تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79259 / تحميل: 4791
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وطفق يقول:(قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدّست أم ولدته..) (١) .

٤ ـ كنيته: أبو جعفر، وهي كنية جده الباقرعليه‌السلام وللتمييز بينهما يكنّى بأبي جعفر الثاني، وأضاف فيدلائل الإمامة كنية ثانية له هي: أبو علي الخاص، وفسّر المتأخرون هذه العبارة بأنّ له كنية خاصة هي: (أبو علي)، وليست كنيته هي (أبو علي الخاص) كما يبدو للناظر في عبارة دلائل الإمامة.

٥ ـ ألقابه: أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي:

١ ـ الجواد: لُقب به لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس.

٢ ـ التقي: لقب به لأنه اتّقى الله وأناب إليه، واعتصم به ولم يستجب لأي داع من دواعي الهوى.

٣ ـ المرتضى.

٤ ـ القانع.

٥ ـ الرضي.

٦ ـ المختار.

٧ ـ باب المراد (٢) .

نقش خاتمه: يدل نقش خاتمهعليه‌السلام على شدة انقطاعهعليه‌السلام إلى الله سبحانه، فقد كان (العزّة لله)(٣) .

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧ ـ ٢٩.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣١.

٤١

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام (١٩٥ هـ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضاعليه‌السلام حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضاعليه‌السلام وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيهعليه‌السلام في اغتيال المأمون للرضاعليه‌السلام .

وبقي الإمام محمد الجوادعليه‌السلام بعد حادث استشهاد أبيهعليه‌السلام في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضاعليه‌السلام وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية.

وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة (٢١٨ هـ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة (٢٢٧ هـ) ولم يسمح للإمام الجوادعليه‌السلام بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمامعليه‌السلام ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة بأم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجوادعليه‌السلام ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (٢٢٠ هـ)، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجوادعليه‌السلام .

إذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم إلى قسمين وثلاث مراحل:

القسم الأول: حياته في عهد أبيه ، وهي المرحلة الأولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً.

و القسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة.

وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين:

المرحلة الأولى: حياته في عهد المأمون ، وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة ، وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة.

والمرحلة الثانية: وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة.

٤٢

وهكذا تتلخص مراحل حياتهعليه‌السلام كما يلي:

المرحلة الأولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضاعليه‌السلام حيث ولد سنة (١٩٥ هـ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضاعليه‌السلام في صفر من سنة (٢٠٣ هـ).

المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (٢٠٣ هـ) إلى سنة (٢١٨هـ).

المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (٢١٨ ـ ٢٢٠ هـ).

الفصل الثالث: الإمام الجواد في ظل أبيهعليهما‌السلام

قامت الدولة العباسية ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة إلى العلويين خاصة، ثم لأهل البيتعليهم‌السلام ، ثم إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان سرّ نجاحها في ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث تحكّم العباسيون وتسلّطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا فإنّ من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمّهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم نسباً ووشيجة.

فادّعاء العلويين الخلافة له مبرراته الكاملة، ولا سيَّما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم والعقل والحكمة وبعد النظر في الدين والسياسة، علاوة على ما كان يكنه الناس لهم من الاحترام والتقدير.

أضف إلى ذلك كله أن رجالات الإسلام وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) ؛ فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن والحسين وعلي زين العابدين وبقية الائمةعليهم‌السلام .

٤٣

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار نفوذ العلويين، ويتخوَّفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. فمثلاً وضع السفاح من أول عهده الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا وعلى ناحيتنا وأنهم أحق بالأمر منّا، واحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومَقدمهم)(١) .

أجل لقد أدرك العباسيون أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّدهم إنّما هو من قبل العلويين وعليه كان عليهم أن يتحركوا لمواجهة الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان، سيَّما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

سياسة العباسيين مع الرعية:

لا نريد أن نعرض لأنواع الظلامات التي كان العباسيون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الإلمام به ولا استقصاؤه في هذه العجالة.

وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الأمر الذي أسهم إسهاماً كبيراً في كشف حقيقتهم أمام الملأ، حتى لقد قال أبو عطاء السندي المتوفّى سنة (١٨٠ هـ):

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٦٦.

(٢) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨.

٤٤

إنّ المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين، يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، ولقد عمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بـ (السفّاح) وكذلك (المنصور)، بالإسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل(١) .

