تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى27%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79294 / تحميل: 4792
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تفسير المفردات

الاصطفاء : أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء ، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد ، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار ، وللواحد والكثير ، والنذر : ما يوجبه الإنسان على نفسه ، والمحرر : المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر ، والتقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول ، أعيذها بك : أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به ، يقال عاذ بفلان إذا استجار به ، والرجيم : أي المرجوم المطرود من الخير ، ومريم بالعبرية خادم الرب ، وتقبل الشيء وقبله : أي رضيه لنفسه ، وأنبتها : أي رباها بما يصلح أحوالها ، وكفلها زكريا : أي وجغل زكريا كافلإلها ، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام ، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد ، أني لك هذا : أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب ، بغير حساب : أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد ، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد ، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته ـ ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهى الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.

الإيضاح

( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم.

١٤١

فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى : «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » وكان من ذريته النبيون والمرسلون.

وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر ، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم ، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين ، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية.

فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا ، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران ، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران ، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه ، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.

( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض ، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم ، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم.

وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم.

وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم ، على نحو قوله تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله : «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

١٤٢

وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ».

( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهى حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس ، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها ، العليم بصحة نيتها وإخلاصها ، وهذا يستدعى تقبل الدعاء ، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا.

وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين ، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام ، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.

( فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة ، والأنثى لا تصلح لذلك.

( وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها ، وأنها خير من كثير من الذكور.

وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها ، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هى خير مما كانت ترجوه من الذّكران.

( وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) أي وإنى غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس ، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات ، وإنى أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.

روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كل بنى آدم

١٤٣

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها ، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة ، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه ، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ولو بالوسوسة.

( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها ، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.

( وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي.

وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية ، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة ، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأى.

( وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها.

( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان.

روى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.

( قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ ) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط.

( قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض ، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله ، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.

وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل ، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر.

١٤٤

وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد ، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني ، واصطفى إبراهيم وآله على البشر ، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك ، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم ، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا ، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك ؛ فالله يصطفى من خلقه من يشاء ، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين ، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) )

تفسير المفردات

الذرية : الولد ، وتقع على الواحد والكثير ، والطيب : ما تستطاب أفعاله وأخلاقه ، سميع الدعاء : أي مجيبه كما يقال : سمع الله لمن حمده ، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع ،

١٤٥

وكلمة الله : عيسى عليه السلام ، والسيد الرئيس يسود قومه ، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال ، من الصالحين : أي من أصلابهم ، والصلاح صفة تجمع الخير كله أنى يكون لى؟ أي كيف يحصل لى ، بلغني الكبر : أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ ، عاقر : أي عقيم لا تلد ، آية : أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر ، ألا تكلم الناس : أي لا تستطيع الكلام ، والرمز : الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما ، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه ، والعشى : الوقت من الزوال إلى الغروب ، والإبكار : من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

الإيضاح

( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء ، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده ؛ فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.

( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد ، وركب السفن ، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة ، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس ، وأنت إنما سمعته من واحد.

ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل ، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.

( وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

١٤٦

( أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ) أي نادته بهذه البشرى ، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى » وهو معرب يوحنا ، ففى إنجيل متى : إنه يدعى يوحنا المعمدانى ، لأنه كان «يعمّد» الناس في زمانه.

والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء :

وسميته يحيى ليحيا فلم يكن

لأمر قضاه الله في الناس من بدّ

فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.

( مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله( كُنْ فَيَكُونُ ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر ، وهى أن يكون الولد من أب وأم ، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها ، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة ، ناشئا من أصلاب قوم صالحين ، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم.

روى أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت.

ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال.

( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ) قال الأستاذ الإمام : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها ، وحسن حالها ، واعتقادها أن المسخر لها ، والرازق لما عندها ، هو من يرزق من يشاء بغير حساب ، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه ، وانصرف عن العالم وما فيه ، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته ، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته ، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب ، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب.

ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة ، وقد أوذن

١٤٧

بسماع ندائه واستجابة دعائه ـ سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة ، وهى على غير السنة الكونية ، فأجابه بقوله :

( قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته : كذلك الله يفعل ما يشاء ، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة ، فلا يحول دون مشيئته شىء ، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية ، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.

( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) أي قال : رب اجعل لى علامة تدلنى على الحمل ، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري ، وقيل : ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.

( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس ، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته ، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما ، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.

( وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له ، وسبحه في الصباح والمساء.

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) )

١٤٨

تفسير المفردات

الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس ، وكان ذلك خاصا بالرجال ، والتطهير يعم التطهير الحسى كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد ، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات ، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبى من غير أن يمسها رجل ، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هى مهيأة ومعدة له ، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود ، والقنوت : الطاعة مع الخضوع ، والسجود : التذلل ، والركوع : الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة ؛ والوحى جاء في القرآن لمعان :

(١) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى : «نُوحِي إِلَيْهِمْ ».

(٢) وللإلهام كما قال تعالى : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ».

(٣) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى : «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ».

(٤) وللإشارة كما قال تعالى : «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ».

فالوحى تعريف الموحى إليه بأمر خفىّ من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام ، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها ، ويختصمون : أي يتنازعون في كفالتها.

المعنى الجملي

هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران ، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.

الإيضاح

( وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم : «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ »

١٤٩

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله ، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له ، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة ، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.

( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس ، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية ، واختصك بولادة نبى دون أن يمسسك رجل ، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون» أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : «كمل من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة».

وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال :

( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك ، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم ، بل هى وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين ، لتكون دلالة على صحة نبوتك ، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة ، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع ، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.

( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها ، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة ، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل

١٥٠

الفضل والذين ، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها ، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق ، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم ، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب دينى إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.

وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي ، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته ، لأنه نشأ بين قوم أميين ، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحى أو المشاهدة ، والوحى ينكرونه ، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.

ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » وقوله بعد قصة موسى وشعيب «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ».

والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم : إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها ، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها ، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم ، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح ، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها ، حتى إن أعظمها وأشهرها وهى الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ، ولا الزمن الذي كتبت فيه ، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)

١٥١

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

تفسير المفردات

المسيح : لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا ، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية ، والوجيه : ذو الجاه والكرامة ، والمهد : مفر الصبى حين رضاعه ، والكهل : من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين ، والكتاب : الكتابة والخط ، والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل ، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع ، والتوراة : كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه ، والإنجيل : هو الكتاب الذي أوحى إليه به ، والخلق : التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع ، والهيئة :

١٥٢

الصورة ، والأكمه : الذي يولد أعمى ، والأبرص : هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام ، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.

