن بن محمّد القطعيُّ، عن الحسن بن علي النخّاس العدل عن الحسن بن عبد الواحد الخزّاز، عن عليِّ بن جعفر، عن عمر بن واقد قال: أرسل إليَّ السنديُّ بن شاهك في بعض اللّيل وأنا ببغداد فاستحضرني فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأفزعناك، قلت: نعم قال: فليس ههنا إلّا خيرٌ، قلت: فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري؟ فقال: نعم ثمّ قال: يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟ فقلت: لا فقال: أتعرف موسى بن جعفر؟ فقلت: اي والله إنّي لاعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر، فقال: من ههنا ببغداد يعرفه ممّن يقبل قوله؟ فسمّيت له أقواما ووقع في نفسي أنَّهعليه‌السلام قد مات، قال: فبعث إليهم وجاء بهم كما جاء بي، فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن -

__________________

(١) العنوان من المؤلف.

٣٧

جعفر؟ فسمّوا له قوماً، فجاء بهم، فأصبحنا ونحن في الدّار نيف وخمسون رجلاً ممن يعرف موسى وقد صحبه، قال: ثمّ قام ودخل وصلّينا، فخرج كاتبه ومعه طومارٌ فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وخلانا، ثمّ دخل إلى السنديِّ، قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ فقال: قم يا أبا حفص، فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا وقال لي: يا أبا حفص اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشفته فرأيته ميتاً فبكيت واسترجعت، ثمّ قال للقوم: انظروا إليه، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه ثمّ قال: تشهدون كلّكم أنَّ هذا موسى بن جعفر بن محمّد؟ قالوا: نعم نشهد أنَّه موسى بن - جعفر بن محمّد، ثمّ قال: يا غلام اطرح على عورته منديلاً واكشفه، قال: ففعل، فقال: أترون به أثراً تنكرونه؟ فقلنا: لا ما نرى به شيئا ولا نراه إلّا ميتاً، قال: لا تبرحوا حتّى تغسلوه واكفنّه وأدفنه، قال: فلم نبرح حتّى غسّل وكفن وحمل فصلى عليه السنديُّ بن شاهك، ودفناه ورجعنا، فكان عمر بن - واقد يقول: ما أحد هو أعلم بموسى بن جعفرعليهما‌السلام منّي، كيف تقولون: إنَّه حيٌّ وأنا دفنته.

حدثنا عبد الواحد بن محمّد العطّاررحمه‌الله قال: حدّثنا عليُّ بن محمّد بن - قتيبة، عن حمدان بن سليمان النيسابوريِّ، عن الحسن بن عبد الله الصيرفيِّ، عن أبيه قال: توّفي موسى بن جعفرعليهما‌السلام في يد السنديِّ بن شاهك فحملم على نعش ونودي عليه هذا إمام الرّافضة فاعرفوه، فلمّا اتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا الأمن أراد أن ينظر إلى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج، فخرج سليمان بن - أبي جعفر(١) من قصره إلى الشطِّ فسمع الصياح والضوضاء(٢) فقال لولده وغلمانه: ما هذا؟ قالوا: السنديُّ بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش، فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل به هذا في الجانب الغربيِّ، فإذا عبر به فأنزلوا مع غلمانكم

__________________

(١) هو عم الرشيد أحد أركان الدولة العباسية.

(٢) الضوضاء: الغوغاء وزنا - ومعنى - وأصوات النّاس في الحرب.

٣٨

فخذوه من أيديهم فإنَّ مانعوكم فاضربوهم واخرقوا ما عليهم من السّواد، قال: فلمّا عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم ووضعوه في مفرق أربع طرق(١) وأقام المنادين ينادون: الأمن أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج، وحضر الخلق وغسّله وحنّطه بحنوط وكفنه بكفّن فيه حبرة استعملت له بألفي وخمسمائة دينار، مكتوباً عليها القرآن كلّه، واحتفى(٢) ومشى في جنازته، متسلّباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنهعليه‌السلام هناك، وكتب بخبره إلى الرَّشيد، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر: وصلت رحمك يا عمّ وأحسن الله جزاك، والله، ما فعل السّنديُّ بن شاهك - لعنه الله - ما فعله عن أمرنا.

حدثنا أحمد بن زياد الهمدانيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن صدقة العنبريُّ قال: لمّا توّفي أبو إبراهيم موسى ابن جعفرعليهما‌السلام جمع هارون الرَّشيد شيوخ الطالبيّة وبني العباس وسائر أهل المملكة والحكّام وأحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه(٣) وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه في أمره يعني في قتله فانظروا إليه فدخل عليه سبعون رجلاً من شيعته فنظروا إلى موسى بن جعفرعليهما‌السلام وليس به أثر جراحة ولاسمٍّ ولاخنق، وكان في رجله أثر الحنّاء فأخذه سليمان بن أبي جعفر وتولّى غسله وتكفينه واحتفى وتحسّر في جنازته(٤) .