ويقول المؤرخون أيضاً عن أبي العباس السفاح أنّه كان سريعاً إلى سفك الدماء، فاتبعه عمّاله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم..(٢) .

لقد كان أبو جعفر المنصور يعلق الناس من أرجلهم حتى يؤدّوا ما عليهم..(٣) . ووصفه آخرون بأنه كان غادراً خدّاعاً، لا يتردد البتة في سفك الدماء... كان سادراً في بطشه، مستهتراً في فتكه، وتُعتبر معاملته لأولاد عليّ من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٤) .

وأما الهادي فقد كان يتناول المسكر ويحب اللهو والطرب وكان ذا ظلم وجبروت. وكان سيئ الأخلاق، قاسي القلب، جبّاراً، يتناول المسكر، ويلعب(٥) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٢) مروج الذهب: ٣/٢٢٢.

(٣) المحاسن والمساوئ: ٣٣٩.

(٤) مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي: ١٨٤.

(٥) تاريخ الخميس: ٢ / ٣٣١.

٤٥

وأما الرشيد، فيكفيه أنه ـ كما ينص المؤرخون ـ يشبه المنصور في كل شيء إلاّ في بذل المال حيث يقولون إن المنصور كان بخيلاً.

وهكذا لم يكن بقية الخلفاء العباسيين أفضل من الذين أشرنا إليهم، ولا كانت أيامهم بدعاً من تلك الأيام.

ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقيّة، هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والمأمون هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من غيرهم بما فيه، لأنهم عاشوا في خضمّ الأحداث، وشاهدوا كل شيء عن كثب، يقول المأمون في تلك الرسالة: (... وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره، إما مغنّ، أو ضارب دفّ، أو زامر، والله لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشِروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً. ليس منكم إلاّ من إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع. ولا تأنفون، ولا ترجعون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً كأنه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة..)(١) .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

٤٦

الحالة السياسية في هذه المرحلة:

لا يمكن من الناحية التاريخية أن يفصل دور أي إمام من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام عن دور مَن سبقه من الائمة أو دَور مَن يليه منهم، بالنظر إلى تنوع الأدوار والأعمال والمهمّات التي ينهضون بها مع اتحاد الهدف والغاية والمقصد.

كما إن من العناصر المهمّة في فهم دور الإمام الجوادعليه‌السلام في تحريك الأوضاع في الاتجاه الذي يخدم المصالح العليا للإسلام والمسلمين، إلمامنا بالخطوط العامة للوضع السياسي في مرحلتي تصديه للقيادة بعد شهادة أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام وقبل التصدي عندما كان في ظل أبيهعليه‌السلام وقد عاصر الإمام في هاتين المرحلتين خليفتين متميّزين بأسلوب الحكم وإن اشتركا بغصبهما لمنصب القيادة الشرعية والكيد لها وكانت إمامة الجوادعليه‌السلام واقعة في ملك ولدَي هارون الرشيد المأمون والمعتصم. وقبل تصديه للإمامة كان قد عاصر الأمين والمأمون معاً.

ولأجل أن نقف على أهم ملامح المرحلة الأولى من حياة هذا الإمام العظيم فلابد لنا أن نقف على أهم الأحداث السياسية لهذه المرحلة ونلمّ بأهم أسبابها وما خلّفته من آثار سلبية اجتماعية ودينية واقتصادية على الأمة الإسلامية عامة وعلى الدولة الإسلامية بشكل خاص.

ومن هنا لزم الوقوف عند ما يلي:

١ ـ الفتنة بين الأمين والمأمون.

٢ ـ الأمين ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

٣ ـ المأمون ونزعاته واتجاهاته وسياسته.

إن الفتنة بين محمد الأمين وعبد الله المأمون ولدَي هارون الرشيد تعتبر أهمّ حدث سياسي قد وقع في هذه الرحلة التي نتكلم عن ملامحها، وقد عُبّر عنها بالفتنة الكبرى التي أدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما وكلّفت المسلمين ثمناً باهضاً بذلوه من دماء وأموال وطاقات في سبيل استقرار الملك والسلطان لكل منهما.

وللوقوف على أسباب هذه الفتنة لابد أن نقف على شخصية كل واحد من هذين الأخوين بالإضافة إلى ما قام به الرشيد شخصياً لزرع بذور هذه الفتنة حيث عهد لأبنائه الثلاثة: الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن وبذلك قد مهّد لهم سبيل التنافس على المُلك مع ما منحهم من إمكانيات وقدرات مادّية يتنافسون بسببها ويأمل كل منهم حذف من سواه، وسوق منصب الخلافة لأبنائه دون إخوته.