الإيضاح

( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها ، وأمرتها بعبادته ودوام شكره.

والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم ، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شىء قد خلق بكلمة التكوين ، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة ، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين ـ أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك ، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.

وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم ، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس ، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح ، وعن الملك بالمسيح.

١٥٣

والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم ، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض ، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء ، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد.

وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها ، إذ ليس له أب.

( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام فى النفوس ، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى ، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد ، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم ، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شىء مما في أيديهم من متاع الحياة ، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء.

ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه( وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) عند الله يوم القيامة ، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده.

( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا ، قال ابن عباس : كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام.

والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد ، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا ، وعاش ثلاثين سنة ، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.

والخلاصة ـ إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به

١٥٤

المفترون عليها ، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه ، وأمره ونهيه.

( وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.

( قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) أي قالت : كيف يكون لى ولد وليس لى زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.

( قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب ـ يخلق الله ما يشاء.

ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل ، وفي الثانية بيخلق ، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة ، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب ، فيقال خلق الله السموات والأرض ، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.

وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل ، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة ـ أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة ، فالتعبير عنه بالخلق أليق.

( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء.

وهذا تمثيل لكمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع ، يفعل ما يطلب منه على الفور.

١٥٥

وهذا الأمر يسمى أمر تكوين ، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب ، وقوفا عند العادة ، وذهولا عن كيفية بدء العالم ، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة ، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شىء في الكون لم يكن معتادا من قبل ، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا ، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة.

والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا.

وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن ـ ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا ، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان ، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.

( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) أي ويعلمه الكتابة والخط ، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة ، ويعلمه أسرار أحكامها ، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها ، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه.

( وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) أي ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل ، روى أن الوحى أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء.

( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا «أنى قد جئتكم بآية من ربكم» ثم فسرها بقوله :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) أي أنى أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا

١٥٦

حيا كسائر الطيور بأمره تعالى ، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة ـ إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن ، أنى أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون ، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق فى جو السماء كما تفعل بقية الطيور.

وقد روى أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله.

وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدى الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها ، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل ، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير ، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية.

( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ) وإنما خصا بالذكر ، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء ، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس.

وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبىّ من جنس ما اشتهر في زمنه ؛ فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون ، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر ، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره ، وأعطى محمدا معجزة القرآن ، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان.

وقد روى عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة ؛ فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن ، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما

١٥٧

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية : [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير ، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا].

والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية ، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس ، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه ، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شىء يعرفه ، فإن لم يمكنه بقي متحيرا ، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا.

وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج ، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق ، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين ، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن ، وكذلك لا داعى للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هى (كن فيكون).

ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة ، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي ، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه.

وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شىء مهمّ ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر.

وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة ، لأننا نراها على أيدى أشخاص كثيرين ، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا ، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير

١٥٨

والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا ؛ فالإنسان أوّلا يشك ويقول : ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى ، ولكن الله يقول بعد ذلك : وأحيى الموتى لكى لا يدع مجالا للشك مطلقا.

إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام ، لأنه خلق من نطفة الأم فقط ، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم ، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين ؛ فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن ، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة ، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح.

وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط ، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين ، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله ، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة ، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا ثم قال :

المعجزات كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات ، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير.

وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس ، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه ، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان ، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.

ولا تحصل المعجزات إلا على أيدى الأنبياء ، وذلك لأن صدمتها إن كانت

١٥٩

شديدة على الحاضرين ، فهى أشد على من يكون واسطة فيها ، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.

ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها ، ويهيئ النبي نفسه لقبولها ، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها ، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى ، وأغلبها ينتهى إلى شىء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة ، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى ، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته ، ومن أمكنه استعاضة شىء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل.

وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية ، وبواسطة أطباء العيون ، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى ، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ. وكذلك صنع أرجل جديدة ، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية ، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها ، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم.

وصفوة القول ـ إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه ، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا ، وصنع واحدة كصنع الكل ، وهذا معنى قوله تعالى : «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ » ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط ، ولكنها كلها من نوع واحد ، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه.

وقد يقول البعض : إن العلوم تتقدم ، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة ـ وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

[ كما بدء ] فطوبى للغرباء، فقد عاد الاسلام كما قالعليه‌السلام غريباً في هذا الزَّمان كما بدء وسيقوي بظهور وليِّ الله وحجّته كما قوى بظهور نبيِّ الله ورسوله وتقرُّ بذلك أعين المنتظرين له والقائلين بإمامته كما قرَّت أعين المنتظرين لرسول الله والعارفين به بعد ظهوره، وإن الله عزَّ وجلَّ لينجّز لاوليائه ما وعدهم ويعلي كلمته ويتم نوره ولو كره المشركون.

٤٦ - حدّثنا جعفر بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن عبد الله بن المغيرة الكوفيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثني جدِّي الحسن بن عليٍّ، عن جدِّه عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل ابن مسلم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الاسلام بدء غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.

٤٧ - حدّثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلويُّ العمري السمرقنديُّرضي‌الله‌عنه - قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسعود، عن أبيه محمّد بن مسعود، عن جعفر بن أحمد العمركيِّ ابن عليّ البوفكيّ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عليّ بن موسى الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليٍّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الاسلام بدء غريباً وسيعود غريبا كما بدء، فطوبى للغرباء.

٢١

( باب )

* ( العلة الّتى من أجلها يحتاج إلى الامامعليه‌السلام ) *

١ - حدّثنا أبي؛ ومحمّد الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن عيسى بن عبيد، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن الفضيل عن أبي حمزة الثماليِّ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: أتبقي الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت.

٢ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد -

٢٠١

ابن الحسن الصفّار قال: حدّثنا العبّاس بن معروف، عن عليِّ بن مهزيار، عن محمّد ابن الهيثم، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرِّضاعليه‌السلام قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام، فقال: لا، قلت: فإنّا نروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّها لا تبقى بغير إمام إلّا أن يسخط الله على أهل الأرض أو على العباد، فقال: لا تبقى إذا لساحت.