حدثنا جعفر بن محمّد بن مسروررحمه‌الله قال: حدّثنا الحسين بن محمّد بن عامر عن المعلّى بن محمّد البصريِّ قال: حدّثني عليّ بن رباط قال: قلت لعليِّ بن موسى الرِّضاعليهما‌السلام : أنَّ عندنا رجلاً يذكر أنَّ أباكعليه‌السلام حيٌّ وأنّك تعلم من ذلك ما تعلم؟ فقالعليه‌السلام : سبحان الله مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يمت موسى بن جعفر؟! بلى والله

__________________

(١) يعنى الموضع الذى يتشعب منه الطرق ويقال له بالفارسية (چهار راه).

(٢) أي مشى حافيا بلا نعل. وقوله: « متسلبا » أي بلا رداء ولازينة.

(٣) أي مات من غير قتل ولا ضرب، بل مات بأجله.

(٤) تحسر إي تلهف أو مشى بلا رداء وعمامة.

٣٩

لقد مات وقسمت أمواله ونكحت جواريه.

ادعاء الواقفة الغيبة على العسكري (ع)

ثم ادَّعت الواقفة على الحسن بن عليّ بن محمّدعليهم‌السلام أنَّ الغيبة وقعت به لصحّة أمر الغيبة عندهم وجهلهم بموضعها وأنّه القائم المهديُّ، فلمّا صحت وفاتهعليه‌السلام بطل قولهم فيه وثبت بالاخبار الصحيحة الّتي قد ذكرناها في هذا الكتاب أنَّ الغيبة واقعة بابنهعليه‌السلام دونه.

فمما روى في صحة وفاة الحسن بن على بن محمّد العسكري (ع)(١)

ما حدّثنا به أبي، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد - رضي الله عنهما - قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا من حضر موت الحسن بن عليّ بن محمّد العسكريِّعليهم‌السلام ودفنه ممّن لا يوقف على إحصاء عددهم ولا يجوز على مثلهم التواطؤ بالكذب. وبعد فقد حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضيِّ أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ العسكريِّعليهما‌السلام بثمانية عشرة سنة أو أكثر مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى ابن خاقان(٢) وهو عامل السّلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قمّ، وكان من أنصب خلق الله وأشدَّهم عداوة لهم، فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسرَّ - من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السّلطان، فقال أحمد بن عبيد الله: ما رأيت ولا عرفت بسرِّ من رأى رجلاً من العلويّة مثل الحسن بن عليّ بن محمّد بن علي الرضاعليهم‌السلام ، ولا سمعت به في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنِّ منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتّاب وعوام النّاس فانّي كنت قائماً ذات يوم على رأس ابي وهو يوم مجلسه للنّاس إذ دخل عليه حجابه فقالوا له: إنَّ ابن الرضا على الباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له(٣) فدخل رجلٌ أسمر أعينٌ حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن

__________________

(١) العنوان من المؤلف.

(٢) في أعلام الورى « أحمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان ».

(٣) زاد في الكافي ج ١ ص ٥٠٣ « فتعجبت ممّا سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكنّ عنده إلّا خليفة أوولى عهد أو من أمر السلطان أن يكنى ».

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تفسير المفردات

الاصطفاء : أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء ، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد ، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار ، وللواحد والكثير ، والنذر : ما يوجبه الإنسان على نفسه ، والمحرر : المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر ، والتقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول ، أعيذها بك : أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به ، يقال عاذ بفلان إذا استجار به ، والرجيم : أي المرجوم المطرود من الخير ، ومريم بالعبرية خادم الرب ، وتقبل الشيء وقبله : أي رضيه لنفسه ، وأنبتها : أي رباها بما يصلح أحوالها ، وكفلها زكريا : أي وجغل زكريا كافلإلها ، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام ، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد ، أني لك هذا : أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب ، بغير حساب : أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد ، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد ، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته ـ ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهى الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.

الإيضاح

( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم.

١٤١

فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى : «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » وكان من ذريته النبيون والمرسلون.

وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر ، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم ، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين ، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية.

فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا ، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران ، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران ، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه ، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.

( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض ، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم ، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم.

وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.

وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم ، على نحو قوله تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله : «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

١٤٢

وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهى حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس ، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها ، العليم بصحة نيتها وإخلاصها ، وهذا يستدعى تقبل الدعاء ، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.

وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين ، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام ، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.

( فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة ، والأنثى لا تصلح لذلك.

( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها ، وأنها خير من كثير من الذكور.

وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها ، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هى خير مما كانت ترجوه من الذّكران.

( وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) أي وإنى غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس ، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات ، وإنى أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.

روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كل بنى آدم

١٤٣

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها ، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة ، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه ، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ولو بالوسوسة.

( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها ، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.

( وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي.

وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية ، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة ، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأى.

( وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها.

( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.

روى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.

( قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ ) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.

( قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض ، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله ، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.

وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل ، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر.

١٤٤

وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد ، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني ، واصطفى إبراهيم وآله على البشر ، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك ، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا ، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك ؛ فالله يصطفى من خلقه من يشاء ، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين ، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) )

تفسير المفردات

الذرية : الولد ، وتقع على الواحد والكثير ، والطيب : ما تستطاب أفعاله وأخلاقه ، سميع الدعاء : أي مجيبه كما يقال : سمع الله لمن حمده ، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع ،

١٤٥

وكلمة الله : عيسى عليه السلام ، والسيد الرئيس يسود قومه ، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال ، من الصالحين : أي من أصلابهم ، والصلاح صفة تجمع الخير كله أنى يكون لى؟ أي كيف يحصل لى ، بلغني الكبر : أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ ، عاقر : أي عقيم لا تلد ، آية : أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر ، ألا تكلم الناس : أي لا تستطيع الكلام ، والرمز : الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما ، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه ، والعشى : الوقت من الزوال إلى الغروب ، والإبكار : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

الإيضاح

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء ، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده ؛ فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.

( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد ، وركب السفن ، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة ، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس ، وأنت إنما سمعته من واحد.

ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل ، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.

( وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

١٤٦

( أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ) أي نادته بهذه البشرى ، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو معرب يوحنا ، ففى إنجيل متى : إنه يدعى يوحنا المعمدانى ، لأنه كان «يعمّد» الناس في زمانه.

والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء :

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن

لأمر قضاه الله في الناس من بدّ

فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.

( مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر ، وهى أن يكون الولد من أب وأم ، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها ، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة ، ناشئا من أصلاب قوم صالحين ، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.

روى أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت.

ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال.

( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ) قال الأستاذ الإمام : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها ، وحسن حالها ، واعتقادها أن المسخر لها ، والرازق لما عندها ، هو من يرزق من يشاء بغير حساب ، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه ، وانصرف عن العالم وما فيه ، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته ، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته ، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب ، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.

ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة ، وقد أوذن

١٤٧

بسماع ندائه واستجابة دعائه ـ سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة ، وهى على غير السنة الكونية ، فأجابه بقوله :

( قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته : كذلك الله يفعل ما يشاء ، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة ، فلا يحول دون مشيئته شىء ، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية ، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.

( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي قال : رب اجعل لى علامة تدلنى على الحمل ، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري ، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.

( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس ، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته ، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما ، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.

( وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له ، وسبحه في الصباح والمساء.

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) )

١٤٨

تفسير المفردات

الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس ، وكان ذلك خاصا بالرجال ، والتطهير يعم التطهير الحسى كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد ، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات ، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبى من غير أن يمسها رجل ، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هى مهيأة ومعدة له ، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود ، والقنوت : الطاعة مع الخضوع ، والسجود : التذلل ، والركوع : الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة ؛ والوحى جاء في القرآن لمعان :

(١) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى : «نُوحِي إِلَيْهِمْ ».

(٢) وللإلهام كما قال تعالى : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ».

(٣) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى : «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ».

(٤) وللإشارة كما قال تعالى : «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ».

فالوحى تعريف الموحى إليه بأمر خفىّ من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام ، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها ، ويختصمون : أي يتنازعون في كفالتها.

المعنى الجملي

هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران ، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.

الإيضاح

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم : «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ »

١٤٩

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله ، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له ، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة ، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.

( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس ، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية ، واختصك بولادة نبى دون أن يمسسك رجل ، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون» أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : «كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة».

وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال :

( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك ، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم ، بل هى وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين ، لتكون دلالة على صحة نبوتك ، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة ، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع ، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها ، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة ، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل

١٥٠

الفضل والذين ، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها ، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق ، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم ، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب دينى إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.

وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي ، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته ، لأنه نشأ بين قوم أميين ، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحى أو المشاهدة ، والوحى ينكرونه ، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.

ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » وقوله بعد قصة موسى وشعيب «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ».

والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم : إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها ، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها ، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم ، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح ، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها ، حتى إن أعظمها وأشهرها وهى الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ، ولا الزمن الذي كتبت فيه ، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)

١٥١

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

تفسير المفردات

المسيح : لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا ، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية ، والوجيه : ذو الجاه والكرامة ، والمهد : مفر الصبى حين رضاعه ، والكهل : من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين ، والكتاب : الكتابة والخط ، والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل ، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع ، والتوراة : كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه ، والإنجيل : هو الكتاب الذي أوحى إليه به ، والخلق : التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع ، والهيئة :

١٥٢

الصورة ، والأكمه : الذي يولد أعمى ، والأبرص : هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام ، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.

الإيضاح

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها ، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.

والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم ، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شىء قد خلق بكلمة التكوين ، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة ، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين ـ أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك ، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.

وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم ، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس ، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح ، وعن الملك بالمسيح.

١٥٣

والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم ، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض ، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء ، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد.

وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها ، إذ ليس له أب.

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام فى النفوس ، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى ، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد ، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم ، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شىء مما في أيديهم من متاع الحياة ، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.

ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه( وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) عند الله يوم القيامة ، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده.

( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا ، قال ابن عباس : كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.

والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا ، وعاش ثلاثين سنة ، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.

والخلاصة ـ إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به

١٥٤

المفترون عليها ، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه ، وأمره ونهيه.

( وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.

( قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) أي قالت : كيف يكون لى ولد وليس لى زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.

( قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب ـ يخلق الله ما يشاء.

ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل ، وفي الثانية بيخلق ، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة ، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب ، فيقال خلق الله السموات والأرض ، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.

وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل ، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة ـ أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة ، فالتعبير عنه بالخلق أليق.

( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء.

وهذا تمثيل لكمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع ، يفعل ما يطلب منه على الفور.

١٥٥

وهذا الأمر يسمى أمر تكوين ، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب ، وقوفا عند العادة ، وذهولا عن كيفية بدء العالم ، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة ، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شىء في الكون لم يكن معتادا من قبل ، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا ، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة.

والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا.

وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن ـ ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا ، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان ، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.

( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) أي ويعلمه الكتابة والخط ، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة ، ويعلمه أسرار أحكامها ، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها ، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

( وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) أي ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل ، روى أن الوحى أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا «أنى قد جئتكم بآية من ربكم» ثم فسرها بقوله :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) أي أنى أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا

١٥٦

حيا كسائر الطيور بأمره تعالى ، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة ـ إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن ، أنى أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون ، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق فى جو السماء كما تفعل بقية الطيور.

وقد روى أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.

وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدى الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها ، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل ، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير ، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ) وإنما خصا بالذكر ، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء ، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.

وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبىّ من جنس ما اشتهر في زمنه ؛ فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون ، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر ، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره ، وأعطى محمدا معجزة القرآن ، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.

وقد روى عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة ؛ فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن ، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما

١٥٧

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية : [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير ، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا].

والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية ، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس ، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه ، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شىء يعرفه ، فإن لم يمكنه بقي متحيرا ، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.

وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج ، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق ، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين ، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن ، وكذلك لا داعى للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هى (كن فيكون).

ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة ، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي ، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.

وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شىء مهمّ ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة ، لأننا نراها على أيدى أشخاص كثيرين ، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا ، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير

١٥٨

والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا ؛ فالإنسان أوّلا يشك ويقول : ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى ، ولكن الله يقول بعد ذلك : وأحيى الموتى لكى لا يدع مجالا للشك مطلقا.

إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام ، لأنه خلق من نطفة الأم فقط ، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم ، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين ؛ فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن ، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة ، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.

وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط ، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين ، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله ، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة ، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا ثم قال :

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات ، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.

وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس ، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه ، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان ، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحصل المعجزات إلا على أيدى الأنبياء ، وذلك لأن صدمتها إن كانت

١٥٩

شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها ، ويهيئ النبي نفسه لقبولها ، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها ، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى ، وأغلبها ينتهى إلى شىء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة ، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى ، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته ، ومن أمكنه استعاضة شىء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية ، وبواسطة أطباء العيون ، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى ، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ. وكذلك صنع أرجل جديدة ، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية ، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها ، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول ـ إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه ، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا ، وصنع واحدة كصنع الكل ، وهذا معنى قوله تعالى : «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ » ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط ، ولكنها كلها من نوع واحد ، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض : إن العلوم تتقدم ، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة ـ وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218