٤٧

محمّد الأمين: نزعاته وسياسته

لم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأيّة نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته:

١ ـ كراهيته للعلم: كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب(١) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية؟

٢ ـ ضعف الرأي: وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: كان قبيح السيرة ضعيف الرأي

ـــــــــ

(١) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ١ / ١٦.

٤٨

يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه (١) .

ووصفه الكتبي بقوله: وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب(٢) .

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

٣ ـ احتجابه عن الرعيّة: واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وأمرائه وعمّاله واستخفّ بهم(٣) وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين أنّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الحرّاقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن. أمّا الحرّاقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر.

لقد كان الأمين إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولم يُعنَ بأيّ شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

ـــــــــ

(١) التنبيه والأشراف: ٣٠٢.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١٢.

(٣) سمط النجوم: ٣ / ٣٠٦.

٤٩

٤ ـ خلعه للمأمون: وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفّي الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلّد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأُمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه.

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته: (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

٥٠

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثر العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(١) .

وقد زحفت جيوش المأمون إلى قصر الأمين وطوّقته وألحقت الهزائم بجيشه، فلم تتمكّن قوّات الأمين من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما كان يملكه من العتاد والسلاح.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة مشغولاً بلهوه، إذ كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكان يوافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين!! وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (٢) .

ـــــــــ

(١) اتّجاهات الشعر العربي: ٧٣.

(٢) عيون التواريخ: ٣، ورقة: ٢١١ / حياة الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : ١٩٣ ـ ١٩٧.

٥١

خلافة إبراهيم الخليع:

سمّي إبراهيم بالخليع لأنه لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العبّاسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)(١) .

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

ثورة أبي السرايا:

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمّدعليه‌السلام ) الذين كانوا هم الأمل الكبير للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع

ـــــــــ

(١) حياة الإمام محمّد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨.

٥٢

بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين على جميع صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة(١)

لقد عاش الإمام أبو جعفر محمّد الجوادعليه‌السلام معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم.. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ، فزوّجه من ابنته أم الفضل، ووفّر له العطاء الجزيل، وكان يحوطه، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر، ويضنّ به على المكروه، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله، وصلة الرحم التي قطعها آباؤه، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له، وإنّما كان لدوافع سياسية نعرض لها في المباحث الآتية.

وعلى أيّة حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون، والوقوف على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمامعليه‌السلام فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً بالبحث عن حياة الإمام أبي جعفرعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٥٣

عبد الله المأمون: نزعاته وسياسته

عبد الله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة (١٧٠ هـ) وبويع له بمرو فتوجه إلى بغداد وقدمها وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام.

وأمه أم ولد تسمّى مراجِل.

من أبرز نزعات المأمون وصفاته:

١ ـ الدهاء: لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة ، فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل، حتّى استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العبّاسيّة، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمل الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وكانعليه‌السلام زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمامعليه‌السلام على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

٢ ـ القسوة: وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة أخرى له، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه. كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضاعليه‌السلام بمنتهى الشدّة والقسوة، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

٥٤

٣ ـ الغدر: فقد بايع للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

٤ ـ ميله إلى اللهو: أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

لعبه بالشطرنج:

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج(١) فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات:

أرض مربّعة حمراء من أدم

ما بين ألفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة

في عسكرين بلا طبل ولا علم(٢)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

ـــــــــ

(١) العقد الفريد: ٣ / ٢٥٤.

(٢) المستطرف: ٢ / ٣٠٦.

٥٥

ولعبه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي، وقد قال فيه: كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان(١) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

٥ ـ تظاهره بالتشيّع:

لقد تظاهر المأمون بالتشيّع، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي:

أ ـ ردّ فدك للعلويّين: بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكّام، وقد أنعش المأمون العلويّين، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه.

ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الصحابة: وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمامعليه‌السلام ، والحطّ من شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ـــــــــ

(١) الحضارة العربية لجاك س. ريلر: ١٠٨.

٥٦

ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا عليه‌السلام : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين.

ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الأُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه، ويدلّ على ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً، ومن صميم العبّاسيّين، أمّا أُمّ المأمون فهي مراجل، وكانت من إماء القصر العبّاسي، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمه، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم.