٣ - حدّثنا أبي؛ ومحمّد الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن عيسى بن عبيد، عن أبي عبد الله زكريّا بن محمّد المؤمن، عن أبي - هراسة، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال: لو أنَّ الامام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله(١) .

٤ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن - محمّد بن عيسى، وإبراهيم بن مهزيار، عن عليّ بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن أبي عليٍّ البجليِّ، عن أبان بن عثمان، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث له في الحسين عليٍّعليهما‌السلام أنَّه قال في آخره: ولو لا من على الأرض من حجج الله لنفضت الأرض ما فيها وألقت ما عليها، إنَّ الأرض لا تخلو ساعة من الحجّة.

٥ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أبي داود سليمان بن سفيان المسترق، عن أحمد بن عمر الحلّال قال: قتل لابي الحسن الرِّضاعليه‌السلام : إنّا روِّينا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنَّه قال: إنَّ الأرض لا تبقى بغير إمام، أو تبقى ولا إمام فيها؟ فقال: معاذ الله لا تبقى ساعة إذا لساخت.

٦ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا الحسن بن أحمد المالكيُّ، عن أبيه عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضاعليه‌السلام : نحن حجج الله في خلقه، وخلفاؤه في عباده، وأمناؤه على سرِّه، ونحن كلمة التقوى، والعروة الوثقى، ونحن شهداء الله وأعلامه في بريّته، بنا يمسك الله السموات والارض أنَّ تزولا، وبنا ينزِّل الغيث وينشر الرَّحمة، ولا تخلو الأرض من قائم منّا ظاهر أو خاف، ولو خلت يوماً بغير حجّة

__________________

(١) ماج أي اضطرب.

٢٠٢

 لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله.

٧ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله؛ وعبد الله بن جعفر الحميريُّ قالا: حدّثنا إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه عليّ بن مهزيار، عن محمّد بن أبي عمير، عن سعد ابن أبي خلف، عن الحسن بن زياد قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: إنَّ الأرض لا تخلو من أن يكون فيها [ حجة ] عالم، إنَّ الأرض لا يصلحها إلّا ذلك ولا يصلح النّاس إلّا ذلك.

٨ - وبهذا الاسناد، عن عليِّ بن مهزيار، عن الحسن بن عليٍّ الخزاز، عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: فقال: لا، قلت: فإنّا نروى أنّها لا تبقى إلّا أن يسخط الله على العباد؟ فقال: لا تبقى إذا لساخت.

٩ - حدّثنا أبي؛ ومحمّد بن الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله وعبد الله جعفر قالا: حدّثنا محمّد بن عيسى؛ ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أبي عبد الله المؤمن، والحسن بن عليّ بن فضال، عن أبي هراسة، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لو أنَّ الامام رفع من الأرض لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله.

١٠ - حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر قالا: حدّثنا محمّد بن عيسى، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب جميعاً عن محمّد بن سنان، عن حمزة الطيّار قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: لو لم يبق من أهل الأرض(١) إلّا اثنان لكان أحدهما الحجة. - أو كان الثاني الحجّة - الشك من محمّد بن سنان.

١١ - وبهذا الاسناد، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن أبي الصّباح، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: أنَّ الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلّا وفيها عالم يعلم الزِّيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم ولو لا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم.

١٢ - وبهذا الاسناد، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يدع الأرض بغير عالم ولو لا ذلك

____________

(١) في بعض النسخ « لو لم يبق في الأرض » وفي بعضها « من الدُّنيا ».

٢٠٣

لما عرف الحقُّ من الباطل.

١٣ - حدّثنا أبي؛ ومحمّد بن الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله؛ وعبد الله بن جعفر قالا: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن أحمد بن هلال في حال استقامته(١) عن محمّد بن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة قال: قلت لابي عبد اللهعليه‌السلام : يمضي الامام وليس له عقب؟ قال: لا يكون ذلك قلت: فيكون ماذا؟ قال: لا يكون ذلك إلّا أن يغضب الله عزَّ وجلَّ على خلقه فيعاجهلم.

١٤ - حدّثنا أبي؛ ومحمّد بن الحسن رضي الله عنهما قالا: حدّثنا عبد الله بن جعفر قال: حدّثنا محمّد بن أحمد، عن أبي سعيد العصفريِّ(٢) ، عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا لساخت بأهلها ولعذَّبهم الله بأشدِّ عذابه، أنَّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجّة في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أنَّ تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما شاء وأحبَّ.

١٥ - حدّثنا أبي، ومحمّد بن الحسن رضي الله عنهما قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميريُّ، عن أحمد بن هلال، عن سعيد بن جناح، عن سليمان الجعفريِّ قال: سألت أبا الحسن الرِّضاعليه‌السلام فقلت: أتخلو الأرض من حجّة؟ فقال: لو خلت من حجّة طرفة عين لساخت بأهلها.

١٦ - حدّثنا محمّد بن الحسنرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله؛ وعبد الله بن جعفر الحميريُّ جميعاً، عن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن إسماعيل الميثميِّ، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الاعلى بن أعين، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: ما

__________________

(١) أحمد بن هلال العبرتائي من أصحاب الهاديعليه‌السلام كان غالبا متهماً في دينه ويظهر من هذا الكلام استقامته في أول الامر ثمّ تحزبه إلى الضلال.

(٢) كذا وهو أبو سعيد العصفوري المعنون في جامع الرواة باب الكنى.

٢٠٤

ترك الله الأرض بغير عالم ينقص ما زادوا ويزيد ما نقصوا، ولولا ذلك لا اختلطت على النّاس اُمورهم.

١٧ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميريُّ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن داود، عن فضيل الرّسّان قال: كتب محمّد بن إبراهيم إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبو عبد اللهعليه‌السلام : أنَّ الكواكب جعلت في السّماء أماناً لأهل السّماء، فإذا ذهبت نجوم السّماء جاء أهل السّماء ما كانوا يوعدون، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جعل أهل بيتي أماناً لاُمّتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء امّتي ما كانوا يوعدون ».

١٨ - حدّثنا محمّد بن عمر الحافظ البغداديُّ(١) قال: حدّثنا أحمد بن عبد العزيز ابن الجعد أبو بكر قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن صالح قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيده، عن أياس بن سلمة، عن أبيه يرفعه قال: قال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النجوم أمان لاهل السّماء وأهل بيتي أمان لاُمّتي.

١٩ - حدّثنا محمّد بن عمر قال: حدّثني أبو بكر محمّد بن السري بن سهل قال: حدّثنا عبّاس بن الحسين(٢) قال: حدّثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جدِّه، عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: قال رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النجوم أمان لاهل السّماء فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السّماء، وأهل بيتي أمان لاهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الارض.

٢٠ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد ابن عيسى، عن العبّاس بن معروف، عن عبد الله بن عبد الرّحمن البصريِّ، عن أبي المغرا حميد

__________________

(١) هو محمّد بن عمر بن محمّد بن سالم أبو بكر التميمي يعرف بابن الجعابي.

(٢) يحتمل أن يكون هو عبّاس بن الحسين البلخي أبو الفضل الّذي سكن بغداد وتوفي سنة ٢٥٨. والمراد بمحمد بن السري بن سهل أما أبو المؤمل البغدادي أو أبو بكر القنطري أو أبو بكر البزاز. والعلم عند الله.

٢٠٥

ابن المثنّى العجليِّ، عن أبي بصير، عن خيثمة الجعفيِّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: نحن جنب الله، ونحن صفوته، ونحن حوزته، ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن امناء الله عزَّ وجلَّ، ونحن حجج الله، ونحن أركان الايمان، ونحن دعائم الاسلام، ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن من بنا يفتح وبنا يختم، ونحن أئمّة الهدى، ونحن مصابيح الدُّجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون، ونحن الاخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسّك بنا لحق، ومن تأخّر عنّا غرق، ونحن قادة الغرّ المحجّلين، ونحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله عزَّ وجلَّ، ونحن من نعمة الله عزَّ وجلَّ على خلقه، ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوَّة، ونحن موضع الرسالة، ونحن الّذين إلينا تختلف الملائكة، ونحن السِّراج لمن استضاء بنا، ونحن السّبيل لمن اقتدى بنا، ونحن الهداة إلى الجنّة، ونحن عرى الاسلام، ونحن الجسور والقناطر(١) ، من مضى عليها لم يسبق، ومن تخلّف عنها محق، ونحن السّنام الاعظم، ونحن الّذين بنا ينزل الله عزَّ وجلَّ الرَّحمة، وبنا يسقون الغيث، ونحن الّذين بنا يصرف عنكم العذاب، فمن عرفنا وأبصرنا وعرف حقّنا وأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا.

٢١ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد ابن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي الطفيل(٢) ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامير المؤمنينعليه‌السلام : اكتب ما املي عليك، قال: يا نبي الله أتخاف عليّ النسيان؟ فقال: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك، قال: قلت: ومن شركائي يا نبيَّ الله؟ قال: الأئمّة من ولدك، بهم تسقى أمّتى الغيث وبهم يستجاب دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم تنزل الرَّحمة من السّماء

__________________

(١) الجسور جمع الجسر، والقناطر جمع القنطرة: الجسر.

(٢) كذا ورواية أبي الطفيل عن أبي جعفرعليه‌السلام في غاية البعد بل ممّا لا يكون. وفي بعض النسخ « عن أبي عبد الله الطفيل » ولم أجده.

٢٠٦

وهذا أوّلهم - وأومأ بيده إلى الحسنعليه‌السلام ، ثمّ أومأ بيده إلى الحسينعليه‌السلام - ثمّ قالعليه‌السلام : الائمّة من ولده.

٢٢ - حدّثنا محمّد بن أحمد الشيبانيُّرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن يحيى ابن زكريّا القطان قال: حدّثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدّثنا الفضل بن صقر العبديِّ(١) قال: حدّثنا أبو معاوية، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن الحسينعليهم‌السلام قال: نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرِّ المحجّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لاهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لاهل السّماء، ونحن الّذين بنا يمسك الله السّماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها(٢) وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرَّحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها، ثمّ قال: ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور(٣) ، ولا تخلوا إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال: سليمان، فقلت للصادقعليه‌السلام : فكيف ينتفع النّاس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب.

٢٣ - حدّثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثنا إبراهيم ابن هاشم قال: حدّثنا إسماعيل بن مرَّار قال: حدّثني يونس بن عبد الرّحمن قال: حدّثني يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد اللهعليه‌السلام جماعة من أصحابه فيهم حمران ابن أعين، ومؤمن الطّاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم وهو شابٌّ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : يا هشام قال: لبّيك يا ابن رسول الله قال: إلّا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ وكيف سألته؟ قال هشام: جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي اجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام إذا أمرتكم بشيء فافعلوه، قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد

__________________

(١) لم أظفر به.

(٢) في بعض النسخ « أن تمور بأهلها ».

(٣) في بعض النسخ « خائف مغمور ».

٢٠٧

البصرة وعظم ذلك عليَّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة وإذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء من صوف مؤتزرٌ بها، وشملة مرتد بها، والناس يسألونه فاستفرجت النّاس فأفرجوا لي، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتيَّ، ثمّ قلت: أيّها العالم أنا رجلٌ غريبٌ تأذن لي فأسألك عن مسألة؟ قال: فقال: نعم، قال: قلت له: ألك عينٌ؟ قال: يا بنيَّ أيّ شيء هذا من السؤال إذا ترى شيئاً كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي قال: يا بنيَّ سل وإن كانت مسألتك حمقاء، قلت: أجبني فيها، قال: فقال لي: سل، قال: قلت: ألك عينٌ؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تري بها؟ قال: الألوان والأشخاص، قال: قلت: ألك أنف؟ قال: نعم قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أشمُّ به الرّائحة، قال: قلت: ألك لسان؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أتكلّم به قال: قلت: ألك أذن؟ قال: نعم قال: قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الأصوات، قال: قلت: أفلك يدان؟ قال: نعم قال: قلت: فما تصنع بهما؟ قال: أبطش بهما وأعرف بهما الليّن من الخشن، قال: قلت: ألك رجلان؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تصنع بهما؟ قال: أنتقل بهما من مكان إلى مكان، قال: قلت: ألك فمٌ؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: أعرف به المطاعم على اختلافها، قال: قلت: أفلك قلب؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تصنع به؟ قال: اميّز به كلما ورد على هذه الجوارح(١) ، قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة؟ قال: يا بنيَّ إنَّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته ردَّته إلى القلب فليقرُّ به اليقين ويبطل الشّك، قال: قلت: فإنّما أقام الله عزَّ وجلَّ القلب لشكِّ الجوارح؟ قال: نعم، قال: قلت: ولابدَّ من القلب وإلّا لم يستيقن الجوارح؟ قال: نعم، قال: قلت: يا أبا مروان أنَّ الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح وينفي ما شكّت فيه، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك يردُّ إليك شكك وحيرتك؟ قال: فسكت، ولم يقل لي شيئاً، قال: ثمّ التفت إليَّ فقال:

__________________

(١) في بعض النسخ « أميز به الامور الواردة على هذه الجوارح ».