ثانياً: إنّه أراد كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً: إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة(١) .

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٢١ ـ ٢٢٥.

٥٧

وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته:

كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل إلى اللعب والبطالة أكثر منه إلى الجد والحزم.

ولعل سرّ ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن أدرك واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه.

ويُلاحظ أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وأن الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة.

ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين.

وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون(١) .

وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام(٢) .

وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له

ـــــــــ

(١) حياة الحيوان: ١ / ٧٢.

(٢) الفهرست: ١٧٤، ابن النديم.

٥٨

بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم (١) .

وما يهمنا هنا، هو مجرد الإشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير.

وبالرغم من جدارة المأمون فيما إذا قورن إلى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة(٢) .

ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع إلى أن الأمين كان عبّاسيّاً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه: هارون، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة وأعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين.

أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذاً من أخيه الفضل. وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه لأنه كان متهماً بالميل إلى العلويين... أما أم المأمون فخراسانية غير عربية...(٣) .

التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها

لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج إلى الكثير من الدهاء.

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٢.

(٣) راجع الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٥٩

وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي:

١ ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الإسلامية آنذاك نموذجاً له.

٢ ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها إلى جانب الأمين أولاً، ثم عزلها له وتعيين عمه إبراهيم بن المهدي بعد ذلك.

٣ ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الأخرى.

٤ ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الإسلامية، خصوصاً الدولة البيزنطية.

وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي:

أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده.

ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للأمة أنه مع القيادة الشرعية وأنه نقل الحكم إليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للأمة باتجاه إقامة الحكم بقيادة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين.

رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضاعليه‌السلام بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة.

خامساً ـ التوجّه إلى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي.

سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه.

سابعاً ـ إشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم.

ثامناً ـ تصفية قوى المعارضة من قبيل الخوارج.

تاسعاً ـ التوجه لمحاربة الدولة البيزنطية ودفع خطرها.

العلاقة بين الإمام الرضاعليه‌السلام والمأمون

وصلت المسيرة الإسلامية إثناء إمامة الرضاعليه‌السلام إلى مرحلة متقدمة نتيجة الجهود العظيمة التي بذلها الأئمة السابقون على الإمام الرضاعليه‌السلام مما جعل السلطة العباسية مضطرة للدخول فيما دخلت فيه من تولية الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد والإيحاء بتحويل الخلافة من العباسيين لأهل البيتعليهم‌السلام . ولإيضاح هذا الأمر نذكر الأُمور التالية:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تفسير المفردات

الاصطفاء : أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء ، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد ، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار ، وللواحد والكثير ، والنذر : ما يوجبه الإنسان على نفسه ، والمحرر : المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر ، والتقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول ، أعيذها بك : أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به ، يقال عاذ بفلان إذا استجار به ، والرجيم : أي المرجوم المطرود من الخير ، ومريم بالعبرية خادم الرب ، وتقبل الشيء وقبله : أي رضيه لنفسه ، وأنبتها : أي رباها بما يصلح أحوالها ، وكفلها زكريا : أي وجغل زكريا كافلإلها ، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام ، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد ، أني لك هذا : أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب ، بغير حساب : أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد ، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد ، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته ـ ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهى الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.

الإيضاح

( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم.

١٤١

فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى : «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » وكان من ذريته النبيون والمرسلون.

وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر ، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم ، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين ، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية.

فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا ، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران ، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران ، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه ، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.

( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض ، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم ، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم.

وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.

وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم ، على نحو قوله تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله : «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

١٤٢

وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهى حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس ، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها ، العليم بصحة نيتها وإخلاصها ، وهذا يستدعى تقبل الدعاء ، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.

وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين ، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام ، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.

( فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة ، والأنثى لا تصلح لذلك.

( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها ، وأنها خير من كثير من الذكور.

وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها ، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هى خير مما كانت ترجوه من الذّكران.

( وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) أي وإنى غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس ، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات ، وإنى أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.

روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كل بنى آدم

١٤٣

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها ، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة ، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه ، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ولو بالوسوسة.

( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها ، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.

( وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي.

وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية ، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة ، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأى.

( وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها.

( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.

روى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.

( قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ ) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.

( قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض ، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله ، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.

وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل ، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر.

١٤٤

وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد ، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني ، واصطفى إبراهيم وآله على البشر ، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك ، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا ، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك ؛ فالله يصطفى من خلقه من يشاء ، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين ، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) )

تفسير المفردات

الذرية : الولد ، وتقع على الواحد والكثير ، والطيب : ما تستطاب أفعاله وأخلاقه ، سميع الدعاء : أي مجيبه كما يقال : سمع الله لمن حمده ، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع ،

١٤٥

وكلمة الله : عيسى عليه السلام ، والسيد الرئيس يسود قومه ، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال ، من الصالحين : أي من أصلابهم ، والصلاح صفة تجمع الخير كله أنى يكون لى؟ أي كيف يحصل لى ، بلغني الكبر : أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ ، عاقر : أي عقيم لا تلد ، آية : أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر ، ألا تكلم الناس : أي لا تستطيع الكلام ، والرمز : الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما ، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه ، والعشى : الوقت من الزوال إلى الغروب ، والإبكار : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

الإيضاح

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء ، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده ؛ فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.

( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد ، وركب السفن ، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة ، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس ، وأنت إنما سمعته من واحد.

ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل ، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.

( وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

١٤٦

( أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ) أي نادته بهذه البشرى ، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو معرب يوحنا ، ففى إنجيل متى : إنه يدعى يوحنا المعمدانى ، لأنه كان «يعمّد» الناس في زمانه.

والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء :

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن

لأمر قضاه الله في الناس من بدّ

فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.

( مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر ، وهى أن يكون الولد من أب وأم ، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها ، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة ، ناشئا من أصلاب قوم صالحين ، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.

روى أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت.

ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال.

( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ) قال الأستاذ الإمام : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها ، وحسن حالها ، واعتقادها أن المسخر لها ، والرازق لما عندها ، هو من يرزق من يشاء بغير حساب ، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه ، وانصرف عن العالم وما فيه ، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته ، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته ، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب ، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.

ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة ، وقد أوذن

١٤٧

بسماع ندائه واستجابة دعائه ـ سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة ، وهى على غير السنة الكونية ، فأجابه بقوله :

( قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته : كذلك الله يفعل ما يشاء ، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة ، فلا يحول دون مشيئته شىء ، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية ، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.

( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي قال : رب اجعل لى علامة تدلنى على الحمل ، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري ، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.

( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس ، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته ، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما ، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.

( وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له ، وسبحه في الصباح والمساء.

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) )

١٤٨

تفسير المفردات

الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس ، وكان ذلك خاصا بالرجال ، والتطهير يعم التطهير الحسى كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد ، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات ، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبى من غير أن يمسها رجل ، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هى مهيأة ومعدة له ، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود ، والقنوت : الطاعة مع الخضوع ، والسجود : التذلل ، والركوع : الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة ؛ والوحى جاء في القرآن لمعان :

(١) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى : «نُوحِي إِلَيْهِمْ ».

(٢) وللإلهام كما قال تعالى : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ».

(٣) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى : «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ».

(٤) وللإشارة كما قال تعالى : «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ».

فالوحى تعريف الموحى إليه بأمر خفىّ من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام ، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها ، ويختصمون : أي يتنازعون في كفالتها.

المعنى الجملي

هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران ، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.

الإيضاح

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم : «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ »

١٤٩

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله ، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له ، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة ، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.

( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس ، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية ، واختصك بولادة نبى دون أن يمسسك رجل ، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون» أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : «كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة».

وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال :

( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك ، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم ، بل هى وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين ، لتكون دلالة على صحة نبوتك ، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة ، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع ، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها ، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة ، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل

١٥٠

الفضل والذين ، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها ، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق ، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم ، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب دينى إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.

وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي ، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته ، لأنه نشأ بين قوم أميين ، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحى أو المشاهدة ، والوحى ينكرونه ، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.

ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » وقوله بعد قصة موسى وشعيب «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ».

والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم : إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها ، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها ، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم ، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح ، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها ، حتى إن أعظمها وأشهرها وهى الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ، ولا الزمن الذي كتبت فيه ، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)

١٥١

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

تفسير المفردات

المسيح : لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا ، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية ، والوجيه : ذو الجاه والكرامة ، والمهد : مفر الصبى حين رضاعه ، والكهل : من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين ، والكتاب : الكتابة والخط ، والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل ، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع ، والتوراة : كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه ، والإنجيل : هو الكتاب الذي أوحى إليه به ، والخلق : التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع ، والهيئة :

١٥٢

الصورة ، والأكمه : الذي يولد أعمى ، والأبرص : هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام ، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.

الإيضاح

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها ، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.

والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم ، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شىء قد خلق بكلمة التكوين ، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة ، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين ـ أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك ، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.

وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم ، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس ، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح ، وعن الملك بالمسيح.

١٥٣

والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم ، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض ، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء ، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد.

وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها ، إذ ليس له أب.

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام فى النفوس ، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى ، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد ، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم ، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شىء مما في أيديهم من متاع الحياة ، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.

ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه( وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) عند الله يوم القيامة ، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده.

( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا ، قال ابن عباس : كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.

والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا ، وعاش ثلاثين سنة ، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.

والخلاصة ـ إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به

١٥٤

المفترون عليها ، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه ، وأمره ونهيه.

( وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.

( قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) أي قالت : كيف يكون لى ولد وليس لى زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.

( قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب ـ يخلق الله ما يشاء.

ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل ، وفي الثانية بيخلق ، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة ، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب ، فيقال خلق الله السموات والأرض ، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.

وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل ، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة ـ أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة ، فالتعبير عنه بالخلق أليق.

( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء.

وهذا تمثيل لكمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع ، يفعل ما يطلب منه على الفور.

١٥٥

وهذا الأمر يسمى أمر تكوين ، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب ، وقوفا عند العادة ، وذهولا عن كيفية بدء العالم ، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة ، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شىء في الكون لم يكن معتادا من قبل ، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا ، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة.

والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا.

وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن ـ ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا ، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان ، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.

( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) أي ويعلمه الكتابة والخط ، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة ، ويعلمه أسرار أحكامها ، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها ، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

( وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) أي ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل ، روى أن الوحى أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا «أنى قد جئتكم بآية من ربكم» ثم فسرها بقوله :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) أي أنى أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا

١٥٦

حيا كسائر الطيور بأمره تعالى ، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة ـ إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن ، أنى أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون ، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق فى جو السماء كما تفعل بقية الطيور.

وقد روى أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.

وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدى الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها ، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل ، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير ، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ) وإنما خصا بالذكر ، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء ، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.

وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبىّ من جنس ما اشتهر في زمنه ؛ فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون ، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر ، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره ، وأعطى محمدا معجزة القرآن ، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.

وقد روى عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة ؛ فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن ، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما

١٥٧

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية : [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير ، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا].

والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية ، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس ، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه ، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شىء يعرفه ، فإن لم يمكنه بقي متحيرا ، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.

وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج ، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق ، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين ، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن ، وكذلك لا داعى للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هى (كن فيكون).

ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة ، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي ، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.

وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شىء مهمّ ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة ، لأننا نراها على أيدى أشخاص كثيرين ، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا ، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير

١٥٨

والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا ؛ فالإنسان أوّلا يشك ويقول : ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى ، ولكن الله يقول بعد ذلك : وأحيى الموتى لكى لا يدع مجالا للشك مطلقا.

إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام ، لأنه خلق من نطفة الأم فقط ، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم ، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين ؛ فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن ، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة ، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.

وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط ، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين ، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله ، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة ، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا ثم قال :

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات ، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.

وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس ، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه ، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان ، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحصل المعجزات إلا على أيدى الأنبياء ، وذلك لأن صدمتها إن كانت

١٥٩

شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها ، ويهيئ النبي نفسه لقبولها ، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها ، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى ، وأغلبها ينتهى إلى شىء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة ، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى ، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته ، ومن أمكنه استعاضة شىء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية ، وبواسطة أطباء العيون ، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى ، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ. وكذلك صنع أرجل جديدة ، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية ، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها ، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول ـ إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه ، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا ، وصنع واحدة كصنع الكل ، وهذا معنى قوله تعالى : «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ » ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط ، ولكنها كلها من نوع واحد ، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض : إن العلوم تتقدم ، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة ـ وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218