٢٠٨

أنت هشام؟ فقلت: لا، قال: فقال لي: أجالسته؟ فقلت: لا، قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة قال: فأنت إذاً هو، قال: ثمّ ضمّني إليه فأقعدني في مجلسه، وما نطق حتّى قمت، فضحك أبو عبد اللهعليه‌السلام ، ثمَّ قال: يا هشام من علّمك هذا؟ قال: قلت: يا ابن رسول الله جرى على لساني، قال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسىعليهم‌السلام .

قال مصنّف هذا الكتابرضي‌الله‌عنه : وتصديق قولنا إنَّ الامام يحتاج إليه لبقاء العالم على صلاحه أنَّه ما عذب الله عزَّ وجلَّ أمّة إلّا وأمر نبيّها بالخروج من بين أظهرهم كما قال الله عزَّ وجلَّ في قصّة نوحعليه‌السلام «حتّى إذا جاء أمرنا وفار التّنور قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلّا من سبق عليه القول (١) » منهم وأمره الله عزَّ وجلَّ أن يعتزل عنهم مع أهل الايمان به ولا يبقى مختلطا بهم وقال عزَّ وجلَّ: «ولا تخاطبني في الّذين ظلموا أنّهم مغرقون (٢) » وكذلك قال عزَّ وجلَّ في قصّة لوطعليه‌السلام «فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك أنَّه مصيبها ما أصابهم (٣) » فأمره الله عزَّ وجلَّ بالخروج من بين أظهرهم قبل أن أنزل العذاب بهم لأنّه لم يكن عزَّ وجلَّ لينزل عليهم ونبيّه لوطعليه‌السلام بين أظهرهم وهكذا أمر الله عزَّ وجلَّ كلّ نبي أراد هلاك أمته أنَّ يعتزلها كما قال إبراهيمعليه‌السلام مخوفا بذلك قومه «وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى إلّا أكون بدعاء ربي شقيا *فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله (٤) » أهلك الله عزَّ وجلَّ الّذين كانوا آذوه وعنتوه وألقوه في الجحيم وجعلهم الاسفلين ونجّاه ولوطاً كما قال الله تعالى: «ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض الّتي باركنا فيها للعالمين (٥) » ووهب الله [ جلت عظمته ] لابراهيم إسحاق ويعقوب كما قال عزَّ وجلَّ: «ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (٦) ».

__________________

(١) هود: ٤٣.

(٢) هود: ٤٠.

(٣) هود: ٨١.

(٤) مريم: ٥٠ و ٥١.

(٥) و (٦) الأنبياء: ٧٢.

٢٠٩

وقال الله عزَّ وجلَّ لنبيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم »(١) .

وروي في الأخبار الصحيحة عن أئمّتناعليهم‌السلام أنَّ من رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو واحداً من الائمّة صلوات الله عليهم قد دخل مدينة أو قرية في منامه فإنّه أمن لاهل تلك المدينة أو القرية ممّا يخافون ويحذرون وبلوغ لمّا يأملون ويرجون.

و في حديث هشام مع عمرو بن عبيد حجّة في الانتفاع بالحجّة الغائبعليه‌السلام وذلك أنَّ القلب غائب عن سائر الجوارح لا يرى بالعين ولا يشمُّ بالأنف ولا يذاق بالفمِّ ولا يلمس باليد وهو مدبّر لهذه الجوارح مع غيبته عنها وبقاؤها على صلاحها ولو لم يكن القلب لانفسد تدبير الجوارح ولم تستقم أمورها فاحتيج إلى القلب لبقاء الجوارح على صلاحها كما احتيج إلى الامام لبقاء العالم على صلاحه ولا قوَّة إلّا بالله.

و كما يعلم مكان القلب من الجسد بالخبر فكذلك يعلم مكان الحجّة الغائبعليه‌السلام بالخبر وهو ما ورد عن الائمّةعليهم‌السلام من الأخبار في كونه بمكّة وخروجه منها في وقت ظهوره، ولسنا نعني بالقلب المضغة الّتي من اللحم لأنّ بها لا يقع الانتفاع للجوارح وإنّما نعني بالقلب اللطيفة الّتي جعلها الله عزَّ وجلَّ في هذه المضغة لا تدرك بالبصر وإن كشف عن تلك المضغة، ولا تلمس ولا تذاق ولا توجد إلّا بالعلم بها لحصول التمييز واستقامة التّدبير من الجوارح والحجّة بتلك اللّطيفة على الجوارح [ قائمة ما وجدت والتكليف لها لازم ما بقيت فإذا عدمت تلك اللطيفة انفسد تدبير الجوارح وسقط التكليف عنها فكما يجوز أن تحتجَّ الله عزَّ وجلَّ بهذه اللّطيفة الغائبة عن الحواسِّ على الجوارح فكذلك جائز أن يحتجَّ عزَّ وجلَّ على جميع الخلق بحجّة غائب عنهم به يدفع عنهم وبه يرزقهم وبه ينزل عليهم الغيث ولا قوة إلّا بالله ].

__________________

(١) الانفال: ٣٣. وتمام الآية «وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون » وفي بعض النسخ كانت هذه الزيادة في المتن.

٢١٠

٢٢

( باب )

* (اتصال الوصية من لدن آدمعليه‌السلام وأن الأرض لا تخلو) *

* (من حجّة لله عزَّ وجلَّ على خلقه إلى يوم القيامة) *

١ - حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا محمّد بن - الحسن الصفّار؛ وسعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر الحميريُّ جميعاً قالوا: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب؛ والهيثم بن أبي مسروق النهديُّ وإبراهيم بن هاشم، عن الحسن بن محبوب السَّراد، عن مقاتل بن سليمان بن دوال - دوز(١) ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد النبيّين ووصيّي

__________________

(١) مقاتل بن سليمان الازدي الخراساني أبو الحسن البلخي نزيل مرو، يقال له: ابن دوال دوز عامي بتري اختلفوا في شأنه فبعضهم رفعوه فوق مقامه وبجلوه وقالوا: « ما علم مقاتل بن سليمان في علم النّاس إلّا كالبحر الاخضر في سائر البحور »، وبعضهم كذبوه وهجروه ورموه بالتجسيم ففي تهذيب التهذيب عن أحمد بن سيار المروزي قال: « مقاتل متهم متروك الحديث مهجور القول، سمعت اسحاق ابراهيم يقول: أخبرني حمزة بن عميرة أنَّ خارجة مر بمقاتل وهو يحدّث النّاس فقال: حدّثنا أبو النضر - يعني الكلبي - قال: فمررت عليه مع الكلبي فقال الكلبي: والله ما حدثته قط بهذا، ثمّ دنا منه فقال له: يا أبا الحسن أنا أبو النضر وما حدثتك بهذا قط، فقال مقاتل: اسكت يا أبا النضر فإنَّ تزيين الحديث لنا إنّما هو بالرجال ».

وفيه قال أبو اليمان: قام مقاتل بن سليمان فقال: سلوني عمّا دون العرش حتّى أخبركم به، فقال له يوسف السمتي: من حلق رأس آدم اول ما حج؟ قال: لا أدري.

وفيه أيضاً عن العبّاس بن الوليد بن مزيد عن أبيه قال: سألت مقاتل عن أشياء فكان يحدثني بأحاديث كلّ واحد ينقض الاخر، فقلت: بأيها آخذ؟ قال: بأيها شئت، وقال ابن معين: أنَّه (يعنى مقاتل) ليس بثقة وقال عمرو بن عليّ: متروك الحديث كذاب. وقال ابن سعد:

٢١١

سيّد الوصيّين وأوصياؤه سادة الأوصياء إنَّ آدمعليه‌السلام سأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل له وصيّاً صالحا فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه إنّي أكرمت الأنبياء بالنبوَّة ثمّ اخترت خلفي فجعلت خيارهم الاوصياء، فقال آدمعليه‌السلام : يا ربّ فاجعل وصيّي خير الاوصياء، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا آدم أوص إلى شيث وهو هبة الله بن آدم، فأوصى آدم إلى شيث وأوصى شيث إلى ابنه شبان وهو ابن نزلة الحوراء(١) الّتي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على آدم من الجنّة فزوَّجها شيثاً، وأوصى شبان إلى ابنه مجلث، وأوصى مجلث إلى محوق، وأوصى محوق إلى غثميشا، وأوصى غثميشا إلى أخنوخ وهو إدريس النبيّعليه‌السلام ، وأوصى إدريس إلى ناخور ودفعها ناخور إلى نوحعليه‌السلام ، وأوصى نوح إلى سام؛ وأوصى سام إلى عثامر وأوصى عثامر إلى برعيثاشا، وأوصى برعيثاشا إلى يافث؛ وأوصى يافث إلى برّة؛ وأوصى برة إلى جفيسة(٢) وأوصى جفيسة، إلى عمران، ودفعها عمران إلى إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وأوصى إبراهيم إلى ابنه إسماعيل، وأوصى إسماعيل إلى إسحاق، وأوصى إسحاق إلى يعقوب، وأوصى يعقوب إلى يوسف، وأوصى يوسف إلى بثرياء، وأوصى بثرياء إلى شعيب، وأوصى شعيب إلى موسى بن عمران، وأوصى موسى إلى يوشع بن نون وأوصى يوشع إلى داود(٣) وأوصى داود إلى سليمان، وأوصى سليمان إلى آصف بن برخيا، وأوصى

__________________

أصحاب الحديث يتقون حديثه وينكرونه. وقال النسائي: كذاب. وفي موضع آخر، الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة وعد منهم مقاتل بن سليمان راجع تهذيب التهذيب ج ١٠ ص ٢٧٩.

وعنونه العلامة قدَّس سرّه في قسم الضعفاء وقال: مقاتل بن سليمان من أصحاب الباقر عليه السلام بتري قاله الشيخ الطوسي رحمه الله والكشي. وقال البرقي. أنَّه عامي

(١) في بعض النسخ « هو ابن له من الحوراء ».

(٢) في بعض النسخ والفقيه « جفسية ».

(٣) مضطرب لأنّ بين يوشع بن نون وداودعليهما‌السلام ازيد من ثلاثمائة عام فإنَّ خروج بني إسرائيل من مصر في عام ١٥٠٠ قبل الميلاد، وكان داودعليه‌السلام في ١٠٠٠ قبل الميلاد فكيف يوصي يوشع إلى داود. والبلاء من مقاتل بن سليمان العامي البتري.

٢١٢

آصف بن برخيا إلى زكريّا، ودفعها زكريّا إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وأوصى عيسى إلى شمعون ابن حمون الصّفا، وأوصى شمعون إلى يحيى بن زكريّا(١) وأوصى يحيى بن زكريّا إلى منذر، وأوصى منذر إلى سليمة، وأوصى سليمة إلى بردة، ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ودفعها إلي بردة وأنا أدفعها إليك يا عليُّ وأنت تدفعها إلى وصيّك ويدفعها وصيك إلى أوصيائك من ولدك، واحداً بعد واحد حتّى تدفع إلى خير أهل الأرض بعدك، ولتكفرنَّ بك الاُمّة ولتختلفن عليك اختلافاً شديداً، الثابت عليك كالمقيم معي والشاذُّ عنك في النّار، والنّار مثوى للكافرين.

٢ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاقرضي‌الله‌عنه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد الهمدانيُّ قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال: عن أبيه، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثماليِّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقرعليهما‌السلام قال: أنَّ الله تبارك وتعالى عهد إلى آدمعليه‌السلام أن لا يقرب الشجرة، فلمّا بلغ الوقت الّذي كان في علم الله تبارك وتعالى أن يأكل منها نسي فأكل منها، وهو قول الله تبارك وتعالى: «ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً (٢) » فلمّا أكل آدم من الشجرة أُهبط إلى الأرض فولد له هابيل وأخته توأماً، وولد له قابيل وأخته توأماً، ثمّ أنَّ آدم أمر هابيل وقابيل أن يقرِّبا قرباناً، وكان هابيل صاحب غنم، وكان قابيل صاحب زرع فقرب هابيل كبشاً وقرَّب قابيل من زرعه ما لم ينق، وكان كبش هابيل من أفضل غنمه وكان زرع قابيل غير منقّى، فتقبّل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: «واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقِّ إذ قربّا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبّل من الاخر - الآية »(٣) وكان القربان إذا قبل تأكله النار فعمد قابيل إلى النّار فبنى لها بيتاً وهو أول من بنى للنّار البيوت، وقال: لاعبدنَّ هذه النار حتّى يتقبل قرباني، ثمّ إنَّ عدو الله إبليس قال لقابيل: إنَّه قد تقبّل قربان هابيل

__________________

(١) وهذا أيضاً خلاف ما وقع وإنّما قتل يحيى في أيّام عيسىعليه‌السلام على التحقيق.

(٢) طه: ١١٥

(٣) المائدة: ٢٧.

٢١٣

ولم يتقبّل قربانك فإنَّ تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك، فقتله قابيل، فلمّا رجع إلى آدمعليه‌السلام قال له: يا قابيل أين هابيل؟ فقال: ما أدري وما بعثتني له راعياً فانطلق آدم فوجد هابيل مقتولاً فقال: لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل، فبكى آدم على هابيل أربعين ليلة، ثمّ إنَّ آدمعليه‌السلام سأل: ربّه عزَّ وجلَّ أن يهب له ولداً فولد له غلامٌ فسمّاه هبة الله لأنّ الله عزَّ وجلَّ وهبه له فأحبّه آدم حبّاً شديدا فلمّا انقضت نبوَّة آدمعليه‌السلام واستكملت أيامه أوحى الله تعالى إليه أن يا آدم أنَّه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الّذي عندك والايمان والاسم الاكبر وميراث العلم وآثار النبوَّة في العقب من ذرّيّتك عند ابنك هبة الله فإنّي لن أقطع العلم والايمان والاسم الاكبر وميراث العلم وآثار النبوَّة في العقب من ذرّيّتك إلى يوم القيامة ولن أدع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني ويعرف به طاعتي ويكون نجاة لمن يولد فيما بينك وبين نوح، وذكر آدمعليه‌السلام نوحاًعليه‌السلام وقال: أنَّ الله تعالى باعث نبيّاً اسمه نوح وإنّه يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ فيكذِّبوه فيقتلهم الله بالطوفان، وكان بين آدم وبين نوحعليهما‌السلام عشرة آباء كلّهم أنبياء الله، وأوصى آدم إلى هبة الله: أنَّ من أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه وليصدق به فإنّه ينجو من الغرق.

ثم إنَّ آدمعليه‌السلام لمّا مرض المرضة الّتي قبض فيها أرسل إلى هبة الله فقال له: إن لقيت جبرئيل أو من لقيت من الملائكة فأقرئه منّى السّلام وقل له: يا جبرئيل إنَّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة، ففعل فقال له جبرئيل: يا هبة الله إنَّ أباك قد قبض وما نزلت إلّا للصلاة عليه فارجع فرجع فوجد أباه قد قُبض، فأراه جبرئيلعليه‌السلام كيف يغسّله، فغسّله حتّى إذا بلغ الصّلاة عليه قال هبة الله: يا جبرئيل تقدَّم فصلِّ على آدم فقال له جبرئيلعليه‌السلام : يا هبة الله إنَّ الله أمرنا أن نسجد لابيك في الجنّة فليس لنا أن نؤمَّ أحداً من ولده، فتقدم هبة الله فصلّى على آدم وجبرئيل خلفه وحزب من الملائكة وكبّر عليه ثلاثين تكبيرة بأمر جبرئيل فرُفع من ذلك خمساً وعشرون تكبيرة والسنّة فينا اليوم خمس تكبيرات، وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكبّر على أهل بدر سبعاً وتسعاً.

ثم أنَّ هبة الله لمّا دفن آدم أباه أتاه قابيل فقال له: يا هبة الله إنّي قد رأيت آدم أبي

٢١٤

خصّك من العلم بما لم أخصَّ به وهو العلم الّذي دعا به أخوك هابيل فتقبّل قربانه وإنّما قتلته لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي فيقولون: نحن أبناء الّذي تقبّل قربانه وأنتم أبناء الّذي لم يتقبل قربانه فانّك أن أظهرت من العلم الّذي اختصك به أبوك شيئاً قتلتك كما قتلت أخاك هابيل.

فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والايمان والاسم الاكبر وميراث العلم وآثار علم النبوَّة حتّى بعث نوح وظهرت وصيّة هبة الله حين نظروا في وصيّة آدم فوجدوا نوحاًعليه‌السلام قد بشّر به أبوهم آدم، فآمنوا به واتّبعوه وصدقوه، وقد كان آدم وصىّ هبة الله أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلِّ سنة فيكون يوم عيد لهم، فيتعاهدون بعث نوحعليه‌السلام في زمانه الّذي بعث فيه، وكذلك جرى في وصية كلِّ نبيٍّ حتّى بعث الله تبارك وتعالى محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإنّما عرفوا نوحاً بالعلم الّذي عندهم وهو قول الله عزَّ وجلَّ «ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه - الاية.(١) وكان ما بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ولذلك خفى ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء وهو قول الله عزَّ وجلَّ «ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك (٢) » يعني من لم يسمّهم من المستخفين كما سمّي المستعلنين من الأنبياء، فمكث نوحعليه‌السلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً لم يشاركه في نبوَّته أحد ولكنّه قدم على قوم مكذبين للأنبياء الّذين كانوا بينه وبين آدم وذلك قوله تبارك وتعالى: «كذَّبت قوم نوح المرسلين »(٣) يعني من كان بينه وبين آدم إلى أن ينتهي إلى قوله: «وإنَّ ربّك لهو العزيز الرَّحيم » ثمّ إنَّ نوحاً لمّا انقضت نبوَّته واستكملت أيّامه أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه يا نوح أنَّه قد انقضت نبوَّتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الّذي عندك والايمان والاسم الاكبر وميراث العلم وآثار النبوَّة في العقب من ذرّيّتك عند سام فإنّي لن أقطعها من بيوتات الأنبياء الّذين بينك وبين آدم ولن أدع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني، وتعرف به طاعتي ويكون نجاة لمن يولد فيما بين

__________________

(١) هود: ٢٥، المؤمنون: ٢٣٠.

(٢) النساء: ١٦٤.

(٣) الشعراء: ١٠٥.

٢١٥

قبض النبيِّ إلى خروج النبيِّ الاخر، وليس بعد سام إلّا هود، فكان ما بين نوح وهود من الأنبياء مستخفين ومستعلنين، وقال نوح: أنَّ الله تبارك وتعالى باعث نبيّاً يقال له: هود وإنّه يدعو قومه إلى الله عزَّ وجلَّ فيكذِّبونه، وإن الله عزَّ وجلَّ مهلكهم بالرِّيح فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه فإنَّ الله تبارك وتعالى ينجيه من عذاب الرِّيح وأمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة، ويكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود وزمانه الّذي يخرج فيه، فلمّا بعث الله تبارك وتعالى هوداً نظروا فيما عندهم من العلم والايمان وميراث العلم والاسم الاكبر وآثار علم النبوَّة فوجدوا هودا نبيّاً وقد بشّرهم به أبوهم نوح فآمنوا به وصدَّقوه واتّبعوه فنجوا من عذاب الرِّيح، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: «وإلى عاد أخاهم هوداً »(١) وقوله «كذّبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود إلّا تتّقون »(٢) وقال عزَّ وجلَّ: «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب »(٣) وقوله: «ووهبنا له إسحق ويعقوب كلّا هدينا [ لنجعلها في أهل بيته ]ونوحاً هدينا من قبل »(٤) لنجعلها في أهل بيته، فآمن العقب من ذرّيّة الأنبياء من كان من قبل إبراهيم لابراهيمعليه‌السلام ، وكان بين هود وإبراهيم من الأنبياء عشرة أنبياء وهو قوله عزَّ وجلَّ: «وما قوم لوط منكم ببعيد »(٥) وقوله: «فآمن له لوط وقال إنّي مهاجر إلى ربي [ »(٦) وقول إبراهيم «إنّي ذاهب إلى ربي )سيهدين »(٧) وقوله جلَّ وعزَّ: «وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم »(٨) فجرى بين كلّ نبيٍّ ونبيٍّ عشرة آباء وتسعة آباء وثمانية آباء كلهم أنبياء، وجرى لكلّ نبيٍّ ما جري لنوح وكما جري لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيمعليه‌السلام حتّى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليه‌السلام ، ثمّ صارت بعد يوسف في الاسباط إخوته حتّى انتهت إلى موسى بن عمران وكان بين يوسف وموسىعليهما‌السلام عشرة من الأنبياء فأرسل الله عزَّ وجلَّ موسى وهارون

__________________

(١) الاعراف: ٦٥.

(٢) الشعراء: ١٢٣.

(٣) البقرة: ١٢٧.

(٤) الانعام: ٨٤.

(٥) هود: ٨٩.

(٦) العنكبوت: ٢٦.

(٧) الصافات: ٩٨.

(٨) العنكبوت: ١٦.

٢١٦

إلى فرعون وهامان وقارون، ثمّ أرسل الله عزَّ وجلَّ الرُّسل تترى «كلّما جاء أمّة رسولها كذَّبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلنا هم أحاديث »(١) وكانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم نبيّين وثلاثة وأربعة حتّى أنَّه كان يقتل في اليوم الواحد سبعون نبيّاً ويقوم سوق قتلهم في آخر النّهار، فلمّا أنزلت التوراة على موسى بن عمرانعليه‌السلام تبشّر بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان بين يوسف وموسىعليهما‌السلام من الأنبياء عشرة، وكان وصيُّ موسى بن عمران يوشع بن نون وهو فتاه الّذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه(٢) فلم تزل الأنبياءعليهم‌السلام تبشّر بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك قوله: « يجدونه » يعني اليهود والنصاري « مكتوبا » يعني صفة محمّد واسمه «عندهم في التورية والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر »(٣) وهو قول الله عزَّ وجلَّ يحكي عن عيسى بن مريم «ومبّشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد »(٤) فبشّر موسى وعيسىعليهما‌السلام بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما بشرت الأنبياء بعضهم بعضاً حتّى بلغت محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قضى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبوَّته واستكملت أيّامه أوحي الله عزَّ وجلَّ إليه أن يا محمّد قد قضيت نبوَّتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الّذي عندك والايمان والاسم الاكبر وميراث العلم وآثار علم النبوَّة عند عليِّ بن أبي طالبعليه‌السلام فإنّي لن أقطع العلم والايمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوَّة من العقب من ذريتك كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الّذين كانوا بينك وبين أبيك آدم، وذلك قوله عزَّ وجلَّ: «إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم »(٥) فإنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعل

__________________

(١) المؤمنون: ٤٤.

(٢) في سورة الكهف: ٦٠ « إذ قال موسى لفتيه لا أبرح حتّى أبلغ مجمع البحرين ».

(٣) الاعراف: ١٥٧.

(٤) الصف: ٦.

(٥) آل عمران: ٣٣.

٢١٧

العلم جهلاً، ولم يكل أمره إلى ملك مقرَّب ولا نبيٍّ مرسل ولكنّه أرسل رسولاً من ملائكته إلى نبيّه فقال له كذا وكذا، وأمره بما يحب، ونهاه عمّا ينكر، فقص عليه ما قبله وما خلفه بعلم، فعلّم ذلك العلم أنبياءه وأصفياءه من الاباء والاخوان بالذّرّية الّتى بعضها من بعض، فذلك قوله عزَّ وجلَّ: «فقد آيتنا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً »(١) فأمّا الكتاب فالنبوَّة وأمّا الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء والاصفياء من الصفوة، وكلُّ هؤلاء من الذُّرّية الّتي بعضها من بعض الّذين جعل الله عزَّ وجلَّ فيهم النبوَّة وفيهم العاقبة وحفظ الميثاق حتّى تنقضي الدُّنيا، فهم العلماء وولاة الامر وأهل استنباط العلم والهداة فهذا بيان الفضل في الرُّسل والأنبياء والحكماء وأئمة الهدى والخلفاء الّذين هم ولاة أمر الله وأهل استنباط علم الله وأهل آثار علم الله عزَّ وجلَّ من الذّرّية الّتي بعضها من بعض من الصفوة بعد الأنبياء من الال والاخوان والذّرّية من بيوتات الأنبياء فمن عمل بعملهم وانتهى إلى أمرهم نجا بنصرهم، ومن وضع ولاية الله وأهل استنباط علم الله في غير أهل الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله عزَّ وجلَّ وجعل الجهّال ولاة أمر الله والمتكلّفين بغير هدى، وزعموا أنّهم أهل استنباط علم الله فكذبوا على الله(٢) وزاغوا عن وصيّة الله وطاعته فلم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله تبارك وتعالى فضلوا وأضلوا أتباعهم فلا تكون(٣) لهم يوم القيامة حجّة إنّما الحجّة في آل إبراهيم لقول الله عزَّ وجلَّ: «فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً » فالحجة الأنبياء وأهل بيوتات الأنبياء حتّى تقوم الساعة لأنّ كتاب الله ينطق بذلك ووصيّة الله جرت بذلك في العقب من البيوت الّتي رفعها الله تبارك وتعالى على النّاس فقال: «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه »(٤) وهي بيوتات الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى، فهذا بيان عروة الايمان الّتي بها نجا من نجا قبلكم وبها ينجو من اتّبع الائمّة، وقد قال الله

__________________

(١) النساء: ٥٤.

(٢) الزيغ: الميل عن الحق. وفى بعض النسخ « فقد كذبوا ».

(٣) « في بعض النسخ « ولم تكن ».

(٤) النور: ٣٦

٢١٨